• الصفحة الرئيسيةخريطة الموقعRSS
  • الصفحة الرئيسية
  • سجل الزوار
  • وثيقة الموقع
  • اجعلنا صفحتك الرئيسة
  • اتصل بنا
English Alukah
شبكة الألوكة شبكة إسلامية وفكرية وثقافية شاملة تحت إشراف الدكتور خالد الجريسي والدكتور سعد الحميد
 
صفحة الكاتب  
شبكة الألوكة / موقع حضارة الكلمة / أدبنا / بوابة النثر / كُتاب الألوكة


علامة باركود

جريمة خروف (قصة)

جريمة خروف
إسماعيل أحمد محمد


تاريخ الإضافة: 20/3/2013 ميلادي - 8/5/1434 هجري

الزيارات: 3644

 حفظ بصيغة PDFنسخة ملائمة للطباعة أرسل إلى صديق تعليقات الزوارأضف تعليقكمتابعة التعليقات
النص الكامل  تكبير الخط الحجم الأصلي تصغير الخط
شارك وانشر

جريمة خروف


لا يَذكُر شيئًا من ملامِح أبيه سوى شَعْرِه الأبيض، على فَوْدَيه وذِراعيه القويتَين، حين كان يرفعه عاليًا فيشعر أنَّه يكاد يُلامِس السماء ويقتطف النجوم، يتذكَّر الآن مرضَه الأخير، يتذكَّر الوجوهَ الغريبة التي كان يراها لأوَّلِ مَرَّة، يتذكَّر ترنُّمَه الحزين بكلمات تُحرِّك قلبَه، ولا تُفهَم معانيها، فجأة وجد أمَّه تأخذه إلى مكان بعيد، كانت أوَّل مرَّة يرى فيها القِطار، كان فرحًا رغم بكاءِ أمِّه وأهله الذين رافقوها حتى باب القِطار، مرَّتْ سنوات كثيرة، وصارَ يسأل عن أبيه، كثيرون كانوا يسألونه ابنُ مَن؟ وما أنْ يذكر اسمَ أبيه حتى يترحَّموا عليه، كانوا يَكيلون له الثناءَ بمناسبة وبغير مناسبة: كان رجلاً، كان كريمًا، خدومًا، مستقيمًا طولَ حياته، لم نذقْ للفخْر والعِزَّة طعمًا إلا بعدما كَبِر فينا.

 

أدرك بعدَما دخَل المدرسة معانيَ الموت، والجنة والآخِرة، وفَهِم أنَّ أباه الآن - وقد مات - لا بدَّ أنَّه في الجنة.

 

وتبدَّدتْ مظاهر النعيم التي عاش فيها سِنِي عمره الأُولى، وتَعي ملامحَها ذاكرتُه الطفلة، السيَّارة التي كانت تحمله وحْدَه ويتبسَّم سائقها في وجهه كلَّ صباح، صارتْ حافلةً عامَّة، يصرُخ سائقها في الصِّغار بلا سبب، ثم تَعلَّم كيف يذهب إلى المدرسة على قدميه، (الفيلا) تحوَّلت لشقَّة أصغر، ثم أصغر، ثم بيت أرضي في شارِع ضيِّق يعجُّ بالناس، إخوته تشرَّدوا في أنحاء تلك المنطقة، ولم يعد يُسيطِرُ عليهم، أخوه الذي يصغُره تعلَّم كيف يَشَمُّ (الكُلَّة)! وأُخته استهوتْها ليالي الراقِصة فكيهة ورقصاتها الغريبة، لكنَّه أبدًا لم ينسَ أباه، وتوصية أمِّه له.

 

كان في الثامنة حين سَمِع مَن يسبُّ أباه لأوَّل مرة، يومها بَكَى كما لم يبكِ مِن قبل، وراح يشكو لأمِّه: كيف يسبُّني ابن (القرداتي) ويقول: إنَّ أبي كان سفَّاحًا قاسيًا، وما معنى سفَّاح؟ تجهَّمتْ أمُّه، ومسحت على رأسه وذهبت، لم يكن قد شاهَدَ دمعتَها وهي تُكَفْكِفها بسرعة قبل أن تمسحَ بكرامة (القرداتي) الأرضَ، وتُعرِّفه مقامه، ويسمع الصِّغار في اليوم التالي وهم يحكون له ما جَرَى، أمُّك قالت (للقرداتي): لولاه لَمَا كنتَ حيًّا إلى اليوم، لم تجد في الأرْض مَن يَعطِف عليك ويؤويك غيرَه، مِن بعدها بدأ يسألُ عن أبيه يجمع أخبارَه، يجالس أصدقاءَه، وأولادَ عمِّه، ويُنقِّب في كتبه القديمة، ويفتح (ألبومات) الصور، يسأل أُمَّه بشغف: مَن هذا؟ وأين الْتُقطِتْ هذه الصورة لأبي؟ مَن هذه التي تقِف بجواره؟


