• الصفحة الرئيسيةخريطة الموقعRSS
  • الصفحة الرئيسية
  • سجل الزوار
  • وثيقة الموقع
  • اجعلنا صفحتك الرئيسة
  • اتصل بنا
English Alukah
شبكة الألوكة شبكة إسلامية وفكرية وثقافية شاملة تحت إشراف الدكتور خالد الجريسي والدكتور سعد الحميد
 
صفحة الكاتب  
شبكة الألوكة / موقع حضارة الكلمة / أدبنا / بوابة النثر / كُتاب الألوكة


علامة باركود

أبي وكرونا

أبي وكرونا
د. سعد مردف


تاريخ الإضافة: 13/2/2021 ميلادي - 1/7/1442 هجري

الزيارات: 3061

 حفظ بصيغة PDFنسخة ملائمة للطباعة أرسل إلى صديق تعليقات الزوارأضف تعليقكمتابعة التعليقات
النص الكامل  تكبير الخط الحجم الأصلي تصغير الخط
شارك وانشر

" أبِي و كُرونا "

قِصَّة قصيرةٌ

 

مَرِضَ أَبي، وظلّ بيتُنا فارغًا يشكُو منَ الصَّمْتِ، أنَا وأمِّي وأخوايَ، بقِينا كلَّ هذه الأيامِ بمفردِنَا، كأننَا وحدَنا في هذا العالمِ.

 

منذُ تَحدَّثَ الناسُ عن جائحة كُورونا، ونحنُ ملازمُون منزلنَا لا نبرحُهُ، أبي رجُل واعٍ، لا يُحِبّ أن يجَازف بصحَّة أحد منَّا، كما لا يحبُّ أن يتعرضَ هوَ لعدْوى هذا البلاء الذي أصابَ كثيرًا من الناسِ، كان لا يخرجُ من المنزلِ إلا لضرورة اقتناءِ بعض حاجاتنا، فيضعُ كِمامة تقيه ما يمكنُ أن يصل َإلى وجهِه من رذاذ الأفواهِ الكثيرة، ثمَّ لا يلبَثُ طويلا خارجًا حتى يعودَ، فإذا دخلَ البابَ عمدَ إلى المِغسَل، فغمرَ كفيهِ بالماء، والكحُول المعقمِ، ودلكَهما بشدَّة قبلَ أن يدخلَ غرفتَه، أو يلامسَ أحدَنا، كان يقولُ دائمًا: الوقايةُ خيرٌ منَ العلاج.

 

لم يكنْ أبِي كثيرَ المتابعةِ لأخبار كُرونا، ولم يكنْ يتحدَّثُ عنها بشدة، ولكنه ظلَّ حريصًا دائمًا على أنْ لا يخالطَ الناسَ، ورأى في لزومِ بيتهِ منجَاةً مِن أن يُضطرَّ إلى المصافحَة، والاستلامِ، الناسُ هنَا في البلدة لا يكترثون، وحالما يلتقي اثنانِ يبادِرُ أحدُهما إلى مَدِّ يده، أو المباعدةِ بينَ ذراعيهِ، وكأن ما حذَّر منه الأطباءُ ليسَ شيئًا ذا بالٍ!.

 

ذاتَ يومٍ، وفي الصباح الباكرِ طرقَ أحدُهم بابَ دارنا، فشخصَ أبي إليه متسائلًا عمَّن يأتي إليه في هذا الوقتِ من النهار، وتبعتُه أنظرُ من بعيدٍ، وإذا بالطارقِ جارُنا الذِي كانَ مُسافرًا منذُ شهور قد عادَ، وهو يسأل أبي إنْ كان بحوزته مِفكٌّ للبراغِي، وقد أجابَه أبي إلى طلبهِ ثم عادَ سَريعًا.

 

تفاجأتُ هذه المرة، وأنا أرى أبي في أحضَانِ جارِه الذي سارع إلى عناقِه بمجرَّد أنْ فتحَ البابَ، صافحَهُ بحرارة قبلَ أن يسألَهُ حاجتَهُ، كما لم ألاحظْ أبي يذهبُ إلى المِغسَل، بل رجعَ مترنِّحًا إلى غرفةِ المكتبِ، وهو يتمطَّى.

