• الصفحة الرئيسيةخريطة الموقعRSS
  • الصفحة الرئيسية
  • سجل الزوار
  • وثيقة الموقع
  • اجعلنا صفحتك الرئيسة
  • اتصل بنا
English Alukah
شبكة الألوكة شبكة إسلامية وفكرية وثقافية شاملة تحت إشراف الدكتور خالد الجريسي والدكتور سعد الحميد
 
صفحة الكاتب  موقع الشيخ زيد الفياضالشيخ زيد بن عبدالعزيز الفياض شعار موقع الشيخ زيد الفياض
شبكة الألوكة / موقع الشيخ زيد بن عبدالعزيز الفياض / مقالات


علامة باركود

النصيحة

الشيخ زيد بن عبدالعزيز الفياض


تاريخ الإضافة: 31/8/2010 ميلادي - 21/9/1431 هجري

الزيارات: 18980

 حفظ بصيغة PDFنسخة ملائمة للطباعة أرسل إلى صديق تعليقات الزوارأضف تعليقكمتابعة التعليقات
النص الكامل  تكبير الخط الحجم الأصلي تصغير الخط
شارك وانشر

رِضا الناس غايةٌ لا تُدرك، هذا صحيح، ولو أنْصَف الناس لاستراح القاضي، والنَّقْد النزيه ضروريٌّ بشرْط أن يكون بعيدًا عن الغايات السيِّئة والتشهير، وتعمُّد الإساءة، وتحميل الكلام ما لا يحتمل، واتباع العَوْرات، وتتبُّع العَثَرات، ولكنَّه النقد الباني، الذي يهدف إلى الإصلاح والتنبيه، وتعديل المعوَّج، واجتناب الخطأ.

 

والنصيحة لها شأنٌ في الدِّين معروف، حتى ورد في الحديث: ((الدِّينُ النصيحةُ))، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مِن شعائر الإسلام وشاراته، وقد لُعِنتْ أمَّةٌ تركتِ الأمرَ بالمعروف والنهي عن المنكر.

 

وإذًا فإنَّ التنبيهَ والتعاون والتناصح، وبيان الحق في غير استعلاء، أو عدوان، أو إشاعة للفاحشة، أو قصْد الانتقام - هي من الأمور الدالَّةِ على سلوك الطريق الصحيح، والمحجَّة البيضاء.

 

أمَّا الذي يَكيل المديحَ، ويُسرِف في الإطراء، ويغفل عن الأخطاء؛ طمعًا في نَيْل مغنم، أو سلامة من مَغْرم، فذلك مزوِّر للحقائق، مشجِّع على التمادي في الخطأ، يزيِّن الباطل، ويتجاهل الحقّ، ويُعين على التردِّي في الهاوية، فلا ينبغي الشطط، والعنف والتهور، ولا يَحسُن الغلو والإطراء والتزييف، وخيرُ الأمور أوساطُها.

 

رجال الحسبة:  

منذ سنوات اجتمعتُ بصحفي من أحد الأقطار العربية، وكان معنا بعضُ الأصدقاء، واستغرب وجودَ النوَّاب (رجال الحسبة)، وتصوَّر أنَّ مثل ذلك يُعدُّ مظهرًا من مظاهر التخلُّف في هذا العصر، وقلتُ له: إنَّ هؤلاء يأمرون بالمعروف، وينهَوْن عن المنكر، ويحثُّون الناسَ على الصلاة، وفعْل الخير وينصحون، ويذكِّرون بالطيِّب من القوْل والعمل، فأيُّ ضَيْر في وجودهم؟ ثم إنهم يأتون للناس علانيةً، فالمقصودُ من وجودهم التعاون؛ لإزالة المنكرات، ودفْع الشرّ، أما في البلدان الأخرى، فقد أهملوا الأمرَ بالمعروف والنهي عن المنكر، فتفاقمتِ الشرور عندهم، ثم إنهم يجعلون شُرَطة للآداب تعتمد على التنكُّر، والتجسُّس على الناس وملاحقتهم.

 

فوجودهم يُسبِّب الفضائح، وتتبُّع عوْرات الناس، وذلك ممَّا جاء الشَّرْع بإنكاره وعَيْبه، وكأنَّ هدف شُرَطة الآداب الاطلاعُ على أحوال الناس، والتجسُّس عليهم، وليس إزالةَ المنكر، والحثَّ على المعروف، فأيُّهما أجدى؟! ولستُ أدري هل اقتنع الصحفي المومَى إليه، أم أنَّه ظلَّ على رأيه؟!


طريقة متباينة:  

كانَا من ذوي الغَيْرة الدِّينيَّة، ولكن طريقتهما في معاملة الناس مختلفة، فواحدٌ منهما كان يتكلَّم بألفاظ قاسية، وأسلوبٍ خَشِن، ويتهدَّد ويتوعَّد من غير أن يكون لذلك داعٍ، فتكون النتيجةُ العنادَ والنفور، وكراهيةَ هذا النَّوْع من الناس، وتصبح الهُوَّة سحيقة.

 

أما الآخَرُ فكان يَعِظ برِفْق، ويدعو بالتي هي أحسن، ويُرشِد رغبةً في الخير، وحضًّا عليه.

 

ومع أنه قد يلجأ للقسوةِ إذا لم يُجْدِ اللِّين، فإنَّه يبدأ بالحسنى، وهمُّه أن يُصلِح الناس، ويتَّقوا الله، على عكس الأوَّل الذي يُشنِّع ويرجف، ويَكيل التُّهم بلا حساب.

 

فكان الناس يَقْبلون من صاحب اللِّين والرِّفْق، ويأنسون به، ويُصغون لإرشاداته بنفسٍ راضية، وقلوب متعطشة للحِكمة والموعظة الحسنة، والرُّجوعِ إلى الحق.

 

أما الثاني: فكان كلامُه كالصَّخْر، وهو مُبْغَضٌ لا يجد سامعًا ولا محبًّا، ولا يُنتفع بكلامه.

 

وهكذا كان الفارق عظيمًا، والنتيجة متغايرة.

 

الصبر مِفتاح الفرج:  

الصبر مِفتاحُ الفَرَج، وقد حثَّ الله على الصَّبْر ومدَحَه، ونَدَب إليه، وأثْنَى على الصابرين، ووعدَهم بتوفية أجْرهم ﴿ إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ ﴾ [الزمر: 10]، وما فتئ الناسُ في كلِّ جيل وبلد يَروُون قصصَ الصبر، معجَبِين بها، مُثنِين على مَن كان صابرًا حازمًا، ذامِّين الجَزُوعَ الهَلُوع، والجبانَ الخائر، والذليلَ المحتقر، وأحقُّ الناس بعدَ الأنبياء بالصبر والتجلُّد والعزم، وأولاهم هم المؤمِنون.

 

وما قدَّر الله فهو واقع لا محالة، ومَن الذي يَقْوى على ردِّ ما كتبه الله وقضاه؟!


وقد دار المثل على ألْسنة الناس: "الصبر مِفتاح الفرج"، وتناقلوه جيلاً بعدَ جيل.

 

وقد جاءتِ الكتب السماوية، والأحاديث النبوية، داعيةً للصبر، مُرغِّبةً فيه، وردَّد العلماء والحُكماء كثيرًا من الإعجاب بالصَّبْر والصابرين، فالحياةُ فيها الصفاء والكَدَر، وفيها الحسن والقبيح، وفيها الهُدوءُ والزعازع، وفيها السارُّ والمحزِن، وفيها المضحِك والمبكي، قال بعضُ العلماء: الصبر جنَّة المؤمن، وعزيمة المتوكِّل، وسبب دَرْك النجح في الحوائج.

 

الصبر والشكر:  

فالصَّبْر على الضرَّاء، والشُّكر عندَ الرخاء، والاتِّكال على الله، والرِّضا بقضائه وقَدَرِه، وفعْل الأسباب، مع الإيمان بأنَّ الله هو الخالِق الرازق، المعبود وحدَه دون ما سواه، وأنَّه لن يحصل للإنسان إلاَّ ما قُدِّر له.

 

تلك وغيرها مِن صفات المؤمنين الموقِنين، الذين هداهم الله ووفَّقهم لطاعته، وثبت يقينُهم، فكانوا معالِمَ في الهدى، ومنارًا في الظلماء، وكانوا أهلَ الاطمئنان، والراحة النفسيَّة، وهدوء البال، وفي الآخِرة يُوفَّوْن أجْرَهم بغير حساب.

