• الصفحة الرئيسيةخريطة الموقعRSS
  • الصفحة الرئيسية
  • سجل الزوار
  • وثيقة الموقع
  • اجعلنا صفحتك الرئيسة
  • اتصل بنا
English Alukah
شبكة الألوكة شبكة إسلامية وفكرية وثقافية شاملة تحت إشراف الدكتور خالد الجريسي والدكتور سعد الحميد
 
صفحة الكاتب  موقع الشيخ ابراهيم الحقيلالشيخ د. إبراهيم بن محمد الحقيل شعار موقع الشيخ ابراهيم الحقيل
شبكة الألوكة / موقع الشيخ إبراهيم بن محمد الحقيل / خطب منبرية


علامة باركود

التحذير من الرشوة (خطبة)

التحذير من الرشوة (خطبة)
الشيخ د. إبراهيم بن محمد الحقيل


تاريخ الإضافة: 17/5/2023 ميلادي - 26/10/1444 هجري

الزيارات: 11972

 حفظ بصيغة PDFنسخة ملائمة للطباعة أرسل إلى صديق تعليقات الزوارأضف تعليقكمتابعة التعليقات
النص الكامل  تكبير الخط الحجم الأصلي تصغير الخط
شارك وانشر

التحذير من الرشوة

 

الحَمْدُ للهِ؛ غَمَرَنَا بِرُّهُ وَإِنْعَامُهُ، وَتَتَابَعَ عَلَيْنَا فَضْلُهُ وَإِحْسَانُهُ، خَلَقَنَا وَرَزَقَنَا، وَهَدَانَا وَعَلَّمَنَا، وَكَفَانَا وَآوَانَا، وَمِنْ كُلِّ خَيْرٍ أَعْطَانَا، نحْمَدُهُ كَمَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يُحْمَدَ، وَنشْكُرُهُ فَقَدْ تَأَذَّنَ بِالزِّيَادَةِ لِمَنْ شَكَرَ، وَأَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ؛ أَرْسَلَ الرُّسُلَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ.وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ؛ أَمَرَنَا بِالمَعْرُوفِ، وَنَهَانَا عَنِ المُنْكَرِ، وَأَحَلَّ لَنَا الطَّيِّبَاتِ، وَحَرَّمَ عَلَيْنَا الخَبَائِثَ، وَوَضَعَ عَنَّا الآصَارَ وَالأَغْلالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَى مَن قَبْلَنَا، صَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَمَنِ اهْتَدَى بِهُدَاهُمْ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.

 

أَمَّا بَعْدُ: فَاتَّقُوا اللهَ عِبَادَ اللهِ ﴿ وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا ﴾ [الطَّلاق:2 - 3].

 

أَيُّهَا النَّاسُ: حِينَ يَضْعُفُ الدِّينُ فِي النَّاسِ تَفْسُدُ أَخْلاَقُهُمْ، وَتَقِلُّ أَمَانَتُهُمْ، فَتَرْفَعُ عَنْهُمُ النِّعَمَ، وَتَنْزِلُ بِهِمُ النِّقَمُ، وَيَتَسَلَّطُ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ بِالظُّلْمِ وَالبَغْيِ وَالعُدْوَانِ، فَتَحُلُّ فِيهِمُ الأَثَرَةُ مَحِلَّ الإِيثَارِ، وَيَتَخَلَّقُونَ بِحُبِّ الذَّاتِ بَدَلَ المُوَاسَاةِ وَالإِحْسَانِ، وَالسَّاعَةُ لاَ تَقُومُ إِلاَّ عَلَى شِرَارِ الخَلْقِ، وَمِنْ عَلاَمَاتِ قُرْبِهَا فَسَادُ الزَّمَانِ، وَالزَّمَانُ يَفْسُدُ إِذَا رُفِعَتِ الأَمَانَةُ.

