• الصفحة الرئيسيةخريطة الموقعRSS
  • الصفحة الرئيسية
  • سجل الزوار
  • وثيقة الموقع
  • اجعلنا صفحتك الرئيسة
  • اتصل بنا
English Alukah
شبكة الألوكة شبكة إسلامية وفكرية وثقافية شاملة تحت إشراف الدكتور خالد الجريسي والدكتور سعد الحميد
 
صفحة الكاتب  
شبكة الألوكة / موقع حضارة الكلمة / أدبنا / بوابة النثر / كُتاب الألوكة


علامة باركود

تاجر مع الله

جمال المعاند


تاريخ الإضافة: 9/5/2010 ميلادي - 25/5/1431 هجري

الزيارات: 12534

 حفظ بصيغة PDFنسخة ملائمة للطباعة أرسل إلى صديق تعليقات الزوارأضف تعليقكمتابعة التعليقات
النص الكامل  تكبير الخط الحجم الأصلي تصغير الخط
شارك وانشر

يرنو للأُفق حيث الشمس تستعدُّ للرحيل، وهي على أعتاب النهار تُلملمُ ما تبقَّى من أَشِعَّتها المتناثرة، ثم يخفض بصرَه إلى عُمَّال ورشته، وهم يجمعون أدواتهم كأنهم يقلِّدون الشمس أو يتبعونها، لكنَّ نظراته التي أفلتت من زمامها مُحَلِّقةً تجذبها دوَّامات التفكير لداخل نفسه؛ ليرى شمس نجاحاته توشك على الأُفُول، وتكاد الخطوب أن توشح حياته بظلال قاتمة، تعجب من تطابق السُّنن الكونيَّة مع الأمور الحياتيَّة واتساقها، ومعاناته النفسيَّة، وهو غارق بين هذا وذاك وتلك، هَاتَفَتْهُ زوجه؛ لتخبره أنها دسَّت ورقةً في جيبه، بَحَثَ عنها وقرأها، وهزَّ رأسه، وركب سيارته وهو في الطريق عرج إلى أحد الأسواق، فكَّر في اختصار قائمة المشتريات، لكنه تراجع واشترى كلَّ ما هو مكتوب في الورقة، قال في نفسه: ليتها تشعر ولو قليلاً بوضعنا المادي، ثم الْتمسَ لها العُذر؛ فهي لا تعلم سوى أن زوجها مقاوِل، وليس من عادته التحدُّث معها عن شؤون عمله.

 

عاد إلى البيت، توضَّأ وأدَّى الصلاة، ثم جلس في الصالة يتابع بعض الأخبار على الرائي - التلفاز - ريثما تجهِّز زوجه العَشاء، وهما يتناولان الطعام سألته عن كثرة سرحانه في المدة الأخيرة، فتعلَّل بالإجهاد بسبب مشروعه الذي يعمل به، فهو بعيد عن المدينة، بعد سؤالها ضرب الصمت بجرانه، هي دخلت غرفة نوم الصغار، أما هو ما برح يسبح في تيارات الفِكر، تذكَّر تَكرار الملاحظة ذاتها من قِبَل الكثيرين ممن حوله، يبدو أنه دخل مرحلة ذهول بادية للعيان، ليته يستطيع أن يُخْرِجَ ما في صدره، لكن هيهات هيهات؛ هو نفسه لا يعلم شيئًا عن محاصرة الظروف لعمله، متاهات خفيَّة الأسباب لم تخفض وتيرة العمل، لكنها قلَّلت من المردود، عزى الأمر بدايةً إلى إصابته بالعين؛ فالعين حقٌّ، وبعد استطلاع أعراض العين، استبعد هذا الاحتمال، كما أنه من الملتزمين بأوراد الصباح والمساء، وهو على يقين استحالة اختراق هذه التحصينات.

