• الصفحة الرئيسيةخريطة الموقعRSS
  • الصفحة الرئيسية
  • سجل الزوار
  • وثيقة الموقع
  • اجعلنا صفحتك الرئيسة
  • اتصل بنا
English Alukah
شبكة الألوكة شبكة إسلامية وفكرية وثقافية شاملة تحت إشراف الدكتور خالد الجريسي والدكتور سعد الحميد
 
صفحة الكاتب  موقع الأستاذ الدكتور فؤاد احمدأ. د. فؤاد عبدالمنعم أحمد شعار موقع الأستاذ الدكتور فؤاد احمد
شبكة الألوكة / موقع الأستاذ الدكتور فؤاد عبدالمنعم أحمد / مقالات / من قضاة الإسلام


علامة باركود

من قضاة الإسلام: إياس بن معاوية

أ. د. فؤاد عبدالمنعم أحمد


تاريخ الإضافة: 5/1/2011 ميلادي - 29/1/1432 هجري

الزيارات: 123595

 حفظ بصيغة PDFنسخة ملائمة للطباعة أرسل إلى صديق تعليقات الزوارأضف تعليقكمتابعة التعليقات
النص الكامل  تكبير الخط الحجم الأصلي تصغير الخط
شارك وانشر

من قضاة الإسلام:

إياس بن معاوية


أثمر الإسلام قضاة تغلغل العدل في نفوسهم فأظهروه في أحكامهم، وفقهوا واقع الناس وملابسات الحوادث فأسهموا في إعادة الحقوق إلى أصحابها في أقرب وقت، فهم نماذج مضيئة لقضاة اليوم من أبناء الإسلام في أي مكان، وعليهم الأخذ بسننهم والاقتداء بأحكامهم، ليتحقق العدل على أيديهم، ويسود الأمن والأمان للناس في وجودهم، وتسعد الدنيا بهم.

 

من هؤلاء القضاة: إياس بن معاوية الذي يضرب به المثل في الذكاء والفراسة.

 

معالم حياته:

• ولد إياس بن معاوية بن قرة بن المزني، وكنيته أبو وائلة، في العام السادس والأربعين من هجرة الرسول صلى الله عليه وسلم، ولجد أبيه «المزني» صحبة مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم- وإياس معدود في التابعين.

 

• تعلم إياس في صغره على يد أبيه «معاوية» الذي أحفظه القرآن في سن مبكر من حياته، كما روى له كثيراً من الأحاديث النبوية وبعث به ليتعلم أيام العجم وأخبارهم إلى مكتب لرجل من أهل الذمة مشهود له بالكفاءة في ذلك.

 

وكانت علامة النباهة على إياس منذ صغره ولا أدل على ذلك من أنه عندما كان يتلقى دروسه في تاريخ العجم سمع يهودياً في المكتب يقول: ما أحمق المسلمين، يزعمون أن أهل الجنة يأكلون ولا يحدثون فقال له إياس: أفكل ما تأكله تحدثه؟ قال: لا، لأن الله تعالى يجعل بعضه غذاء. قال: فلم تنكر أن أدله تعالى يجعل كل ما يأكله أهل الجنة غذاء؟ فبهت الذي كفر!

 

ويدل هذا الشاهد على قدرة إياس من صغره على الإمساك بالدليل، والمضي به إلى الإقناع ثم الإصداع وإعلان الحق.

 

وتعلم إياس الفقه والتفسير والحديث على كبار علماء البصرة وفي مقدمتهم التابعي الجليل الزاهد الإمام «الحسن البصري» المتوفى سنة 110هـ، والإمام محمد بن سيرين المتوفى أيضاً عام 110هـ أيضاً والمشهود له بالقدرة على تأويل الأحلام مع نصيب كبير من الفراسة.

 

وقد استفاد إياس من علمهما المشفوع بالعمل والتطبيق ومن أخلاقهما الكريمة القويمة الكثير فقد كان إياس صالحاً تقياً باراً بوالديه فقد قيل لمعاوية بن قرة: كيف ابنك؟ قال: نعم الابن، كفاي أمر دنياي وفرغني لآخرتي. وكان إياس صادقاً ويدعو إلى الصدق فيقول: ما أحب أن أكذب كذبة لا يطلع عليها إلا الله، وأؤاخذ بها يوم القيامة وأن لي مفروجاً منها في الدنيا.

