الإسلام عقيدة وعمل
الحمد لله وكفى والصلاة والسلام على عباده الذين اصطفى وبعد:
فإن الله عز وجل لم يخلق الإنسان عبثاً في هذه الحياة، ليلهو ويركن إلى برِّ الكسل، وإنما خلقه لحكمة عالية ﴿ وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالأِنْسَ إِلا لِيَعْبُدُونِ ﴾[1]، ومنحه سبحانه العقل والإدراك، وكلفه العمل الذي تعود ثمراته عليه في دينه ودنياه بالخير والبركة ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسَعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ * فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ﴾[2].
فالإسلام عقيدة وشريعة وعمل، والعمل يشمل العبادات والطاعات كما يشمل النشاط المبذول في كسب الرزق وفي عمارة الحياة وتنمية الإنتاج والخيرات، وبذلك يتحقق التوازن بين مطالب الجسد والروح، فمع حرص الإسلام على تزكية روح المؤمن وترفعها عن الدنيا والحث على الزهد فإنه حث أيضاً على السعي في الأرض للحصول على المادة ﴿ وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا ﴾[3]وذلك حتى لا يقع أهل هذا الدين الإسلامي تحت أسر الأمم المادية، وحتى لا يهون شأنهم في هذه الحياة، فالإنسان خليفة الله في أرضه ﴿ هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا ﴾[4]وليتمكن الإنسان من عمارة الأرض فإنه سبحانه ذللها له ﴿ هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ ﴾[5] حتى يعمل على عمارتها ظاهراً وباطناً. فهو مأمور بعمارتها بالعبادة وإقامة الحق والعدل ومفطور على عمارتها من النواحي المادية والاقتصادية المختلفة فـ (نعم المال الصالح للرجل الصالح)[6].
ومن هنا جاءت نصوص الإسلام حاثة المسلمين على مزاولة التجارة والزراعة والصناعة بمهنها المختلفة، لأن بها قوام الأرض، وصلاح أمور العباد الدنيوية. فقد جاء في الأثر حث الأمة على مزاولة التجارة (عليكم بالتجارة فإن فيها تسعة أعشار الرزق)[7]،. وجاء عن النبي صلى الله عليه وسلم قوله: (التاجر الصدوق الأمين مع النبيين والصديقين والشهداء يوم القيامة)[8].
كما أنه صلى الله عليه وسلم حث أمته على العناية بالأرض وزراعتها في قوله: (التمسوا الرزق في خبايا الأرض)[9]، وقوله: (ما من مسلم يغرس غرساً أو يزرع زرعاً أو يبذر بذراً فيأكل منه إنسان أو طير أو بهيمة إلا كان له به صدقة)[10].
والمؤمن صاحب الحرفة أحب إلى الله من ذي البطالة كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (إن الله يحب العبد المؤمن المحترف)[11]. وجاء عنه أنه قال: (طلب الحلال جهاد) [12]، وهو من الكسب الطيب كما جاء عنه صلى الله عليه وسلم: حين سئل: أي الكسب أطيب؟ قال: (عمل الرجل بيده, وكل بيع مبرور)[13]. وقوله: (خير الكسب كسب يدي العامل إذا نصح)[14] وفي قوله: (ما أكل أحد طعامًا قط خيراً من أن يأكل من عمل يده، وإن نبي الله داود عليه السلام كان يأكل من عمل يده)[15].
ومع حث الإسلام على العمل وطلب الرزق فإنه يؤكد على ضرورة الإخلاص فيه لقوله صلى الله عليه وسلم: (إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى) وأن يكون الرزق حلالاً طيباً كما قال الله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الأَرْضِ حَلالاً طَيِّباً ﴾[16]. وقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (طوبى لمن طاب كسبه)[17] والرزق الطيب من أسباب إجابة الدعاء كما جاء عنه صلى الله عليه وسلم: (أطب مطعمك تكن مستجاب الدعوة)[18].
كذلك فإن الإسلام وجه المؤمن للسعي والعمل والحركة الدائبة وجعلها من لوازم طلب الرزق ففي الأثر (يا ابن آدم حرّك يدك يسبب لك الرزق) وجاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن الله يعطي العبد على قدر همته ونهمته)[19].
ومما يساعد على البركة في الرزق التبكير في طلبه كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (اللهم بارك لأمتي في بكورها)[20] والعمل بجد ونشاط كما جاء في قوله صلى الله عليه وسلم: (ليصل أحدكم نشاطه فإذا فتر فليقعد)[21].
والعلم والتطوير والتفكر والاعتبار من ضروريات النجاح في العمل لقول الله تعالى: ﴿ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ ﴾[22] وقوله تعالى: ﴿ وَمَا يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ ﴾[23]. ولقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (لا يلدغ المؤمن من جحر واحد مرتين)[24]و(الكلمة الحكمة ضالة المؤمن أينما وجدها فهو أحق بها)[25].