 

وَمِنْ أَبْيَنِ صُوَرِ ارْتِفَاعِ الأَمَانَةِ فِي أُمَّةٍ مِنَ الأُمَمِ انْتِشَارُ الرِّشْوَةِ فِيهَا؛ حَتَّى لاَ تَصِلَ الحُقُوقُ إِلَى أَهْلِهَا إِلاَّ بِهَا، وَهِيَ خُلُقٌ ذَمِيمٌ، وَإِثْمٌ مُبِينٌ، يَحْذَرُهَا الشُّرَفَاءُ الكُرَمَاءُ، وَلاَ يَرْتَضِيهَا لِنَفْسِهِ إِلاَّ الأَرَاذِلُ الوُضَعَاءُ.

 

تَخَلَّقَهَا بَعْضُ أَهْلِ الكِتَابِ، مِنْ أَحْبَارِ اليَهُودِ وَرُهْبَانِ النَّصَارَى، فَذَمَّ اللهُ تَعَالَى صَنِيعَهُمْ فِي كِتَابٍ يُتْلَى إِلَى يَوْمِ الدِّينِ، ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنَّ كَثِيرًا مِنَ الأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاس بِالبَاطِلِ ﴾ [التوبة:34]. وَسَمَّى مَا أَكَلُوهُ مِنْ أَمْوَالِ النَّاس بِالبَاطِلِ سُحْتًا، وَالنَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَدْ أَخْبَرَ أَنَّ كُلَّ جَسَدٍ نَبَتَ مِنْ سُحْتٍ فَالنَّارُ أَوْلَى بِهِ. قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: السُّحْتُ: الرَّشَا، بَلْ إِنَّهُمْ لَمَّا اسْتَسَاغُوا الرِّشْوَةَ، وَأَضْحَتْ لَهُمْ خُلُقًا؛ كَتَمُوا مَا أَنْزَلَ اللهُ تَعَالَى مِنَ الحَقِّ وَأَنْكَرُوهُ وَزَوَّرُوهُ، وَأَضَلُّوا أَتْبَاعَهُمْ مِنَ العَامَّةِ وَالرَّعَاعِ، وَيَوْمَ القِيَامَةِ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ، ﴿ إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلَ اللهُ مِنَ الكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللهُ يَوْمَ القِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴾ [ البقرة:174]، إِنَّهُمْ -بِسَبَبِ حُبِّ الدُّنْيَا وَالمَالِ، وَقَبُولِ الرِّشْوَةِ لِإِخْفَاءِ الحَقِّ وَإِظْهَارِ البَاطِلِ - حَرَّفُوا آيَاتِ اللهِ تَعَالَى، وَغَيَّرُوا مَعَانِيَهَا؛ لِتُوَافِقَ أَهْوَاءَ مَنْ يُرْشُونَهُمْ، فكَانَ وَعِيدُهُمْ عَلَى مَا فَعَلُوا شَدِيدًا، وَعَذَابُهُمْ أَلِيمًا، ﴿ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ ﴾ [البقرة:79]، وَكَانَ الثَّمَنُ الَّذِي بَاعُوا بِهِ الحَقَّ، وَنَصَرُوا البَاطِلَ، هُوَ الرِّشْوَةُ الَّتِي ذَمَّهَا اللهُ تَعَالَى، وَذَمَّ أَهْلَهَا.

 

وَلَمَّا كَانَتِ الرِّشْوَةُ عَلَى تَبْدِيلِ أَحْكَامِ اللهِ تَعَالَى خَصْلَةً نَشَأَتْ عِنْدَ اليَهُودِ المُسْتَحِقِّينَ لِلَعْنَةِ اللهِ تَعَالَى وَغَضَبِهِ وَعَذَابِهِ كَمَا حَكَى القُرْآنُ عَنْهُمْ؛ كَانَ مَنْ تَخَلَّقَ بِهَا مِنْ أَهْلِ الإِسْلَامِ مُتَّصِفًا بِأَخَسِّ أَوْصَافِ اليَهُودِ، مُسْتَحِقًّا لِلَعْنَةِ اللهِ تَعَالَى وَغَضَبِهِ وَعَذَابِهِ، نَسْأَلُ اللهَ تَعَالَى العَافِيَةَ وَالسَّلامَةَ.

