• الصفحة الرئيسيةخريطة الموقعRSS
  • الصفحة الرئيسية
  • سجل الزوار
  • وثيقة الموقع
  • اجعلنا صفحتك الرئيسة
  • اتصل بنا
English Alukah
شبكة الألوكة شبكة إسلامية وفكرية وثقافية شاملة تحت إشراف الدكتور خالد الجريسي والدكتور سعد الحميد
 
صفحة الكاتب  
شبكة الألوكة / موقع حضارة الكلمة / أدبنا / المرأة الأديبة / كاتبات الألوكة


علامة باركود

استشهاد جبل السحاب

استشهاد جبل السحاب
د. زهرة وهيب خدرج


تاريخ الإضافة: 19/3/2017 ميلادي - 20/6/1438 هجري

الزيارات: 6185

 حفظ بصيغة PDFنسخة ملائمة للطباعة أرسل إلى صديق تعليقات الزوارأضف تعليقكمتابعة التعليقات
النص الكامل  تكبير الخط الحجم الأصلي تصغير الخط
شارك وانشر

استشهاد جبل السحاب


قمتُه هي الأعلى بلا منازع بين قِمَم المنطقة جميعًا، لا يفصلُها عن السماء شيءٌ، لتصلَ إليها فلا بد مِن أن تقطعَ مسافةً طويلةً بين الصخور والممرات الوعرة، وتُصافِحَ أشجار السنديان والصفصاف، والبُطم والخروب، والصنوبر والسدر... وغيرها، وتُمهِّد طريقًا لك بين مستعمرات الخرفيش وشوك الجمل الذي قد يُدمي قدميك، إن لم تكنْ حذرًا بما يكفي قبل أن تصل إلى مُبتغاك.

 

على قمة جبل السحاب تشعُر بمعنى الحرية الحقيقي، حين تُشاهد ما اعتدتَ عليه مِن علٍ قلَّما يتاح للشخص في حياته، وهو ما كان ناصر يُحبه، بل يَعشقه فيه؛ إذ كان يشعُر على قمته كأنه ملكٌ يَتَرَبَّع على العرش.

 

جبلُ السِّحاب ورثه أهلُ القرية عن أجدادهم؛ به يَرتبطون، ومِن خيراته يأكلون، وفي صِغَرِه سمع ناصر الكثيرَ مِن القصص والحكايات التي تدور حوله، وتُشكِّل جزءًا مهمًّا من ثقافة القرية وتراثها، يتوارثونها جيلًا إثر جيل، كما يتوارثون الجبل وبقية أراضي المنطقة.

 

كثيرًا ما صعد ناصر الجبل مع جدِّه؛ لإحضار عشبة بَرية ضرورية لعلاج مرض أَلَمَّ بأحد أهل القرية، أو لإحضار بعض النباتات البرية التي تبرُعُ جدته في طهيها، ويحبها جدُّه جدًّا، مثل: الخبيزة، واللسينة، والزعمطوط، والفرفحينة، أما الميرمية وزعتر البلاط فيُضفيان على الشاي رائحةً عطريةً نفاذةً، ومذاقًا طيبًا لا يُوصَف.

 

في الربيع الأخير لجدِّه على هذه الدنيا، وفي أحد صباحات نيسان الدافئة؛ حيث اختالت الأرض بهاءً وشبابًا، انطلق ناصر في رحلة مع جده منذ الصباح الباكر، عندما أخذتْ أشعةُ الشمس اللامعة تتسلَّل خَجْلى في الأفُق، مُعلنةً بَدْء نهار جديد، ومع انتصاف الشمس في كبد السماء كان يستنشق هواءً نقيًّا له رائحة خاصَّة مِن فوق قمة جبل السحاب، جلسَ هو وَجَدُّه تحت شجرة البلوط الضخمة مخددة الساق؛ لطولِ ما تعاقب عليها من الأعوام وملحقاتها.

 

جلسَا يتناولان طعامَهما...، على الرغم مِن أنَّ الطعام كان زيتًا وزعترًا وحباتٍ من الزيتون وإبريقَ شاي، فإنه كان يحمل مذاقًا خاصًّا يختلف عمَّا اعتاد عليه! عبَّأ جيوبَه من ثمار الزعرور، وتناولَ من النبق أيضًا، وجَمَع كمية كبيرة مِن قرون الخروب؛ لتستخلص جدته عصيرها، وتصنع منها حلوى (الخبيصة).

 

على سفح الجبل تآلفتْ شقائق النعمان أو الدحنون - كما يحلو لجده تسميته - مُشَكِّلَةً تجمعاتٍ حمراء بديعة الجمال بين الصخور، فبدت كبحر متصل مِن اللون الأحمر، يقف القِنْدِيلُ الأصفر بطوله الفارع على جوانبه كحارسٍ مخلصٍ وأمين، أما الأُقْحُوان ذو البتلات البيضاء التي تجتمع حول بروز أصفر، فتبدو كراقصة باليه، تتمايل مع نسمات الربيع الدافئة، وتفترش الأرض لمساحات كبيرة يَشوبها بعضٌ مِن أزهار السوسن الأسود وأزهار البسباس التي تشبه الأُقحوان، ولكن يميزها منها أزهارها الصفراء الأكبر حجمًا، وكان النحلُ يتنقل مِن زهرة إلى أخرى مُصدِرًا طنينًا يمتزج مع موسيقا الطبيعة في جبل السحاب، ويُضيف لها لحنًا خاصًّا محببًا للنفس، وكانتْ فراشات الربيع البيضاء تَتراقص بأعداد كبيرة على ارتفاعات منخفضة بنشوةٍ عارمة.

