• الصفحة الرئيسيةخريطة الموقعRSS
  • الصفحة الرئيسية
  • سجل الزوار
  • وثيقة الموقع
  • اجعلنا صفحتك الرئيسة
  • اتصل بنا
English Alukah
شبكة الألوكة شبكة إسلامية وفكرية وثقافية شاملة تحت إشراف الدكتور خالد الجريسي والدكتور سعد الحميد
 
صفحة الكاتب  
شبكة الألوكة / موقع حضارة الكلمة / أدبنا / بوابة النثر / كُتاب الألوكة


علامة باركود

المحراث وشجرة الزيتون

مصطفى محمد ياسين


تاريخ الإضافة: 5/4/2009 ميلادي - 9/4/1430 هجري

الزيارات: 7802

 حفظ بصيغة PDFنسخة ملائمة للطباعة أرسل إلى صديق تعليقات الزوارأضف تعليقكمتابعة التعليقات
النص الكامل  تكبير الخط الحجم الأصلي تصغير الخط
شارك وانشر

هكذا هي دائمًا، تقف جرداءَ عاريةً.

في هذا الفصل من العام، تستعدُّ للاغتسال بماء المطر، وحبات البرد اللؤلؤي الأبيض، فتزيدها جمالاً، وددت أن أشاركها؛ لعلي أزيل أدران نفسي، فأتخفف منها.

أشجار التين والعنب، تطل علينا من الحديقة المجاورة، تحرس المنزل العتيق الذي بناه جدي، شامخًا صلبًا، كأنها تأنس بأحاديثنا وهمساتنا، التي يضطرب بها المكان، أو لعله يشجيها خوارُ الثور الذي يتخذ له ركنًا أمام غرفة الأسرة.

اعتدت أن أصحو منزعجًا، أشكو لأبي، يقول لي وهو يمسح ظهر ثوره المدلل، مغتبطًا: "هذا سيد الدار"!

هدأت الزوبعة عند منتصف الليل، وتلاشى الغبار، وتسللت أنوار الفجر الندي إلى القرية، فهي تصحو في مثل هذه الساعة، تنفض عنها غلالة النوم، وما أن يبدأ صوت المؤذن الشجي، يرفع آذان الفجر، حتى ينبثق صوت أبي من غرفته، "لا إله إلا الله وحده"، فينبعث مَن في البيت، يغسلون النوم عن أجسادهم؛ ليؤدُّوا الصلاة، ويبدأ يوم عمل شاق جديد.

صوت المؤذن "الشيخ حسين" ندي وشجي، يملأ جنبات القرية، ولطالما وقفت عند أسفل المئذنة، مع الغروب، أستمع إلى ندائه، وإذا نزل تأملته: "أمِن هذا الجسم النحيل، والوجه المضيء، ينطلق كل ذلك الصوت الباهر الجميل؟!"، يسلم علينا، ويطلب أن نسرع بالوضوء، ونلحق بالجماعة، بكلمات هادئة، بالكاد نسمعها، ويحتويه المسجد ونحن في أثره.

تسرع أمي إلى "الطابون" - الفرن البلدي الصغير - وما أن يستلقي الرغيف الأول على صينية القش، حتى تتنازعه أيدينا الصغيرة، إنه من القمح الذهبي الخالص، آه، ما أروعه!

كثيرًا ما علقت به حصيات الفرن الساخنة، وقد تلذعني إحداها، وأنا أسبق إلى الرغيف، فأصيح، وأجد مَن يفرح بذلك: "تستحق"، فأشعر بالغيظ، ويبدأ بيننا عراك بالأيدي، وعندما تقرع خطوات أبي آذاننا، عائدًا من صلاته، تسكن حواسنا كلها.

على غير عادته، لم يقرب فطوره المحبب: رغيف الخبز الساخن، والقليل من الزبد الأبيض، لم تمسه النار.

ناداني: "أحمد".

- نعم يا أبي.

لم يقل شيئًا، كان يضع المحراث على كتفه، وتحت إبطه جراب الغراس، تأملت وجهه، كانت قسماته نافرة، متجهمة، زينته سمرة خفيفة، وبدت يدُه بارزةَ العروق وهي تطبق على المحراث، لم أجرؤ على سؤاله، أخرجني من خواطري: "هذه الغراس لك يا أحمد"، واجتاز البوابة الكبيرة وهو يصحب "سيد الدار".

أسرعتُ إلى أمي، كانت تسكب قليلاً من الزيت، في إناء صغير.

- ما هي الغراس التي كان أبي يحملها؟
وانثنت إلى جرةٍ، فأخرجت منها حبات من الزيتون.

- "إنها غراس زيتون، لك أنت".
- لي؟!

- يريدك أن تكون رجلاً صاحب زيتون، يا أحمد.
ولم أفهم شيئًا مما سمعت.
 

لم ترسل أمي طعام الغداء كعادتها لأبي، ترى لماذا؟، ليست كعادتها، ودلفت إليها في مطجنها، لأرى قِدرًا كبيرًا، يفور ماؤه، فأدركت أنه طعام الضيف، الذي نراه بين الحين والحين.

