• الصفحة الرئيسيةخريطة الموقعRSS
  • الصفحة الرئيسية
  • سجل الزوار
  • وثيقة الموقع
  • اجعلنا صفحتك الرئيسة
  • اتصل بنا
English Alukah
شبكة الألوكة شبكة إسلامية وفكرية وثقافية شاملة تحت إشراف الدكتور خالد الجريسي والدكتور سعد الحميد
 
صفحة الكاتب  
شبكة الألوكة / موقع حضارة الكلمة / أدبنا / بوابة النثر / كُتاب الألوكة


علامة باركود

هدية متوحشة

هدية متوحشة
د. سعد مردف


تاريخ الإضافة: 5/1/2022 ميلادي - 1/6/1443 هجري

الزيارات: 2556

 حفظ بصيغة PDFنسخة ملائمة للطباعة أرسل إلى صديق تعليقات الزوارأضف تعليقكمتابعة التعليقات
النص الكامل  تكبير الخط الحجم الأصلي تصغير الخط
شارك وانشر

هَدِيّةٌ مُتَوَحِّشَةٌ

 

كُنْتُ طِفْلًا حَيويًّا، نَشِيطًا، ذكيًّا، يَعرفُني الجميعُ بما أنَا عَليه مِنَ الحياةِ، والقُوَّةِ، والتوثُّبِ، أَمْضَيتُ المرحلةَ الابتدائية بينَ دُروسِي في المَدرسة، ومُمارسةِ الرياضة مَعَ الصِّبْية في شارعِنا، و الوفاءِ بحاجَاتِ أُمِّي حينَ تُرسِلني في طلبِها، ومطالعَاتي في الكتبِ، وحضُور الصَّلاة في الجامع، وكنتُ ككل الأطفال أجِدُ وقتًا لمشاهدة البرامج المفيدة على التلفاز، والجلوسِ إلى أمِّي، وإخوتي الصغار، وقد حَظِيتُ في مدرَستي بأفضَل المعلمينَ حتى اجتزتُ امتحَان شهادة التعليم الابتدائي، كانتْ مرْحَلةً حاسمةً، ولكنني ظفرتُ فيها بمعدَّلٍ لا يَحْلمُ به كَثيرُون، ونجحتُ ذاتَ يومٍ سعيدٍ، وفرحَ لفرَحِي كلُّ منْ عَرَفَني؛ ذلكَ أنَّني كنْتُ مِثالًا للتلميذِ النجيبِ.

 

لدى نجَاحي وفَدَ على دارنا كثيرٌ منَ المُهنِّئينَ، وحظِيتُ منْهم بهدَايَا متنوعة، كنتُ أنظرُ فيمَا بينَ يدَيَّ من الأشيَاء واللُّعَبِ بفَرحٍ شديدٍ، غيرَ أنَّ ما أَثارَ دهْشَتي هو تلكَ العُلبةُ السميكةُ، بديعة المنظرِ، زاهيةُ الغلاف التي أهدَاني إيَّاها عمِّي أولَ قدومه، كانت تلك العلْبة قدْ حمَلَت إليَّ معَها مفاجأةً سارةً، كما حَمَلتْ إليَّ حياةً جديدة ملفُوفة في غلافها لتعيدَ رسمَ حياتي على نحْوٍ مختلفٍ.

 

كانتْ هديةُ عمِّي هاتفًا ذكيًّا من أحدَثِ طرازٍ، أحسَسْتُ عندما شاهدْتُ ملمسَهُ الناعمَ، وشكلَهُ البديعَ بمقدارِ المحبةِ التي انطوى عليها قلبُ عمِّي، كما أيقنتُ بعظيمِ ما وسِعَني تحقيقهُ من نجاح، وعلى الرغم من تحفُّظ والدَيَّ على أنْ أمْتَلِك هاتفًا في هذه السِّن، فقدْ بدَتْ ليَ الأيام ستَنْحُو معي مَنحًى مُختلفًا، و لئِنْ أَبَى والدايَ أن أضَعَ لهاتفِي شَريحةً للمكالماتِ، فإن بَصِيصَ الاتصال الذي كانَ يَنفذُ منْ شبكة المنزلِ إلى هذه الهدية الصغيرةِ كان كفيلًا بأنْ يملأَها حَياةً، ويُشيعَ في نفسي شعورًا قوِيًّا بأنني صِرتُ كالكبارِ أعرفُ الكثيرَ، وأحمِلُ بينَ يدي نافذةً ذكيَّةً تُوشكُ أن تنقُلَني على بساطِ الأحلام.

 

لم تدَّخرْ أمِّي، ولا أَبي جَهدَهمَا في نُصْحي بعدَم المداومةِ على لُعْبتي الجديدةِ، كما نصَحاني بألَّا أَتَّخِذها سَميرًا في كلِّ حينٍ، وأنْ أجتهدَ في وضعِ اللَّعِبِ بها موضعًا لا يُسيء إلى واجباتي المدرسية، ولا واجباتي في الحياة، والحقُّ أنني أحسَستُ بالخوف من كلامهما، وبدأتُ أنظرُ إلى هاتفي الذكي كساحرٍ شريرٍ يتربص بي، وبمستقبلي، ولكنَّ طولَ العطلةِ الصيفية المقبلةِ، وانقطاعنا عن المدرسةِ كان كفيلًا بأن يبعثَ في نفسي شيئًا من الرضا والطمأنينةِ.

