• الصفحة الرئيسيةخريطة الموقعRSS
  • الصفحة الرئيسية
  • سجل الزوار
  • وثيقة الموقع
  • اجعلنا صفحتك الرئيسة
  • اتصل بنا
English Alukah
شبكة الألوكة شبكة إسلامية وفكرية وثقافية شاملة تحت إشراف الدكتور خالد الجريسي والدكتور سعد الحميد
 
صفحة الكاتب  موقع معالي الأستاذ الدكتور علي بن إبراهيم النملةأ. د. علي بن إبراهيم النملة شعار موقع معالي الأستاذ الدكتور علي بن إبراهيم النملة
شبكة الألوكة / موقع د. علي بن إبراهيم النملة / المقالات


علامة باركود

ثنائيات متلازمة

ثنائيات متلازمة
أ. د. علي بن إبراهيم النملة


تاريخ الإضافة: 4/8/2024 ميلادي - 28/1/1446 هجري

الزيارات: 1294

 حفظ بصيغة PDFنسخة ملائمة للطباعة أرسل إلى صديق تعليقات الزوارأضف تعليقكمتابعة التعليقات
النص الكامل  تكبير الخط الحجم الأصلي تصغير الخط
شارك وانشر

ثُنَائِيَّاتٌ مُتَلازِمَةٌ


التمهيد:

من الثنائيات ما هو متلازمٌ ويتعذَّر فصله، وهذه فطرةٌ فطر الله الناس عليها. فهي في تلازمها كالجناحين للطير، لا يطير إلا بهما معًا وإنْ راوح بينهما في طيرانه. ومن ثمَّ فإنَّ تلازُمهما كالجناحين للطائرة، وإنْ راوح الطيَّار في محرِّكاتها. ولذا فإنَّ تلازُمها لا يعني حضورها دائمًا في وقت واحد، بل قد يطغى أحد طرفي الثنائية على الآخر. وقد يدخل في طغيان أحدهما على الآخر التركيب النفسي للفرد أو البُعد التربوي أو الاكتساب الثقافي أو البيئة الاجتماعية. وبعض هذه الثنائيات المتلازمة لا تنفع فيها تربية ولا ثقافة ولا البيئة الاجتماعية إلا بالحدِّ منها، وليس بالضرورة بتغليب الحسن منها على السيء. وتلازمُها على أيِّ حال لا يعني تزامُنَها.

 

ثنائية الأمر والنهي:

• في سبيل قيادة هذا الإنسان إلى حياة أفضل في دنياه وآخرته كان لا بُدَّ من توجيهه الوجهة التي تضمن له هذه الحياة الأفضل وتلك الحياة الأسمى. وتمثَّلت هذه التوجيهات بالأوامر والنواهي DOS & DONTS. وهي ثنائية متلازمة، فلا تنفكُّ الأوامر عن النواهي. ولا بُدَّ للناس أنْ يأمروا ويأتمروا ويتناهوا فينتهوا وقد لا ينتهوا. فيأتمرون بما ينفعهم ويتناهون عمَّا يضرُّهم. وقد لا يتناهون عن منكر يفعلونه، وهذا خلاف المراد وله تبعاته السيئة. وما يُتداول من الوصايا العشر كلُّها نواهٍ عن فعل الكبائر. وأخلاق الحرب وآدابها التي صدح بها الخليفة الراشد الأول أبو بكر الصدِّيق - رضي الله عنه - لا تقلُّ عن عشرة آداب، كلُّها نواهٍ عن الإضرار بغير المحاربين.[1]


• وفي سبيل ضبط هذه الثنائية جاءت الكتُب السماوية لتدلَّ الإنسان على ما ينفعه وتنبِّهه إلى ما يضرُّه. ولم يترك هذا الأمر لاجتهادات البشر؛ بحكم محدودية هذا العقل الذي حباه الله للإنسان، فجعله لا يُحيط بكلِّ شيء وإنْ سعى لذلك، وله ذلك دون الخروج على نواميس الكون، ولكن من خلال التدبُّر والتفكُّر والتعقُّل. وكلُّ هذه السمات مِنَحٌ من الله تعالى يُطلب من الإنسان أنْ يستعملها فيما فيه خيره وخير غيره. ولم يأمر الشارع الحكيم إلا بما فيه منفعة ومصلحة، ولم ينهَ إلا عمَّا فيه مضرَّة ظاهرة أو باطنة.