 

قَالَ شَيْخُ الإِسْلَام ابْنُ تَيْمِيَّةَ - رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى-: فَإِذَا ارْتَشَى وَتَبَرْطَلَ عَلَى تَعْطِيلِ حَدٍّ ضَعُفَتْ نَفْسُهُ أَنْ يُقِيمَ حَدَّا آخَرَ، وَصَارَ مِنْ جِنْسِ اليَهُودِ المَلْعُونِينَ، وَأَصْلُ البَرْطِيلِ هُوَ الحَجَرُ المُسْتَطِيلُ سُمِّيَتْ بِهِ الرِّشْوَةُ؛ لِأَنَّهَا تُلْقِمُ المُرْتَشِي عَنِ التَّكَلُّمِ بِالحَقِّ كَمَا يُلْقِمُهُ الحَجَرُ الطَّوِيلُ؛ كَمَا جَاءَ فِي الْأَثَرِ: "إِذَا دَخَلَتِ الرِّشْوَةُ مِنَ الْبَابِ خَرَجَتِ الْأَمَانَةُ مِنْ الْكُوَّةِ"، وَمِنْ كَلاَمِهِمْ: البَرَاطِيلُ تَنْصُرُ الأَبَاطِيلَ، وَقَدْ لَعَنَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- المُتَخَلِّقِينَ بِقَبُولِ الرِّشْوَةِ أَخْذًا أَوْ عَطَاءً أَوْ تَوَسُّطًا؛ كَمَا رَوَى عَبْد اللهِ بْنِ عَمْرٍو -رَضِيَ اللهُ عَنْهُما- فَقَالَ: لَعَنَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- الرَّاشِيَ والمُرْتَشِي، رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: حَسَنٌ صَحِيحٌ. قَالَ ابْنُ العَرَبِيِّ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: الرِّشْوَةُ هِيَ كُلُّ مَالٍ دُفِعَ لِيَبْتَاعَ بِهِ مِنْ ذِي جَاهٍ عَوْنًا عَلَى مَا لاَ يَجُوزُ، والمُرْتَشِي هُوَ قَابِضُهُ، وَالرَّاشِي هُوَ دَافِعُهُ، وَالرَّائِشُ يُوَسِّطُ بَيْنَهُمَا.

 

وَمَهْمَا تَعَدَّدَتْ أَسَالِيبُ الرِّشْوَةِ، وَسُمِّيَتْ بِغَيْرِ اسْمِهَا؛ فَإِنَّ ذَلِكَ لاَ يُغَيِّرُ مِنْ حَقِيقَتِهَا شَيْئًا؛ فَهِيَ سُحْتٌ يَبْنِي بِهَا صَاحِبُهَا جَسَدَهُ وَأَجْسَادَ أَحَبِّ النَّاس إِلَيْهِ مِنْ أَهْلِهِ وَأَوْلادِهِ، وَكُلُّ جَسَدٍ نَبَتَ مِنْ سُحْتٍ فَالنَّارُ أَوْلَى بِهِ. إِنَّ الرِّشْوَةَ رِّشْوَةٌ وَلَوْ سُمِّيَتْ هِدَيَّةً أَوْ مُكَافَأَةً أَوْ حُلْوَانًا أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ، وَلَوْ قُدِّمَتْ مَالاً أَوْ مَتَاعًا أَوْ حَتَّى قَضَاءَ حَاجَةً لاَ تَحِلُّ لِصَاحِبِهَا مُقَابِلَ أَنْ يَقْضِيَ لَهُ حَاجَتَهُ، فَكُلُّ ذَلِكَ لاَ يُخْرِجُهَا عَنْ مُسَمَّى الرِّشْوَةِ، وَلاَ يَرْفَعُ الإِثْمَ الوَاقِعَ بِسَبَبِهَا، وَظَنُّ كَثِيرٍ مِنَ النَّاسِ أَنَّهَا لاَ تَكُونُ إِلاَّ فِي الأَمْوَالِ ظَنٌّ خَاطِئٌ أَدَّى إِلَى احْتِيَالِهِمْ عَلَى الشَّرْعِ بِطُرُقٍ شَيْطَانِيَّةٍ لِلْخُرُوجِ مِنْ إِثْمِ الرِّشْوَةِ؛ لِيَقَعُوا فِيهَا بِطُرُقٍ أُخْرَى، مَعَ إِثْمِ احْتِيَالِهِمْ عَلَى الأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ.