 

فبدأ باتِّهام نفسه لعلَّه ذنب مَحَقَ البركة، فرتمُ ساعات العمل ما نقص، والمشكلة هي مماطلة بعض مَن ينجز لهم الأعمال في دفع مستحقاته، على الأخص ذلك الثري الفرنسي، والذي شيَّد له قصرًا فخمًا لم يدفعْ له إلا دفعات قليلة لا تَفِي حتى بقيمة مواد البناء، مما اضطره للسحب من مدَّخراته الشخصيَّة وإكمال المشروع، ومنذ شهور وهو يماطله في الدَّفعِ، ولا يستطيع الدفعَ بالعَقد الذي بينهما إلى الْمَحْكَمَة؛ فقد نمى لعلمه أنَّ الفرنسي يتبع عصابات إجراميَّة، لم يكن على عِلْمٍ بأمره عندما اتفقا على البناء.

 

حمد الله في سرِّه؛ فهو لم يقع إلى الآن في مشاكل الديون، ومشكلته تنحصر في السيولة النقديَّة؛ لتمويل أعماله ولمن يعول، فإلى جانب أُسْرته الصغيرة ثَمَّة أبٌ وأمٌّ أقعدهما التقدُّم في السنِّ والمرض، وإخوة وأخوات موظفون في بلده برواتب لا تكفيهم إلا بضعة أيام من الشهر، تارة ينتابه الهَلَع، وأَخْرى يتحرَّك إيمانه بالله وثقته به.

 

عندما يأوي لفراشه، ويتفرَّغ لوِرْد النوم والمحاسبة، كانت لا تستغرق منه عِدة دقائق، أما هذه الليالي، فالمحاسبة وحدَها تُبقيه يقظًا، بينما تَغُطُّ زوجه في النوم، هو على قناعة تامَّة أنَّ ثَمَّةَ أمرًا دفع به في هذه المتاهات، لم يهتدِ إليه، أخذ بحصر بداية المشكلة، إنها شهور، ولولا مدخراته - والتي توشك على النفاد - لانكشف وضعه المادي، قام من فراشه، وقرأ عن محبطات الأعمال، إنها مراجعات لسلوكه، أغلق الكتاب وأوى لمخدعه، اقتنع بأن ما أصابه رسالة من المولى - عز وجل - عجز عن فكِّ رموزها، تذكَّر أن عمله في الورشة الأخيرة قطعه عن صلاة الجماعة في المركز الإسلامي، واعتاد أن يصلي المغربَ، ويستمع لمحاضرة إذا كان هناك، أو يعتكف بين المغرب والعشاء، ونادرًا ما يذهب بصحبة بعض إخوانه لمقهًى قريبٍ يزجون الوقت؛ ريثما تحين صلاة العشاء، استبعد هذا الاحتمال؛ لأنه طارئ منذ شهر تقريبًا، كما أنه يصلي جماعة مع نفرٍ من العُمَّال المسلمين.

 

ليلتَئذٍ خطر على باله: لعلَّه اختبار من المولى - تبارك اسمه - فالمؤمن مُمتحن، ولمَعَ في ذهنه قول الله - جل في عُلاه -: ﴿ لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي كَبَدٍ ﴾ [البلد: 4]، وعليه الاستعداد؛ لاستقبال قضاء الله بقلبٍ مؤمنٍ يَقِظٍ.

 

دفعه تفكيره الذي يحاول استشفاف آفاق المستقبل لمراجعة كُتب التوحيد، باب القضاء والقدر، وأسلم أمره لمولاه؛ لعلَّ الفرج قريب، أو يُلْهَم السبب فيتعامل معه.

 

انقضت أيام، أوشكت ورشته الأخيرة والتي أبعدته عن المركز أن تنتهي، فهو في شوق للمسجد ولإخوانه، ما صلَّى خلالها فيه البتة، لكنه لا يعدم رؤية أخٍ في السوق، أو يلتقي بعابرٍ لطريق، وعَلِمَ ممن التقى من إخوانه أن شيخهم القديم سافر لبعض شوؤنه الخاصة لبلده، وحضر شيخٌ جديد، كانت تمتلكه رغبة للتعرُّف إليه، فقد أخبر عنه أنه لا يُلقي كلمة، أو خطبة إلا وآياتها معزوة لسوَرِهَا بالأرقام، ولا يذكر حديثًا غيرَ صحيح، بأسلوب يجمع التشويق والعُمق.