 

• وهنا تبرز الحكمة في إملاء هذه الأوامر والنواهي، لتكون الأوامر بالمعروف وتكون النواهي عن المنكر. ثم يكون من ضبط هذه الأوامر والنواهي ما يكفُل تطبيقها في المجتمع؛ لتأتي قوَّة السلطان لملاحقة الخارجين عن هذه الثنائية بفعل نقيضها، أي بالأمر بالمنكرات والنهي عن المعروفات، وتشرَّع لهذه التجاوزات العقوبات الرادعة.

 

• يقول شيخ الإسلام أبو العبَّاس ابن تيمية (661 - 726هـ): «وإذا كان الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من لوازم وجود بني آدم. فمن لم يأمر بالمعروف الذي أمر الله به ورسوله ويَنْهَ عن المنكر الذي نهى الله عنه ورسوله، ويُؤمر بالمعروف الذي أمر الله به ورسوله، وإلا فلا بُدَّ أن يأمر وينهى ويُؤمر ويُنهى إما بما يُضادُّ ذلك، أو بما يشترك فيه الحقُّ الذي أنزل الله بالباطل الذي لم يُنزلْه الله»[2].

 

• ولا يقوم بتطبيق هذه العقوباتُ من حيث الحكم والتطبيق إلا أولو العلم والسلطان ومن يُنيبه، دون الاعتماد على الحماسة والعاطفة والاندفاع. يقول القاضي أبو يعلى (380 - 458هـ) في المعتمد: «لا يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر إلا من كان فقيهًا فيما يأمرُ به فقيهًا فيما ينهى عنه رفيقًا فيما يأمر به رفيقًا فيما ينهى عنه، حليمًا فيما يأمر به حليمًا فيما ينهى عنه»[3]. ومن هنا كان المطلوب في الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر خصال مجتمعة قد لا تتوافر جميعها في كلِّ البشر. وهي العلم والرفق والتحمُّل والصبر والحلم. فـ «العلم قبل الأمر والنهي والرفق معه والصبر بعده، وإن كان كلُّ الثلاثة مستصحبًا في هذه الأحوال»[4]. ولذلك عدَّ علماء الإسلام ثنائية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من الجهاد في سبيل الله.

 

ثنائية العقل والقلب:

• العقل والقلب في الإنسان ثنائية متلازمة، إذ لا بُدَّ منهما في أيِّ سلوك. إنما المطلوب مع هذا التلازُم غلبة العقل على القلب في حالات، وغلبة القلب على العقل في حالات. فلا القلب يُعطَّل ولا العقلُ يعطَل تمامًا. ومن الجدليات في هذه الثنائية المتلازمة النظر في تغليب أحدهما على الآخر، فيُذكر أنَّ العنصر النسائي ربَّما غلب عليه تحكيم القلب أو العاطفة على العقل، بينما الغالب في الذكور تغليب العقل على العاطفة[5]. ولا مصادرة لوجود هذه الثنائية «العقل والعاطفة» في الجنسين بالفطرة، ولا تعميم في مثل هذه الأحكام.

