• الصفحة الرئيسيةخريطة الموقعRSS
  • الصفحة الرئيسية
  • سجل الزوار
  • وثيقة الموقع
  • اجعلنا صفحتك الرئيسة
  • اتصل بنا
English Alukah
شبكة الألوكة شبكة إسلامية وفكرية وثقافية شاملة تحت إشراف الدكتور خالد الجريسي والدكتور سعد الحميد
 
صفحة الكاتب  
شبكة الألوكة / موقع حضارة الكلمة / أدبنا / بوابة النثر / مع الكُتاب


علامة باركود

أحذية متقاطعة.. (قصة)

عادل إدريدار


تاريخ الإضافة: 18/7/2012 ميلادي - 29/8/1433 هجري

الزيارات: 5145

 حفظ بصيغة PDFنسخة ملائمة للطباعة أرسل إلى صديق تعليقات الزوارأضف تعليقكمتابعة التعليقات
النص الكامل  تكبير الخط الحجم الأصلي تصغير الخط
شارك وانشر

أحذية متقاطعة.. (قصة)


يخرج عمار من غرفته المنعزلة في زوايا أحد أسطح المنازل القديمة، يُحكِم إغلاق الباب، ويُعِيد التأكد من إحكامه، قبل أن يحمل صندوقه الأسود الصغير في يده، ويضع على ظهره كيسًا أفقدته الشمس لونه، ثم ينزل بحركة بطيئة، وهو يتحسس خطواته في تلك الأدرج الضيقة الملتوية، حتى إذا ما اجتازها بسلام، تنفَّس الصعداء، وأطرق ببصره إلى الأرض، ثم انطلق مهرولاً، لا يلوي على شيء، وكأنه يخشى أن يطارده أحد من الناس.

 

هكذا كانت عادة عمار في ذلك الحي الشعبي الذي يمتلئ بالفقراء، والصِّبية، والصراخ، والحيوانات الأليفة، وروائح القمامة التي تزكم الأنوف، وهكذا كان سكان الحي يضبطون ساعاتهم على موعدي خروج عمار من مسكنه في الصباح الباكر، وعودته إليه بُعيد مغيب الشمس؛ ليغلق على نفسه باب غرفته الحديدي المهترئ، ويغلقه أيضًا على أسئلة الفضوليين من الناس التي تلاحقه.

 

عندما يتجاذب فقراء الحي أطراف الحديث في مجالسهم ومجامعهم، وعندما يقع اختيارهم - الذي يبدو وكأنه نتيجة تخطيط واتفاق مسبقين - على سيرة عمار، يقولون: إنهم لا يعرفون عن الرجل أي شيء، سوى أن اسمه عمار، وأنه ربما قَدِم من إحدى القرى البعيدة، التي أتت عليها سنوات عِجَاف، يَبس فيها الزرع، وجفَّ الضَّرْع، وأنه يعيش وحيدًا في غرفة ضيقة، يدفع إيجارها بانتظام لـ"مي الحاجة"، التي اشترطت عليه منذ اللحظة الأولى ألا يُسبب لها أية مشاكل، وألا يُزعجها بموسيقا صاخبة، ولا بكثرة الأصحاب، ولا بعربدة، ولا بغيرها، وأن "مي الحاجة"، عندما تسألها بعض الجارات، تخبرهنَّ بأن ظنها لم يَخِب في هذا الرجل، فهي لم تتأذَّ قط من وجوده فوق سطح بيتها، بل تقول: إنها لا تحس أصلاً بوجوده!

 

أما عمار، فقد اختار أن يعيش الجزء المتبقي من حياته "نكرة"، أو لربما كان ينتابه إحساس بأنه لا يستطيع إلا أن يكون كذلك، عالمًا مغلقًا على ذاته، يحمل معه همه وألمه، وحلمه وأمله أينما حلَّ، وحيثما ارتحل، يبوح لذاته فقط بما يعتلج في داخله: من أفكار، وهواجس، ورغبات، ويردُّ على أسئلة الغير التي تزعجه بمزيد من الصمت والكتمان والغموض.

 

على الإنسان أن يحترم الأسلوب الذي يرتضيه غيره في العيش، وعلى كل واحد أن يلتزم بالدور الذي يلائمه في الحياة، هذه هي الحرية، وهذا هو النظام كما يتصورهما عمار ويؤمن بهما؛ لذا لم يكن يتحرَّج من العمل الذي وجد نفسه ذات يوم يزاوله، ولم يكن يشعره ذلك بدونية تجاه غيره من الناس.

 

أليس النظام يقتضي أن ينبري لكل مهمة في الحياة من يقوم بأمرها؟

ما العيب إذًا في أن أكسب بضع دريهمات، وأنا أنحني لأمسح أحذية أناس يحبون أن يظهروا في أماكن عملهم بمظهر أنيق، يكسبهم احترام رؤسائهم، ويثير غيرة زملائهم؟

 

أو أُلمع حذاء شاب يتأهب لزيارة بيت الفتاة التي يحبها، ويريد أن يخطبها لنفسه، وهو يكاد يطير من الفرح والسعادة.

 

ما العيب في أن أنفضَ الغُبار عن أحذية مسافرين، تغربوا عن أهلهم وأحبابهم، وهم يسعون وراء أرزاقهم، وأُمنياتهم، وحاجاتهم التي لا يعلمها إلا الله، ويريدون أن يخفوا أثر المشقة والبعد والعذاب؛ حتى لا يؤلموا أحبابهم الذين تألَّموا بما يكفي أثناء غيابهم؟

ألست أنا عمار ماسح الأحذية، الوضيع -كما يتخيلونني- في عقولهم وكلماتهم؟!

