• الصفحة الرئيسيةخريطة الموقعRSS
  • الصفحة الرئيسية
  • سجل الزوار
  • وثيقة الموقع
  • اجعلنا صفحتك الرئيسة
  • اتصل بنا
English Alukah
شبكة الألوكة شبكة إسلامية وفكرية وثقافية شاملة تحت إشراف الدكتور خالد الجريسي والدكتور سعد الحميد
 
صفحة الكاتب  
شبكة الألوكة / موقع حضارة الكلمة / أدبنا / بوابة النثر / كُتاب الألوكة


علامة باركود

نداء الزورق (قصة قصيرة)

نداء الزورق (قصة قصيرة)
جواد عامر


تاريخ الإضافة: 11/5/2022 ميلادي - 9/10/1443 هجري

الزيارات: 3110

 حفظ بصيغة PDFنسخة ملائمة للطباعة أرسل إلى صديق تعليقات الزوارأضف تعليقكمتابعة التعليقات
النص الكامل  تكبير الخط الحجم الأصلي تصغير الخط
شارك وانشر

نداء الزورق

 

كان ولعي شديدًا بالمدينة القديمة "الملاح"، كثيرًا ما كنت أطلق ساقيَّ لا ألوي على شيء أعبر الجسر المعلق لأمني نفسي بعبق دُور طليت جدرانها بلون أبيض وأزرق سماوي فاتن، رسمتها يد ساحرة فوق سور "الأوداية" الذي يفوح منه أرج التاريخ وعطر الأجداد، تُطل على البحر الذي ما انفكت يداه ترسل نفحاتها العليلة إلى كل مطل على سحنته الباسمة، أو يبعث برشاش مِن رذاذه المتناثر فوق الصخور الناتئة.

 

لم أكن حينها أجرؤ على عبور النهر عبر زوارق تتهادى على صفحته الهادئة، لكن حماسة لم أعهدها من قبل استذكت في نفسي ذات يوم، دفعتني إلى أن أخوض تجربة ركوب الماء أول مرة، لم أكن حينها أُجاوز العاشرة من عمري، كانت الظلال قد فاءت، والشمس تنحدر إلى الأفق الغربي ناثرة إبريزها المسجور على قبة السماء؛ لتضفي على الطبيعة سحرًا يبهر الإنسان، يزداد متى صافحت كفَّها زرقة النهر، وداعبت مويجاته المتلاحقة.

 

مضيت في خطو متئد إلى المرسى الصغير؛ حيث عشرات المراكب تتمايل على أديم الماء ذات اليمين وذات اليسار.. أحسست في نفسي انقباضًا مذ وطأت قدماي مدخل المرسى، أيقنت حينذاك أن شعورًا بالخوف من مغامرة لست آمن جانبها قد استبدَّ بي، شرعت وساوس الخوف والصراع ضد الماء والتمسك بالجؤجؤ تدور في مُخيلتي، وبينما - أنا الطفل - غارق في وساوسي، وعيناي مسمرتان على زورق خشبي تناسقت ألوانه، استهوتني عبارة لم أكن أدري أنها آية من القرآن: ﴿ بِسْمِ اللَّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا ﴾ [هود: 41]، كُتبت بخط جميل مثير، لقد كان أفضل من الخط الذي ألفته في سبورة القسم، لابد أن كاتبه فنان بارع، حروف صفراء فاقعة تسر الناظرين، غرقت في زورق أزرق سماوي مثل دور الملاح يحاكي لونه زرقة السماء والبحر، كأنه قطعة منهما لا تنفصل، فاكتملت اللوحة بين إشراق حروف الآية التي تحاكي رمال الشط في تموجها والتماعها، وزرقة الوجود سمائه ومائه سمعت صراخ عجوز بملء فم اندفعت ثناياه إلى الأمام، كأنما تريد أن تقفز من مكانها، وقال وبصاقه المتناثر أصاب مواضع من سحنتي الذاهلة: "يا جبان، ألن تصعد إلى الزورق؟"، لم أكد أمسح بكفي المرتعشة بصاقه المتعفن، حتى انطلقت يد خشنة الملمس لاتزال ناطقة بالعنفوان، شدت مرفقي شدًّا قويًّا، فوجدتني ملقًى وسط زورق يغص بأجساد آدمية غير آبهة بخطر المغامرة، تتأمل صفحة سماء أشد ما تكون حمرة طورًا، وتنظر زرقة البحر المترامية طورًا آخر، كل هذا والربان العجوز يجدف كل التجديف ليستجيب الزورق ويمخر النهر مخرًا متواصلًا، وأنا أتفرس في وجه العجوز الناطق بالإشراق كأنما كانت سعادته بين أحضان زورقه الخشبي، لم تمض سوى لحظات قليلة لأجد نفسي في الضفة الأخرى، أستشرف الدرج المقابل، ونفسي تحدثني بمعاودة الركوب؛ ليفتر ثغر العجوز باسمًا كأنما فطن إلى ما بي من شغف، فيأمرني بالجلوس مكاني ريثما يمتلئ الزورق من جديد بالعابرين.

