• الصفحة الرئيسيةخريطة الموقعRSS
  • الصفحة الرئيسية
  • سجل الزوار
  • وثيقة الموقع
  • اجعلنا صفحتك الرئيسة
  • اتصل بنا
English Alukah
شبكة الألوكة شبكة إسلامية وفكرية وثقافية شاملة تحت إشراف الدكتور خالد الجريسي والدكتور سعد الحميد
 
صفحة الكاتب  
شبكة الألوكة / موقع حضارة الكلمة / أدبنا / بوابة النثر / كُتاب الألوكة


علامة باركود

طيف وذاكرة

طيف وذاكرة
عادل دريدر


تاريخ الإضافة: 14/12/2011 ميلادي - 18/1/1433 هجري

الزيارات: 6346

 حفظ بصيغة PDFنسخة ملائمة للطباعة أرسل إلى صديق تعليقات الزوارأضف تعليقكمتابعة التعليقات
النص الكامل  تكبير الخط الحجم الأصلي تصغير الخط
شارك وانشر

بدأتُ أشعر بقلقٍ شديد يلتهمني في داخلي، وبخوفٍ من مجهولٍ يتربص بي من مكانٍ خفي، كانت رحلاتي بين البيت ومكان العملِ أشبه بعقوبةٍ أَئِنُّ تحت وطأتِها، كان الهواء الذي أحسُّ أنني أتنفسُه ثقيلاً ثقيلاً جدًّا، لدرجة أنه يشدني إلى الأرضِ، ويجعل صدري ضيقًا حرَجًا، أحسُّ بدمائي ساخنة وهي تخترقُ ببطء شعيراتي وعروقي الميتة.

 

عندما أستيقظُ في الصَّباحِ أفتح عيني بصعوبةٍ، بألم، وكأنَّني أريد الهروبَ من ذاتي ومن هذا العالَمِ الذي يؤرقني، أزيح الستائرَ من على نافذتي الوحيدة في غرفتي الوحيدة في بيتي المنعزل، أنظرُ إلى أناسٍ يسعون في الأرضِ وهم يتحدثون ويبتسمون، وقد يتخاصمُ بعضُهم مع البعضِ الآخر، لكنَّهم سرعان ما يواصلون سيرَهم وحياتَهم، وكأنَّهم يفسحون المجالَ لغيرهم وَفْق خطةٍ كونية قد لا يكونون واعين بها، كنتُ أرقبُهم، أتفرَّسُ في ملامحهم وقسماتهم وسحناتهم، في ملابسِهم وحركاتِهم وسكناتهم، فيسبح بي الخيالُ بعيدًا وأنا أحاولُ أن أقتربَ من عوالمهم وأكتشفها، وأن أكسر بالتالي جدارَ عزلتي عنهم، أخمِّنُ في أسماءٍ تليق بهذه الكائنات، وبأدوارٍ محتملة يلعبونها في حيواتِهم، أخمِّنُ في مشاكلَ يمكنُ أن تنغصَّ عليهم سعادتَهم، وتدفع ببعضِهم لينسحبوا مثلي من زحمةِ الحياة وكآبتها.

 

تتعالى أصواتُ الباعةِ المتجولين، وضحكات أطفال يحملون فوق ظهورِهم الصغيرة حقائبَ كتبٍ ضخمة وهم يتوجهون صوبَ مدارسِهم، فأبدأ أستعيدُ ذاتي رويدًا رويدًا قبل أن أتوجَّهَ بحركةٍ آلية إلى المطبخِ، أعدُّ شايًا وبيضًا وقليلاً من الخبزِ والزيت، أتناولُ طعامَ الإفطار في صمتٍ، طقوسي غريب، أرتدي ملابسي وألمعُ حذاءً قديمًا، وقبل أن أخرجَ من البيت أتوقَّفُ كعادتي أمام المرآة؛ أنظرُ إلى نفسي، أنظر مليًّا إلى ذلك الوجهِ الغريب والمألوف، أنظر إلى العينَيْن الغائرتين، وكأنني أستدرجُهما ليهمسا في أذني، ويبوحا لي ببعضِ أسرارِهما، لكن عندما أيئَس من محاولتي أطرقُ بنظري إلى الأرضِ ثم أنصرفُ تاركًا ورائي عالمًا من الأسئلةِ الغامضة والمبعثرة.

 

كانت حرارةُ ذلك اليوم مرتفعةً جدًّا، فكانت الوجوه التي أنظرُ إليها في كلِّ مكانٍ شاحبة وذابلة، الورود عندما تجفُّ مياهها يتحول جمالُها إلى نوعٍ من الانكسار الذي يرسمُ معالمه صراع الموت والحياة، الموت يدبُّ في أجسادِنا بقدر ما تدبُّ فيها الحياةُ.

 

ظللت أرقبُ وجوهَ المرضى الذين كنتُ أستقبلهم في حجرةِ الفحص في ذلك المستشفى العمومي البئيس، أستمع إلى تأوهاتِهم، إلى ألمهم وكلماتهم، فكنتُ أحاول أن أقرأ دواخلَهم لعلَّ العلاج الذي يبحثون عنه يختبئ هنالك وهم لا يشعرون، لقد كنتُ أشفقُ عليهم وأرثي لحالهم، وأنا لا أملكُ لهم غير معداتٍ طبية مهترئة، وقليلٍ مما تراكم من خبرةٍ حصلتُها من حجراتِ الدرس في كلية الطب، ومن ممارستي للمهنة.

