• الصفحة الرئيسيةخريطة الموقعRSS
  • الصفحة الرئيسية
  • سجل الزوار
  • وثيقة الموقع
  • اجعلنا صفحتك الرئيسة
  • اتصل بنا
English Alukah
شبكة الألوكة شبكة إسلامية وفكرية وثقافية شاملة تحت إشراف الدكتور خالد الجريسي والدكتور سعد الحميد
 
صفحة الكاتب  
شبكة الألوكة / موقع حضارة الكلمة / أدبنا / بوابة النثر / كُتاب الألوكة


علامة باركود

افعلها كما فعلها إبراهيم

افعلها كما فعلها إبراهيم
د. محمد حلاوية


تاريخ الإضافة: 22/1/2013 ميلادي - 10/3/1434 هجري

الزيارات: 7304

 حفظ بصيغة PDFنسخة ملائمة للطباعة أرسل إلى صديق تعليقات الزوارأضف تعليقكمتابعة التعليقات
النص الكامل  تكبير الخط الحجم الأصلي تصغير الخط
شارك وانشر

افعلها كما فعلها إبراهيم


تسلَّقتْ دَرج الدار، اقتربتْ، نادتْني، أفقتُ من تحليقي المغرد؛ حيث اعتدت أن أتسللَ يوميًّا بعد صلاة العصر، أدفن جسدي المكتنز في كومات "القش"، التي تعتلي سطح دارنا الممتشقة مثل عود القصب الهزيل، وسط الشجيرات الحُبْلى بثمرات الباذنجان الأسود.

 

جاءت فاطمة فقط لتناديني بصوت خافت: محمد، محمد .. "أين أنت؟، أبوك يبحث عنك".

 

كانت دارُنا وسط القرية، فوق تبَّة عالية، وكنت كلما اعتليتها، أجدني كراكبِ المنطاد، أرى دائرةَ الحقول، وشجرات التوت والصفصاف، وهي تعانق أشجار الجزوارين والكافور، فأحلق على دندنةِ ماكينة الطحين، وتخبو رويدًا رويدًا عن ناظري كلُّ الروعة، وتتوارى مئذنةُ المسجدِ الصغير.

 

أعيش ساعات أسيرًا لخيالي، لا أسمعُ أعتى الضجيج، ولا تُوقِظني حتى دوريات طائرات "الميج" المنطلقة من قاعدة المنصورة الجوية، لتحلق في سماءِ قريتنا، طوال سنوات حرب الاستنزاف، لا شيء كان قادرًا على انتزاعي من خيالاتي، سوى همساتِ و"دغدغات" أناملِ "فاطمة" الرَّقيقة؛ لتستردَّني من غفوةٍ مسترخية حالمة بين كومات القش.

 

لا تغترَّ بي؛ فدارُنا لم تكن برجًا يناطح السَّحاب، ولا دوارًا يمتلئ بنعيق بقرٍ حلوب، أو صهيل خيل جامح، أو حتى نباح كلبات جربة، فقط كانت دارنا عامرة "ببنيات" حمامات هادلة، متناثرة على درج السلَّم، وزوجينِ من الأرانب المتوالدة، الناعسة في "عشة" من "البغدادلي" المتهالك، ولكنها بكل كوماتِ القشِّ العتيقة، لم تحرمني من ركوب الفضاء، ولم تكنْ يومًا بكل ما فيها من مزارعِ الخنافس الكسيحة حائلاً بيني وبين الحُلم.

 

لم أستهِنْ يومًا بدارنا، ولم تستهنْ دارُنا بي، تحمَّلتني بتواضعِها، وحملتني بخنافسِها وقشها، حتى وبعد أن رحلنا منها لنعيش في أخرى على أطراف القرية، كنت أَتُوق دومًا لها، وبعدما انتقلت للعيش بالقاهرة، كنت أندهش ممن يتنكَّرون لأصلهم ودُورهم.

 

كنت دومًا أردد - وما زلت -: لا تستهِنْ بدارك الهزيلة، ولا بعيشتِك الضئيلة، فوخزاتُ البعوض القروي هي من تستنهضُ فينا الوعي، وتُلهِب فينا إصرارَ المواجهة، وتصنع منَّا ثمة رجلاً بنَّاءً.

 

كُوخُك الوديع، هو من يجعلك تحلم حُلم صديقي "إبراهيم"، الذي انفجر ضاحكًا، عندما كنا نذاكر معًا ذات يوم، فتهاوت "سرسبات" المطر عبر سقف داره؛ لتُغرق لنا وريقات "الهستولوجي"، فامتشق إبراهيم فوق كتفي، يبني سدًّا عاليًا، فقط بخرقة من قماش معتَّقة بـ: "هبابات الكانون"، يسد الشق؛ لنستمرَّ في المذاكرة، فيصبح هو بروفسيرًا في الطبِّ، وأنا "باش حكيم"، أخطُّ الحكمة، وجرعات الدواء للمحمومين بكريات الميكروب السبحي.

 

كنا كجرادات هَزْلى، فابتسمنا، ولم نرضَ أن نبقى كصراصيرَ ضالة، تعبث في دياجيرِ البلاعات.

 

كنا كيرقات ذَبْلى، فابتسمنا، ولم نقنعْ بالعيش داخل حصارِ شرانقنا الخانقة.

 

كنا كديدان حُبْلى بطين الأرض المر، فابتسمنا، لم نرضَ أن نظلَّ كثيرًا في خنادقنا، نعتز بمصادقةِ الجهل وبلاهة الخرافة.

 

كنا ديدانًا، نعم، ولكننا كنا الأجدرَ بامتصاص رحيق أجساد مَن سبقونا، نَنْعَم بوجبات عقول فاضتْ بالحكمة، وقلوبٍ كم هامت عشقًا وإيمانًا، نتأمل بقايا أنامل لطالما رسمت، بل وعزفت لنا يومًا أعزب الألحان، تعفَّفْنا أن نَطْعَمَ بقايا أيدي مَن دقوا طبول الحرب، واجتنبنا ارتشافَ بعضٍ من نفوسٍ ماتت كمدًا بالأحقادِ والحسد الذَّميمِ.

 

فلا تحتقر ذاتك، بل انتزع المجدَ من كبد المعاناة، لا تكبِّلْ رُوحَك، بل امتطِ صهوةَ الحُلْم المشروع، ابتسم وأنت تحاول، اضحك عندما يخجل الآخرون، افعلها كما فعلها إبراهيم: ضَعِ الخرقةَ البالية في شق السقف، ثم انحنِ على كتاب: "الهستولوجي"، تمعَّنْ أنسجةَ عضلات لطالما حملت الفأسَ، وخلايا قلوبٍ تطهَّرت بالعشقِ والإيمان، ودهاليز جماجم كم أفرزت إنزيماتها، حِكمًا للبشرية، ولتصعد معها وبها لمدارج السماء.





 حفظ بصيغة PDFنسخة ملائمة للطباعة أرسل إلى صديق تعليقات الزوارأضف تعليقكمتابعة التعليقات
شارك وانشر


 



أضف تعليقك:
الاسم  
البريد الإلكتروني (لن يتم عرضه للزوار)
الدولة
عنوان التعليق
نص التعليق

رجاء، اكتب كلمة : تعليق في المربع التالي

شارك معنا
في نشر مشاركتك
في نشر الألوكة
سجل بريدك
  • السيرة الذاتية
  • اللغة .. والقلم
  • أدبنا
  • من روائع الماضي
  • روافد
  • قائمة المواقع الشخصية
حقوق النشر محفوظة © 1446هـ / 2025م لموقع الألوكة