 

• ولا مصادرة في وجود ثنائية القوَّة والضعف في كلا الجنسين. والمتداول انطباعًا أنَّ المرأة أضعف من الرجل، ومن ثمَّ فالرجل أقوى من المرأة، فإذا تقوَّت المرأة استرجلت وإذا ضعُف الرجل تأنَّث. وهذا ادِّعاء يحتاج إلى تأمل وإعادة نظر، إذ إنَّ القوَّة لا تتأتَّى بالبناء العضلي، فتلك قوَّة ظاهرة ومطلوبة في الرجال لتحمُّل البناء الفعلي للمجتمع، ولكن قوَّة الرجال الجسمانية لا ترقى إلى مستوى أن تتحمَّلَ حالات المخاض عند النساء للتمثيل فقط. على أنَّ في الرجال قدرًا من الضعف، كما في النساء قدرًا من القوَّة. وقد قال الشاعر نزار قبَّاني (1342 - 1419هـ/ 1923 - 1996م)[6]:

لمْ تستطيعي بعدُ أنْ تتفهَّمي
أنَّ الرجَالَ جميعَهم أطفالُ

• والذي يظهر للباحث أنَّ قوَّة المرأة في ضعفها وضعف الرجل في قوَّته، فالمرأة قويَّةٌ إذا ضعُفت والرجل ضعيف إذا تقوَّى. وليس الشديد الصُرْعة وإنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب، فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «لَيْسَ الشَّدِيدُ بِالصُّرْعَةِ، إِنَّمَا الشَّدِيدُ الَّذِي يَمْلِكُ نَفْسَهُ عِنْدَ الْغَضَبِ»[7]. وكثيرًا ما ملكت النساء أنفسهن عند الغضب. وغالبًا ما يثور الرجال غضبًا فتتصدَّع البيوت. وخلاف ذلك هو خلاف الأصل. وهذه الثنائية محصورةٌ في التفرقة بين الرجل والمرأة من حيث القوَّة والضعف في المعنويات والأخلاق والسلوكيات لا في الجسمانيات.

 

ثنائية الرضا والغضب:

• وقد تدخل في هذا السياق من الثنائيات المتلازمة ثنائية الرضا والغضب أو السخط، لكن ليس في مجال المقارنة بين الذكور والإناث، لكنها سليقة موجودةٌ في الجنسين، فإذا رضي الشخص عن آخر أو عن شيء أبدى محاسنه وتجاهل مساوئه، وإذا غضب أو سخط على أحدٍ أو شيء أبدى مساوئه وتجاهل محاسنه. وهذه نظرةٌ ذاتية يقودها الهوى، ولا تقودها النظرة الموضوعية. فعند كلِّ الناس محاسنُ ومساوئ. وفي كل الأشياء كذلك محاسن ومساوئ. وعند بعض الناس قد تغلب المحاسنُ على المساوئ، وعند آخرين العكس. وكذا الحال في الأشياء. وقد قال عبد الله بن معاوية بن جعفر بن أبي طالب على الصحيح، كما في كتاب الماوردي أدب الدنيا والدين:[8]

 

وعينُ الرضا عن ْكلِّ عيبٍ كَليلةٌ
ولكنَّ عينَ السُّخْط تُبدي المساويا

• وقمة الرضا رضا الرحمن، ثم رضا الوالدين. أما رضا الناسِ جميعهم فيبدو حقًّا أنها غايةٌ لا تُدرك، مع أخذ رضاهم بالاعتبار دائمًا. ومن رضي عنه الرحمن أرضى عنه الناس، ومن سخط عليه الرحمن أسخط عليه الناس. هكذا هي سنة الله تعالى في بني آدم. بل إنَّ من أرضى الناس بسخط الله سخط عليه الله وأسخط عليه الناس ولم يرضَ عنه الناس. ومن أرضى الله تعالى بسخط الناس رضي الله عنه وأرضى عنه الناس ولم يسخطْ عليه الناس. وهذا من منطوق الأحاديث النبوية الشريفة.[9]

 

ثنائية الإخلاص والصواب في الأداء:

• والإخلاص والصواب في أيِّ أداء من الثنائيات المتلازمة التي لا يغني أحدُها عن الآخر، ولا ينفكُّ أحدُها عن الآخر. فلا الإخلاص وحده يكفي، ولا الصواب وحده يكفي. وكثير من الأخطاء المنهجية التي تُرتكب في أداءٍ ما ربَّما تتَّسم بفقدان أحد هذين العنصرين في الأداء نفسه. وقد يُفقدُ كلاهما وهو من النادر، ويمكن أنْ يكون حاضرًا عند بعض الموظَّفين المحبطين وبعض العاملين لخدمة الآخرين، فيعملون من دون إخلاصٍ ولا صواب.