 

وكان إياس ملهماً صادق الرؤية فقد قال إياس في العام الذي توفي فيه: رأيت في المنام كأني وأبي على فرسين فجريا معاً فلم أسبقه ولم يسبقني، وعاش أبي ستاً وسبعين سنة وأنا فيها. فلما كان آخر لياليه قال: أتدرون أي ليلة هذه؟ ليلة استكمل فيها عمر أبي، ونام فأصبح ميتاً، وكان ذلك في سنة اثنين وعشرين ومائة من الهجرة.

 

فراسة إياس قبل أن يتولى القضاء:

يقصد بالفراسة تعرف بواطن الأمور من ظواهرها، وهو ما يطلق عليها بالاصطلاح القانوني المعاصر«القرينة القضائية» وكان إياس ماهراً في الفراسة حتى قيل فيه: أنه تكتب عنه الفراسة كما تكتب عمن صدر الحديث منه. فقد ذكر لنا وكيع بن حيان في كتابه «أخبار القضاة» أن إياساً قيل أن يستقضى كان جالساً في قوم، فجاء رجل وجلس على مكان مرتفع بالمربد (وهو المكان الذي يجفف فيه التمر) فجعل يترصد الطريق فبينما هو كذلك إذ نزل، فاستقبل رجلاً فنظر في وجهه ثم رجع إلى موضعه. فقال إياس: قولوا في هذا الرجل؟ قالوا: نقول فيه رجل طالب حاجة.

 

فقال إياس هو معلم صبيان هرب له غلام أعور، فإن أردتم أن تستفهموه فقوموا فسلوه. فقام إليه البعض فسأله، فقال كان لي غلام نساج، وقد زاغ منذ اليوم.

 

فقالوا: صف لنا غلامك وصف لنا موضعك، فقال: أما أنا فأعظم الصبيان بالكلأ، وأما علامات غلامي فمن صفته كذا وكذا.... وإحدى عينيه ذاهبة. ثم رجعوا إلى إياس وقالوا: هو كما قلت!

 

ولكن كيف علمت أنه معلم؟ فقال: رأيته جاء فجعل يطلب موضعاً يجلس فيه. فقلت: أنه يطلب عادته في الجلوس، فنظر إلى أرفع شيء يقدر عليه فجلس، فنظرت في قدره فإذا ليس قدره قدر الملوك، فنظرت فيمن اعتاد في جلوسه جلوس الملوك فلم أجدهم إلا المعلمين، فعلمت أنه معلم.

 

فقالوا له: كيف علمت أنه هرب له غلام أعور؟

فقال: رأيته يترصد الطريق والمارة فبينما هو كذلك إذ نزل فاستقبل رجلاً مقبلاً. فعلمت أنه شبهه بغلامه فنظر في وجهه، فلو كان أعمى لعرفه في ترجح مشيته فعلمت أنه نظر في وجهه إلى عينه، فعلمت أن غلامه أعور.

 

ويبدو لنا من إجابة إياس على القوم القدرة على التسبيب وصحة وجمال الحثيات التي اعتمد عليها في إصدار رأيه وحكمه ويضاعف من قيمتها أنها صدرت منه ولم يكن قد تولى القضاء بعد.

 

كيف تولى إياس القضاء؟

بعث الخليفة الراشد عمر بن عبد العزيز- رحمه الله- إلى واليه بالبصرة عدي ابن أرطاة (المتوفى 102هـ) فقال له: اجمع بين إياس بن معاوية. والقاسم بن ربيعة الحرشي، واعقد لهما اختباراً وول قضاء البصرة أنفذهما أي أكفأهما. وهو منهج الإسلام في التعيين في الولايات العامة.

 

وامتثل الوالي أمر الخليفة وجمع بينهما ودار الحوار التالي:

قال القاسم: إن إياساً بن معاوية أفقه مني وأعلم بالقضاء. فإن كنت كاذباً فما يحل لك أن توليني وأنا كاذب، وإن كنت صادقاً، فينبغي لك أن تقبل قولي. وحلف على ذلك. فرد إياس وقال للوالي: إنك جئت برجل أوقفته على شفير جهنم، فنجى نفسه منها بيمين يستغفر الله منها، وينجو مما يخاف.