 

وَقَدْ ذَكَرَ العُلَمَاءُ أَنَّ الرِّشْوَةَ هِيَ مَا يُعْطِيهِ الشَّخْصُ لِلْحَاكِمِ وَغَيْرِهِ لِيَحْكُمَ لَهُ أَوْ يَحْمِلُهُ عَلَى مَا يُرِيدُ. وَوَاضِحٌ مِنْ هَذَا التَّعْرِيفِ أَنَّ الرِّشْوَةَ أَعَمُّ مِنْ أَنْ تَكُونَ مَالاً أَوْ مَنْفَعَةً يُمَكِّنُهُ مِنْهَا، أَوْ يَقْضِيهَا لَهُ، وَالمُرَادُ بِالحَاكِمِ: القَاضِي وَغَيْرُهُ، وَكُلُّ مَنْ يُرْجَى عِنْدَهُ قَضَاءُ مَصْلَحَةِ الرَّاشِي، سَوَاءٌ كَانَ مِنْ وُلاةِ الدَّوْلَةِ وَمُوَظَّفِيهَا، أَوِ القَائِمِينَ بِأَعْمَالٍ خَاصَّةٍ كَوُكَلاءِ التُّجَّارِ وَالشَّرِكَاتِ وَأَصْحَابِ العَقَارَاتِ وَنَحْوِهِمْ، وَالمُرَادُ بِالحُكْمِ لِلرَّاشِى وَحَمْلِ المُرْتَشِي عَلَى مَا يُرِيدُهُ الرَّاشِي: تَحْقِيقُ رَغْبَةِ الرَّاشِي وَمَقْصِدِهِ، سَوَاءٌ كَانَ ذَلِكَ حَقًّا أَوْ بَاطِلاً.

 

أَلاَ فَاتَّقُوا اللهَ رَبَّكُمْ -أَيُّهَا المُسْلِمُونَ- وَاحْذَرُوا الفِتْنَةَ بِالدُّنْيَا؛ فَكَمْ أَرْدَتِ الفِتْنَةُ بِهَا مِنْ أَقْوَامٍ، اسْتَحَلُّوا مَا لاَ يَحِلُّ لَهُمْ، وَحَمَلُوا بِسَبَبِ ذَلِكَ أَوْزَارَهُمْ وَأَوْزَارَ غَيْرِهِمْ.

 

حَمَانَا اللهُ وَالمُسْلِمِينَ مِنَ الدُّنْيَا وَفِتْنَتِهَا، وَرَزَقَنَا القَنَاعَةَ بِمَا رَزَقَنَا، وَمَنَّ عَلَيْنَا بِغِنَى النُّفُوسِ، وَصَلاَحِ القُلُوبِ، إِنَّهُ خَيْرُ مَسْؤُولٍ.

 

أَعُوذُ بِاللهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ: ﴿ وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالبَاطِل وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاس بِالإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ ﴾ [البقرة:188].

 

بَارَكَ اللهُ لِي وَلَكُمْ فِي القُرْآنِ العَظِيمِ.