 

دخل المركز الإسلامي، كان في لهفة، إحساسه بالغُرْبة من انقطاعه عما تعلَّق به - مع أنه لم يفارق بيتَه - جعله يصافح جميعَ مَن في المسجد، كان الشيخ قد بدأ بأسلوب جديد يقف بالمصلِّين - بعد أوراد كلِّ فريضة - مع خاطرةٍ نبويَّة غالبًا ما يذكر النصَّ، ويعرِّج على المفردات شرحًا، ثم تعليقًا على الواقع، فقاعدة ملخصة ببضع كلمات،كلُّ ذلك في دقائقَ معدودات، ويذهب إلى مكتبه ينتظر الأسئلة الخاصة، لقد دأب الشيخ على تربية حضوره بمعلومات متدرجة ومتسلسلة، وقبل ذكر معلومة جديدة يُراجع معهم ما قاله سابقًا، إنه عالم يربِّي صغار العلم، وحدثته نفسه عن الشيخ أنه مربِّي من طِراز نادرٍ هذه الأيام، وتحسس عقله الخسارة؛ ببعده شهرًا كاملاً، ولاحظ أيضًا زيادة كَمِّ المصلين، بل النوعية اختلفت أيضًا بقدوم مُثقَّفين من أبناء الأقليَّة، حمد الله وأخذ يرقب الشيخ الوافد، رجل في العِقد الخامس، قريب في العُمر من غالبية أعمار مَن في المسجد، لطيف المعشر، دمث الأخلاق، كثير الصمت، إذا تحدث يَغْرِف من بحرٍ؛ لكثرة ما يُورِدُ من أقوال العلماء، كل مَن سمعه ما شكا من إطالة؛ فهو يتخوَّلهم بالمواعظ.

 

أخذت علاقاته مع الشيخ تنمو يومًا بعد يوم، وتحوَّل المسجد خاصة بين المغرب والعِشاء لما يُشْبه الأعياد من كثرة الحضور، وبينما كان الجميع يحضرون للاستفادة العلميَّة، زاد هو عليهم بالركون إلى جنب الشيخ، فهاجسه من أنه مُقْدِمٌ على اختبار لإيمانه، يدفعه للقُرب من نور العلماء، فاجتهد بالمناسبات؛ من دعوة على عشاء، إلى اصطحاب الشيخ وقت الفراغ في جولة لمعالم مدينتهم، وانقضت أسابيع كان أقرب المصلِّين من الشيخ، وخَطَرَ له ذات مرة عَرْضُ مشكلته عليه، فحدَّث الشيخ، وهما خارج المسجد، وأفضى له عن المشكلة بقَضِّها وقضيضِها، فتبسَّم الشيخ قائلاً: الحمد لله أن إيمانك يَقِظ، لكن فاتك أمر!

 

هنا أوقف صاحبنا عجلة مُحرِّك السيارة، والتفتَ بكُلِّه للشيخ، فأردفَ مُكْمِلاً حديثه: كلُّ ما اختبرته صحيح ومطلوب، وبَقِيَ أمرٌ، وسكت الشيخ! فقال صاحبنا: ما هو؟ قال الشيخ: هل كانت لك عادة مع الله فقطعتها؛ فإن كرمَ الله لا ينقطع؛ حتى يبادرَ العَبْد بالإعراض، وذكر أمثلة عن السلف الصالح.