 

فقال عدي: أما إذا فهمتها فأنت لها. فاستقضاه فأبى وقال إياس: بكير المرى خير مني.فأمر عدي بن أرطاة بكيراً بذلك فقال بكير: إياس خير مني.

 

قالوا: إنه قد قال: انك خير منه.

 

فقال إياس: لو تعلموا من فضله إلا تفضيله إياي عليه، لكان ينبغي أن تعلموا أنه أفضل مني.

 

وانتهى الأمر إلى فرض منصب القضاء على إياس فبكى استشعاراً بجسامة المسئولية وثقل الأمانة الملقاة على عاتقه، وطلب من الله الإعانة والتوفيق.

 

القضاء فهم:

كان إياس مع مشاركته لأهل عصره في العلم يختص عنهم بفهم الواقع والاستدلال بالأمارات وشواهد الحال وقد أثنى الإمام ابن القيم في الطرق الحكمية على فهم إياس فقال: وهذا الذي فات كثيراً من الحكام فأضاعوا كثيراً من الحقوق. واستدل على أن القضاء فهم بقوله تعالى:﴿ وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ * فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا ﴾ [الأنبياء: 78-79].

 

فخص الله سليمان بفهم القضية وعمها بالعلم.

 

وقد سأل رجل إياس بن معاوية أن يعلمه القضاء. فقال له أن القضاء لا يعلم، إنما القضاء فهم، ولكن قل علمني العلم. وقد أصاب إياس رحمه الله، فالعلم يمكن تحصيله، ولكن الفهم هو قدرة القاضي على فقه الواقع وأحوال الناس، وتميز الصادق من الكاذب، والمحق من المبطل وأنزل حكم الشرع على حقيقة الواقع فيحقق العدل.

 

• ومن فهم القضاء أيضاً ألا يتأثر القاضي بشائعات الناس وأقوالهم حول القضية المطروحة أمامه أو بما تنشره الصحف والمجلات أو تبثه الإذاعة أو يعرضه التليفزيون في عصرنا وقد نصح إياس غيره من القضاة فقال له: إياك وما يتتبع الناس من الكلام وعليك بما تعرفه من القضاء.

 

موقف إياس من الشهادة:

كان إياس بن معاوية يمحص الشاهد وشهادته، فإذا اطمئن إليها، واقتنع أنها تمثل الحقيقة أخذ بها وإلا طرحها.

 

وكان يقول: لست بخب والخب لا يخدعني. ويضاعف من قيمة إياس في نظرنا أنه لم يؤخذ برأي شيخه الحسن البصري في الشهادة إذ كان الحسن يرى أن كل مسلم مقبول شهادته ما لم يجرحه المشهود عليه فقد أقبل رجل إلى الحسن فقال: إن إياساً رد شهادتي.فقام معه الحسن فقال: يا أبا وائلة لم رددت شهادة هذا المسلم وقد قال صلى الله عليه وسلم (من صلى إلى قبلتنا فهو مسلم له ما لنا وعليه ما علينا).

 

فقال له إياس: يا أبا سعيد يقول الله تعالى:﴿ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ ﴾ [البقرة: 282]. وهذا ممن لا نرضاه. وقد فهم إياس الآية حق فهمها وإنها تضع للقضاة في كل زمان ومكان أن القاعدة في الشهادة حق اقتناع القاضي بها واطمئنانه إليها.

 

وكان لهذه القاعدة إشعاعتها وأثرها إذ امتدت إبان الحضارة الإسلامية في الأندلس إلى دول الديمقراطية الغربية ودخلت في تشريعاتها الإجرائية بعد أن كانت تسودها الشكلية الموروثة من القانون الروماني. ثم ردت إلينا فيما نقلناه من تشريعات إجرائية عن فرنسا وبلجيكا وان كان الواجب علينا أن نرد تشريعاتنا إلى أصولها بالالتزام بأحكام ومبادئ الكتاب والسنة التشريعية العامة.