 

الخطبة الثانية

الْحَمْدُ لِلَّهِ حَمْدًا طَيِّبًا كَثِيرًا مُبَارَكًا فِيهِ كَمَا يُحِبُّ رَبُّنَا وَيَرْضَى، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، وَصَفِيُّهُ وَخَلِيلُهُ، صَلَّى اللَّهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَمَنِ اهْتَدَى بِهُدَاهُمْ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.

 

أَمَّا بَعْدُ: فَاتَّقُوا اللَّهَ -عِبَادَ اللَّهِ – وَأَطِيعُوهُ، وَاحْذَرُوا المَعَاصِي وَمَا يُقَرِّبُ مِنْهَا، ﴿ تِلْكَ حُدُودُ اللهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ ﴾ [البقرة:229].

 

أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: لِلرِّشْوَةِ آثَارٌ سَيِّئَةٌ عَلَى الأَفْرَادِ وَالجَمَاعَاتِ، فَهِيَ سَبَبٌ لِفَسَادِ الأَخْلاَقِ، وَانْحِطَاطِ الهِمَمِ، وَسُفُولِ الأُمَمِ؛ لاَ يَرْضَاهَا كَسْبًا لَهُ إِلاَّ مَنْ ضَعُفَتْ نَفْسُهُ، وَرَقَّ دِينُهُ، وَلاَ يَتَخَلَّقَهَا إِلاَّ مَنْ ذَهَبَتْ أَمَانَتُهُ، وَظَهَرَتْ خِيَانَتُهُ، وَتَقَاصَرَتْ عَنِ الكَسْبِ الحَلاَلِ هِمَّتُهُ؛ فَأَضْحَى دَنِيءَ النَّفْسِ، يُرْضِي شَهْوَتَهُ بِبَذْلِ دِينِهِ، وَيُشْبِعُ طَمَعَهُ بِتَعْطِيلِ مَصَالِحِ إِخْوَانِهِ، وَلَنْ يَشْبَعَ وَلَوْ حَازَ الدُّنْيَا كُلَّهَا؛ إِذُ مُشْكِلَتُهُ فِي فَقْرِ قَلْبِهِ، لاَ فِي قِلَّةِ ذَاتِ يَدِهِ. إِنَّ الرِّشْوَةَ سَبَبٌ لِلْعَدَاوَةِ وَالبَغْضَاءِ بَيْنَ النَّاسِ؛ فَيَسْتَوْلِي الرَّاشِي عَلَى حُقُوقِ غَيْرِهِ؛ لِأَنَّهُ دَفَعَ لِلْمُرْتَشِي، وَيُمْنَعُ صَاحِبُ الحَقِّ حَقَّهُ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَدْفَعْ لِلْمُرْتَشِي.وَاللهُ تَعَالَى لَمَّا أَمَرَ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنْ لاَ يَشْتَرُوا بِآيَاتِ اللهِ ثَمَنًا قَلِيلاً، فَلَمْ يَسْتَجِبْ لِأَمْرِ اللهِ تَعَالَى إِلاَّ قَلِيلٌ مِنْهُمْ، فَأَخَذُوا الرِّشْوَةَ فِي الحُكْمِ، وَجَاوَزُوا الحُدُودَ؛ أَلْقَى اللهَ تَعَالَى بَيْنَهُمُ العَدَاوَةَ وَالبَغْضَاءَ، فقَالَ -عَزَّ وَجَلَّ- فِي اليَهُودِ: ﴿ وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ العَدَاوَةَ وَالبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ القِيَامَةِ ﴾ [المائدة:64]، وقَالَ فِي النَّصَارَى: ﴿ فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ العَدَاوَةَ وَالبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ القِيَامَةِ ﴾ [المائدة:14]، وَهَكَذَا المُسْلِمُونَ إِنْ تَعَامَلُوا بِالرِّشْوَةِ، وَلَمْ يُنْكِرُوهَا وَيُكَافِحُوهَا؛ حَرِيٌّ أَنْ تُلْقِي بَيْنَهُمُ العَدَاوَةَ وَالبَغْضَاءَ، وَحِينَهَا لاَ يَأْمَنُ وَاحِدُهُمْ عَلَى نَفْسِهِ وَلاَ مَالِهِ وَلاَ وَلَدِهِ.

