• الصفحة الرئيسيةخريطة الموقعRSS
  • الصفحة الرئيسية
  • سجل الزوار
  • وثيقة الموقع
  • اجعلنا صفحتك الرئيسة
  • اتصل بنا
English Alukah
شبكة الألوكة شبكة إسلامية وفكرية وثقافية شاملة تحت إشراف الدكتور خالد الجريسي والدكتور سعد الحميد
 
صفحة الكاتب  
شبكة الألوكة / موقع حضارة الكلمة / أدبنا / المرأة الأديبة / كاتبات الألوكة


علامة باركود

امرأة من الزمن الجميل

امرأة من الزمن الجميل
نورا عبدالغني عيتاني


تاريخ الإضافة: 23/4/2017 ميلادي - 26/7/1438 هجري

الزيارات: 9905

 حفظ بصيغة PDFنسخة ملائمة للطباعة أرسل إلى صديق تعليقات الزوارأضف تعليقكمتابعة التعليقات
النص الكامل  تكبير الخط الحجم الأصلي تصغير الخط
شارك وانشر

امرأة من الزمن الجميل

 

شيء ما شدَّني إليها، لربَّما كلام صامت يسكنُ عينيها، أو بسمةُ حزنٍ تطفو على وجنتيها... نظراتُها الشاردةُ أثارت فُضولي، واجتذبت كلَّ اهتمامي، حتى إنَّني نسِيتُ كلَّ ما حولي والتفتُّ إليها!

 

كانت تجلسُ على الطاولة المواجهة لطاولتنا، قربَ رجل يناهزُ الخمسين، وكانت امرأةً أربعينيَّة، حسبما حسبتُ، (لستُ متأكِّدة فقد رأيتُها من الخلف) تجلسُ مواجهةً لها من الطرف الآخر البعيد، ومواجهةً للرجل، كان واضحًا أنَّ الأخيرة كانت زوجتَه، وكان شبهُ مؤكَّد أنَّ الأولى كانت أمَّه، أو هكذا تهيَّأ لي.

 

ليس مهمًّا، الأهمُّ من هذا كله هو ذلك السرُّ العجيب الذي جعل امرأةً بسيطةً وعاديَّةً مثلها تشدُّني بهذا الشكل!

لا، هي ليست عاديَّة أبدًا، وليست كغيرها من النِّساء العجائز اللواتي رأيتهنَّ في هذا البلد أو غيره، هي مختلفة عنهنَّ دون أدنى شك!

 

إنَّها امرأة تناهز الثمانين، وربَّما أكثر بقليل، لا زالت تبدو على وجهها أماراتُ الجمال الطبيعي الناعم، الذي لم تتدخَّل فيه يد الجرَّاح، ولا فرشاةُ التلوين التجميلي المؤقَّت، ولا حجابُ نساء المجتمع الحضاريِّ المعاصر! هي امرأة تمثِّلُ البساطةَ بكلِّ معانيها... وَدودٌ طيِّبة، لا يخفى ذلك على ذي قلب، ومسالِمة لأقصى درجة...

 

شعرتُ أنِّي أعرفها حقَّ المعرفة، ومنذُ زمن! تلك النظرة الشاردة أرجعتني لأيَّام الطفولة، حين كنت أطمئنُّ وأنا أرقبُ نظرةَ جَدَّتي المليئة بالسكينةِ والرضا!

إنَّها تشبِه جدَّتي إلى حدٍّ بعيد، ليس فقط بالشكل، بل بالمضمونِ والعمق!

إنَّها من نساءِ ذلك الزمن الجميل الحقيقيِّ غير المموَّه والمشوَّه، إنَّها من زمن الحقيقة والأحلام في الآن عينِه!

 

لمدَّة طويلة خِلتُ أنِّي لن أقابلَ مثلَ هذه المرأة بعد جَدَّتي رحمها الله، وأمِّي أطال الله في عمرها... لكني أخيرًا وجدتُها، فاطمأنَّ قلبي وعرفتُ أنَّ الدنيا لا زالت بألفِ خير.

رأيتُ فيها قلبَ أمِّي الصبور، وصفاءَه ونقاءه وهدوءه الحلو البَهيَّ، البعيد كلَّ البعد عن النِّفاق الاجتماعي.

 

تساءلتُ في البَدْء عن سبب انخفاضِ كرسيِّها عن بقيَّةِ الكراسي، وعرفتُ بعد وهلة أنَّها كانت تجلسُ على كرسيٍّ ذي عجلات، لعلَّه كان السبب في إحضارها ضيفةً تستثقلُ نفسها على مَن تحبهم في مثل هذا البلد، أحسستُ أنَّها لا تشعرُ بالانتماء في الجلسة التي أُجبرتْ عليها، لعلَّ الكَنَّة هي مَن اختارت هذا المطعم، الذي يمثِّل العصريَّةَ بأدقِّ حذافيرها... مطعم أنيق متحضِّر مختصٌّ بالبيتزا وتوابعها، لعلَّها سرحت بعيدًا تتذكَّر العجينةَ التي كانت تعجنها بيديها، وتُدفقُ عليها من ماء قلبها وطحينِ عواطفها الجيَّاشة، لعلَّها عادت لتلك الأيام المزهرة التي كانت تقدِّم فيها لابنها وإخوته مساءً حساءَ الخضراوات اللذيذ الذي يَقيهم البردَ ويغذِّيهم لينموا أصحَّاء.