 

وكان إياس على فهم عميق بالنفس الإنسانية يرد شهادة من لا يطمئن إليه وان كان حاكماً أو والياً ومقنعاً إياه ويصرفه عن الشهادة. ومن أمثلة ذلك أنه قد أقبل عليه «وكيع بن الأسود» والي خراسان ليشهد عند إياس بشهادة فقال له: مرحباً وأهلاً بأبي مطرف وأجلسه معه. ثم قال له: ما جاء بك؟ قال: لأشهد لفلان. فقال إياس: ما لك والشهادة، إنما يشهد التجار والموالي والسوقة فقال: صدقت وانصرف من عنده.

 

وذكر أبو الحسن المدائني في كتابه (كن إياس) أي فراسته أن معاوية بن قرة شهد عند ابنه إياس مع رجال عدلهم على رجل بأربعة آلاف درهم.

 

فقال المشهود عليه: يا أبا وائلة، تثبت في أمري فو الله ما أشهدتم إلا على ألفين.

 

فسأل إياس أباه والشهود: أكان في الصحيفة التي شهدوا عليها فضل(أي فراغ)؟ قالوا: نعم كان الكتاب في أولها، والطية في وسطها، وباقي الصحيفة أبيض. فقال: أفكان المشهود له يلقاكم أحياناً، فيذكركم شهادتكم بأربعة آلاف درهم؟ قالوا: نعم، كان لا يزال يلقانا فيقول: اذكروا شهادتكم على فلان بأربعة آلاف درهم فصرفهم، ودعا المشهود له فقال: يا عدو الله، تغفلت قوماً صالحين فأشهدتهم على صحيفة جعلت طيتها في وسطها، وتركت فيها بياضاً في أسفلها، فلما ختموا الطية قطعت الكتاب الذي فيه حقك ألفاً درهم، وكتبت في البياض أربعة. فصارت الطية في آخر الكتاب ثم كنت تلقاهم فتلقنهم وتذكرهم أنها أربعة آلاف. فأقر بذلك وسأله الستر. فحكم له بألفين وستر عليه.

 

وتدل هذه الواقعة في نظرنا على قدرة إياس على تحميص الشهادة وتقويمها وصولاً إلى وجه الحق في القضية المعروضة عليه.

 

من قضايا إياس وفقهه:

سجلت مدونات أخبار القضاة كثيراً من القضايا يالإياس ووصفه صاحب حلية الأولياء - أبو نعيم الأصبهاني- أنه صاحب الأحكام الماضية. وهي تعني بأسلوب العصر ولغته إن أحكام إياس تعد مبادئ وسوابق قضائية لا اختلاف عليها، ويستهدي بها القضاة من بعده ومن القضايا المشهورة عن إياس والتي تدل على ذكائه ودوره الإيجابي في الإثبات وتعويله على الأمارات والشواهد ما يلي:

أن شخصاً أودع لدى آخر كيساً به دنانير وغاب عنه لمدة خمسة عشر عاماً، فسولت نفس المودع لديه فتق الكيس من أسفله، وإبدال ما فيه بدراهم مع احتفاظ الكيس في ظاهره بحاله وختمه، وعندما تسلم المودع الكيس وتبين له الأمر اختصم المودع لديه.

 

وحقق إياس الواقعة وصولاً إلى حقيقة الواقع فيها، فسأل المودع: منذ كم أودعته؟

قال: من خمس عشرة سنة.

 

فقال للمودع لديه: ما رأيك؟ قال: صدق.

 

ففتح الكيس وفحص ما فيه فتبين لإياس إن من الدراهم ما هو مضروب من عشر سنين وخمس سنين. فألزم المودع لديه برد الوديعة.

 

وحيثيات إياس أن إقرار المودع لديه بالوديعة منذ خمس عشرة سنة ووجود عملات ضربت بعد تلك المدة فيه دلالة على جناية الوديع على الوديعة فألزمه بالضمان عملاً بالمبدأ الشرعي:

إن الوديع لا يضمن إلا لجناية منه على العين.

 

• اختصم رجلان إلى إياس، استودع  أحدهما صاحب وديعة فقال صاحب الوديعة: استخلفه بالله ما لي عنده وديعة فقال إياس: بل استخلفه بالله ما لك عنده وديعة ولا غيرها ويعلق الإمام بن القيم على موقف إياس في صيغة الحلف فيقول: إنه من أحسن الفراسة لأنه إذا قال «ما له عندي وديعة» احتمل النفي واحتمل الإقرار فينصب «ماله» بفعل محذوف مقدر. أي دفع ماله إيى، وأعطاني ماله، أو يجعل «ما» موصولة. والجار والمجرور وديعة خبر عن «ما». فإذا قال: «ولا غيرها» تعين النفي.

