• الصفحة الرئيسيةخريطة الموقعRSS
  • الصفحة الرئيسية
  • سجل الزوار
  • وثيقة الموقع
  • اجعلنا صفحتك الرئيسة
  • اتصل بنا
English Alukah
شبكة الألوكة شبكة إسلامية وفكرية وثقافية شاملة تحت إشراف الدكتور خالد الجريسي والدكتور سعد الحميد
 
صفحة الكاتب  
شبكة الألوكة / موقع حضارة الكلمة / أدبنا / المرأة الأديبة / كاتبات الألوكة


علامة باركود

خطى ممتدة!

خطى ممتدة!
زهرة صالح


تاريخ الإضافة: 25/1/2012 ميلادي - 1/3/1433 هجري

الزيارات: 4561

 حفظ بصيغة PDFنسخة ملائمة للطباعة أرسل إلى صديق تعليقات الزوارأضف تعليقكمتابعة التعليقات
النص الكامل  تكبير الخط الحجم الأصلي تصغير الخط
شارك وانشر

• "الساعة تُشير إلى الخامسة مساءً، هَمْهَمَ: إذًا ما زال هناك وقتٌ أطول للعودة".

 

هكذا حدَّث نفسه وهو يَجلس على أحد كراسي الانتظار الخشبيَّة في محطة القطار القديمة.

 

كان يتأمَّل العابرين أمامه، ويتفحَّص وجوه المارَّة، ويَستشف شيئًا من أفكارهم الواضحة على ملامحهم المُتهادية أمامه.

 

منذ مُدَّة طويلة وهو يَعشق هذه الهِواية، ويُمارسها مع كلِّ العابرين، ولا يَفتأ حِيادًا عنها.

 

كانت مهمَّة قراءة وجوه العابرين الغُرباء بالنسبة له، استشرافًا للمجهول، ومحاولةً لإماطة لِثام ما يَجري حوله، ورغم ذلك تبقى مُهمَّة تَخلو من الصدق، مجرَّد توقُّعات لا تَمُتُّ للواقع بصِلة!

 

لكنَّها على أي حال تبقى هواية تَشغله عن طول الطريق، وتَجعل تفحُّصَ الوجوه وإطالة النظر إليها - أمرًا عاديًّا، لا يُخجِل!

 

بدأ ممارستها بعدما أعطاه مُدرِّب التنمية الذي تدرَّب عنده - بعد انتهائه من المتوسطة - ليتخلَّص من خَجله.

 

هكذا قال له المدرِّب: "تأمُّل وجوه العابرين غير المبالين بك، كفيلٌ بجَعْلك تَشعر بالاطمئنان للآخرين، وعدم الخجَل من التحديق بهم، ومُحادثتهم بثِقة مُفرطة"!

 

• الآن الساعة السابعة والنصف، هذا هو موعد ركوب القطار، والبَدء في رحلة العودة الطويلة!

 

اختار مكانًا بجانب النافذة؛ ليتسنَّى له تأمُّل الطريق الذي سيعبرونه، وجلَس إلى جانبه عجوز، البياض يُغطِّي شعره ولِحيته الكثيفة، وملابسه الرثَّة تُنبئ عن فقرٍ لاذعٍ!

 

تظاهَر بالانشغال بالكتاب الذي بين يديه، فهو يريد أن ينتهي الطريق بأقلِّ الكلمات التي يحتاج أن يدَّخرها للقاء المنتظر!

 

مرَّت ساعتان وتوقَّف القطار عند أوَّل محطة، وبدَأ بعض المسافرين بالنزول إلى أوطانهم - التي غادَروها منذ زمنٍ - واحتضانِ مُستقبِليهم!

 

أمَّا هو فقد كان يتأمَّلهم والبَسمة الحالمة لَم تُفارقه، كان يتخيَّل كلَّ شيء؛ اللقاء والعِناق، والقُبُلات المنتظرة؛ إذ خمس سنوات من الغياب كفيلة بجَعْل الحنين يتَّقد داخله، وأن يعتملَ خياله المشتاق حتى لأدقِّ التفاصيل.

 

كان العجوز يتأمَّله ويُراقب قَسماته والابتسامة المرسومة، وحين تَحرَّك القطار، قال له:

• "يحدث أن نَغيب طويلاً، وحين نعود ونراهم، لا نَملِك سوى الابتسام".

 

ابتسَم هو ولَم يعلِّق، لَم يكن مِزاجه ليَسمح له بالتحدُّث، فما زال يريد رسمَ تخيُّلات أكثر للقاء.

 

أكمل كلُّ واحد منهما تأمُّلاته، والقطار كان يسير بسرعة ويتجاوز القرى المترامية على جنبات الطريق، ولا يَأْبَه بتأوُّهاتها وانتظارها للغائبين، والذين قد يكونون داخله!

