العلامة عبدالرحمن الباني: تربية تتحرَّك
عرفتُ شيخنا عبدالرحمن الباني عندما درَّسَنا مادةَ التربية الإسلامية في جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية بالرياض، في عام 1401هـ، وكان حينها في حدود الستِّين من العمر.
وكان رحمه الله لا يدرِّس مادةَ التربية تدريسًا نظريًّا، وإنما نلمُسُها واقعًا عمليًّا يتمثَّل في أخلاقه وسلوكه.
وكان إذا جاءنا لا يأتي إلا وحقيبتُه مَلأى بالكتب، ويدُه الأخرى مملوءةٌ بكتب أخرى لا تتَّسع لها الحقيبة، فيَعرضُ علينا هذه الكتبَ مما اختاره من مكتبته، ويعرِّفنا بها تعريفًا موجزًا، وينصحنا باقتنائها، وبرغم ضعف بنيته وكِبَر سنِّه لم يكن يتوانى عن أن ينوءَ بحمل هذه الكتب الثقيلة، وكان يصعد بها الدَّرَج؛ إذ لم يكن حينها في الكلية مصعدٌ، ولا يقبلُ من أحد أن يساعدَه في حملها.
وكان إذا طلب منه أحدُ الطلاب استعارةَ بعض هذه الكتب التي لا تتوافَرُ في الأسواق لا يتردَّد في إعارتها، أذكر من ذلك تحقيقَ الشيخ محمد ناصر الدين الألباني لكتاب ((لفتة الكبد)) لابن الجوزي، الذي لم نكن نجده في المكتبات، فاستعرناه منه وصوَّرناه، وكذلك مقابلة مع الشيخ الألباني أظنُّها كانت في صحيفة ((صوت العرب)) وتعدُّ نادرة... إضافة إلى أشياءَ كثيرةٍ صوَّرناها من مكتبة الشيخ رحمه الله، فكان لا يبخلُ في إعارة هذه الكتب.
وكان رحمه الله حريصًا على إبراز المنهج السلفيِّ ومحاولة غرسه في نفوس الطلبة.
ومن الأشياء التي لمسناها منه غيرتُه على الأمَّة الإسلامية، فتجد أن قلبه يتقطَّع غيرةً على الأمَّة وأحوالها، ومن ذلك مثلاً أنه كان أحيانًا يأتي ببعض الكتب التي فيها قصصٌ مؤثِّرة، مثل كتاب الشيخ علي الطنطاوي رحمه الله ((رجال من التاريخ))، ففيه قصَّة عن طفل يُسمَّى (محمد الصغير)، تتصل بما حدث للمسلمين في الأندلس أيامَ محاكم التفتيش، ولمَّا قرأها علينا كانت قراءته مؤثِّرةً جدًّا، حتى إنه بكى وأبكى مَن كان في الفصل.
فهذه المواقفُ لا تُنسى وإنني أرويها اليومَ وكأنني أشاهدُها الآن، مع مرور أكثرَ من ثلاثين عامًا عليها!
وكذلك حبَّبَ إلينا الشيخُ اللغة العربية، وأنا أعترف بفضله عليَّ في هذا الجانب، وكان حينما يأتي الاختبار الشهريُّ يُملي علينا الأسئلةَ إملاء، ولا يكتبُها في ورقة، ثم فوجئنا به يأتينا بأوراقنا وقد صُحِّحَت بتمامها حتى الأسئلة، وأخبرنا أنه لم يحتسب على أخطائنا فيها درجة، ولكن ليبيِّنَ لنا مدى تفريطنا في اللغة العربية، فكانت تأتينا الأوراقُ حمراءَ كلها!!
وهذا الموقفُ حقيقةً قلبَ الموازين عندنا رأسًا على عقب، وكان من جرَّائه حِرصُنا واهتمامنا باللغة العربية.
وكان دقيقًا جدًّا في التصحيح، فلا نُفاجَأ حين يُمنَح أحدُنا ربعَ درجة أو ثلثَ درجة.. لأنه يمنح الطالبَ الدرجةَ التي يستحقُّها بكلِّ دقَّة، من غير إفراط ولا تفريط.
لقد كان الشيخ رحمه الله تربيةً تتحرَّك، ولم يكن يكتفي بتدريسنا التربيةَ دراسةً نظرية فقط، ولكننا كنا نُبصر التربيةَ واقعًا في سلوكه العمليِّ معنا.
مواقفُ الشيخ حقيقة لا تُعدُّ ولا تُحصى، وإن تواضعَه وحرصَه على إفادة الناس، وقلبَه الذي يحترق غيرةً على الأمَّة الإسلامية وعلى شعائر الدين، لا أظنُّ أن أحدًا يجهلها، وربما كان عند غيري الكثير الكثير، وخاصَّة من مثل شيخنا أبي لطفي د. محمد الصباغ حفظه الله ورعاه، الذي له معه مواقفُ كثيرة جدًّا.
أسأل الله - جلَّ وعلا - أن يجعلَ هذه المواقفَ عبرةً ونبراسًا للأمَّة الإسلامية، ليتعرَّف أبناؤها هؤلاء الأعلامَ ويسيروا على دربهم ويقتدوا بمنهجهم، وأسأله سبحانه أن يتغمَّدَ الشيخَ عبدالرحمن الباني بواسع رحمته، وأحسنَ الله عزاءنا وعزاءكم، وعزاء الأمَّة الإسلامية جمعاء فيه.
وصلَّى الله وسلَّم على نبيِّنا محمد وعلى آله وصحبه.