• الصفحة الرئيسيةخريطة الموقعRSS
  • الصفحة الرئيسية
  • سجل الزوار
  • وثيقة الموقع
  • اجعلنا صفحتك الرئيسة
  • اتصل بنا
English Alukah
شبكة الألوكة شبكة إسلامية وفكرية وثقافية شاملة تحت إشراف الدكتور خالد الجريسي والدكتور سعد الحميد
 
صفحة الكاتب  
شبكة الألوكة / موقع حضارة الكلمة / أدبنا / بوابة النثر / كُتاب الألوكة


علامة باركود

أحاسيس صبي

أحاسيس صبي
جواد عامر


تاريخ الإضافة: 7/1/2023 ميلادي - 14/6/1444 هجري

الزيارات: 1889

 حفظ بصيغة PDFنسخة ملائمة للطباعة أرسل إلى صديق تعليقات الزوارأضف تعليقكمتابعة التعليقات
النص الكامل  تكبير الخط الحجم الأصلي تصغير الخط
شارك وانشر

أحاسيس صبي

 

المتشرد:

كان المسكين يفترش الورق المقوَّى مما كان يصلح لتخزين بعض المواد الغذائية؛ كزيت المائدة، ومساحيق التصبين، وما شابه ذلك، يفترشها مندَّاة بأحزان الماضي، ويتوسد كيسًا كانت حشوته من بقايا ثياب رثَّة يسندها إلى زاوية أو تحت غطاء لأحد المتاجر المغلقة، يلتحف بدِثارٍ رقيق لا يكاد يخفي بقية من جسد، لا الجسد كله، يتقلب ذات اليمين وذات اليسار، كانت عيناي تقعان على المشهد كل صباح حينما كنت أتوجه إلى المدرسة، أملأ عينيَّ بالنظر إلى جثته المتكوِّمة يلسعها البرد بسياطه التي لا ترحم، وتبللها الأنداء التي تغدو جزءًا من عذابات ليلية، لا صورًا من صور الجمال عند أهل اليسر، تُكلِّل أعطاف الورود، وأغصان أشجار الحوامض والصنوبر في حدائقهم الغنَّاء، كان يخفي وراء سهام نظراته الفاترة، وسَحنات وجهه النحيف قصة حية ملأى بالأحزان، قل من يقرأ سطورها الغادي والرائح، ربما لأنهم ألِفوا مثل هذه الصور القاتمة الدامية في مشهد الحياة، لكنني أنا - الطفل - كنت شديد الاهتمام به، لَكأنه كان يثير في نفسي كل عاطفة، ويململ في باطني كل حس بالعطف، لا زال غضًّا ناعمًا، لكأن الحياة لم تُقَسِّيه كما قسَّت قلوب الآخرين، فجعلتها صلدًا، ما يتفجر منها اللين، ولا تنبثق من بواطنها الرأفة.

 

اليتيم:

كنت أراه منهمرَ الدمع، تهز كل دمعة يذرفها على خده جوانحي، فتخفق لكل درة تسقط على الأرض، متى أثنى صبي على أبويه في ملعب من ملاعبنا نحن - الصبية - أو ذكر صنيعهما معه في موسم عيد أو إجازة، فيحاول المسكين إخفاء دموعه، لكن التماعة لحظية كانت تخطف بصري، وتلتقط ومضتهما، قبل أن يشيح بوجهه الحزين عنَّا؛ عله لا يفسد أجواء المرح على الصبية، فكنت أفطن إلى هذا الصنيع الذي كان يكبره رغم حداثة سنه، فأكفكف دموعه، وأخبره أن الله قدر أن يرحل والداه عن الدنيا في حادث سير، مثلما رحل الكثيرون، وسيرحل الكل عن هذا العالم، ولا بد أن الله سيعوضه خيرًا، فيشرق وجه المسكين، وتتهلل أساريره، لكأن الدنيا قد منحته إكسيرها، فيسلو ما كان من كلام الصبي، ويمضي بحزم نحو الملعب، يخالط الأقران ويلاعبهم بحب وصفاء، فيجد في ذلك مسلاةً وأنسًا، دون أن أنسى تذكير أترابي بتجنب خدش مشاعره بذكر صنائع الآباء في حضرته، فلا تتحرك أحاسيس البنوة الراقدة في صدره، ويجيش خاطره، وتضطرب عواطفه، كلما ذكرت وداعة الأمومة، ومجَّدتَ الأبوة.

 

المتسولة العجوز:

امرأة عجوز تقوس ظهرها فهو كالعرجون في انحناءته، متيبس كجلدها الذي لا يكاد يغطي نتوءات بارزة، تنطق بها عظام لا تخطئها عين ناظر إلى جسد لم يبقَ فيه إلا أطلال من جسد، عفا عليه الدهر، كانت تفترش ثوبًا باليًا على مقربة من مدخل مسجد، ألِفت استجداء المرتادين له في الصلوات الأربع دون صلاة الفجر؛ لأن القلة من كانت تخف لأداء هذه الصلاة في غبش الإصباح؛ لذا لم يكن من بدٍّ في أن تتعب جسدها المنهك، وتصيبه ببرد الليل، وهي تعلم أنها لن تحصل من استيقاظها الباكر هذا، غير دريهمات قليلة، وقد لا تحصل شيئًا، فالغالب من الناس لا يحملون معهم شيئًا من النقد في مثل هذا الوقت؛ لأن الغالبية يصلون ثم يهرعون مسرعي الخطى ليمنُّوا النفوس بدفء الأغطية التي تركوها لله، أو يقرؤوا أثمانًا في الدور، فقلما تكتمل الحلقة التي يشكلها القراء من حول فقيه المسجد لتلاوة حزب من القرآن المشهود، غير أن الأمر مختلف في بقية الصلوات، فالعجوز كانت تستأثر بعطف الكثير من المصلين ممن يجودون عليها بالعطاء، كثيرًا ما كنت أسأل نفسي عن سبب تسول هذه العجوز، دون أن أعثر لنفسي عن جواب، ظل السؤال المحير أمدًا يجول في خاطري حتى بعد وفاة العجوز، ليفتقدها المصلون، وتبكيها عتبة المسجد، وتلك الزاوية التي كانت تتخذها مصلًّى لها، تؤدي فيها صلواتها حين يشرع الفقيه في إمامته للمصلين.