 

كنت أجهدُ نفسي لأرسم الابتسامةَ في وجهي، وأنا أفحصُ أعضاءهم وخباياهم، وأنا أتحدَّثُ إليهم وأسألهم عن معاناتِهم كان إحساسٌ غامض بالذنب يسري في داخلي، مما يجعلُني أتودَّدُ إليهم بقدرِ ما يتوددون إلي، لقد كان عملي عصيبًا جدًّا، ومهمتي خطرة؛ أن تَدخلَ طرفًا في صراعِ الموت والحياة، وأن تحسمَ موقفَك من هذا الصِّراعِ، أن تنتصر للحياةِ على الموت ولو إلى حين، وجدت أنَّ الأمرَ يتطلَّبُ مني شجاعةً وصبرًا وألمًا وإيمانًا بعدالة موقفي من هذا الصِّراع، فكان عليَّ أن أُلقي بنفسي في اليمِّ بعد أن أحرقَ زورقي وأستنشق بهدوء رائحة موته.

 

كنتُ في ذلك اليوم أتصبَّبُ عرقًا وأنا أنتقلُ بين المكانِ المعدِّ للفحصِ، وبين المكتبِ الذي أصف فيه الدواء للمرضى، لم يكن بالمكانِ مكيفٌ للهواءِ يخفف من وطأة الحرِّ، ولم أكن من النوع الذي يزعجُ رؤساءه بطلبِ تزويده بمثل هذه الأشياء، لقد احترفت لغةَ الصمتِ، وتعودت أن أكتمَ كلَّ شيء، كلَّ شيء تقريبًا.

 

عندما عدت أدراجي إلى بيتي كنت منهكًا، لم أقو على انتزاعِ حذائي، فتمددت فوق السَّريرِ مثل جلمودِ صخر، لم أعُد أذكر هل تناولتُ شيئًا أم أنني ظللت صائمًا طيلةَ اليوم، إحساس بالظمأ يأكلُ أحشائي وإحساس بالفراغِ وبالتِّيه، أشربُ بين الفَينة والأخرى من قنينةِ الماء الموضوعة بجانبِ سريري، أسترجعُ ذكرياتِ اليوم، معالِمَ الطريقِ، الوجوهَ المتجهمة، صراخَ طفل، ابتسامةَ البواب نعمان، نظراتِ المرضى التي كانت تخترقني، قطراتِ العرقِ ثم العزلة في غرفةٍ لا يربطها بعالم الغير سوى نافذة موصدة.

 

ما زلت أشعرُ بحرارةِ الجو تلتهمُ جزيئاتي، وحرارة أشياء أخرى لا أدركُها، أجولُ ببصري المنكسر في غرفتي، أتأمَّل صمتَها وسخريتها مني، أتخيلها تنطقُ بكلماتٍ لا أسمعها، أنتقلُ ببصري بين الزوايا المتقابلة، أنظر إلى تلك الصرَّةِ التي تركتْها والدتي فوق كرسي خشبي قبل أن تودعني وتعود إلى قريتها، قبل أن تقبِّلَني وتغسل وجهي بدموعِها التي لا أدري إن كانت دموعَ فرحٍ أم دموعَ حزن، أنظر إلى تلك الصرةِ كما لو لم أنظرْ لها من قبل، كما لو أنني اكتشفتُها لأولِ مرة، مع أنني تعودتُ على صورتِها وموضعها في هذا المكان دون أن أفكِّرَ لحظة في كشف محتواها، الآن! هكذا راودتني الهواجسُ فجأة، ما الذي يخفيه عني هذا الثوب؟! ولماذا تعمَّدتْ أمي أن تتركَه وهي التي تنتبه لأدقِّ التفاصيل في كلِّ جزئية من حياتها؟! أحسستُ برغبةٍ في أن أغوصَ داخلها، أن أختفي في أعماقِها، الآن! مددتُ يدي ببطء، بحذرٍ وبخوف، بدأتا ترتجفان، أحسستُ برغبةٍ في البكاء، أتلمَّسُ سجادةً قديمة تعودُ لأيام طفولتي، اعتادت أمي أن تفترشَها وهي تصلي وتناجي ربَّها، اعتادت أن تتأبطَها عندما تودُّ الذهابَ إلى أي مكان، أشم رائحتَها، أشم عبقَها، لماذا الآن؟! لماذا الآن يا أمي؟! لماذا تفتحين جرحًا في ذاكرتي ثم تعودين أدراجك مثل طيفٍ أو حلم؟! جثوتُ على ركبتي أنتظر، أنتظرُ ذلك الصوت ليخترقَ سمعي، ليخترقَ لحمي وعظامي، أنتظره ليزلزلَ كياني، أنتظرُه ليخرجني حيًّا من صراعِ الموت والحياة، أنتظر لأسمعَه كما لم أسمعه من قبل، أنتظره ليناديني في الأرضِ وفي السماء، حيَّ على الصلاة حيَّ على الفلاح.





 حفظ بصيغة PDFنسخة ملائمة للطباعة أرسل إلى صديق تعليقات الزوارأضف تعليقكمتابعة التعليقات
شارك وانشر


 



أضف تعليقك:
الاسم  
البريد الإلكتروني (لن يتم عرضه للزوار)
الدولة
عنوان التعليق
نص التعليق

رجاء، اكتب كلمة : تعليق في المربع التالي

شارك معنا
في نشر مشاركتك
في نشر الألوكة
سجل بريدك
  • السيرة الذاتية
  • اللغة .. والقلم
  • أدبنا
  • من روائع الماضي
  • روافد
  • قائمة المواقع الشخصية
حقوق النشر محفوظة © 1446هـ / 2025م لموقع الألوكة