- أين غداء أبي؟
- "أبوك سيأتي هنا، يتناول الغداء مع ضيفه".

- ومَن ضيفه، يا أمي؟
- "اسكت، كل حاجة تسأل عنها، اسكت"!

بدأ طعامنا يبرد، وصرنا نحوم حول القدر، نستطلع ما فيه، وتكاد أيدينا تنهش منه، تأتي أمي، وتغلق القدر، وتحرسه منا!

- "بره، بره"، وبدت لي ساهمة، وهي تنظر في السماء: "لماذا تأخر الرجل؟"، "لعله خير!"، وعادت إلى القِدر.

رأيتها تمسك مغرفتها، وتخرج قطعتين من اللحم، وبرغيف القمح الذهبي تلفهما، وتجعلها في منديلها الأثير، وتربطها في وسطي ربطًا محكمًا.

- "تعلم مكان أبيك، اذهب إليه، إياك أن تفتح المنديل".
- "أسرع يا بني".

اتخذت طريقي إلى الحقل، لمحت في السماء غيومًا داكنة، "خِلتُها متجهمة مخيفة"، تحجب الشمس حينًا، وتسفرها حينًا آخر، لكنها تجري تسابقني إلى المرتفعات الغربية، حيث أشجارُ الزيتون، والتين والعنب، أسير، كأني أبحث عن شيء ضائع، التفتُّ إلى كل شيء حولي، أنقل بصري في تتابع مرهق، وأتحسس الطعام في وسطي؛ لئلا يكون قد سقط.

وصلت إلى الحقل، اقتربت منه، كان الثور يقف متسمِّرًا، كأنه قد فقد وعيه! استند أبي إلى صخرة سوداء خشنة، ويده تمسك بغرسة، صار أصلها في حفرة صغيرة، وأطبقت يداه على سيقانها الرقيقة، وعيناه مفتوحتان تحدقان في الشرق البعيد.

- "السلام عليكم".
وعندما لمست يده، تهاوى الجسد الذي خبرته قويًّا شديدًا إلى الأرض، كأنه قد سجد في صلاته، وأخذت أصرخ بأعلى صوتي!

عدت أنا وعمي زائرًا سائحًا إلى وطني، كان هدفنا البلدة التي غادرتها صبيًّا، وقفنا على الأطلال، قال عمي:
هنا كان بيتنا، وهنا الحديقة، أتذكرها يا أحمد؟
- نعم، نعم يا عمي.
- انظر، هناك بقايا أشجار الصبر.

جثوت أتحسس الحجارة التي تناثرت في المكان، وأقبض من التراب قبضات، أودعها أشجاني، وأخذت نفَسًا عميقًا؛ لعل ذراتٍ منه تستقر في أعماقي، وجال بصري في أرجاء المكان الموحش، وانتبهت من تأملاتي:
- "هيا بنا؛ لنرى أشجار الزيتون".
- "هل بقي منها شيء، يا عمي؟".
- "لقد نجت يا بني، وصارت غابة، سترى".

يممنا - على الأقدام - شطر الجبال الغربية، كما فعلت وأنا صبي، أحمل جسدًا ثقيلاً، أثقلته السنون، ولكني وجدت نفسي خفيفًا، أسابق الريح، "ماذا اعتراني"؟!

وعند "الغراس" التي زرعها أبي، وشهدت آخر لحظات حياته، وقفت أتفحص تلك الغابة، كانت هادئة موحشة، كالمقبرة، ورأيت أبي يتربع على قمة الشجرة المتوسطة، وبيده عصاه التي رأيته دائمًا يصحبها، وقد توشح برداء أبيض لف جسده كله، وبأعلى صوتي: "أبي، أبي"!

انتبه عمي، وقال: ما بك يا بني؟ وأخذ يربت على كتفي ويمسح برأسي: " أين أبوك يرحمه الله"؟!

- "إنه هناك، هناك – يا عمي - في أعلى الشجرة"!

رمقني بنظرة إشفاق، وأخذ يمسح دموعي، وتلاشى الطيف، ورحت أفرك عيني، ومن الجبال المجاورة، جاء صوت رعدي مجلجل، ردده كل ما حولي: "هذه الغراس لك يا أحمد"! وعند أصل الشجرة جثوت أقبِّل ترابها، وانهمرتْ دموعي بغزارة، تكتب على البساط الأحمر القاني: "الغراس لك يا أحمد"!





 حفظ بصيغة PDFنسخة ملائمة للطباعة أرسل إلى صديق تعليقات الزوارأضف تعليقكمتابعة التعليقات
شارك وانشر


 



أضف تعليقك:
الاسم  
البريد الإلكتروني (لن يتم عرضه للزوار)
الدولة
عنوان التعليق
نص التعليق

رجاء، اكتب كلمة : تعليق في المربع التالي

شارك معنا
في نشر مشاركتك
في نشر الألوكة
سجل بريدك
  • السيرة الذاتية
  • اللغة .. والقلم
  • أدبنا
  • من روائع الماضي
  • روافد
  • قائمة المواقع الشخصية
حقوق النشر محفوظة © 1446هـ / 2025م لموقع الألوكة