 

أخرج العجوز في انتظار ذلك وعيناه الجاحظتان تقعان على كل مرتاد، فيأمره بإشارة اليد إلى الركوب، لم تمض سوى لحظات قليلة حتى غص الزورق من جديد في رحلة العودة إلى الجهة المقابلة، وجوه آدمية ألفت عبور النهر تدرك ألا خطر في ذلك، فالربان العجوز على درجة عالية من الحنكة، يقود الزورق بمهارة وتحكُّم، بل كان يترك التجديف التقاطًا للأنفاس، فهو يعلم عبر التجربة الوقت المناسب لفعل ذلك، مضى الزورق متأرجحًا في حركته نرتفع لارتفاعه وننخفض لانخفاضه، فكنت أجد لذلك متعة نادرة، فاقت متعة الأرجوحة التي كنا ـ نحن الصبية ـ نصنعها بحبل نربطه في شجرة تتوسط الحي، والعجوز يرمقني باسمًا وقد استشعر أني ألفت الزورق، وأن الخوف الذي كان ينتابني قد زال، ليعيدني مرة أخرى في رحلة العودة إلى المرسى الصغير، مع أجساد آدمية أخرى، وكنت الطفل الوحيد بين هؤلاء ينظرون إلي وكأنهم يقرؤون رباطة جأشي وجرأتي على ركوب الزورق، وهم لا يدرون أن العجوز كان له فضل في تعويدي على ركوب الماء.

 

بلغ الزورق سريعًا، أو كما خُيل إليَّ الضفة الأخرى؛ لأني لم أشعر بالمسافة التي تهيأت لي قصيرة بحكم الذهاب والإياب المتكرر، نزل الركاب من الزورق وبقيت آخر من فيه، مد العجوز يده القوية إليَّ، فشعرت بصلابتها وخشونتها، فالتجديف أكسبها قوة مثلما أكسب ذراعيه المفتولتين، فنطق قائلًا: "ستكون ملاحًا في قادم الأيام"، قالها وهو يضحك بملء فمه الذي أظهر بقية من أسنان نخرها السوس، تآكل معظمها فلم يبق منها غير شواهد على الماضي، التقطت كلماته دون أن أعي ما يقصد، وقد أشرت إليه بانحناءة الرأس، ومضيت دون أن أشكره، فقال: "أراك غدًا في هذا المكان"، التفت نحوه وأنا أومئ برأسي تعبيرًا عن القبول، مضيت في طريقي نحو "باب مريسة"، وأذني تلتقط كلمات الجدافين المطالبة للعابرين بالصعود إلى الزوارق حتى غابت الكلمات عن سمعي، ظلت لذة الركوب تلاحقني بأطيافها في الطريق وحركات التأرجح تهون جسدي الصغير، أسير بخطى حثيثة حتى بلغت الحي وقد أسدل الداجي ستاره، لا خوف فأنا أعرف المكان وأدرك كل شبر في مدينتي "سلا"، أعرف نقاط تجمع قطاع الطريق وأعلم الأحياء المشتهرة بشراسة أطفالها، فكنت أتجنب الأزقة والدروب التي لا يُمكنك أن تمر بواحدة منها دون أن تتعرض لمضايقة من جماعة لا ينقدك منها سوى سرعة عدوك وقدرتك على المناورة، إنها سلا مدينة تضج بالخليط البشري ما بين أناس راقية متحضرة وشرذمة منحطة كل همها إثارة الفوضى وافتعال الصراع، حتى إن الأحياء كانت تتعادى بينها، فكان سلوكها أشبه ما يكون بالعصبية القبلية القديمة، صراع كروي قد ينتهي بشجار دام، وحرب بين الأطفال بالحجارة، عداء مصطنع غريب لا يدرى منبعه، لذا كان الحذر واجبًا خاصة في الوقت الليلي، فقد تأخرت عن العودة إلى البيت، ولا بد أنني سألاقي توبيخًا شديدًا، لذا كان علي أن أفتعل ذريعة، حتى لا تفسد صرخات أمي وضربات نعلها لوحة جميلة أرهفت حسي الصغير وحملتني معها إلى عوالم فاتنة من الخيال رسمتها ريشة العجوز في ذلك المساء الرائع على مرسم زورقه الأنيق.





 حفظ بصيغة PDFنسخة ملائمة للطباعة أرسل إلى صديق تعليقات الزوارأضف تعليقكمتابعة التعليقات
شارك وانشر


 



أضف تعليقك:
الاسم  
البريد الإلكتروني (لن يتم عرضه للزوار)
الدولة
عنوان التعليق
نص التعليق

رجاء، اكتب كلمة : تعليق في المربع التالي

شارك معنا
في نشر مشاركتك
في نشر الألوكة
سجل بريدك
  • السيرة الذاتية
  • اللغة .. والقلم
  • أدبنا
  • من روائع الماضي
  • روافد
  • قائمة المواقع الشخصية
حقوق النشر محفوظة © 1446هـ / 2025م لموقع الألوكة