 

 قال بعض العلماء يعزِّي مصابًا بفادحة:

لو كان ما يَمسُّك من أذى يُشتَرَى أو يُفتدى، رجوتُ أن أكونَ غير باخل بما تضنُّ به النفوس، وأن أكون سترًا بينك وبين كلِّ ملمٍّ ومحذور، فأعظمَ الله أجْرَك، وأجْزَل ذُخرَك، ولا خَذَل صبرَك، ولا فَتَنك، ولا جعل للشيطان حظًّا فيك، ولا سبيلاً عليك.

 

لَمَّا سقطت ثَنيِّتَا معاوية لفَّ وجهَه بعمامة، ثم خرج إلى الناس، فقال: لئن ابتليتُ، لقد ابتُليَ الصالحون قَبْلي، وإني لأرجو أن أكونَ منهم، ولئن عوقبتُ لقد عوقِب الخاطئون قبْلي، وما آمنُ أن أكون منهم، ولقد سَقَط عُضوان مني، ولو أنِّي على نفسي لَمَا كان لي عليه خيارٌ - تبارك وتعالى - فرحم الله عبدًا دعَا بالعافية، فوالله لئن عتب عليَّ بعضُ خاصتكم، لقد كنتُ حدبًا على عامَّتِكم.

 

دعاء:  

يا ربِّ إنَّا فقراء إليك، محتاجون لعوْنك، فسدِّد خُطانا، وثبِّتْنا على الحق، ولا تجعلنا من القانطين.

 

وقال أبو الأسود الدؤلي[1]:

تَعَوَّدْتُ مَسَّ الضُّرِّ حَتَّى أَلِفْتُهُ
وَأَسْلَمَنِي طُولُ الْبَلاَءِ إِلَى الصَّبْرِ
وَوَسَّعَ صَدْرِي لِلْأَذَى كَثْرَةُ الْأَذَى
وَكَانَ قَدِيمًا قَدْ يَضِيقُ بِهِ صَدْرِي
وَصَيَّرَنِي يَأْسِي مِنَ النَّاسِ رَاجِيًا
لِسُرْعَةِ لُطْفِ اللَّهِ مِنْ حَيْثُ لاَ أَدْرِي

 

التفاؤل:  

هل أنت متفائِلٌ تنظر للأشياء بمِنظار أبيضَ؟ وهل أنت ممَّن يشكرون الله على نِعمه الجَمَّة، وآلائه الكثيرة؟

وهل أنت ممَّن يتمتَّع بما رُزِق، مقدِّرًا لما وُهِب، مستفيدًا مما يملك؟

هل أصغيتَ للعصافير تُزقْزِق في الصباح؟

وهل تطلعتَ للشمس حين غروبها، وتأمَّلتَ الفجر عند طلوعه؟

وأيَّ جمال وروعة تشهدُها عندَ ذاك؟

ألَمْ تُبصرِ المطر وهو يتساقط كحبَّات اللؤلؤ، وتُبْصر الحدائقَ الغنَّاء، يتضوَّع أريجها، ويفوح رِيحُها، وتبسم ورودها وأزاهيرها؟

ألَمْ تُفكِّر فيما أعطاك الله مِن صحَّة ومال وولد، وأمْن وهدوء؟

ألَمْ تتبصَّر فيما وفَّقك الله من عبادة وعِلْم، وعقل وفَهْم؟


إنها أمور يتعذَّر حصرُها، ويصعب استيفاؤها، لو تأملها المرء لوجَدَ أنه يتقلَّب في نِعم عظيمة، ويرفُل في ثياب من الهناء والمسرَّات قد لا يشعر بها! فلماذا لا يتفكَّر الإنسان في ذلك، ويحمد الله؛ ليزيدَه، ويَذْكُره ليثيبَه ولينعم بما أُوتي، بعيدًا عن القلق والتصوُّرات الخاطئة، التي تُكدِّر عَيْشَه، وتنغِّص حياتَه، وتُفوِّت عليه أوقاتًا هنيئة، وسعادةً رائعة.

 

الفرج بعد الشدَّة:  

كانتِ الأرض مُجْدبة، والمَحْل قد عمّ، وتحوَّلت الأراضي الخضراء إلى أراضٍ جرداءَ قاحلة، وهلكتِ المواشي، وكاد اليأس يستولي على النفوس، والقنوط من نزول الأمطار، وارتواء الأراضي، وإنباتها من كلِّ زَوْج بهيج - أن يغلب الأمل، ولكن رحمة الله أوسعُ، ولطفه أعظمُ، فنزلت الأمطارُ بغزارة، وكثُرتِ السيول، وارتوتِ النخيل والزروع، وحَيَتِ الأرض، واخضرَّ شيحها وقيصومها، وأزهر حوذانها وأقحوانها، وفاح رَوْضُها وعبق خزامها، واكتستْ بوشاح أخضرَ، تلمع أزاهيره، فإذا هو مُنْية المتمنِّي، وسلوة المُعنَّى، وبهجة المتعَب، وهكذا يأتي الفرج بعدَ الشِّدَّة، والرخاءُ بعد العناء، ولله حِكمٌ تُبهِر العقول، وتعجز الخلائق عن الإحاطة بها، فسبحان الله، ما أعظمَ شأنَه، وأعزَّ سلطانَه!

 

الظبي:

قال صاحب "المُستطرَف في كلِّ فن مُسْتظرَف":

ظبي - واحد الغزلان، وهو ثلاثةُ أصناف:

الأول: الآرام، وهو ظِباء الرمل، ولونها رماديّ، وهي سمينة العُنق.

والثاني: العقر، ولونها أحمر، وهي قصيرة العُنق.

والثالث: الأدم، وهي طويلة العُنق، وتُوصَف بحدَّة البصر.

 

وقيل: إنَّ الظبي يقضم الحنظل قضمًا، ويمضغه مضغًا، وماؤه يسيل مِن شِدقيه، ويردُ الماءَ الملح، فيشرب الماء الأُجاج، ويغمس خرطومَه فيه كما تغمس الشاةُ لحييها في الماء العَذْب، فأيُّ شيء أعجب من حيوان يستعذِب ملوحةَ البحر، ويستحلي مرارةَ الحنظل؟!


الأمل:

الأمل فيه النِّعْمة والنِّقْمة، والمسرَّة والمضرَّة، والاستعداد والهلاك، فمِن الآمال ما يرتفع بصاحبه إلى أوجِّ العُلى، ويشمخ به إلى ذُرى العِزّ، ومن الأماني ما يُصيب صاحبَه بالجشع والغرور، ويُورِده مواردَ العطب والمتاهات، وكم في الأمل مِن مُتنفَّس للمكروب، وفسحة للمعسِر، ومجال يتوخَّى فيه إبعاد الضائقة، وانفراج الأزمة.

أُعَلِّلُ النَّفْسَ بِالْآمَالِ أَرْقُبُهَا
مَا أَضَيْقَ الْعَيْشَ لَوْلاَ فُسْحَةُ الْأَمَلِ

 

ومن الآمال الكاذبة سرابٌ خادِع، ووهمٌ قاتل، وطلاء زائِف، ينقاد مُتَّبعُه إلى حَتْفه، ويُردِيه في أسوأ المهالِك، يَعِدُهم ويُمنِّيهم، وما يعدهم الشيطان إلاَّ غرورًا.

 

♦ قال الحسن: ما أطال عبدٌ الأمل، إلاَّ أساء العمل.

 

♦ وقال الشاعر:

يَا رَاقِدَ اللَّيْلِ مَسْرُورًا بِأَوَّلِهِ
إِنَّ الْحَوَادِثَ قَدْ يَطْرُقْنَ أَسْحَارَا

 

♦ قال شيخ من أهل المسجد: ما كنتُ أريد أن أجلسَ إلى قوم إلاَّ وفيهم من يُحدِّث عن الحسن، ويُنشِد عن الفرزدق.

 

يوم لك ويوم عليك:

عتب عليَّ عاتبٌ ذات مرَّة، عندما قدَّمتُ في بعض الفقرات شيئًا من الخواطر الحزينة، والذِّكريات المريرة لواقِعنا القريب، ورأى أن يكونَ الحديث - وهو في استقبال يوم جديد - مَرِحًا بهيجًا متفائلاً.

 

ومع تقديري لوجهة نظرِه، فقد قلت له: إنَّ الحياة ليستْ بهيجةً دائمًا، وليستْ كلُّها مَرَحًا وفَرَحًا، وليستْ هزلاً ولهوًا، ولكنَّها خليطٌ من الجِدّ والمزح، والمسرَّة والحزن، ومن القسوة واللِّين.