 

وَالرِّشْوَةُ سَبَبٌ لِلْعُقُوبَةِ العَاجِلَةِ عَلَى مَنْ تَعَامَلَ بِهَا؛ لِأَنَّهَا ظُلْمٌ وَبَغْيٌ، وَالنَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَقُولُ: مَا مِنْ ذَنْبٍ أَجَدَرُ أَنْ يُعَجِّلَ اللهُ لِصَاحِبِهِ العُقُوبَةَ فِي الدُّنْيَا مَعَ مَا يَدَّخِرُ لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنَ البَغْيِ وَقَطِيعَةِ الرَّحِمِ"؛ رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ، وقَالَ: حَسَنٌ صَحِيحٌ.

 

وَمَا دَخَلَتِ الرِّشْوَةُ فِي شَيْءٍ إِلاَّ أَفْسَدَتْهُ، وَلاَ فِي بِلاَدٍ إِلاَّ دَمَّرَتْهَا، وَلاَ فِي أُمَّةٍ إِلاَّ أَهْلَكَتْهَا؛ فَإِنْ دَخَلَتْ فِي العِلْمِ وَالتَّعْلِيمِ، وَغَزَتِ المَدَارِسَ وَالجَامِعَاتِ؛ خَرَّجَتْ طُلاَّبًا يَمْلِكُونَ أعَلَى المُؤَهِّلاَتِ وَهُمْ لاَ يَعْرِفُونَ شَيْئًا، فَوُكِلَتْ إِلَيْهِمُ المَهَامُّ العَظِيمَةُ، وَأُسْنِدَتْ إِلَيْهِمُ المَسْؤُولِيَّاتُ الكَبِيرَةُ، وَعُلِّقَتْ بِهِمْ مَصَالِحُ البِلاَدِ وَالعِبَادِ؛ فَأَضَاعُوهَا بِجَهْلِهِمْ وَقِلَّةِ عِلْمِهِمْ، وهَذَا مِنْ إِسْنَادِ الأَمْرِ إِلَى غَيْرِ أَهْلِهِ المُؤْذِنِ بِقُرْبِ السَّاعَةِ. وَإِنْ كَانَتِ الرِّشْوَةُ فِي البِنَاءِ وَالتَّعْمِيرِ؛ كَانَ الغِشُّ فِي المَسَاكِنِ وَالبِنَايَاتِ، وَحِينَئِذٍ لاَ يَأْمَنُ النَّاسُ أَنْ تَخِرَّ بُيُوتُهُمْ عَلَى رُؤُوسِهِمْ، وَقَدْ حَصَلَ ذَلِكَ فِي بَعْضِ البُلْدَانِ. وَإِنْ دَخَلَتِ الرِّشْوَةُ مَجَالاَتِ الطِّبَّ وَالصِّحَّةَ كَانَتْ حَيَاةُ النَّاس فِي خَطَرٍ؛ إِذْ يَتَطَبَّبُ فِيهِمْ فَاقِدُ العِلْمِ والأَمَانَةِ؛ فَلاَ العِلْمَ يُسْنِدُهُ فِي عَمَلِهِ، وَلاَ يَمْلِكُ أَمَانَةً تَمْنَعُهُ مِنَ التَّجْرِبَةِ فِي عِبَادِ اللهِ تَعَالَى.