 

بعد أيَّام قليلةٍ من تلكَ الزيارةِ المفاجئةِ رأيتُ أبي على غيرِ ما كانَ عليه مِن العافيةِ، أخذَ يكُحُّ في كل مرةٍ، كما بدأ يشكُو من الرشحِ والحُمَّى، لم تكنِ الأغطيةُ الكثيرةُ التي وضعتْها أمِّي فوقَهُ، ولا المسكناتُ، والأقراصُ لتُذهبَ ما به من الوجعِ، كما بدأَ يشكُو منْ ضيقِ صدْرهِ، وسيلانِ أنْفهِ علَى نحْوٍ متواصِل، وفي ليلةٍ ليلاءَ اشتدَّ عليه الألمُ فشخَصَ مُتحاملًا على نفسِه إلى المستشفَى، ولم يعُدْ ليلتَه تلكَ.

 

اتصل بنَا أبي من المستشفَى ليخبرَنا بأنهُ سيبيتُ ليلتَهُ تلكَ في العِنايةِ الطبية، وبتـْنا نحنُ حيارَى نترقّبُ عودتَهُ غدًا، لا يكِلُّ لسانُ أمِّي عن الدعاءِ له بعاجل الشفَاءِ، وأصبَحَ الصبَاحُ ولمْ يَعُدْ أبي، ومضَى صباحٌ ثالثٌ، ورابعٌ، ولم يُطرقْ بابنا، حتى كانَ مساءُ اليومِ الخامسِ حيث جاءَتْ سيَّارتَانِ للإسعافِ، وأُخْرَى لعمَّالِ الوقايةِ الطبيَّةِ، حيثُ استأذنُوا بالدخُولِ، وقامُوا بفحصِنَا جميعًا، وأَوصَوا كلَّ مَنْ في المنزلِ بلُزُوم الحجْرِ الصِّحِّيّ داخلَ المنزل، وعدَمِ الخُروج منهُ، والاحتكاكِ بالناسِ، قالَ أحدُ الوافدِينَ منَ رجالِ الصحَّة إنَّ أبي يحملُ فيروسَ كرونا، وأنه تلقاهُ ممنْ صافحَه، أو عانقَهُ أو تحدَّثَ إليه من مسافَةٍ قريبةٍ، وذكرَ أنَّ أبي سيظلُّ في المستشفَى حتَّى يذهبَ عنهُ ما أصابَهُ منْ أثَرِ للعدْوَى.

 

مرَّتْ عشَرَةُ أيَامٍ متوالياتٍ، وأبي في المُسْتشفَى، كلَّمَا هاتفتُهُ بدَا لي أنهُ في النَّزْعِ الأخيرِ، لا أكادُ أمَيِزُ كلماتِه، كانَ يسعُلُ بحِدَّةٍ، ويتحدَّثُ بلهجةِ مَن يودعُ الدنيا لآخر مرَّة، كنتُ أدركُ، وأنا ابنُ العاشرةِ أنَّ أعراضًا كهذهِ حين تصيبُ مريضًا، فإنها لا تنبئُ بخيرٍ أبدًا، ولأنَّ أبي كان كثيرًا ما يشكُو الزكامَ فقدْ خُيِّلَ إليَّ أنّ ما يعانيه الآنَ أشدّ مما كانَ يعالجُه عادةً مِن الأسقام المعروفَة، سمعْتُ أحدَهُم يخبِرُ أمِّي أنَّ رئتَي والدِي تشتكيَان بشدَّة، وأنه يستجيبُ بصعوبَةٍ للعلاجِ، وما علينَا إلا الدعَاءُ، والتضرعُ إلى اللهِ كيْ يشفيَهُ.

 

عبثًا حاولت أمي أن تلتمسَ طريقًا لزيارةِ أبي المريضِ، يقولُ الأطباءُ إنَّ مَن يُصابُ بهذا المرضِ الخبيثِ ينبغي أنْ يُعزلَ حتى لا يخالطَ أحدًا، ذلكَ أنَّ لقاءَه بالآخرينَ قد يُلحقُ بهم من الأذَى ما لا تُحمدُ عقباه.