 

فماذا يمنع أن يكون الحديثُ مُنوَّعًا، وأن يكون موجَّهًا معبرًا، فلا ينزوي في ناحية معينة، ولا يتهرَّب من معالجة المشكلات، وهل يجدر بنا أن نغفل عن واقعنا، ونُصدَّ عن مشكلاتنا ونحن نعيش في أدقِّ مرحلة، ونُجابه أشرسَ عدوٍّ وأغدره، وبلادنا مُصوَّبة نحوَها السِّهام، وهي في موقع هامّ، وثرواتها كثيرة، وخيراتها وافرة، والصِّدِيق يتطلَّع لها، متمنيًا لها الهناء والسعادة والتطوُّر، والعدوُّ ينظر لها نظرةَ طمع، وحقد وعداء؟!


وروابطها بالعالَم الإسلامي متينة، ومسؤولياتها عظيمة، وقادتُها وعلماؤها وجندُها، وسائرُ الفِئات الصالحة تعضد عنايتَها بأمور المسلمين في شتَّى أقطارهم، وعلى اختلاف أجناسهم.

 

ومشاكلهم في فلسطين وأريتريا، وكشمير وقبرص، وتشاد والتركستان، وزنجبار وتركيا، ويوغسلافيا والهند - عويصةٌ، والعدوان عليهم مِن قِبل أعداء الإسلام في ضَراوة وحنْق ولؤم، يَزداد قساوةً وشراسة، فلا يليق أن تُغفل هذه المواضيع المهمَّة، وتترك جانبًا.

 

♦ خَطَب قُتَيبة بن مسلِم على مِنبر خراسان، فسقط القضيبُ من يَدِه، فتفاءل له عدوُّه بالشرّ، واغتمَّ له صديقُه، فعرف ذلك قتيبة، فقال: ليس الأمرُ على ما ظنَّ العدوُّ، وخاف الصَّدِيق، ولكن كما قال الشاعر:

فَأَلْقَتْ عَصَاهَا وَاسْتَقَرَّ بِهَا النَّوَى
كَمَا قَرَّ عَيْنًا بِالْإِيَابِ الْمُسَافِرُ

 

♦ قال عِكرمة: كنا جلوسًا عندَ ابن عمر وابن عبَّاس - رضي الله عنهما - فمرَّ طائر يصيح، فقال رجل من القوم: خير، فقال ابن عباس: لا خير، ولا شرّ.

 

♦ قال كعب لابن عبَّاس: ما تقول في الطِّيرة؟ قال: وما عسيتُ أن أقول فيها، لا طيرَ إلاَّ طيرُ الله، ولا خيرَ إلا خيرُ الله، ولا إله إلا الله، ولا حول ولا قوة إلا بالله، فقال كعب: إنَّ هذه الكلمات في كتاب الله المنزَّل؛ يعني: التوراة.

 

العفو عند المقدرة:

العفو عندَ المقدِرة من الخِصال الحميدة التي تستهوي النفوسَ، وتستجلب الثناء، وتبعث على الإشادة بها، والتنويه بها، وهي خَصلة صَعْبة المرتقَى، جميلة النهاية، ذلك أنَّ الذي يستطيع التغلُّبَ على عاطفة الانتقام، ومجاهدة النفس في موْطِن يشرئب فيه الإنسانُ إلى إرواء ظمئِه المتعطِّش للتشفي - هم قلَّة من كثرة، وندرة بين جمهرة، فلا عجب أن حازوا الثناء، واستحقُّوا التقدير والإعزاز، ورُويتْ قصصُهم مثلاً حريًّا بالاقتداء.

 

♦ قيل: أَسَر مصعب بن الزبير رجلاً من أصحاب المختار، فأمر بضَرْب عنقه، فقال: أيُّها الأمير، ما أقبح بك أن أقوم يومَ القِيامة إلى صورتك هذه الحسنة، فأتعلَّق بأطرافك، وأقول: ربِّ سلْ مصعبًا فيما قتلني؟ فقال: أطلقوه، فقال: أيُّها الأمير، اجعل ما وهبتَ لي من عمري في خفْض عَيْش، فقال: أعطوه مائةَ ألف درهم، قال: بأبي أنت وأمِّي، أُشْهِدك أنَّ لابن قيس الرقيات منها خمسين ألفًا، قال: لِم؟ قال: لقوله فيك:

إِنَّمَا مُصْعَبٌ شِهَابٌ مِنَ اللَّ
هِ تَجَلَّتْ عَنْ وَجْهِهِ الظَّلْمَاءُ
مُلْكُهُ مُلْكُ رَأْفَةٍ لَيْسَ فِيهِ
جَبَرُوتٌ وَلاَ لَهُ كِبْرِيَاءُ

 

فضَحِك مصعب، وقال: لقد تلطفتَ، وإن فيك لموضعًا للصَّنيعة، وأمر له بمائة الألف، ولابن قيس الرقيَّات بخمسين ألف درهم.

 

♦ كان محمَّد بن حُمَيد الطُّوسي على غَدائه يومًا مع جلسائه، وإذا بضجَّة على باب داره، فرَفَع رأسه، وقال لبعض غلمانه: ما هذه الضجَّة؟ من كان على الباب فليدخل، فخرج الغلام ثم عاد إليه، وقال: إنَّ فلانًا أخذ، وقد أُوثق بالحديد، والغلمان ينتظرون أمرَك فيه، فرفع يدَه عن الطعام، فقال رجل من جلسائه: الحمدُ لله الذي أمكنَك من عدوِّك، فسبيله أن تسقي الأرْضَ من دَمِه، وأشار كلٌّ من جلسائه عليه بقَتْله على صِفة اختارها، وهو ساكت، ثم قال: يا غلام، فكَّ عنه وَثاقَه، ويدخل إلينا مكرمًا، فأدخل عليه رجلٌ لا دم فيه، فلمَّا رآه هشَّ إليه، ورفع مجلسه، وأمر بتجديد الطعام، وبسَطَه بالكلام ولقمه، حتى انتهى الطعام، ثم أمَر له بكسوة حَسَنة وصِلة، وأمر بردِّه إلى أهله مكرمًا، ولم يعاتبه على جُرْم ولا جناية.

 

ثم التفَتَ إلى جُلسائه، وقال لهم: إنَّ أفضل الأصحاب مَن حضَّ الصاحب على المكارِم، ونهاه عن ارْتكاب المآثِم، وحسَّن لصاحبه أن يجازيَ الإحسان بضِعْفه، والإساءةَ بصَفْحه، إنَّا إذا جازينا مَن أساء إلينا بمِثل ما أساء، فأين موقِعُ الشكر على النِّعمة فيما أتيح مِن الظفر؟!


إنَّه ينبغي لِمَن حضر مجالس الملوك أن يُمسك إلاَّ عن قولٍ سديد، وأمْر رشيد، فإنَّ ذلك أدومُ للنِّعمة، وأجمع للأُلْفة، إنَّ الله - تعالى - يقول: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا ﴾ [الأحزاب: 70 – 71].

 

الكلمة الحسنة:

الكلمة الطيِّبة تَجلب الودّ، وتُزيل الجفاء، وتَغْرس الصفاء والوئام، فكم سكَّنت مِن ثورة الغاضب، وقرَّبت من ودِّ الحانق، وهدَّأتْ مِن فِتْنة! وللاعتذار في الأدب العربي شأنٌ كبير.

 

وقصائد النابغة الذُّبْياني، وأبي سفيان بن الحارث، وكعْب بن زهير، والمتنبي وغيرهم تُردِّد أصداءها الأجيال، ويتناشدها الرُّواة كفنٍّ سامِق في دوْحة الأدب، وذروة شامخة في استجلاب الودّ، وإبعاد الكدر من النفوس.