 

لمْ أكُن لأقاومَ رنةَ هاتفي عندما أقومُ بتشغيلهِ، عالمُهُ المضيء، وشاشتهُ التي تستجيبُ لأصابعي الصغيرة كلَّما لمستُهُ، وسرعةُ إذعانهِ لكلِّ أمرٍ مِنِّي إليه كلُّ هذا كانَ جديرًا بأن يَصرفَني عمَّا حولي من الناس، والأحداث، وصارَتِ الدنيا في نظري فقط ما خلفَ هذه الزجاجة من ألعابٍ، وصورٍ، ومشاهدات.

 

بدأت صِلَتي بالناس تَقلُّ، ولَمْ أَعدْ أُفضِّلُ الخروجَ للعبِ، أو لأيِّ غايةٍ كانتْ، بدأتُ أُوثِر الخُلوةَ، وأجِدُ في انهمَاكي لمداعبةِ هاتفي لذَّة ومُتعةً منقطعةَ النظير، لعلَّ أدوارَ البطولةِ، ولحظات التحدِّي، وجولاتِ الكَرِّ والفَرِّ التي أمارسُها، وأنا هُنا قَابعٌ في مكاني دون أنْ أبذلَ جهدًا كانت أعمَالًا للخيالِ تُشعِرني بالنجاحِ، حتى وأنَا في أوضَاعِ الإحباطِ التي أُمْنَى بهَا في تلك الألعابِ، شيءٌ ما يَشُدُّني كقطعةِ المِغناطيس التِي تَمْلِكُ جسْمي، ورُوحي، وتُلْقيها هناكَ في عَالمٍ افتراضيٍّ، عالمٍ لا يَمُتُّ للحقيقة بصِلَةٍ، ولكنَّنِي كنْتُ مأخوذًا بهِ علَى نَحْوٍ مَا.

 

لم يَعُد بينِي وبين إخْوتي عَلاقةٌ كالتي كانَتْ، كما فَارَقَتُ أصدقَائِي ولَمْ يعُودُوا يسألونَ عنِّي لفرط ما صدَدْتُهم، واعتذرْتُ إليهم، وهجرْتُ كُتُبي وقِصَصي، وثقُلَتْ خُطُواتي عن حضور الجماعةِ للصلاة، أَصْبحَ شعُوري بتأنِيب والدَيَّ يضْعُفُ، وتَخِفُّ وطْأَتُه على أُذْنَيَّ، وكنْتُ رُبَّمَا أزَحْتُ عنِّي لُعبتي الذكيةَ إلى حينٍ إرضاءً لوصَاياهُما، ولكنَّني كنتُ أَعُودُ كلَّما غَفَلا عنِّي، وأجُوبُ عوالمَ النِّتِّ، ومَدَائنَ الخيالِ التي تأخذُني بعيدًا، كمَا تَصِلُني في بعض الأحايينِ بأشخَاصٍ بعيدِين عنِّي يقاسِمُونني لحظاتِ المَرَح، ولكنَّهُ مَرَحٌ عَابثٌ خَالٍ من الحياةِ، كثيرًا ما غَرَسَ في نفْسي شعورًا بأنني واحدٌ من الكائنَاتِ الفارغةِ التي تقْفزُ خَلْفَ هذه الزجاجةِ السِّحْريَّةِ.

 

لدَى دخولِنا إلى المدرسةِ رأيتُني على غيرِ ما كنْتُ عليه من الذكاء والاستيعَابِ، رأيتُني مُشَتَّتَ الذِّهْنِ، ذاهِلَ الوجدانِ، وغابَ عَنِّي ما أَلِفْتُه منَ الحِرصِ، والرغبةِ الجامحَة في الاستماع والإنصاتِ، سَمِعتُ بعضَهم يقولُ بأنَّ الألعابَ الذكيَّة من شأنها أنْ تأخُذَ منْ خَلايا الدِّماغ، وتستهْلكَ ما في العقْلِ من إدراكٍ، وقدْ شعَرْتُ بذلكَ حقًّا، ولكنَّني لمْ أعُدْ أُقَاومُ ما تعوَّدتُ عليه من مُتَعٍ ولذَّاتٍ تشدُّني إلى هاتفي الذكي، وعلى الرغمِ ممَّا أصابَ جسَدِي من النُّحُولِ والضَّعْف لفَرطِ زُهْدي في الطعام، فقد زِدْتُ إقْبَالًا على آلتِي الذكيَّةِ، حتى كانَ يومٌ أَعَادَني إلى ذَاتي، وإلى رُشْدِي.