 

وَإِذَا كَانَتِ الرِّشْوَةُ فِي المُنَاقَصَاتِ وَإِرْسَاءِ العُقُودِ؛ تَعَطَّلَتْ مَصَالِحُ العِبَادِ، وَتَقَهْقَرَ عُمْرَانُهُمْ، وَتَأَخَّرَتْ حَضَارَتُهُمْ؛ إِذْ يَرَى النَّاسُ أَنَّه لاَ مَجَالَ لِلْمُنَافَسَةِ الشَّرِيفَةِ فِي ذَلِكَ، فَيُغَادِرُ الأَكْفَاءُ مِنْهُمْ بِلاَدَهُمْ إِلَى أُخْرَى، يَسْتَطِيعُونَ فِيهَا المُنَافَسَةَ وَالإِبْدَاعَ، وَمَا هَاجَرَتْ كَثِيرٌ مِنَ العُقُولِ الإِسْلَامِيَّةِ المُنْتِجَةِ إِلَى البِلاَدِ الغَرْبِيَّةِ إِلاَّ بِسَبَبِ الفَسَادِ المَالِيِّ والإِدَارِيِّ الَّذِي خَيَّمَ فِي كَثِيرٍ مِنْ بِلادِ المُسْلِمِينَ. وَإِذَا تَخَلَّقَ بِالرِّشْوَةِ أَهْلُ القَضَاءِ، أَوْ حُرَّاسُ الأَمْنِ؛ فَشَتِ الجَرَائِمُ، وَكَثُرَ الاعْتِدَاءُ، وَرُفِعَ الأَمْنُ، وَحَلَّ الخَوْفُ.

 

وَبِهَذَا يُعْلَمُ -أَيُّهَا الإِخْوَةُ- أَنَّ الرِّشْوَةَ لاَ تَفْشُو فِي جَمَاعَةٍ مِنَ النَّاسِ إِلاَّ فَسَدَتْ أَخْلاَقُهُمْ، وَذَهَبَتْ أَمَانَاتُهُمْ، وَهُمْ حَرِيُّونَ بِمَقْتِ اللهِ تَعَالَى وَعُقُوبَتِهِ، مَعَ تَوَقُّفِ عُمْرَانِهِمْ، وَكَسَادِ أَرْزَاقِهِمْ؛ مِمَّا يُوَلِّدُ الفَقْرَ وَالجَرِيمَةَ.

 

فَوَاجِبٌ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ أنْ يَحْذَرَهَا وَيُحَذِّرَ مِنْهَا، وَيَسْعَى فِي إِنْكَارِهَا، بِنَصِيحَةِ المُتَعَامِلِينَ بِهَا، وَالتَّبْلِيغِ عَنْهُمْ إِذَا لَمْ تُجْدِ النَّصِيحَةُ؛ حِمَايَةً لَهُمْ مِنَ الحَرَامِ، وَرَدْعًا لِغَيْرِهِمْ عَنِ الفَسَادِ، وَحِفَاظًا عَلَى مَصَالِحِ البِلاَدِ وَالعِبَادِ مِنَ الضَّيَاعِ.

 

سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ العِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ، وَسَلاَمٌ عَلَى المُرْسَلِينَ، وَالحَمْدُ للهِ رَبِّ العَالَمِينَ.





 حفظ بصيغة PDFنسخة ملائمة للطباعة أرسل إلى صديق تعليقات الزوارأضف تعليقكمتابعة التعليقات
شارك وانشر


 



أضف تعليقك:
الاسم  
البريد الإلكتروني (لن يتم عرضه للزوار)
الدولة
عنوان التعليق
نص التعليق

رجاء، اكتب كلمة : تعليق في المربع التالي

شارك معنا
في نشر مشاركتك
في نشر الألوكة
سجل بريدك
  • مقالات
  • بحوث ودراسات
  • كتب
  • خطب منبرية
  • مواد مترجمة
  • قائمة المواقع الشخصية
حقوق النشر محفوظة © 1446هـ / 2025م لموقع الألوكة