 

♦ كان المنصورُ غاضبًا على الشاعر إبراهيم بن هَرْمة لشِعر قاله، ثم إنَّه وفَد على المنصور في وفْد أهل المدينة، فجلسوا إلى سِتر دون المنصور، يرى الناسَ من ورائه ولا يرونه، وأبو الخُصَيب الحاجب واقفٌ يقول: يا أميرَ المؤمنين، هذا فلان الخطيب، فيأمره فيخطب، ويقول: هذا فلان الشاعر، فيأمره فينشد، حتى كان من آخرهم ابن هَرْمة، فحين قدَّمه أبو الخصيب، قال المنصور: لا مرحبًا ولا أهلاً، ولا أنعم الله بك عينًا! فسمعها ابن هَرْمة وأُسْقِط في يده، وقال في نفسه: هلكت، ثم استنشده قصيدتَه التي يقول فيها:

سَرَى ثَوْبَهُ عَنْكَ الصِّبَا الْمُتَجَابِلُ
وَقَرَّبَ لِلْبَيْنِ الْخَلِيطُ الْمُزَايلُ

 

حتى انتهى إلى قوله:

فَأَمَّا الَّذِي أَمَّنْتَهُ يَأْمَنُ الرَّدَى
وَأَمَّا الَّذِي حَاوَلْتَ بِالثُّكْلِ ثَاكِلُ

 

فأمَر برفْع الحِجاب، فإذا وجهُه كأنه فلقة قمر، فاستنشده بقيَّة القصيدة، وأمره بالقُرْب بين يديه، والجلوس إليه، ثم قال: ويحَك يا إبراهيم، لولا ذنوبٌ بلغتْني عنك لفضلتُك على أصحابك، فقلت: يا أميرَ المؤمنين، كلُّ ذنب بلغك عني لم تعفُ عنه، فأنا مقرٌّ به، قال: فتناول المخصرة فضرَبَني بها ضربتَين، وأمر لي بعشرة آلاف وخلعة، وعفا عني، وألحقني بنظرائي، وكان من جملة ما نَقَم عليه المنصور قوله:

وَمَهْمَا أُلاَمُ عَلَى حُبِّهِمْ
فَإِنِّي أُحِبُّ بَنِي فَاطِمَهْ
بَنِي بِنْتِ مَنْ جَاءَ بِالْمُحْكَمَاتِ
وَبِالدِّينِ وَالسُّنَّةِ الْقَائِمَهْ
فَلَسْتُ أُبَالِي بِحُبِّي لَهُمْ
سِوَاهُمْ مِنَ النَّعَمِ السَّائِمَهْ

 

العفو أولى:

عَزَم عبدالله بن عليٍّ على قتْل بني أميَّة بالحجاز، فقال له عبدالله بن حسن بن حسن بن علي بن أبي طالب - رضي الله عنهم -: إذا أسرعتَ بالقتل في أكفائك، فمَن تُباهي بسلطانك؟! فاعفُ يَعْفُ الله عنك.

 

♦ ودخل ابن خزيم على المهدي - وقد عَتَب على بعض أهل الشام، وأراد أن يُغزيهم جيشًا، فقال: يا أمير المؤمنين، عليك بالعفو عن المذنب، والتجاوز عن المسيء، فلأنْ تُطيعَك العرب طاعةَ محبَّة، خيرٌ لك من أن تطيعَك طاعةَ خَوْف.

 

♦ كان معن بن زائدة قد أمر بقتْل جماعةٍ من الأسرى، فقام إليه أصغرُ القوم فقال: يا معنُ أتقتل الأسرى عطاشًا؟ فأمر لهم بالماء، فلمَّا سقوا، قال: يا معن: أتقتل ضِيفانَك؟! فأمر معن بإطلاقهم.

 

♦ أمر عمر بن عبدالعزيز بعقوبة رجل، فقال له رجاءُ بن حَيْوة: يا أمير المؤمنين، إنَّ الله قد فَعَل ما تحبُّ من الظفر، فافعلْ ما يحبُّ من العفو.

 

وقال رجاء بن حَيْوة لعبدالملك بن مرْوان في أسارى ابن الأشعث: إنَّ الله قد أعطاك ما تحبُّ من الظفر، فأعطِ اللهَ ما يحبُّ من العفو.

 

♦ قال المأمون لإسحاق بن العباس: لا تحسبني أغفلتُ إجلابَك مع ابن المهلب، وتأييدك لرأيه، وإيقادك لناره.

 

قال: يا أمير المؤمنين، واللهِ لإجرامُ قريش إلى رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - أعظمُ من جُرْمي إليك؛ ولرَحِمي أمسُّ مِن أرحامهم؛ وقد قال كما قال يوسف لإخوته: ﴿ لاَ تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ ﴾ [يوسف: 92]، وأنت يا أميرَ المؤمنين، أحقُّ وارثٍ لهذه المنَّة، وممتثل بها.

 

قال: هيهات، تلك أجرام جاهلية عفَا عنها الإسلام، وجُرْمك جرم في إسلامك، وفي دار خلافتك!

 

قال: يا أمير المؤمين، فوالله لَلمُسلمُ أحقُّ بإقالة العَثْرة، وغفران الزلَّة من الكافر، هذا كتاب الله بيني وبينك، يقول الله - تعالى -: ﴿ وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِين ﴾ [آل عمران: 133 - 134]، فهي للناس يا أميرَ المؤمنين سُنَّة دخل فيها المسلِم والكافر، والشريف والمشروف.

 

قال: صدقتَ، اجلس وَرِيت بك زنادي، فلا قدح زنادي من العابرين من أهلك أمثالك.

 

♦ قَتَل رجلٌ من العرب ابنَ أخيه، فدُفع إلى أخيه لِيَقيده، فلمَّا أهوى بالسيف أُرعدتْ يداه، فألقى السيف من يدِه وعفا عنه، وقال:

أَقُولُ لِلنَّفْسِ تَأْسَاءً وَتَعْزِيَةً
إِحْدَى يَدَيَّ أَصَابَتْنِي وَلَمْ تُرِدِ
كِلاَهُمَا خَلَفٌ مِنْ فَقْدِ صَاحِبِهِ
هَذَا أَخِي حِينَ أَدْعُوهُ وَذَا وَلَدِي

 

 

♦ دخل محمَّد بن واسِع على قُتَيبة بن مسلم والي خُراسان، وعليه مدرعةُ صوف، فقال له قُتيبة: ما يدعوك إلى لَبْس هذه؟ فسكت، فقال قُتَيبة: أُكلِّمك فلا تجيبني؟ قال: أكره أن أقول: زُهدًا فأُزكِّي نفسي، أو أقول: فقرًا فأشكو ربِّي.

 

التواضع:

التواضُع صِفة محبوبة، وخلَّة محمودة، يَلْقَى صاحبه التقدير والحبّ، ويُقابَل بالترحيب والوُدّ، أما المتكبِّر فعلى النقيض من ذلك، فهو مُزدرًى محتقَر، والناس له كارهون، وعن وُدِّه نافرون، لا يألف ولا يُؤلف، وبقدر ما يعلو في نفسه ويتعاظم في غُروره، فإنه يهبط دَرَكات، ويمقتُه الأباعِد والأقارب، فهو في شقاء وعناء، ولأمرٍ ما يكون المتكبِّرون يومَ القيامة عند حشْرهم في صور الذرِّ، يطؤهم الناس بأقدامهم؛ معاملةً لهم بعكس ما أمَّلوا، وجزاء ما غمطوا وتجبَّروا.

 

♦ وقال أحمد بن عبد ربِّه الأندلسي:

وَجْهٌ عَلَيْهِ مِنَ الْحَيَاءِ سَكَينَةٌ
وَمَحَبَّةٌ تَجْرِي مَعَ الْأَنْفَاسِ
وَإِذَا أَحَبَّ اللَّهُ يَوْمًا عَبدَهُ
أَلْقَى عَلَيْهِ مَحَبَّةً لِلنَّاسِ

 

♦ قال رجاء بن حَيْوة لعبدالعزيز بن عمر بن عبدالعزيز: ما رأيتُ أكرمَ أدبًا، ولا أكرمَ عِشرةً من أبيك، سمرتُ عندَه ليلة فبينا نحن كذلك إذ عشَى المصباح، ونام الغلام، فقلتُ: فلو أذنتَ لي أصلحتُه، فقال: إنه ليس من مروءة الرجل أن يستخدِمَ ضيفَه، ثم حطَّ رِداءَه عن منكبه، وقام إلى الدابة فصبَّ من الزَّيْت في المصباح، وأشْخص الفَتيلة، ثم رجع، وأخذ رداءَه، وقال: قمتُ وأنا عمر، ورجعتُ وأنا عمر.

 

♦ وقال الفضل بن سهل: من كانت ولايته فوق قدره تكبَّر لها، ومن كانت ولايته دون قدره تواضع لها.