 

الجرو:

أذكره صغيرًا في فصل بارد يرتجف جسمه الصغير من زمهرير الشتاء، متكوم كقطعة من لحم في زاوية يبحث لنفسه عن شيء من الدفء، فلا يكاد يلفي منه نصيبًا، اقتربت منه فأنَّ أنينًا كأنه يستجدي العون من أحدهم، نظرت إليه بإمعان فأصابت عيناه الصغيرتان عينيَّ، وتبادلتا نظرات العطف والالتماس، فما كنت إلا اليد المعوان لهذا الجرو الذي عرفت أن أمه ماتت برفقة إخوته، بعد أن دعستهم شاحنة كانت محمَّلة بالرمال المخصصة للبناء، بينما كانت تقوم بإرضاعهم في فجوة أحدثتها عجلات الشاحنات الغادية والرائحة، إلا هذا الجرو فقد نجا بأعجوبة، فكُتب له البقاء وحيدًا، حملته بين يدي وحاولت أن أمنحه شيئًا من الدفء بمعطفي الصوفي، وأنا أربِّت على جسده، لا بد أنه يحس بالطمأنينة والدفء في تلك اللحظات، أخذته إلى البيت وأنا أعلم أن أبي سيكيل لي وابلًا من التوبيخ، أما أمي فكنت مطمئنًا لردة فعلها؛ فهي تعلم أني أحب القطط والكلاب، ولا بد أنها ستدافع عن جروي الصغير.

 

كانت أمي في المطبخ لحظتها، رأت الجرو بين يدي، وأمرتني بإخراجه على الفور من البيت، قبل أن ينالني غضب أبي، فتوسلت إليها ألَّا تخبره ريثما أجد له مكانًا حريزًا، وأضعه بين أيادٍ أمينة، فمن المؤكد أنه لن يسمح لي بترك الجرو داخل البيت؛ فالملائكة لا تدخل بيتًا فيه كلب أو صورة، كثيرًا ما كان يردد هذه الكلمات التي لم أكن حينها أعرف أنها من حديث الرسول صلى الله عليه وسلم؛ لذا طلبت من أمي أن تساعدني على إخفاء الجرو في صندوق وأفرش له بعض القماش ليشعر بمزيد من الدفء، أحضرت أمي بعض الحليب ووضعته في مرضعة كانت تحتفظ بها بعدما فُطِمَت أختي التي لا تجاوز الثالثة من عمرها، وأمرتني بتقديم الحليب للجرو الذي بلغ منه الطوى كل مبلغ، فجعل الصغير يمتص الحليب امتصاصًا بغير توقف حتى أفرغها، تركته في مكانه، وقد أغلق عينيه يمنِّي نفسه بنومٍ هنيء يُنسيه ما كان من شقاء.

 

جاء والدي بعد قضاء مأرب من مآربه، فأخبرته أمي بأمر الجرو، فما كان إلا كالمتنبه من غفوة، حوَّل بصره سريعًا نحوي ففهمت من إيماءة وجهه أن لا مجال للتوسل، أمرني منتفضًا بإخراج الجرو على الفور من البيت، نظرت إليه أمي وهي تتصنع ابتسامة؛ علَّها تظفر منه ببعض العطف لأجل الجرو إرضاء لي، لكنه أصر على أمره، فما كان مني إلا أن أخذت في البكاء، والتوبيخ كوابل لا يتوقف من لسان الوالد، نظر إلى وجهي المبلل، وأمي تكفكف أدمعي، فتململ في خاطره شيء من العطف، ليأمرني بأخذ الجرو إلى حديقة عمي، فثمة متسعٌ له، وبإمكاني حينها أن أظل قريبًا من الجرو لأكبر وقت ممكن، استبشرت ورضيت بالقرار؛ فالجرو لن يكون بعيدًا عن مرآي، وسأظل أطعمه حتى يشتد عوده، وأدربه حتى يصلح لحراسة بيت العم.

 

هكذا أقنعت نفسي ووعدتني أمي بإطعام الجرو كل يوم، مثلما وعدني أبي أنه سيخصص بيتًا خشبيًّا للجرو في حديقة العم، يا للفرحة سيكون لي جرو ألاعبه ويلاعبني في وقت فراغي! لَكَمْ كنت شديد اللهفة إلى امتلاك واحد أكون له أمًّا ترعاه، حتى يكبر، ويقرئ الإنسان دروسًا رائعة في الوفاء.





 حفظ بصيغة PDFنسخة ملائمة للطباعة أرسل إلى صديق تعليقات الزوارأضف تعليقكمتابعة التعليقات
شارك وانشر


 



أضف تعليقك:
الاسم  
البريد الإلكتروني (لن يتم عرضه للزوار)
الدولة
عنوان التعليق
نص التعليق

رجاء، اكتب كلمة : تعليق في المربع التالي

شارك معنا
في نشر مشاركتك
في نشر الألوكة
سجل بريدك
  • السيرة الذاتية
  • اللغة .. والقلم
  • أدبنا
  • من روائع الماضي
  • روافد
  • قائمة المواقع الشخصية
حقوق النشر محفوظة © 1446هـ / 2025م لموقع الألوكة