 

هي لا ترى حولها في هذا المطعم المنمَّق إلَّا الطعام الميت المصنَّع، والخضراوات الذَّابلة التي فقدت لونها وفائدتها، وهي مضطرَّة الآن لأن تتقبَّل تناولها مع ابتسامة عَريضة على ثغرها تعبيرًا عن الشُّكر والامتنان!

 

استمرَّت طويلًا بالمضغ، لم تتوقَّف عنه لحظة، وكأنَّها كانت تطيلُ العمليَّة كي تُظهر رضاها عن الوليمة المعتبَرة، وكي لا تتسبَّب بجرح أحدهم أو إزعاجه، ولتخفي صمتها المعهود الذي لم يفارِقْها برهة! هي لا تريد أن تضايقَ أحدًا ولا أن تتطفَّل على حياة أحد، حتى ولو كان هذا الأحد (ابنها)!

 

كانت تأكلُ سارحةَ النظرات، منفصلةً عمَّا حولها، غريبةً عن أقرب الناس إلى قلبها وروحها، وكان واضحًا أنَّ ابنها يحاولُ جاهدًا أن يرضيَها، لكنَّه لا يعرفُ أنَّ أكثر ما يرضيها ويفرحها حقيقةً هو كونها بالقرب منه!

هي لا تُبالي بأيِّ شيء آخر، جُلُّ ما تريده مِن هذه الدنيا هو أن تمضيَ قربَه لحظات حياتها الأخيرة المتبقية.

 

أخيرًا، وبعد مرور وقت طويل، أنهَتْ صحنَها، ثمَّ انتابتها نوبةٌ شديدة من العطس، لم تفارقها إلَّا بعد أن أدمعت عينيها وتركت وجهها الأبيض الجميل موشَّحًا بحمرة الورد، فبدت كأنَّها طِفلة بريئة خَجول، وهي تبتسمُ لكَنَّتها التي ناوَلتْها أخيرًا منديلًا لتمسح به وجهها، فما كان منها إلَّا أن غطَّت به وجهها ومسحَتْ عينيها الدامعتين مِن أثر العطس، ولا أدري لم خُيِّل إليَّ أنَّها كانت تُخفي تحته دمعات أخرى غير مرئيَّة.

 

اقترب المضيفُ بعد قليل ووقف خلفها، مبتدئًا حوارًا بالإنجليزيَّة مع الرجل وزوجته، كان من الواضح أنَّ الاثنين يعرفان اللَّهجةَ معرفةً سطحيَّة مِن شأنها أن تقضي حاجتهما للتواصل الضروريِّ ليس إلَّا، إلَّا أنَّ المرأة أصرَّت على استكمال الحوار وتوسعته، وكأنَّها تتباهى أمامَ حماتها بمعرفتها للَّهجة الغربيَّة، وتستلذُّ بكون المسكينة لا تفهم شيئًا ممَّا يقالُ حولها!

 

في هذه الأثناء، كانت الأخيرةُ قد أشاحَتْ بوجهها لناحية أخرى، تبعدها عمَّا ألَمَّ بها من مشاعر الغُربة والوَحْدة، فإذا بعينيها الحزينتين تقعان على طاولة شبابيَّة صاخبة مختلطة، فابتسمت وهزَّتْ رأسها وكأنَّها ترسم في ذِهنها صورةً لِماضٍ جميل وشباب من نوع آخر.

 

استمرَّت بتنقيل نظراتها مِن مكان إلى مَكان، وهي لا تزال تهزُّ رأسها وتبتسم، ريثما أنهى ابنُها وزوجته حوارهما، وتمَّ الدَّفع، وانتهت القصَّة بالابن وهو يدفع العربةَ بالأمِّ الصامتة، التي كانت لا تزال تَبتسم حتى النهاية، وتخبِّئ في قلبها المتعب مِن الحزن والغربة ما لا يعلمه إلَّا الله!





 حفظ بصيغة PDFنسخة ملائمة للطباعة أرسل إلى صديق تعليقات الزوارأضف تعليقكمتابعة التعليقات
شارك وانشر


 



أضف تعليقك:
الاسم  
البريد الإلكتروني (لن يتم عرضه للزوار)
الدولة
عنوان التعليق
نص التعليق

رجاء، اكتب كلمة : تعليق في المربع التالي

شارك معنا
في نشر مشاركتك
في نشر الألوكة
سجل بريدك
  • السيرة الذاتية
  • اللغة .. والقلم
  • أدبنا
  • من روائع الماضي
  • روافد
  • قائمة المواقع الشخصية
حقوق النشر محفوظة © 1446هـ / 2025م لموقع الألوكة