 

الوفاء:

يُعرَف الحليم عندَ الغضب، ويتبيَّن السخيُّ عند الإقلال، ويبرز الشُّجاع في ساعات الحَرَج، ويتجلَّى الوفاء ساعةَ يُسلِم الخليلُ خليلَه، والصاحبُ قرينَه، ويسطِّر التاريخ صورًا وضَّاءة للخِلال الكريمة، ترويها الأجيال، ويتناقلها الناس، معجَبين بها، مؤمِّلين أن يقووا على الاقتداء بها.

 

وفاء عبدالحميد الكاتب:

كان عبدالحميد بن يحيى بن سعيد العامري الكاتب على صِلة بمرْوان بن محمَّد - آخر خلفاء بني أمية - وكتب له، فلما بلغ مرْوان مبايعةُ أهل الشام له سجد شكرًا لله، وسجَد مَن كان معه، إلاَّ عبدالحميد، واستغرب مرْوان منه ذلك، وسأله عن سبب تأخُّره عن السجود، فقال: ولِمَ أسجد؟ أعلى أن كنتَ معنا فطِرتَ عنَّا؟ فقال مرْوان: إذًا تطير معي، قال: الآن طاب السُّجود، واتَّخذه مرْوان كاتبَ دولته.

 

ولما قامتِ الدولة العباسيَّة بتضييق الخِناق على مرْوان ومطاردته، وإلْحاق الهزائم المتكرِّرة به، كان عبدالحميد يُشاطِره الشدائد، فقال له مرْوان: قد احتجتَ أن تصيرَ مع عدوي، وتُظهر الغدرَ بي، فإنَّ إعجابَهم بأدبك، وحاجتَهم إلى كتابتك يحوجهم إلى حُسْن الظنِّ بك، فإن استطعتَ أن تنفعني في حياتي، وإلاَّ لم تعجزْ عن حِفظ حَرَمي بعدَ وفاتي، فقال عبدالحميد: إنَّ الذي أشرتَ به عليَّ أنفعُ الأمرين لك، وأقبحهما بي، وما عندي إلاَّ الصبر، حتى يفتحَ الله عليك، أو أقتل معك.

 

وأنشد:

أُسِرُّ وَفَاءً ثُمَّ أُظْهِرُ غَدْرَةً
فَمَنْ لِي بِعُذْرٍ يُوسِعُ النَّاسَ ظَاهِرُهْ

 

وبقي حتى قُتِل مرْوان، ثم أُخِذ إلى السفَّاح فقتله.

 

♦ وقال القطامي:

وَالنَّاسُ مَنْ يَلقَ خَيْرًا قَائِلُونَ لَهُ
مَا يَشْتَهِي وَلِأُمِّ الْمُخْطِىءِ الْهَبَلُ
قَدْ يُدْرِكُ الْمُتَأَنِّي بَعْضَ حَاجَتِهِ
وَقَدْ يَكُونُ مَعَ الْمُسْتَعْجِلِ الزَّلَلُ
وَرُبَّمَا فَاتَ قَوْمًا بَعْضُ أَمْرِهِمُ
مِنَ التَّأَنِّي وَكَانَ الْحَزْمُ لَوْ عَجِلُوا
وَالْعَيْشُ لاَ عَيْشَ إِلاَّ مَا تَقَرُّ بِهِ
عَيْنٌ وَلاَ حَالٌ الاَّ سَوْفَ تَنْتَقِلُ

 

لا تغضب:

قال رجل للنبي - صلَّى الله عليه وسلَّم -: أوصني، قال: ((لا تَغضبْ))، فردَّد الرجل طلبَه، وكان الرسول يردُّ عليه بنفس الكلمة: ((لا تغضب))، إنها وصية جامعة، وقد أُعطي النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - جوامعَ الكَلِم، فكانت كلماته على قلَّتها شاملة لمعانٍ كثيرة، وفوائدَ عظيمة، وهذه واحدة منها، فالغضب قد يكون لأسباب تافهة، وأمور سهلة لا تستدعي الغضب، ولا تحتاج إلى المخاصَمة، ولو فكَّر الغاضِب في نتائج غضبه، وما قد يجرُّ إليه من مضارَّ ومفاسدَ، لَأَقلعَ عن غضبه، ولاستبدلَ عن الكلمة الخَشِنة البذيئة الكلمةَ الحلوة الهادئة الرقيقة، ولأدرك أنَّ الغضب إنَّما يُسبِّب الشرور والفِتن، وأنَّ الكلمة الصائبة الواعية المقنِعة هي المثمرِة، وذات النتائج الحسنة، والفائدة المرجُوَّة.

 

إنَّ الذي ينقاد لغضبه يصبح مكروهًا مبغَضًا، ينفر الناس منه، ويبتعدون عنه، ويُحذِّر بعضُهم بعضًا من التعرُّف عليه، أو الاقتراب منه، ولو أنَّه تطلَّع إلى وجهه في المِرْآة في إبَّان غضبِه، ورأى الصورةَ البشِعة التي تحوَّل إليها وجهُه، والحركات المضطربة بعضلاته ويديه، والارتعاش لجسده كله، لَسَخِر من نفسه، ومِن حاله السيِّئة.

 

أجَلْ، فليس الجدير بالمدح لقوَّته الجسدية مَن كان يصرع الناس، ولكن مَن يملِك نفسَه عند الغضب.

 

♦ قال أبو الدرداء:

أقرب ما يكون العبدُ من غضب الله إذا غَضِب.

 

♦ ويقال: خمس خصال تكون في الجاهل: الغضب في غير مغضب، والكلامُ في غير نفْع، والعَطية في غير موضع، والثِّقة بكلِّ أحد، وأنَّه لا يعرف صديقه من عدوِّه.

 

♦ قال الشاعر:

صَبَرْتُ عَلَى الْأَيَّامِ حَتَّى تَوَلَّتِ
وَأَلْزَمْتُ نَفْسِي صَبْرَهَا فَاسْتَمَرَّتِ
وَمَا النَّفْسُ إِلاَّ حَيْثُ يَجْعَلُهَا الْفَتَى
فَإِنْ أُطْمِعَتْ تَاقَتْ وَإِلاَّ تَسَلَّتِ

 

♦ أسمع رجلٌ عمر بن عبدالعزيز كلامًا، فقال: أردتَ أن يستفزَّني الشيطان، فأنال منك اليومَ ما يناله مني غدًا، انصرفْ رحمك الله.

 

♦ قال الحسن: إنَّما تَعرِف الحليمَ عند الغضب، فإذا لم تغضبْ لم تكن حليمًا.

 

♦ ويقال: ثلاث مَن كنَّ فيه استكمل الإيمان: مَن إذا غضب لم يُخرجْه الغضب عن الحقّ، ومَن إذا رضي لم يخرجه رضاه إلى الظُّلم والباطل، ومَن إذا قَدَر لم يتناول ما ليس له.

 

♦ ويقال: حِلمك عمَّن دونك ساترٌ عليك عيبَ الذلِّ لمن هو فوقَك.

 

♦ وقال الشاعر:

أَلَمْ تَرَ أَنَّ سَيْرَ الْخَيْرِ رَيْثٌ
وَأَنَّ الشَّرَّ رَاكِبُهُ يَطِيرُ

♦ وقف رجلٌ على عامرٍ الشعبيِّ فلم يَدَعْ قبيحًا إلا رماه به، فقال له عامر: إنْ كنتَ كاذبًا فغَفَر الله لك، وإن كنتَ صادقًا فغفر الله لي.

 

♦ قال عبدالله بن المقفَّع: إنَّك إن تلتمسْ رضاء جميع الناس، تلتمسْ ما لا يُدرك، وكيف يتَّفق لك رأيُ المختلفين؟!


وما حاجتك إلى مَن رضاه الجور، وإلى موافقة مَن موافقتُه الضلالة والجهالة، فعليك بالْتماسِ رضاء الأخيار منهم، وذوي العقل، فإنك متى تُصبْ ذلك تضعْ عنك مؤونة ما سواه.

 

♦ أسْمع رجلٌ ابنَ هبيرة كلامًا يكرهه، فأعرض عنه، فقال الرجل: إيَّاك أعني، فقال ابن هبيرة: وعنك أُعْرِض.

 

♦ شتم رجلٌ أبا ذرّ، فقال أبو ذرّ: يا هذا، لا تُغرِق في شَتْمنا، ودعْ للصلح موضعًا، فإنَّا لا نكافئ مَن عصى الله فينا بأكثرَ من أن نطيع الله فيه.