 

وللطيور في جبَل السحاب نصيبٌ وافرٌ مِن الألق والمتعة، فلا تقتصر الحال على عصافير الدوري والبلابل التي يملأ شدوُها الجو، ولا الحجل الذي يقفز من مكان إلى آخر بلونه المميز بسرعة كبيرة، ولا اليمام شجي الصوت، بل تضاف إليها أنواعٌ كثيرة من الطيور المتباينة في الأشكال والألوان، والأحجام والأصوات، وطريقة الحركة والطيران، يزيد الربيع من جمالها وخفة حركتها، كيف لا؟ وهو موسمها للحب والتزاوج!

 

في كل رحلة برفقة جده كان يتعلم الكثير، إلا أنه خرَج بخلاصة نهائية أدركها وآمَنَ بها، وهي: أن الأرض هي الكنز الحقيقي الذي يمتلكه، والتفريطُ فيه يعني خسارة كل شيء.

 

بعد تلك الرحلة بشهر تقريبًا، وفي ذات صباح، استيقظت القريةُ على ضجيجٍ يهزُّها، كانتْ جرافات وشاحنات وآلات عديدة ضخمة لم يروا مثلها مِن قبلُ - تنطلق لتمهِّد لها طريقًا وسط الجبل! سرَت القُشَعْريرة في الأجساد، كأن لسعات مِن الكهرباء غمرَتْها بشكل خاطف، انتاب الناسَ خوفٌ دفينٌ لم يدروا كنهه، وتبًّا لهذا الخوف الذي اخترق قلوبهم دون خجل، وحشَى أنفه في صدورهم دون وجل، وتركهم ضحيةً لمشاعر سوداء تتقاذف قلوبهم دون رحمة.

 

أسرع ناصر إلى جده، فإذا به يجلس بقنوطٍ أمام باب البيت، تملأ عينيه دموعٌ حزينةٌ لم يُشاهِدْها مِن قبلُ، لم يتجرَّأْ على سؤاله فاكتفى بالصمت، بعد أن أدرك أن هناك خَطْبًا ما، نظَر إلى جدته فإذا بها تنشج بصمتٍ، تندُّ عنها شهقة بين الحين والآخر!

 

• ماذا يجري بالله عليكم، أرجوكم أخبروني؟!

كانت الشاحنات والجرافات وبقيةُ الآلات تَحمل لوحات ترخيص صفراء؛ (يعني: أنها إسرائيلية)، ولكن: ماذا تفعل هنا؟ فجبلُ السحاب مِلكٌ لأهل القرية، وليس لهؤلاء الغرباء، ماذا يفعلون هنا؟ ما الذي أتى بهم؟ ولماذا يعبثون بالجبل؟ يُفتِّتون صخوره، ويدوسون أزهاره، ويقتلعون أشجاره، ويُشرِّدون طيوره وحيواناته! مَن أذن لهم بذلك؟!

 

هرع ناصر إلى والده صارخًا: أبي.. أبي...، إنهم يُدمرون جبل السحاب يا أبي! ها هم يَقتَلِعون الأشجار، صدقني يا أبي! شاهدتهم بأُم عيني يُحطِّمون شجرة الزيتون الرومية، أما جميزة سيدي صالح فقد اقتلعوا جذورها، وألقَوْا بها أسفل الوادي! أقسم لك يا أبي إنني صادقٌ فيما أقول، أرجوك يا أبي افعلْ شيئًا!

 

لكن والده لم يتحرَّكْ مِن مكانه، وَغَدَا كَمَنْ فَقَدَ القدرةَ على السمع أيضًا، مِن دون مقدمات، يُسيطر صمتٌ يائسٌ على ملامح وجهِه، كشلال جَفَّ ماؤه فُجَاءَةً؛ فأصبح أثرًا بعد عين!

 

غادرَ البيتَ بعصبيةٍ ظاهرةٍ باحثًا عن الحاجة كوثر، علَّه يجد عندها كسرة مِن الطمأنينة، لا بد أنها تعلم شيئًا عما يجري، وَجَدَها تجلس تحت شجرة الصفصاف التي تقف بشموخٍ في مقدمة القرية، ووجد حالها يحاكي حال الآخرين.