 

• على أنَّ الإخلاص غير قابل للقياس المادِّي، وإنما تعين عليه بعض الشواهد. أمَّا الصواب فهو دافعٌ لأداء مَقيس، فمن اتَّبع معطيات النجاح والتحقيق في أيِّ أداء فقد كان قريبًا جدًّا من الصواب. ومن غلب عليه الإخلاص من منطلق عاطفي غير مدروس فغالبًا يخونه الصواب.

 

• أمَّا ثنائية الصواب والخطأ، من حيث اعتبارُ الأمر صوابًا أو خطأً ففيها نقاش يطول، وهو اعتبار نسبي ما دام من كلام البشر. ويغترُّ من يرى دائمًا أنه على صواب وأنَّ غيره دائمًا على خطأ. ومن المهم أنَّ هناك أخبارًا تحتمل الصواب كما تحتمل الخطأ. ولذا يعرِّف علماء البلاغة الخبر بأنه ما يحتملُ الصدق والكذب، أو الصواب والخطأ. ومن الخبر الرأي فهو قابل للصواب والخطأ. ولا تعصُّب للرأي ما دام هذه حاله. وأفضل ما قيل في هذا المجال ما يُنسب للإمام محمد بن إدريس الشافعي (150 - 204هـ) - رحمه الله - قوله: «رأيي صواب يحتمل الخطأ، ورأي غيري خطأ يحتمل الصواب»، ولعلَّه لم يثبُت عنه. وما يظهر أنه ثابتٌ عنه قول: «ما كلَّمتُ أحدًا قطُّ إلا أحببتُ أنْ يوفَّقَ ويُسدَّد ويُعان، ويكون عليه رعايةٌ من الله وحفظٌ. وما كلَّمتُ أحدًا قطُّ إلا ولم أُبالِ بيَّن اللهُ الحقَّ على لساني أو لسانه».[10]

 

 

ثنائية القوة والأمانة في المهمَّات:

• ومن الثنائيات الوظيفية المتلازمة في الأشخاص المراد لهم قيادة قطاع إداري أو تجاري أو أيِّ قطاع يقتضي صنع القرارا، ويستلزم وجود مسؤوليات وصلاحيات وإمكانات إدارية وبشرية ومالية، ثنائية القوَّة والأمانة، قَال تَعَالَى: {﴿ قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ ﴾ [القصص: 26]. وهي ثنائية متلازمة في هذا الشأن فلا تكفي إحداهما دون الآخرى، ولا تُغني إحداهما عن الآخرى.

 

• والقوَّة وحدها في غياب الأمانة مدعاة للفساد؛ لأنها قد تُستخدم في غير ما يتوقَّع لها أن تُستخدم فيه؛ لما تتَّسم به القوَّة من القدرة على التأثير والقدرة كذلك على صنع القرار. والأمانة وحدها دون توافُر عنصر القوَّة قد لا تُفهم على ظاهرها، بل قد يُنظر إليها - في ضوء التسابُق إلى الفساد الإداري والمالي - على أنها ضعف وغفلةٌ في الشخص الذي أوكلت إليه المسؤوليات، فيؤتى من قبله، ويسوء استغلال أمانته. على أنَّ الأمانة في العمل لا تعني السذاجة والطيبة الزائدة، كما يصنِّفها بعض من يتلبَّسون بالخُبث الإداري.