 

المعاريض:

في المعاريض مَنْدوحٌة عن الكذب، وقد يلجأ الإنسانُ إلى مقام يُحرَج فيه، فيتردَّد بين الكَذِب وقوْل الحقيقة، فالكَذِب حرام، وعاقبته سيِّئة، وهو إن قال الصِّدق فقد يجرُّ عليه متاعبَ ومشاكل، فيفضل سُلوك خطَّة وُسْطى، ويجد في المعاريض ما يُغنيه عن ركوب المرْكَب الصعب.

 

♦ قال الشيخ أحمد بن قدامة في "مختصر منهاج القاصدين":

وتُباح المعاريض لقوله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((إنَّ في المعاريضِ مندوحةً عن الكذب))، وإنما تصلح المعاريض عندَ الحاجة إليها، فأمَّا مع غير الحاجة فمكروهة؛ لأنها تُشبه الكذب.

 

فمِن المعاريض ما رُوِّينا عن عبدالله بن رَواحة - رضي الله عنه - أنَّه أصاب جاريةً له، فعلمتِ امرأتُه، فأخذت شفرةً، ثم أتتْ فوافقته قد قام عنها، فقالتْ: أفعلتَها؟ فقال: ما فعلتُ شيئًا، قالت: لتقرأنَّ القرآن، أو لأبعجنَّك بها، فقال - رضي الله عنه -:

وَفِينَا رَسُولُ اللَّهِ يَتْلُو كِتَابَهُ
إِذَا انْشَقَّ مَعْرُوفٌ مِنَ الْفَجْرِ سَاطِعُ
يَبِيتُ يُجَافِي جَنْبَهُ عَنْ فِرَاشِهِ
إِذَا اسْتَثْقَلَتْ بِالْمُشْرِكِينَ الْمَضَاجِعُ
أَرَانَا الْهُدَى بَعْدَ الْعَمَى فَقُلُوبُنَا
بِهِ مُوقِنَاتٌ أَنَّ مَا قَالَ وَاقِعُ

 

فقالت: آمنتُ بالله، وكذَّبتُ بصري.

 

♦ وكان النَّخَعي إذا طُلِب، قال للجارية قولي لهم: اطلبوه في المسجد.

 

التسامح:

الصفْح والتسامح من الأخلاق الراقية، والآداب الفاضِلة، والخِصال الكريمة، ولو لم يتسامحِ الناس، وآثرَ كلُّ امرئ أن يردَّ على الإساءة بمثلها أو أقبح، وأن يأخذ كلُّ إنسان لنفسه ما يحسبه له، وإن كان غيرَ محقٍّ، ولم يغضَّ الطرف عن هفوة، ولم يعفُ عن زلة، ولم يسامح أخًا وصديقًا، وربما قال شيئًا وهو يريد سواه، وقصد معنى حسنًا، ففُسِّر بغير ما يروم.

 

إنَّ الناس لو لم يتسامحوا لانقلبتِ الحياةُ إلى معركة دامية، وساحةِ حرب مستعرة، لا يهدأ أُوارها، ولا يحمد لَهبُها، ولا ينعم فيها الناس براحة بال، أو سلامة طويَّة، أو هدوء خاطر، ولكن التسامح والصفح يُحيلان المشكلاتِ إلى أشياءَ لا أهمية لها، ويحببان الناسَ بعضهم إلى بعض، وكفى بها صفةً عظيمة كظمُ الغيظ، والعفو عن الناس.

 

♦ قال أبو مسعود كاتِب الشريف الرضي: كنَّا في مجلس الرضي، فشكا رجل من أخيه فأنشد الرضي:

اعْذِرْ أَخَاكَ عَلَى ذُنُوبِهْ
وَاسْتُرْ وَغُضَّ عَلَى عُيُوبِهْ
واصْبِرْ عَلَى بُهْتِ السَّفِي
هِ وَلِلزَّمَانِ عَلَى خُطُوبِهْ
وَدَعِ الْجَوَابَ تَفُضُّلاً
وَكِلِ الظَّلُومَ إِلَى حَسِيبِهْ
وَاعْلَمْ بِأَنَّ الْحِلْمَ عِنْ
دَ الْغَيْظِ أَحْسَنُ مِنْ رُكُوبِهْ

 

كلمات نافعات:

قال خالد بن صفوان: احذروا مجانيقَ الضعفاء؛ يعني: الدعاء، وقال: لا يُستجاب إلاَّ لمخلص أو مظلوم.

 

♦ قال أعرابيٌّ في دعائه: اللهمَّ لا تخيبني وأنا أرجوك، ولا تعذِّبني وأنا أدعوك، اللهم فقد دعوتُك كما أمرتني، فأجبْني كما وعدتني.

 

♦ قال يونس بن عبيد: سمعت ثلاث كلمات لم أسمعْ بأعجبَ منهنَّ، قول حسَّان بن أبي سنان: ما شيء أهون مِن ورع إذا رابك أمرٌ فدَعْه، وقول ابن سيرين: ما حسدتُ أحدًا على شيء قط، وقول مورِّق العجلي: لقد سألتُ الله حاجةً منذ أربعين سَنة ما قضاها، ولا يئست منها، فقيل لمورق: ما هي؟ قال: ترْك ما لا يَعنيني.

 

♦ قال الحسن البصري:

أمَا إنه والله، لا أمَّة بعدَ أمتكم، ولا نبيَّ بعد نبيكم، ولا كتاب بعدَ كتابكم، أنتم تسوقون الناس، والناس تسوقكم، وإنما ينتظر بأوَّلكم أن يلحقه آخرُكم.

 

♦ قال عمر بن عبدالعزيز: ما قُرِن شيءٌ بشيء أفضل مِن عِلم إلى حِلم.

 

♦ قيل لإبراهيم النخعي: أيُّ رجل أنت، لولا حِدَّة فيك، قال: أستغفرُ الله مما أملك، وأستصلحه ما لا أملك.

 

♦ قال عمرُو بن العاص لعبدالله بن عبَّاس - رضي الله عنهما -: إنَّ هذا الأمر الذي نحن وأنتم فيه ليس بأوَّل أمرٍ قادَه البلاء، وقد بلغ الأمرُ منا ومنكم ما ترى، وما أبقتْ لنا هذه الحرْب حياءً ولا صبرًا، ولسنا نقول: ليت الحرب عادت، ولكن نقول: ليتها لم تكن كانت.

 

فانظر فيما بَقِي بغير ما مضى، فإنَّك رأسُ هذا الأمر بعدَ علي، وإنما هو أمير مطاع، ومأمور مطيع، ومشاور مأمون، وأنت هو.

 

♦ في كتاب "كليلة ودمنة": لا فقرَ ولا بلاء كالحِرْص والشَّرَه، ولا غنى كالرِّضا والقناعة، ولا عقلَ كالتدبير، ولا وَرَع كالكفّ، ولا حسب كحُسن الخلق.

 

ما هي السعادة؟

البحث عن السَّعادة مطلبٌ قديم، عُني به الأوائل والأواخر، وتحدَّثوا فيه وأسهبوا، وحاولوا الوصولَ إلى معرفة كُنهه، وتصوَّره بعضهم في المال، وآخرون في الصحَّة، وبعضٌ خالَه في العِلم، وقيل: بل هو في الجاه، وقيل: إنَّه في سعادة النفس وراحتِها.

 

وأحسب أنَّ السعادة هي في تقوى الله، والقيامِ بأمره، وتأدية الحقوق، وفعْل الطاعات، واجتناب الآثام.

 

وأنها في راحة النَّفْس، وهدوء البال، والرِّضا بقضاء الله وقَدَرِه، مع فعْل الأسباب وعدم الاعتماد عليها، وإنما يسعى الإنسانُ في حدود قدرته، ويتوكَّل على الله، ﴿ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا ﴾ [الطلاق: 3].

 

بين الإفراط والتفريط:

بيْن الإفراط والتفريط منزلةٌ محبوبة معتدلة:

فبين الجُبن والتهوُّر: الشجاعة، وبين البخل والتبذير: الإنفاق بحِكمة، وبين الغلو في الدِّين والجفاء فيه: الاستقامة، وبين الإعراض عن مباهج الحِياة والإغراق فيها: التمتُّع بالطيِّبات، وبين الحزن الدائم والاستهتار المستمر: الجِدُّ مع الترويح عن النفس أحيانًا، وبين الشدَّة الصارمة وعدم المبالاة: الحَزْم في رِفق؛ لئلا تتحوَّل الشدَّة إلى ضغط يورث الانفجار، ولا تصبح قلَّة المبالاة مدعاةً للفوضى والإفلات والتعدي، وهذه الأمَّة خيارٌ وسَط بين طوائف الضلال، ودِينها خير الأديان وأعدلها، فليس فيه غلو النصارى، ولا جفاء اليهود.