 

• جاء رجلان إلى إياس يختصمان في قطيفتين أحداهما حمراء والأخرى خضراء.

فقال أحدهما: دخلت الحوض لأغتسل ووضعت قطيفتي، ثم جاء هذا، فوضع قطيفته تحت قطيفتي ثم دخل فاغتسل، فخرج قبلي، وأخذ قطيفتي فمضى بها، ثم خرجت فاتبعته. فزعم أنها قطيفته، فقال: ألك بينة؟

 

قال: لا. قال: ائتوني بمشط. فأتى بمشط فسرح رأس هذا ورأس هذا. فخرج من رأس أحدهما صوف أحمر ومن رأس الآخر صوف أخضر. فقضى بالحمراء للذي خرج من رأسه الصوف الأحمر، وبالخضراء للذي خرج من رأسه الصوف الأخضر.

 

• عرضت قضية رهن على إياس. فقال الراهن: رهنته بخمسة. وقال المرتهن: بل رهنته بعشرة.

فسأل الراهن ألديك بينة على ما تقول؟

فقال: لا، وسأل عن الشيء المرهون؟ فقال: إنه بيد المرتهن فحكم إياس على أساس قول المرتهن.

 

ويعلق ابن القيم على هذا الحكم من الناحية الفقهية فيقول:

أنه من أحسن الأقوال، لأن إقرار المرتهن بالرهن وهو في يده ولا بينة للراهن دليل على صدقه، وأنه محق ولو كان مبطلاً لجحده رأساً. إذ أن بن تيمية ومالك رحمهما الله يجعلان القول المرتهن ما لم يزد على قيمة الرهن.

 

والشافعي وأبو حنيفة وأحمد- رحمهم الله- يجعلون القول قول الراهن مطلقاً.

 

محنة إياس القضائية:

ترجع أسباب هذه المحنة إلى أن والي البصرة عدي بن أرطاة انتصر لأحد الرعية برد زوجته إليه وقضى إياس على خلاف ما يريده. فقد كان إياس مثلاً للقاضي الذي لا يتبع الهوى ولا يخشى في الحق لومة لائم.

 

وتتحصل الواقعة في أن المهلب بن القاسم الهلالي كان ماجناً يشرب الخمر، وقد طلب من زوجته (أم شعيب بنت محمد الطائي) أن تشاركه شرابه، فأبت، فوضع أمامها قدحاً منه وأقسم عليها: أنها طالق بالثلاث إن لم تشربه، وكان لديها بعض النسوة حاولن أن يحملنها على شربه، ويبررن لها الأمر فلم يزدها ذلك إلا إصراراً. وكان في البيت طير واجن (أي ينام على بيضه ليفقس) فمر الطير بالقدح فكسره.

 

فقامت المرأة: وحمدت الله أن خلصها من ذلك الزوج الشرير وطلبت أهلها فحولوها إليهم ولكن المهلب جمد وقال لم أطلقها.

 

ومضى والد المهلب إلى عدي بن أرطاة وقال: غلبوا ابني على امرأته، فأمر الوالي بردها إليه.

 

ولكم المرأة لم ترض هذا القرار، وهي تؤمن بأن العدل قائم طالما إن إياس القاضي في البصرة، فخاصمت زوجها إليه وشهد أربع من النسوة بما حدث. فحكم إياس بوقوع الطلاق البائن بينونة كبرى لأنه كان يرى أن الطلاق الثلاث بلفظ واحد في مجلس واحد يقع ثلاثاً- وهو الرأي السائد في الفقه على خلاف اجتهاد شيخ الإسلام ابن تيمية الذي يرى أنه لا يقع إلا طلقة واحدة رجعية.

 

وجدير بالإشارة أن معظم التشريعات في الدول العربية حديثاً قد انتصرت لرأي ابن تيمية عدا المملكة العربية السعودية التي تتبنى معظم اجتهاداته:-

وقال إياس لزوجها: لئن قربتها لأرجمنك.