 

وعاد لتقليب الكتاب الذي بين يديه، وأوْقَفَته عبارة خُطَّت بشكل أنيقٍ على حاشية الكتاب:

"الغائبون يَمتلكون قلوبًا واسعة فَضفاضة، تَستوعب كلَّ شيء، وتَختزن داخلها كل الأمكنة، لكنَّهم يَتيهون عن مكانهم الأوَّل، ولا يعودون أبدًا"!

 

كانت تلك الكلمات كفيلة بإيقاظ كتلة مشاعره النائمة، والتي اختار نسيانها والضغط على نفسه بتجاهُلها؛ حتى لا تُجبره على العودة من حيث أتى! اشتعَلت في صدره نارٌ كبيرة من التوجُّد والاشتياق، أرخى رأسَه على الكرسي، وأغمَض عينيَه وجالَ بفِكره إلى ما قبل خمس سنوات مَضَت.

 

كان يَستعدُّ للسفر والحماسة مُتَّقدة داخله، وكلُّ أحلامه اصطفَّتْ تَتباهى بأنها ستتحقَّق!

 

كان الفرح داخله والسرور باديًا عليه، فهذا السفر يعني بداية تحقيق الحُلم، والعودة للوطن وقد اكتمَلت ملامحه.

 

ودَّع الجميع في محطة القطار، كانت أُمُّه تبكي وهو يَحتضنها ويقول مازحًا: "ألا تُريدين لي الخير، وأن تَفخري بي وقد أصبَحت عالِمًا فيزيائيًّا يُشار له بالبنان؟! أم تُريدين لي البقاء بجانبك صفر اليدين؟".

 

كانت تَبتسم والدمع يملأ عينيها، وتُتَمْتِم بدعوات التوفيق والنجاح له.

 

قبَّلها وغادَر، وكان هذا السفر بداية صفحة جديدة مختلفة عن حياته الروتينيَّة المُملَّة!

 

حين وصَل هنا كانت الأرض غير الأرض التي اعتادَ عليها، والهواء يختلف تمامًا عن هواء الوطن، الوطن الذي يعني وجودك به الآمانَ والسكينة، والرَّهبة رُبَّما!

 

بدأ الدراسة وانشغَل بها عن التفكير في أيِّ شيء آخرَ، وتفوَّق وكان بارعًا في المسائل الفيزيائية، وأثبَت أنه جدير بأن يكون فيزيائيًّا وعالِمًا، يَبتكر القوانين للطبيعة والكون من حوله.

 

تخرَّج، وبامتياز لا نظيرَ له، كان فخورًا بنفسه، وبإنجازه العظيم، وثِقته وتَحدِّيه الجميعَ أن الفيزياء هي التي سيُبدع فيها، ويَجد بها نفسه.

 

مضَت سنوات الدراسة طويلة جدًّا، تَخلَّلها كمٌّ كثيف من الاشتياق للوطن الواسع؛ أُمه، غُرفته، وفوضويَّته بها، مكتبته، وكُتبه المُبعثرة والمُمتلئة، تعليقاته، وصديقه الذي لا يَملُّ شجارَه ونقاشاتهم التي تنتهي دون إقناعٍ!

 

كان يقول له: "اختلافنا الدائم هو سرُّ بقاء علاقتنا مُمتدة وبلا ظنون سيِّئة!".

 

آهٍ كم أشتاقُ لمشاغباته، وهَوَس قراءة الكتب والنقاش فيها، وقضاء وقت طويلٍ في إقناع بعضٍ، لكن دون جَدوى! وإلى تلك الكلمات التي لا يتوقَّف عن إنشادها في كلِّ حين له.

 

وللمرة الثانية يتوقَّف القطار؛ لتَنزل مجموعة أخرى من المسافرين، ويتكرَّر المشهد من جديد، ولكن يبدو أنَّ طول المسافة جعَل اللقاء أشدَّ حرارة هنا!

 

حينها تحدَّث من جديد ذلك العجوز:

• "طول المسافة الموصِّلة تَستهلك منَّا مشاعرنا، ووقتها انتظارنا يكون أشدَّ قسوة علينا من الغياب نفسه!".

 

الْتَفَت إليه والدَّهشة تعلوه، فقد حكى ما كان يحوك في صدره!

 

أن يتحدَّث أحدهم عمَّا يَعتريك، يعني أنَّ ثمة ترابُطًا بينك وبينه، وإن كان لا يَمُتُّ لك بصِلة!

 

• "السنون المُمتدة للغياب جعَلتني أكثر تماسكًا ولا مبالاة بالشوق، رُبَّما الاعتياد هو مَن جعَلني كذلك!".