 

﴿ وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا ﴾ [البقرة: 143]، ﴿ وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا ﴾ [الفرقان: 67].

 

فما أحسنَ أن نتدبَّر ديننا، وأن نعالج مشكلاتِنا على ضوْء شريعتنا السمحاء، العادلة الشاملة!

 

وما أجملَ أن نكون معتدلين في كلِّ شئوننا! حتى تستقيمَ أمورنا، ونستعدَّ - أفرادًا وجماعات - ونردِّد مع المؤمنين: ﴿ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ ﴾ [البقرة: 201].

 

نادرة:

حُكِي أنَّ بعض المغفَّلين أمسك كلبًا وعضَّه، فقال: هذا عضَّني منذ أيام، وأنا أريد أن أخالِف قول القائل:

شَاتَمَنِي عَبْدُ بَنِي مِسْمَعٍ
فَصُنْتُ عَنْهُ النَّفْسَ وَالْعِرْضَا
وَلَمْ أُجِبْهُ لِاحْتِقَارِي لَهُ
وَمَنْ يَعَضُّ الْكَلْبَ إِنْ عَضَّا

 

نكتة:

كان أعرابيٌّ يفلِّي كساءَه، فيأخذ البراغيث، ثم يدع القمل، فقيل له؟


فقال: أبدأُ بالفرسان، وأكرُّ على الرجَّالة!

 

حق الجار:

للجار حقُّ التكريم، ومراعاة التقدير، والاهتمام به، والشعور نحوه بمشاعرِ الودِّ والإخاء، والبعد عمَّا يُكدِّره ويؤذيه، وقد حثَّ الإسلامُ على حقوق الجار على جارِه، وما زال جبريلُ يُوصي سيِّدَ المرسلين - عليهما الصلاة والتسليم - بالجار حتى ظنَّ أنه سيورِّثه منه، وقد عُني ذَوُو المروءات بالحفاوة بالجار، ورأوا له حقوقًا واجبة الأداء، لو لم يوجبْها الدِّين لكان العقل السليم يرغب فيها، ويدعو لها.

 

♦ أتى رجلٌ الوليدَ بن عبدالملك وهو على دمشق لأبيه، فقال: للأمير عندي نصيحة، فقال: إن كانتْ لنا فأظهرها، وإن كانت لغيرنا فلا حاجةَ لنا فيها، قال: جارٌ لي عصَى وفرَّ مِن بعثه، قال: أما أنت فتخبر أنَّك جارُ سوء، فإن شئت أرسلْنا معك، فإن كنتَ صادقًا أقصيناك، وإن كنت كاذبًا عاقبناك، وإن شئت تاركناك، قال: بل تارِكْني.

 

♦ قال أبو الأسود الدؤلي:

فَلاَ تُشْعِرَنَّ النَّفْسَ يَأْسًا فَإِنَّمَا
يَعِيشُ بِجِدٍّ حَازِمٌ وَبَلِيدُ
وَلاَ تَطْمَعَنْ فِي مَالِ جَارٍ لِقُرْبِهِ
فَكُلُّ قَرِيبٍ لاَ يُنَالُ بَعِيدُ

 

♦ وقال مسكين الدارمي:

نَارِي وَنَارُ الْجَارِ وَاحِدَةٌ
وَإِلَيْهِ قَبْلِي تَنْزِلُ الْقِدْرُ
مَا ضَرَّ جَارًا لِي أُجَاوِرُهُ
أَلاَّ يَكُونَ لِبَيْتِهِ سِتْرُ
أُغْضِي إِذَا مَا جَارَتِي بَرَزَتْ
حَتَّى يُوَارِي جَارَتِي الْخِدْرُ
وَيُصَمُّ عَمَّا كَانَ بَيْنَهُمَا
سَمْعِي وَمَا بِي غَيْرُهُ وِقْرُ

نكتة:

قال أبو أحمد التَّمَّار في قصصه: لقد عظَّم رسولُ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - حقَّ الجار، حتى قال فيه قولاً أستحي واللهِ أن أذكرَه.

 

♦ سُئِل رجل عن كنيته، فقال: أبو الحسن، وأبو الغمر، فقيل: ألم تكفِ واحدة؟ فقال: لا، إن ضاعت واحدة بقيتِ الأخرى.

 

♦ وقال أحدُ الشعراء في التسامح مع الجِيران:

أَقُولُ لِجَارِي إِذْ أَتَانِي مُخَاصِمًا
يُدِلُّ بِحَقٍّ أَوْ يُدِلُّ بِبَاطِلِ
إِذَا لَمْ يَصِلْ خَيْري وَأَنْتَ مُجَاوِرِي
إِلَيْكَ فَمَا شَرِّي إِلَيْكَ بِوَاصِلِ

 

♦ مما قيل في مختال سامِج قول أبي تمام:

يَا مَنْ تَبَرَّمَتِ الدُّنْيَا بِطَلْعَتِهِ
كَمَا تَبَرَّمَتِ الْأَجْفَانُ بِالرَّمَدِ
يَمْشِي عَلَى الْأَرْضِ مُخْتَالاً فَأَحْسَبُهُ
لِبُغْضِ طَلْعَتِهِ يَمْشِي عَلَى كَبِدِي
لَوْ أَنَّ فِي الْأَرْضِ جُزْءًا مِنْ سَمَاجَتِهِ
لَمْ يَقْدَمِ الْمَوْتُ إِشْفَاقًا عَلَى أَحَدِ

 

♦ سُئِل الحسن البصري عن التواضُع، فقال: هو أن تَخرج من بيتك فلا تَلْقى أحدًا إلا رأيتَ له الفضلَ عليك.

 

♦ كان الحارث بن عبدالله بن أبي ربيعة يجلس هو وعمرو بن عبيدالله بن صَفْوان ما يكادانِ يفترقان، وكان عمرو يبعث إلى الحارث في كلِّ يوم بقِرْبة من ألبان إبلِه، فاختلف ما بينهما، فأتى عمرو أهله، فقال: لا تبعثوا اللَّبَن، فإنَّا لا نأمن أن يردَّه علينا، وانقلب الحارث إلى أهلِه، فقال: هل أتاكم اللَّبَن؟ قالوا: لا، فلما راح الحارث لعمرو قال: يا هذا، لا تجمعْ علينا الهجر وحَبْس اللبن؛ فقال: أما إذا قلت هذا، فلا يحملها إليك غيري، فحَمَلها من ردم بني جمح إلى أجياد.

 

♦ بلغ ابن المقفَّع أنَّ جارًا له يبيع دارًا له؛ لِدَيْن رَكِبه، وكان ابن المقفَّع يجلس في ظل هذه الدار، فقال: ما قمت إذًا بحُرمة ظل داره إن باعها معدمًا وبتُّ واجدًا، فحمل إليه ثمنَ الدار، وقال: لا تبع.

 

♦ قال الشاعر:

وَإِنَّ أَوْلَى الْمَوَالِي أَنْ تُوَاسِيَهُ
عِنْدَ السُّرُورِ لَمَنْ وَاسَاكَ فِي الْحَزَنِ
إِنَّ الْكِرَامَ إِذَا مَا أَيْسَرُوا ذَكَرُوا
مَنْ كَانَ يَأْلَفُهُمْ فِي الْمَنْزِلِ الْخَشِنِ

 

مشاغل الحياة:

شغلتْنا هذه الحياة، وجرَّت علينا الحضارة الحاضرة مشكلاتٍ كبيرة؛ وغفلنا عن حقوق كثيرة، وواجبات عديدة، ومستحبَّات مأثورة، وحياة المدن العاجَّة بالناس، والمتطلبات والمشاغل تكاد تَحرِم الإنسان من قيامه بمسؤوليات عِدَّة، إن لم تكن حَرمتْه منها فعلاً، ومن ذلك حقوقُ الجيران بعضهم على بعض في التعارُف والتزاور، والصِّلات والمشاعِر والتفاهم، فقد كان الناس يهتمُّون بالجار، ويحرصون عليه، ويسألون عنه إذا غاب، ويَدْعُونه ويدعوهم، ويزورهم ويزورونه، ويعرف بعضهم أحوالَ بعض، ويتفقَّد بعضُهم بعضًا، ويتألَّم المرءُ منهم لألَم الآخر، ويحسُّ كأنه قريب له، أو أشدّ.