 

وما أن رأى الوالي حكم إياس حتى دبر لعزله وتوقع الحد عليه بمقوله أنه قذف المهلب واصطنع للأمر شاهدين، وكان القاسم بن ربيعة - المرشح من قبل لمنصب القضاء- موجوداً فاستخلفه عدي بن أرطاة ألا يعلم إياس بما دبر له. ولم يجد القاسم من وسيلة إلا أن مر على إياس عند عودته ليلاً فقالوا له: من؟ قال: القاسم بن ربيعة كنت عند الأمير فأحببت أن لا أصل إلى منزلي حتى أمر بك ومضى لسبيله.

 

وقد فهم إياس بذكائه أن الوالي دبر له بليل مؤامرة أحكمت خيوطها فعزر هارباً إلى واسط.

 

وقد يستاء البعض من ذكر هذه الحقائق التاريخية بمقولة أنها تشوه وجه التاريخ الإسلامي ومكانة القضاء فيه ومحاولة تدخل الولاة في شئون القضاء وتدبير المكائد لهم عند عدم تحقيق أهوائهم بيد أننا نرى أن الحقيقة لا تحمل ضغينة لأحد، وأن الحق والباطل والخير والشر والصراع بينهما قائم طالما أن السموات والأرض قائمة، وأنهما مناط الابتلاء والاختبار للبشر.

 

وقد يقول قائل لماذا لم ينتظر إياس؟ فإن الهرب ينزل من مكانته؟ ومثل إياس الذي يفقه واقع الناس ومن حوله يدرك أن ما دبر له قصد به إصابة العدل فيه فهاجر من الأرض التي لا يستطيع أن يقيم فيها العدل إلى «واسط» ولاية أخرى بالعراق.

 

فعلم بأمره واليها عمر بن هبيرة، فطلبه، ومضى إياس إليه فسأله: أتقرأ القرآن؟ قال: نعم. قال: أتفرض الفرائض؟ قال: نعم. قال: أتعرف من أيام العرب شيئاً؟ قال: نعم قال: أتعرف من أيام العجم شيئاً؟ قال: أنا بها أعرف.

 

فقال له الوالي: إني أريد أن أستعين بك على عمل.

فقال إياس: إن في خلال ثلاث لا أصلح معها للعمل؟!

 

قال: ما هي؟ قال إياس: دميم كما ترى، وحديد، وعى فقال الوالي: أما دمامتك فإني لا أريد أن أحاسن الناس بك، وأما العي فإني أراك تعبر عن نفسك وأما الحدة فإن السوط يقومك.

 

وأمر بتعيين إياس والياً على سوق واسط فحمل الأمانة وأدى الرسالة، وحقق العدل والأمن وسعدت به واسط بيد أن الحال لم يدم فقد عين أميراً آخر لواسط هو يوسف بن عمر وكانت له بعض مآرب في السوق ود أن يحققها له إياس فأبى العمل كلية فكان نصيبه الضرب العلني ستة وخمسين سوطاً تعزيراً بمقوله هذا الواجب تعين في إياس وامتنع عن القيام به..!

 

دفع شبهات عن إياس:

نسب إلى إياس التسرع في القضاء بين الخصمين، فسألهم إياس: خمسة أكثر أو ستة فقالوا: ستة قال: لقد أسرعتم في الجواب. قالوا: ومن يشك في خمسة أو ستة. فقال: فأنا لا أشك في ذلك الدقيق كما لا تشكون أنتم في هذا الجليل، فما لي أدفعه عن حقه.

 

وكان إياس كثيراً ما ينشد قول النابغة الجعدي:

أتى لي البلاء وأنا امرؤ
إذا ما تبنيت لم أرتب

 

وكان إياس يقول: أنا أكلم الناس بنصف عقلي فإذا اختصم إليّ اثنين جمعت عقلي كله.

 

والحق من إياس فمتى تبين للقاضي وجه الحق في المسألة المعروضة عليه، وجب عليه أن يعجل بإيصال الحق لأصحابه تحقيقاً للعدل، ولأن التأخير في الفصل في القضايا هو الظلم بعينه وقد يدفع صاحب الحق عن عدم المضي فيه يأساً من الحصول عليه.