حتى تحوَّل إلى خبيرٍ بأحوالِ أبيه ومطولاته ومشاكله، عرَف بقصَّة أبي (القرداتي) الذي احتال على جارِهم المسكين؛ ليقتطعَ مِن أرضه تلك المساحةَ التي يُقيم فيها وأولادُه إلى اليوم، وحكوا له مِن تاريخ عائلته العريقة كيف أشْفَق جَدُّه الكبير على الراعي المسكين الذي يسكُن خلفَهم، واليوم فتَح الله عليه وكَثرُت خِرافه، كم كان يثور حين تُفاجِئه جحافلُ الخراف في مدخل البيْت أو الصالة، وكان يصيح بأمِّه: ألا يكفي تلك الخراف أن ترَعى في جنبات الحارة، فتهمس به في لُطف: جارُنا فقير، وليس له إلاَّ خرفانه.

 

حين كَبِر كان يقول لأمِّه: بعدَ أن أنالَ الشهادة لن أُقيمَ هنا، سوف أسافِر إلى القاهرة، وأعمل في وظيفة محترَمة، وآخذك وإخوتي إلى (فيلا) كبيرة، ليس مِن مقامنا أن نسكُنَ تلك المناطق الفقيرة القَذِرة، أنت مكانك في الثُّريَّا.

 

وصدَّقتْ أُمُّه، وتَعلَّمتْ كيف تحلُم مِن جديد، كان حصولُه على الشهادة يومًا سعيدًا في حياة أمِّه البائسة، وراحتْ تحلم باستعادة أيام أبيه الخوالي، سَهِرتْ طولَ الليل وهي تُرتِّب ثيابه، وتكوي له سراويلَه وقمصانَه، تستعيد ملامحَ حياتها القديمة، تتذكَّر المطاعِم الفَخْمة، والقصور التي كانت تراها، تتذكَّر صداقاتِ الزمن الجميل، وتبجيل الناس لها كلَّما ذهبتْ، وأينما ذهبَت، أصبح حُلمُ الليالي حقيقةً قريبة.

 

ابني مُخلِص وطيِّب ويحبُّني، هكذا راحتْ تُبرِّر لنفسها تَعلُّقَها بالابن/ الحلم، وإنْ لم يُحقِّق هو مجدَ أبيه فمَن يستعيدُه له، يستحيل أن يترُكَنا ربُّنا هكذا، وهو سبحانه يعلم أصلَنا وفصلنا".

 

وجاء هو في الصباح الموعود؛ ليُجهِّزَ حقيبته وأوراقه، ومسوغات تعيينه، دخَل وخرَج أكثرَ من عشرين مرة طولَ النهار، مرَّ بأكثرَ مِن مكتب ومَصلحة، حتى يستوفيَ أوراقَه، يضحَك لهذا، ويجامل ذاك، ويرشي مرة، ويثور مرَّات، حتى انتهى مِن تجميع كلِّ المستندات، وضَع الأوراق على الكنبة، وقام ليستحمَّ ويَلْبَس ملابسَ السفر، تذكَّر شيئًا فهرول ليجمعَ كُتبَه وقصصَه القديمة من الحُجرة المجاورة، وحين عاد وجَد الخرفان تجوب أنحاءَ الغرفة وتدسُّ أنوفَها في الأركان، وقد انقلبتْ غرفته رأسًا على عقب، جرَى يطاردها مغضبًا، وهو يصيح بأمِّه: أترين يا أُمِّي ماذا فعلَتِ الخرفان؟!

 

بسرعة يتفقَّد الأوراق والمستندات التي كانتْ على الكنبة: "هذه شهادة ميلادي، ولدت في يوم نصْر أكتوبر، وتلك تُثبِت أنَّني أديتُ الخدمة العسكرية، وتلك شهادة الليسانس، صرَخ: "أمِّي هناك شهادةٌ ناقِصة! أقبلت أمُّه منزعِجة: أي ورقة؟ ردَّ بشرود التي تُثبت جِنسي، التي تُثبِت أنِّي رجلٌ! ثم انطلَق مسرعًا خلْفَ الخِراف وهو لا يَدري ماذا يصنع، وأمه تصرُخ وراءَه: اجرِ بسرعة يا بُني، لو لَمْ تَجِدْها، كيف ستُثبت أنَّك ذَكَرٌ؟!





 حفظ بصيغة PDFنسخة ملائمة للطباعة أرسل إلى صديق تعليقات الزوارأضف تعليقكمتابعة التعليقات
شارك وانشر


 



أضف تعليقك:
الاسم  
البريد الإلكتروني (لن يتم عرضه للزوار)
الدولة
عنوان التعليق
نص التعليق

رجاء، اكتب كلمة : تعليق في المربع التالي

شارك معنا
في نشر مشاركتك
في نشر الألوكة
سجل بريدك
  • السيرة الذاتية
  • اللغة .. والقلم
  • أدبنا
  • من روائع الماضي
  • روافد
  • قائمة المواقع الشخصية
حقوق النشر محفوظة © 1446هـ / 2025م لموقع الألوكة