 

ولكن تلك الخِلال الحسنة قد أوشكتْ على الاختفاء، فترى بعضَ الجيران تمضي عليهم الشُّهور والأعوام، وهم لا يتعارفون ولا يتزاورون، ولا يهتمُّ بعضُهم ببعض.

 

لقد حثَّ الإسلام على إكرام الجار، والقيام بحقِّه، وأوصى جبريل به النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - حتى ظنَّ أنه سيورِّثه منه، وجعل إكرامَه من مستلزمات الإيمان بالله واليوم الآخر.

 

الطموح:

الطُّمُوح مستحسن؛ لِمَا يدلُّ عليه من علو الهمة، وقوَّة العزيمة، واستسهال الصِّعاب، ولكن الطُّموح لا بدَّ له من الحِكمة والتدبُّر، وإلاَّ صار نزقًا وتهورًا، وإذا كان الخنوع، وضَعْف الهِمَّة، وفتور العزيمة مذمَّة ونقصانًا، فإنَّ التهور وعدم التبصُّر والتفكُّر مجلبة للمشكلات، وسبب للتهلكات، وقد يندم صاحبُها، ولاتَ ساعةَ مندم.

 

♦ قال بعض الحكماء:

تجنَّبوا المُنَى، فإنها تذهب ببهجة ما خُولْتُم، وتستصغرون بها نِعمةَ الله عليكم.

 

♦ قال بعض الشعراء:

إِذَا أَنْتَ لَمْ تَعْرِفْ لِنَفْسِكَ حَقَّهَا
هَوَانًا بِهَا كَانَتْ عَلَى النَّاسِ أَهْوَنَا
فَنَفْسَكَ أَكْرِمْهَا وَإِنْ ضَاقَ مَسْكَنٌ
عَلَيْكَ لَهَا فَاطْلُبْ لِنَفْسِكَ مَسْكَنَا
وَإِيَّاكَ وَالسُّكْنَى بِمَنْزِلِ ذِلَّةٍ
يُعَدُّ مُسِيئًا فِيهِ مَنْ كَانَ مُحْسِنَا

 

♦ وقال الحصين بن المنذر الرقاشي:

إِنَّ الْمُرُوءَةَ لَيْسَ يُدْرِكُهَا امْرُؤٌ
وَرِثَ الْمَكَارِمَ عَنْ أَبٍ فَأَضَاعَهَا
أَمَرَتْهُ نَفْسٌ بِالدَّنَاءَةِ وَالْخَنَا
وَنَهَتْهُ عَنْ سُبُلِ الْعُلاَ فَأَطَاعَهَا
فَإِذَا أَصَابَ مِنَ الْمَكَارِمِ خَلَّةً
يَبْنِي الْكَرِيمُ بِهَا الْمَكَارِمَ بَاعَهَا

 

البر والعقوق:

الوفاء والبر من أجمل الخِلال وأكرمها، وما أكثرَ ما جاء فيها مدحًا وتنويهًا! وما أعظمَ ما قيل في ذمِّ الخائن، وناكِر الجميل والعاقِّ، وأشباههم.

 

وللوالدَين من سموِّ المنزلة، وحق الإكرام ما لا يحتاج إلى تطويل الإيضاح، وللمعلِّم والجار والصديق حقوقٌ يراعيها الكريمُ، ويُعنَى بها.

 

أب يهجو ابنه العاق:

كان لفَرْعان بن الأعرف أبي المنازل السعدي ابنٌ قاسٍ، يُسيء إلى والده، فقال فيه:

جَزَتْ رَحِمٌ بَيْنِي وَبَيْنَ مُنَازِلٍ
جَزَاءً كَمَا يَسْتَنْزِلُ الدَّيْنَ طَالِبُهْ
وَمَا كُنْتُ أَخْشَى أَنْ يَكُونَ مُنَازِلٌ
عَدُوِّي وَأَدْنى شَانِئٍ أَنَا رَاهِبُهْ
حَمَلْتُ عَلَى ظَهْرِي وَقَرَّبْتُ شَخْصَهُ
صَغِيرًا إِلَى أَنْ أَمْكَنَ الطُّرَّ شَارِبُه
وَأَطْعَمْتُهُ حَتَّى إِذَا صَارَ شَيْظَمًا
يَكَادُ يُسَاوِي غَارِبَ الْفَحْلِ غَارِبُهْ
تَخَوَّنَ مَالِي ظَالِمًا وَلَوَى يَدِي
لَوَى يَدَهُ اللَّهُ الَّذِي هُوَ غَالِبُهْ
وَكَانَ لَهُ عِنْدِي إِذَا جَاعَ أَوْ بَكَى
مِنَ الزَّادِ أَحْلَى زَادِنَا وَأَطَايِبُهْ
وَرَبَّيْتُهُ حَتَّى إِذَا مَا تَرَكْتُهُ
أَخَا الْقَوْمِ وَاسْتَغْنَى عَنِ الْمَسْحِ شَارِبُهْ
وَجَمَّعْتُهَا دُهْمًا جِلاَدًا كَأَنَّهَا
أَشَاءُ نَخِيلٍ لَمْ تُقْطَعْ جَوَانِبُهْ
فَأَخْرَجَنِي مِنْهَا سَلِيبًا كَأَنَّنِي
حُسَامٌ يَمَانٍ فَارَقَتْهُ مَضَارِبُهْ
أَإِنْ أُرْعِشَتْ كَفَّا أَبِيكَ وَأَصْبَحَتْ
يَدَاكَ يَدَيْ لَيْثٍ فَإِنَّكَ ضَارِبُهْ

 

♦ قيل لعمر بن ذر: كيف كان بِرُّ ابنك بك؟ قال: ما مشيتُ نهارًا قط إلاَّ مشى خلفي، ولا ليلاً إلاَّ مشى أمامي، ولا رَقَى سطحًا وأنا تحته.

 

يأمره بملازمة والديه:

قال عثمان بن أبي العاص: كنتُ عند عمر فأتاه رجل فأنشده:

تَرَكْتَ أَبَاكَ مُرْعَشَةً يَدَاهُ
وَأُمَّكَ مَا تُسِيغُ لِهَا شَرَابَا
إِذَا غَنَّتْ حَمَامَةُ بَطْنِ وَجٍّ
عَلَى بَيْضَاتِهَا ذَكَرَتْ كِلاَبَا

 

فقال عمر: ممَّ ذاك؟ قال: هاجر إلى الشام، وتَرَك أبوين كبيرَين، فبكى عمر وكتب إلى يزيد بن أبي سفيان في أن يُرحِّله، فقدم عليه، فقال: برَّ بأبويك، وكن معهما حتى يموتَا.

 

♦ قال المأمون: لم أرَ أحدًا أبرَّ من الفضل بن يحيى بأبيه، قد بلغ من برِّه به: أنَّ يحيى كان لا يتوضأ إلاَّ بماء مُسخَّن وهما في السجن، فمنعهما السجَّان من إدخال الحَطَب في ليلة باردة، فقام الفضلُ حين أخذ يحيى مضجعَه إلى قُمْقُم كان يسخِّن فيه الماء، فملأه، ثم أدناه من نار المصباح، فلم يزلْ قائمًا وهو في يدِه حتى أصبح!

 

♦ وقال الشعبي: ما أدركتُ أمِّي فأبرها، ولكن لا أسبُّ أحدًا فيسبها.

 



[1] قيل: إن هذه الأبيات لبعض المحدثين.





 حفظ بصيغة PDFنسخة ملائمة للطباعة أرسل إلى صديق تعليقات الزوارأضف تعليقكمتابعة التعليقات
شارك وانشر


 



أضف تعليقك:
الاسم  
البريد الإلكتروني (لن يتم عرضه للزوار)
الدولة
عنوان التعليق
نص التعليق

رجاء، اكتب كلمة : تعليق في المربع التالي

شارك معنا
في نشر مشاركتك
في نشر الألوكة
سجل بريدك

تواصل مع الشيخ عبر تويتر
  • السيرة الذاتية
  • مقالات
  • بحوث ودراسات
  • كتب
  • برنامج نور على
  • قالوا عن الشيخ زيد ...
  • عروض الكتب
  • قائمة المواقع الشخصية
حقوق النشر محفوظة © 1446هـ / 2025م لموقع الألوكة