 

أوصل الشيخ لبيته، وهو يتساءل مع نفسه: ما العادة التي كانت تُرضي الله وتركتها؟ أول ما خطر على بالِه، أنه وإخوانه يصلون فجر الأحد في المركز، ويعتكفون حتى شروق الشمس، ثم يجمعون فيما بينهم ثمن إفطار جماعي، استبعد هذا الاحتمال، فهو معمول به إلى الآن، وخلال المدة الماضية تسوَّق من ماله لهذا الأمر، وحضوره من قبل متفرِّق تحكمه ظروف العمل، راودته فكرة أخرى، فقد كان يَفِدُ لمركزهم أحيانًا عابرو سبيل، فيأخذ على عاتقه توصيلهم، ويعطيهم بعض المال، أما هذه فقد انشغل عنها بسبب زحمة الأعمال، ففاز بها غيره، وما الحل وابن السبيل ليس راتبًا؛ فقد تمضي شهورٌ ولا يصلُ محتاج؟

 

أعاد تقييم وضعه برُمَّته، فأراد قطع الشك باليقين، أعلن في سرِّه التوبة إلى الله، ودعاه أن ييسر له صدقة سرٍّ لا يطلع عليها غيره - سبحانه.

 

واتصل استغفاره في حِله وتَرحاله، وذات يوم حمل الشيخ في سيارته لجولة، يُرَفِّه عنه قليلاً، لقد تنبَّه لأمرٍ كأنَّه يراه لأول مرة، فكلَّما خرج الشيخ معه يرتدي نفس الملابس، فخَمَّن: ربَّما يحتاج الشيخ لملابس جديدة، فمال عن جهة مقصده لمحل بيع ثياب، وقال للشيخ: أريدُ أن أهديك ثيابًا جديدة، تعفَّف الشيخ بداية، لكنَّه أصرَّ، فاشترى له بشطر ماله الذي معه، والشيخ يقول: يكفي، وهو لا يلتفت، ثم رجعا إلى بيت الشيخ، وعرض عليه شُرْبَ كأسٍ من الشاي، وفيما يعد الشيخ الشاي، جاءته مكالمة وأخذ يتحدَّث بالفرنسيَّة، ثم أغلق الهاتف وهو يقول:

الله أكبر، الله أكرم، الله أعظم، وعيناه تذرفان الدموع، ثم هُرع وسَجَدَ لله، فسأله الشيخ: ما الأمر؟

 

فوقف وقال: يا شيخ لي مستحقات عند فرنسي، منذ شهور وهو يماطلني فيها، لقد بنيتُ له قصرًا أتى تقريبًا على كلِّ مُدَّخراتي، الآن يرجوني الحضور للمَقْهَى؛ لدفع مستحقاتي نَقْدًا.

قال الشيخ: أغبطك على نيِّتك الخالصة لوجه الله.

 

وخرج، والشيخ يقول: الشاي الشاي، وهو يردُّ على الشيخِ: وقتًا آخر يا مولانا.





 حفظ بصيغة PDFنسخة ملائمة للطباعة أرسل إلى صديق تعليقات الزوارأضف تعليقكمتابعة التعليقات
شارك وانشر


 


تعليقات الزوار
2- ما أجملها من عظة
الشيخ حسن - مصر 05-02-2015 01:11 PM

جزاك الله خيرا ما أجملها من موعظة زاد من حسنها أسلوبك الأدبى الجميل وأنا أقرأها أقول ---كلنا ذاك الرجل

1- عنوان جميل ومقال رائع
فيصل - السعودية 15-05-2010 04:02 PM

مقالك أيقظ في النفس ما كان يبتغيه ويهفو إليه ويبحث عنه

1 

أضف تعليقك:
الاسم  
البريد الإلكتروني (لن يتم عرضه للزوار)
الدولة
عنوان التعليق
نص التعليق

رجاء، اكتب كلمة : تعليق في المربع التالي

شارك معنا
في نشر مشاركتك
في نشر الألوكة
سجل بريدك
  • السيرة الذاتية
  • اللغة .. والقلم
  • أدبنا
  • من روائع الماضي
  • روافد
  • قائمة المواقع الشخصية
حقوق النشر محفوظة © 1446هـ / 2025م لموقع الألوكة