 

قال لها: بالله عليك يا حاجة كوثر، خبِّريني، ماذا يجري؟ مَن هؤلاء؟ ما لهم ولجبل السحاب؟

مسحتْ دموعَها بطرف كمِّها قائلة: اسمعْ يا ناصر، أنت ما زلتَ صغيرًا، لا تُدرك هذه الأمور، ولكني سأُوضِّح لك، لقد صادر اليهودُ المحتلون جبلَ السحاب ووادي اللوز منذ عدة سنوات، وقد أرسلوا إخطارًا بذلك للمختار، إلا أننا كذَّبْنا الخبر، وقلنا: محض هُراء، فهم يعلمون أن الجبل لنا نحن، مِلْكنا، ويعلمون أنهم لا حَقَّ لهم فيه، فهم لم يرثوه عن آبائهم، ولم يشتروه أيضًا، فكيف انتقلتْ ملكيته لهم إذًا؟

 

ولكن... كعادتهم، يُطلقون الكذبة ثم يُصدِّقونها، ويبدو أنهم قادمون الآن لإحكام قَبْضَتِهم على الجبل؛ لبناء مستوطنةٍ فوقه، كعادتهم في المناطق المرتفعة جميعًا بعد أن يُصادروها.

 

طارتْ أسراب الكلام مِن مخابئها دون توقفٍ، فرَدَّ بغضب قائلًا: ماذا يعني ذلك؟ هل انتهت القصة؟ هل نستسلم للأمر الواقع؟

• طبعًا لا!

• إذًا لماذا يجلس الكبار جميعًا هكذا، ويكتفون بالحزن والبكاء؟ لنقم لِنَمْنَعهم؟!

 

• ألَمْ ترَ دبابات الجيش في أسفل الجبل التي تحرس مَن يقومون بتدميره؟ فإذا هاجمناهم فإنهم لن يَتَرَدَّدوا في إطلاق النار علينا، ونحن عُزَّل وهم مُدجَّجون بالسلاح!

 

• صحيح، ولكن هذا ليس عذرًا، فلن نسامحَ أنفسنا، ولن يسامحنا أجدادنا الذين ورثنا الجبل منهم إن استسلمنا وتركنا جبل السحاب لقمةً سائغة لهم.

 

• وماذا سنفعل يا بُني؟ دم الصبا الذي يجري في عروقك هو ما يجعلك تثور هكذا، وعندما تكبر ستدرك أنه لم يكن باستطاعتك عملُ شيء لإنقاذ الأرض المُصادَرَة.

 

غادرَ الحاجةَ كوثرَ، تدورُ الأفكارُ في رأسه كإعصار غاضبٍ، أخذ يدور بين أهل القرية، فوجد وجوهًا جامدة فارغة إلا مِن التوتر والحزن، شعر بالقدر يَتَرَبَّص به وهو يُحاول الفرار منه، وبالفراق يتربص بخطواته وهو يبذل جهده للنَّأْي عنه.

تناهى لسمعه استغاثةُ أحدهم قائلًا: عاجلوا...؛ إحدى الجرافات دعست الحاج محمود!

 

تجمَّعَ أهل القرية حول جده الملقى على الأرض، كانت الدماء تغطي أشلاء جسدِه الذي داسته الجرافة باستهتار، عندما حاول مَنْعَها مِن اقتلاع شجرة زيتون مُعمرة، أظلمت الدنيا في العيون، وتمكَّنت الهزيمةُ مِن النفوس، وألقى الحزنُ بعباءته السوداء على الأرواح...، وأصبحت الحيرةُ هي سيدةَ الموقف.

 

أما ناصر فكان في داخله بركانٌ يغلي مِن الغضب، أَيُطأطئ رأسَه ويستسلم لِمَا يجري ويمضي لحياةٍ تافهة فارغة كالعبيد، ويكتفي بالحزن والبكاء؟ أم ينطلق رافضًا مطالبًا بثأره؟

 

أيستطيع احتمال نتائج ثورته، مهما بلغتْ صعوبتها، وارتفع ثمنها؟ أيمكنه أن يقفَ في وجه المحتل متحديًا بصدره العاري؟

صرَخ بكل ما أوتي مِن قوة قائلًا: أنا لها! سآخذ بثأري يا جدي، مهما كلَّفني الأمر، فدماؤك لن تذهبَ هدرًا، وحياة جبل السحاب لن تمضيَ هكذا بدون ثمن، سأجعلهم يتمنون لو أنهم لم يأتوا إلى هنا يومًا، والأيام بيننا أيها الغرباء!





 حفظ بصيغة PDFنسخة ملائمة للطباعة أرسل إلى صديق تعليقات الزوارأضف تعليقكمتابعة التعليقات
شارك وانشر


 



أضف تعليقك:
الاسم  
البريد الإلكتروني (لن يتم عرضه للزوار)
الدولة
عنوان التعليق
نص التعليق

رجاء، اكتب كلمة : تعليق في المربع التالي

شارك معنا
في نشر مشاركتك
في نشر الألوكة
سجل بريدك
  • السيرة الذاتية
  • اللغة .. والقلم
  • أدبنا
  • من روائع الماضي
  • روافد
  • قائمة المواقع الشخصية
حقوق النشر محفوظة © 1446هـ / 2025م لموقع الألوكة