 

• قيل عن إياس أنه على الرغم من كونه فقيهاً وقاضياً كان يلبس دون مستواه من الثياب. ويروى أنه أقبل على حلقة في مسجد دمشق فاستولى على المجلس ورأوه أحمر دميماً رث الثياب، فاستها نوابه، فلما عرفوه اعتزروا إليه وقالوا له: الذنب مقسوم بيننا وبينك، أتيتنا في زي مسكين تكلمنا بكلام الملوك فأجابهم إياس بالحق أن قيمة الإنسان في ذاته لا في لباسه، وثيابه هي من الكسب الطيب الذي يرتضيه لنفسه وتأبى نفسه أفخر الملابس وأغلاها إذا كان مصدرها الهدية أو غيرها من الأمور المشبوهة.

 

• قال إن إياساً كان معجباً بنفسه حتى قيل له: ما فيك غير عيب أنك معجب بقولك؟

 

فقال: أما عجبكم قولي؟ قالوا: نعم. قال: فأنا أحق أن أعجب بما أقول. وقد يقال أن هذا اعترافاً منه بالعجب، والعجب مذموم، لأنه إسراف الرجل في السرور بما يكون منه. والإفراط في استحسانه حتى يظهر ذلك في لفظه وشمائله والواقع أن قول إياس من باب معرفة النفس، وهي لا تدخل في باب تسمية العجب المذموم. وقد صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:(إن المؤمن من ساءته سيئته وسرته حسنته).

 

ولذلك كان إياس يقول لمتهميه: أتسمعون صواباً أم خطأ؟ قالوا: لا بل صواباً. فقال الزيادة من الخير خير.

 

ثناء العلماء على إياس:

اتفق العلماء على أن إياس بن معاوية ثقة ومن قضاة العدل. فيقول مؤرخ الإسلام الإمام الذهبي في ميزان الاعتدال في إياس «تابعي، ثقة، نبيل، ولى قضاء المثل بذكائه وعقله وفصاحته وأحكامه...»

 

ويذكر ابن حجر العسقلاني في كتابه تهذيب التهذيب أن ابن عون ذكر إياس عند ابن سيرين فقال: إنه لفهم.. وقال العجلى فيه: كان فقيهاً عفيفاً.

 

وقال عبد الله بن شؤذب: كانوا يقولون يولد في كل مائة سنة رجل تام العقل (أي عبقري) فكانوا يرون إياس بن معاوية منهم.

 

ونختم مقالتنا عن إياس بكلمة للجاحظ نراها خير معبر عن إياس إذا قال فيه:

من مقدمي القضاة، وكان فقيه البدن (أي مطبوع على الفقه لذكائه ونبوغه فيما أشكل منه أو غمض) دقيق المسلك في الفطن، وكان صادق الحدس نقاباً وكان عجيب الفراسة ملهماً، وكان عفيف المطعم، (أي لا يأكل إلا من حلال)، كريم المداخل، وجيهاً عند الخلفاء مقدماً عند الأكفاء.

 

رحم الله إياساً ومن كان على شاكلته من قضاة الإسلام.

 

وآخر دعوانا أن الحمدلله رب العالمين.





 حفظ بصيغة PDFنسخة ملائمة للطباعة أرسل إلى صديق تعليقات الزوارأضف تعليقكمتابعة التعليقات
شارك وانشر


 


تعليقات الزوار
2- رأيي في المقال
روان - السعوديه 02-11-2016 08:35 PM

أحسنتم النشر، وجزاكم الله كل خير وجعله في ميزان حسناتكم.

1- رحم الله اياس
محمد المهيدب - السعودية 17-11-2011 09:07 AM

جزى الله من كتب هذه العناوين

وأفادنا بالتعلم والتعليم

ثم إن القاضي اياس مشهور منذ صغرة بهذه الصفات

ولا أنسى الدكتور ::::

{{فؤاد عبد المنعم أحمد}}

1 

أضف تعليقك:
الاسم  
البريد الإلكتروني (لن يتم عرضه للزوار)
الدولة
عنوان التعليق
نص التعليق

رجاء، اكتب كلمة : تعليق في المربع التالي

شارك معنا
في نشر مشاركتك
في نشر الألوكة
سجل بريدك
  • السيرة الذاتية
  • حوارات
  • كتب
  • مقالات
  • أبحاث محكَّمة
  • أبحاث
  • قائمة المواقع الشخصية
حقوق النشر محفوظة © 1446هـ / 2025م لموقع الألوكة