ألست جزءًا من سعادتهم؟!

 

كان عمار يحدث نفسه بهدوء وبتأمُّل وهو يفترش قطعة من القماش المخرَّق، على رصيف أحد أكبر شوارع المدينة، التي تمتلئ بالسيارات، والدرَّاجات، والمارة، وأصوات الأبواق المزعجة.

 

لقد كان أشبه بذرة صغيرة جدًّا، أو إلكترون ثابت، تحوم حوله ملايين الإليكترونات العمياء بسرعة، وبحركات عشوائية وجنونية.

 

وكان وهو يسرح بتفكيره وتأمُّله، لا ينسى أن يركز بصره على أقدام تلك الإلكترونات المجنونة من حوله، وعلى ما تنتعله تلك الأقدام، التي لا يختلف بعضها عن بعض في شيء، والتي قد تختلف فيما بينها في كل شيء.

 

لقد كان عمار يتخيل أن الأحذية والنعال تكشف حقائق أصحابها، وتَبوح بأسرارهم أكثر مما تفعل لغة الكلام لديهم، أو لغة عيونهم المرتبكة، أو ابتساماتهم المصطنعة المفضوحة؛ لذا كان عمار يثق في الأحذية أكثر مما يثق في أصحابها، بل إنه تعلَّم مع مرور الزمن كيف يجيد قراءة لغتها ومكنوناتها، فكان يصنِّفها إلى ميسورة في عيشها وأخرى بئيسة ومحرومة، ثم إلى سعيدة وأخرى شقية.

 

وكان يعرف القوي الأمين منها، ويميِّزه عن الضعيف المغشوش، الذي لا يلبث أن يخدع صاحبه، ويُوقعه في الحرَج.

 

كانت تُعجِب عمارًا ألوان أحذية بعينها؛ حيث إنها الوحيدة القادرة أن تثير في داخله إحساسًا بالجمال ولذَّته، فترتسم على وجهه الذي كاد مفعول الشمس يمحو قسَماته.

 

ابتسامة خافتة يصعب تأويلها، ومعرفة ما إذا كانت تَنِمُّ عن فرحة وسعادة، أو عن حزن وألم، لقد كان اللون والحجم ودقة الصُّنع من الأشياء التي يعتمدها عمار؛ ليُصدر أحكامه على ما ترصده عيناه الخبيرتان من أحذية الكائنات التي تحوم من حوله، وكان يشعر بنوع من الزهو والارتياح وهو يحكم عليها مثل قاضٍ محنَّك، يعلم جيدًا أن تجربته وخبرته كافيتان لتجعلاه يحكم بالعدل في أي قضية أو نازلة تُعرض عليه.

 

وبقدر ما كان عمار يفكر في عدد الدريهمات التي يمكن أن يجنيها في آخر النهار، بقدر ما كان يُثلِج صدره منظرُ كل حذاء يلمع تحت أشعة الشمس، ولكم تمنَّى في قرارة نفسه أن ينعكس جمال الناس على أحذيتهم، فلعل ذلك يكون سببًا في توحُّدهم وتعاونهم والمساواة بينهم.

 

يتوقف أحدهم فجأة أمام عمار، وهو يشبه في جفائه جلمود صخرٍ حطَّه السيل من علِ، يقطع على عمار حبل أفكاره، ولا يكلف نفسه عناء التحية والسلام، فيضع قدمه الثقيلة فوق العلبة السوداء المخصصة لمسح الأحذية، يتقبل عمار هذا النوع من المعاملة بصبر وبنوع من الاستسلام والبرود، فلا يرفع رأسه لينظر في وجه "الزبون"، ربما لأنه لم يعد يؤمن بالوجوه، أو لأنه سَئِم من نظراتها وازدرائها، فينحني بتواضع يمسح الحذاء ويلمعه، وهو يعتقد أنه بعمله البسيط هذا يمكن أن يَمسح عن قلوب الناس المغلَّفة ما عَلِق بها من غبار اللؤم والغرور، لعل الله يرحمها، ويُنعم عليها، فيُحييها بعد موتها.

 

عندما يقترب قرص الشمس من المغيب، وتبدأ المدينة المكتظة تستعد للظلام بتشغيل أضواء الأعمدة الكهربائية المنتشرة في شوارعها، يكون عمار قد جمع أغراضه ورحَل، تاركًا مكانه شاغرًا يزحف إليه الظلام رويدًا رويدًا، حتى يبتلعه تمامًا.





 حفظ بصيغة PDFنسخة ملائمة للطباعة أرسل إلى صديق تعليقات الزوارأضف تعليقكمتابعة التعليقات
شارك وانشر


 



أضف تعليقك:
الاسم  
البريد الإلكتروني (لن يتم عرضه للزوار)
الدولة
عنوان التعليق
نص التعليق

رجاء، اكتب كلمة : تعليق في المربع التالي

شارك معنا
في نشر مشاركتك
في نشر الألوكة
سجل بريدك
  • السيرة الذاتية
  • اللغة .. والقلم
  • أدبنا
  • من روائع الماضي
  • روافد
  • قائمة المواقع الشخصية
حقوق النشر محفوظة © 1447هـ / 2025م لموقع الألوكة