 

لمْ يَعُدْ يزورنا الناسُ، يقولونَ إنَّنا أصبحْنا نشكِّلُ خطرًا على مَنْ يتواصلُ معنا حتى الأقاربُ كان أحدُهم لا يتجاوزُ عتبةَ المنزلِ، وهو يسألُ عنْ أحوالِنا، أو يسعَى في إحدَى حاجَاتنا، ولم يكُنْ ذلكَ يؤلمُني بمقدَارِ ما كانَ غيابُ والدِي، وهو مطروحٌ بين الحياةِ، والمَوتِ بعيدًا عن عيونِنا يُلهبُ نارًا في صدْري، عَجْزي عنْ أنْ أراهُ، و أقفَ على حالِه كانَ يَخنُقُ مني كُلّ لحظةٍ للسرور، وعَبثًا حاولَتْ أمي أنْ تُسَرِّيَ عنِي، وعلى أَخَوَيّ ما شجَرَ في القلوبِ الصغيرةِ منَ الخَوفِ، أمسَى منزلُنا كهْفًا مظلمًا لا تكادُ تعثُرُ فيه عنْ نافذة للحياةِ، ولولا صلواتُ أمِّي، ودعاؤها الذي كان يشُقُّ جَيبَ الظلامِ كلَّ ليلةٍ لبدَا الأمَلُ ضئيلًا في عودَة أبي، ولأكلَ اليأسُ كلَّ حظوظنَا منَ الرجَاءِ في السعادةِ.

 

مرَّتْ ثمانيةَ عشرَ ليلةً حزينةً، كنتُ أعُدُّها بعددِ الدمُوعِ المنهمرةِ، واللحظاتِ المنكسِرةِ حتى جاءَ صباحٌ دقّ فيهِ أحدهم بابَنَا، وخرجَتْ أمِّي لتعثرَ على سيارة كبيرةٍ بالخارج، نظرْتُ منَ النافذةِ حيثُ ظلّتْ أمي واقفةً تحدثُ الرجلَ الذي كان بِزيٍّ طبيٍّ، يضعُ كمامةً زرقاءَ، وقفازينِ أبيضَينِ، وأذكُرُ كيفَ سلّمَ أمِّي حقيبةً صغيرةً تعودُ إلى والدِي كما وضعَ بين يديْها حاويةً منَ الأدويَةِ.

 

كانتْ لحظةً قاسيةً جدًّا بدَتْ لي معَها كورُونا وحشًا خبيثًا لا يعترفُ بالآباء، ولا يهتمُّ للقلوبِ الصغيرةِ، ولا يعطفُ على الأبناءِ حين يسْرقُ أمهاتِهم، وآباءَهم، أظلَمَتْ صُورة العالمِ لحظتَها في ناظِري، وبدَتْ لي أبْوابُ الحياةِ كلُّها قدْ أُوصِدَتْ مرةً واحدةً حتى عَمدَ الرجُلُ الوافدُ علينَا هذا الصباحَ بإزاحةِ البابِ الزلِقِ مِنَ السيارةِ عنْ آخرِهِ، ورأيْتُ أبي يتكِئُ على مصْراعِهِ، ويَنْزِلُ من السيارةِ، ورأيْتُ أمِّي تستلمُهُ، وتمسِكُ بذراعِهِ عائدَةً به إلى بابِ المنزلِ كالعائدِ منَ الحربِ، رأيتُه، وهُوَ يودِّعُ عاملَ المُستشفَى، متهلِلًا، مُستبشرًا، حينَ لمْ أمْلِكْ عليَّ رجلَيّ اللتينِ حملَتَانِي مُسْرعَتَينِ خَارجًا، ودمعَاتٌ جديدةٌ غمرَتْ عينَيَّ و خدَّيَّ، ومسحَتْ دُمُوعًا أخْرى حزينَةً كانتْ عليهمَا، خرجْتُ كأنني أطِيرُ مِن الفرحِ لأستقبِلَ أبي، كنتُ كأنني أستقبِلُ الحياةَ، أستقبِلُ السعَادَةَ، وأعيدُهَا إلى منزلِنَا الصَّغِيرِ.





 حفظ بصيغة PDFنسخة ملائمة للطباعة أرسل إلى صديق تعليقات الزوارأضف تعليقكمتابعة التعليقات
شارك وانشر


 



أضف تعليقك:
الاسم  
البريد الإلكتروني (لن يتم عرضه للزوار)
الدولة
عنوان التعليق
نص التعليق

رجاء، اكتب كلمة : تعليق في المربع التالي

شارك معنا
في نشر مشاركتك
في نشر الألوكة
سجل بريدك
  • السيرة الذاتية
  • اللغة .. والقلم
  • أدبنا
  • من روائع الماضي
  • روافد
  • قائمة المواقع الشخصية
حقوق النشر محفوظة © 1446هـ / 2025م لموقع الألوكة