والمسلم في عمله يسعى إلى هدف وغاية لقول الله تعالى: ﴿ أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبّاً عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيّاً عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ﴾[26]. ولابد له من اتخاذ الأسباب المعينة له في ذلك ﴿ وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ ﴾[27]، ثمّ يفوض النتائج إلى الله عز وجل وليؤمن بـ (إن الرزق ليطلب العبد كما يطلبه أجله)[28]ويعمل بوصية النبي صلى الله عليه وسلم التي يقول فيها: (لا تستبطئوا الرزق فإنه لن يموت العبد حتى يبلغه آخر رزق هو له فأجملوا في الطلب أخذ الحلال وترك الحرام)[29].
والمسلم مطالب بحسن الأداء في عمله والإتقان فيه لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله يحب إذا عمل أحدكم عملاً أن يتقنه)[30]. وليعلم بأن (خير العمل ما نفع)[31] وأن (أحب الأعمال إلى الله تعالى أدومها وإن قل)[32].
وهو مطالب كذلك بالوفاء بالعهود والمواثيق لقول الله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ ﴾[33]وقوله: ﴿ وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْؤُولاً ﴾[34].
وأن يتحلى بالصدق والأمانة لقوله تعالى: ﴿ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا ﴾[35] وقول النبي صلى الله عليه وسلم: (أد الأمانة إلى من ائتمنك ولا تخن من خانك)[36]، وقوله: (من استعملناه منكم على عمل فكتمنا مخيطاً فما فوقه، كان غلولاً يأتي به يوم القيامة)[37].
وأن ينمي في نفسه الرقابة الذاتية فـ﴿ مَنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ ﴾[38] و﴿ كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ ﴾[39]و(الكيّس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت، والعاجز من اتبع نفسه هواها وتمنى على الله)[40]. و(لا يكون العبد تقيّاً حتى يحاسب نفسه كما يحاسب شريكه، من أين مطعمه وملبسه)[41]. وعليه أن يستشعر عظم المسؤولية الملقاة على عاتقه فـ (كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته)[42].
ومن أسس العمل بذل المعروف والتعاون على الخير لقوله تعالى: ﴿ وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الأِثْمِ وَالْعُدْوَانِ ﴾[43]. (والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه)[44].
ومما سبق نلحظ أن الدين الإسلامي؛ دين شريعة وحياة، دين عقيدة وعمل، وأنه فاق الأديان السماوية السابقة في تنظيم شؤون الناس الاقتصادية والاجتماعية في حياتهم الدنيوية ليضمن لهم بذلك العيش الكريم الحافل بالحركة الدائبة والعمل المثمر.
المادة باللغة الإنجليزية
اضغط هنا
ـــــــــــــــــــــــ
[1] سورة الذاريات الآية 56.
[2] سورة الجمعة الآيتين 9 – 10.
[3] سورة القصص من الآية 77.
[4] سورة هود من الآية 61.
[5] سورة الملك من الآية 15.
[6] أخرجه ابن حبان في صحيحه برقم (3210).
[7] انظر تاريخ ابن معين برواية الدوري برقم 3089.
[8] أخرجه الترمذي برقم 1206.
[9] أخرجه الطبراني في المعجم الوسيط برقم 895.
[10] أخرجه مسلم برقم 1554.
[11] أخرجه الطبراني في المعجم الوسيط برقم 8934.
[12] مسند الشهاب برقم 82.
[13] أخرجه الحاكم في المستدرك برقم 2158.
[14] أخرجه أحمد في مسنده برقم 8676.
[15] أخرجه البخاري في صحيحه برقم 1966.
[16] سورة البقرة الآية 168.
[17] أخرجه الطبراني في المعجم الكبير برقم 4616.
[18] أخرجه الطبراني في المعجم الكبير برقم 6495.
[19] انظر حلية الأولياء ج 10 ص 73، والهمة: العزيمة. النهمة: الحاجة
[20] أخرجه الترمذي في سننه برقم 1212.
[21] أخرجه البخاري في صحيحه برقم 1099.
[22] سورة الزمر من الآية 9.
[23] سورة فاطر الآية 19.
[24] أخرجه مسلم في صحيحه برقم 2998.
[25] أخرجه ابن ماجه في سننه برقم 4169.
[26] سورة الملك الآية 22.
[27] سورة الأنفال من الآية 60.
[28] أخرجه ابن حبان في صحيحه برقم 3238.
[29] أخرجه ابن حبان في صحيحه برقم 3239
[30] أخرجه الطبراني في المعجم الأوسط برقم 897.
[31] مسند الشهاب برقم 1233.
[32] أخرجه مسلم في صحيحه برقم 783.
[33] سورة المائدة من الآية 1.
[34] سورة الإسراء من الآية 34.
[35] سورة النساء من الآية 58.
[36] أخرجه الحاكم في المستدرك برقم 2296.
[37] أخرجه مسلم في صحيحه برقم 1833.
[38] سورة فصلت الآية 47.
[39] سورة الطور من الآية 21.
[40] أخرجه الحاكم في المستدرك برقم 191.
[41] أخرجه الترمذي في السنن برقم 2459.
[42] أخرجه مسلم في صحيحه برقم 1829.
[43] سورة المائدة من الآية 2.
[44] أخرجه مسلم في صحيحه برقم 2699.