 

مَرِضَتْ أُمِّي ذَاتَ يومٍ، وأصابتْها حُمى شديدةٌ، فاضطُرَّ أبي إلى أنْ يَحْمِلَها إلى المستشفَى، وقد هَمَسَ في أذني بأنْ أُحْسِنَ رعَايةَ أَخَوَيَّ حتَّى يعُودَا، وقد فَعلْتُ، وجَهِدْتُ ألَّا يَتحَوَّلَ عنهمَا بَصَري فبَسَطْتُ بين يدَيِ الطفلَينِ ما بحوزتِهما من ألعَابٍ، وخاضَا في لهوهما الجميل، وأنا أنظرُ إليهمَا، ولكنَّني لمْ أصْبرْ على هاتفي المُنْطَرِحِ هُناك علَى رفِّ المَكتَبَة ينتظرُني وحِيدًا بشَوقٍ، كأنَّهُ يدْعُوني إلَيهِ بصمتٍ.

 

أمضَيتُ ما يَزيدُ عن نصفِ الساعة، وأنَا مُنشَغلٌ بإحدَى الألعابِ، كانتِ اللعبةُ مصحُوبةً بموسيقَى مشجِّعَةٍ فذهَلْتُ عنِ المكانِ، وما فيهِ، وغَمَرَني شُعورٌ بالنشوةِ، فَلَمْ أعدْ أُحسُّ بمَن في المنزلِ، وغَابَ عنِّي للَحَظاتٍ صُراخُ أخِي في الغُرفةِ المجاورةِ حتى رأيتُهُ يقِفُ أمَامي، وقَدْ عَقَدَ الخَوفُ لسَانَهُ، واكتفَى بأنْ يُومِئَ إلى البابِ فَرَمَيتُ الهاتفَ جَانبًا، وساَرَعْتُ خارجًا، وعندما وَلَجْتُ غُرْفَة أَخَوَيَّ وَجدْتُ أخِي الأصْغرَ مُلْقًى على ظهرهِ، وفرائسُهُ ترتَعِدُ، وقدْ هدَاني اللهُ إلى أنْ نَظرتُ إلى فَمِهِ، ورأيتُ شطْرًا من الثعبانِ البلاسْتيكي قدِ انتهى إلى جَوفِه، وكَادَ يخْتنِقُ تمَامًا، فجَذبْتُ اللُّعبةَ منْ بين فكَّيه، وقلَبْتُهُ على بطْنهِ، وأخَذْتُ أضربُهُ بينَ كَتفَيْهِ حَتى قَاءَ ما بداخلِهِ، وأخرَجَ ما عَلِقَ في فَمِهِ، وبدأ يتنفَّسُ شيئًا فشيئًا، ونجَا بأُعْجُوبَةٍ.

 

حَمِدْتُ اللهَ ذلكَ اليومَ حمْدًا كثيرًا، وتبيَّنَ لي مِقدَارُ تفْرِيطِي فيمَا عَهِدَ به إلَيَّ أَبِي في شأنِ الصَّغِيرَين، وأخَذْتُ قَرَارًا بعدَم العودةِ إلى هاتِفِي الذي أورثَنِي طِباعَ العَجْز، والإهمَال، واللامبَالَاةِ، وجعلَنِي طِفْلًا مَيِّتَ الشعُورِ، فاقدَ الإحسَاسِ، وحينَ أخبرتُ والِديَّ لدَى عَودتِهِما بمَا فَرَطَ منِّي مِنْ خَطأ كادَ يُودِي بأخي الصَّغِيرِ، عاتبَني أَبِي أَشَدَّ العِتابِ، وأَبَانَ عنِ اشمئْزازهِ مِنْ فِعْلِيَ المُشِينِ، فمَا زِدْتُ عنْ أَنْ وَضَعْتُ الهَاتفَ بينَ يدَيْهِ، وتبرَّأْتُ منْ صُحْبتهِ التِي حَرَمَتْني طويلًا منْ إنسَانيَّتي، وشُعُوري بالمسؤوليَّة، ورَغْبَتِي في النجَاح، ومنذُ ذلكَ اليوم خُلِقْتُ منْ جدِيدٍ، وعُدْتُ كَأوَّلِ أَمْرِي إنسَانًا صَحِيحًا، مُعَافًى مِنْ شَرِّ مَرَضٍ عَرفْتُهُ في حَيَاتي.





 حفظ بصيغة PDFنسخة ملائمة للطباعة أرسل إلى صديق تعليقات الزوارأضف تعليقكمتابعة التعليقات
شارك وانشر


 



أضف تعليقك:
الاسم  
البريد الإلكتروني (لن يتم عرضه للزوار)
الدولة
عنوان التعليق
نص التعليق

رجاء، اكتب كلمة : تعليق في المربع التالي

شارك معنا
في نشر مشاركتك
في نشر الألوكة
سجل بريدك
  • السيرة الذاتية
  • اللغة .. والقلم
  • أدبنا
  • من روائع الماضي
  • روافد
  • قائمة المواقع الشخصية
حقوق النشر محفوظة © 1446هـ / 2025م لموقع الألوكة