 

• "أن تعتاد أمرًا ليس بالضرورة أن تفقدَ قيمته لَدَيك، ربما الاعتياد يعني تأجيل المشاعر إلى اللحظة التي ينتهي معها ذلك الأمر!".

 

• "ربما، لكن لا أدري كيف سأعود للتربة التي احتَضَنتني ١٩ عامًا، وفقَدتني ٥ سنوات!

 

هل سأكون كما أنا؟ أو تغيَّرت بي أشياءُ كثيرة؟!".

 

• "الغياب يتكفَّل دائمًا بتهذيب النفس المنتظرة، وجَعْلها تتقبَّل أسوأ الأمور حتى عدم العودة، لكن التربة ستقبل عودتك، وسوف تَحتضنك كما لو أنَّك لَم تُغادرها من قبلُ؛ لأنَّ الحنين سيُحرِّكها من أجْلك، فأنت جزءٌ منها، وعودتك أمرٌ لا بدَّ منه مَهما طالَ الغياب!

 

هكذا هي تشعر".

 

• "أشعر أحيانًا أنني جزءٌ مَنهوب من هذا الوطن حين غادَرته، وعودتي ستكون كعودة قطعة آثارٍ، سيحتفل بها الجميع أوَّل الأمر، ومِن ثَمَّ سيضعونني في أقصى متاحفهم ليَعلوني الغبار!".

 

• "هكذا يعتقد الغائبون طويلاً عن الوطن، لكنَّك لستَ آثارًا ولا جمادًا، أنت بشرٌ، وتُحدِّد أين سيكون مكانك، ولك أن تُزيل الغبار عنك، ولا حقَّ لأحدٍ أن يَضعك جانبًا!".

 

• "أتمنَّى ذلك بصدق".

 

• "سيكون ذلك إن أرَدت، لكن تذكَّر، فقد تَجرُّ عليك الأيام أشياءَ تجنَّبتَها كثيرًا، فانْتَبه؛ حتى لا تتلاشى أحلامك، وتَفقد مكانك!".

 

وصمَتا لبُرهة كأنها استراحة من إنهاك الغياب.

 

• "أظنُّ أنَّ كلَّ ما يَشغلني الآن اللقاء، كيف سيكون؟ ورائحة الوطن، وبعدها سأعمل جاهدًا لأن أتَّخذَ مكاني في الوطن".

 

وتوقَّف القطار في محطته ما قبل الأخيرة، وغادَر ذلك العجوز، واختَفى داخل الضباب الكثيف، دون أن يكونَ هناك مُستقبلون له، أو حتى عابئُون بأمره!

 

وأكمَل القطار سَيره؛ ليصلَ إلى المحطة الأخيرة، وحين هَمَّ بالنزول، تذكَّر الكتاب الذي أهداه إيَّاه صديقه بالجامعة بعد حفل التخرُّج، أخَذه مُسرعًا وغادَر القطار وكراسيَّه المُهتزة طوال الطريق، وكأنها تُهَدْهِد الحنين الثائر.

 

وَطِئ أرض الوطن، واشتمَّ هواءَه، وانتشَى وكأن رُوحه رُدَّت إليه بعد سَلْب طويلٍ.

 

وصَل إلى المنزل، وفاجَأ أُمَّه بدخوله عليها، واحتَضَنها طويلاً، وتزاوَجت دموع الاشتياق بينهما.

 

وفي الغد بدَأ رحلة البحث عن عملٍ.

 

وبعد مرور أربعة أعوام، وفي نفس أرض محطة القطار تلك، كان هناك غريبًا حائرًا اقتطَع تذكرة العودة للوطن حاملاً "ماجستير" فيزياء ذريَّة، ولكن بروح وَجِلة مُتردِّدة في العودة، بعد أن لفظه وصَغَّر الوطن نجاحَه الأوَّل!

 

انتَـهَت!





 حفظ بصيغة PDFنسخة ملائمة للطباعة أرسل إلى صديق تعليقات الزوارأضف تعليقكمتابعة التعليقات
شارك وانشر


 


تعليقات الزوار
1- رائِعة بحقْ
7amoodi - jeddah 28-01-2012 12:58 AM

الله يوفقك يارب فعلا أكثر من رائِعه استمري

1 

أضف تعليقك:
الاسم  
البريد الإلكتروني (لن يتم عرضه للزوار)
الدولة
عنوان التعليق
نص التعليق

رجاء، اكتب كلمة : تعليق في المربع التالي

شارك معنا
في نشر مشاركتك
في نشر الألوكة
سجل بريدك
  • السيرة الذاتية
  • اللغة .. والقلم
  • أدبنا
  • من روائع الماضي
  • روافد
  • قائمة المواقع الشخصية
حقوق النشر محفوظة © 1446هـ / 2025م لموقع الألوكة