 

ثنائية الدين والخلُق في العلاقات:

• ومن الثنائيات المتلازمة في قيام العلاقات الأسْرية متلازمة أو ثنائية الدين والخُلُق فيمن يتقدَّم للزواج من الشباب. فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: (إِذَا خَطَبَ إِلَيْكُمْ مَنْ تَرْضَوْنَ دِينَهُ وَخُلُقَهُ فَزَوِّجُوهُ، إِلا تَفْعَلُوا تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الأَرْضِ وَفَسَادٌ عَرِيضٌ)[11]. وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه - عَن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: (تُنْكَحُ الْمَرْأَةُ لِأَرْبَعٍ: لِمَالِهَا وَلِحَسَبِهَا وَلِجَمَالِهَا وَلِدِينِهَا، فَاظْفَرْ بِذَاتِ الدِّينِ تَرِبَتْ يَدَاكَ).[12]


• والذي يظهر أنَّ الخُلُق جزءٌ لا يتجزَّأ من الدين والدين الخُلُق. ورسول الله صلى الله عليه وسلم قد تخلَّق بالدين، فعبَّرت عنه أمُّ المؤمنين عائشة بنت أبي بكر الصدِّيق - رضي الله عنهما - بالقرآن الكريم، عندما سُئلت عن خُلُق الرسول صلى الله عليه وسلم فأجابت: كان خُلُقه القرآن[13]. إلا أنَّ التوكيد على الخُلُق مع ذكر الدين جاء - فيما يظهر - فيما يكون فيه الفردُ متديِّنًا دينًا ظاهرًا ولما يدخل الإيمان في قلبه بعدُ، والناس ليس لها إلا الظاهر. وقد لا ينعكس تديُّنه على خُلُقه في تعامُلاته الأسْرية، بل ربَّما في تعامُلاته مع الآخرين. وهذا نقصٌ واضحٌ في الإيمان. والإيمان يزيد وينقُص. وهذه الحال في نقص الخُلُق مع التديُّن الظاهر مما يُشاهد في بعض المجتمعات، التي لم يصل فيها الإيمان في بعض النفوس إلى العُمق الذي يغطِّي الخُلُق.

 

ثنائية الولاء والبراء

• ومن الثنائيات المتلازمة ذات العلاقة بالمفهوم الإسلامي للسياسة «السياسة الشرعية» ثنائية الولاء والبراء. والأصل في انتماء الإنسان لبيئته أنْ تكون في عنقه بيعة لولي الأمر. والبيعة تقتضي الولاء لولي الأمر بالسمع والطاعة في غير معصية، والبراء مما يخالف منهج ولي الأمر أو يناصبه العداء ظاهرًا أو باطنًا.[14]


• وواقع الحال في عصرنا هذا أنَّ مفهوم الولاء - من حيث التركيز عليه في الثقافة السياسية في الوسط الإسلامي تحديدًا - ضعيفٌ جدًّا، مما نتج عنه قدرٌ من التمرُّد على ولاة الأمر. في الوقت الذي ركَّزت فيه بعض الجماعات على البراء، لا البراء من أعداء ولي الأمر، لكن من ولي الأمر نفسه، حينما رسخ هذا المفهوم لدى بعض الجماعات ورسَّخته في أدبيَّاتها، أنَّ وليِّ الأمر نفسَه يدخل في خانة البراء، فجعلت موقفها من وليِّ الأمر موقفًا غير قائم على مفهوم البيعة؛ لأنه عند بعض هذه الجماعات لا يرقى إلى مستوى أنْ تكون له بيعة أو يكون له ولاء، بل هو إلى البراء أقرب! لأنه عند بعض هذه الجماعات لا يحكم بما أنزل الله. وتستدلُّ بقول الله تعالى: ﴿ إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ فَلَا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلَا تَشْتَرُوا بِآَيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ ﴾ [المائدة: 44]، مما سوَّغ الخروج عليه والدعوة إلى مناهضته ومحاربته، حتَّى لقد قيل إنَّ المواطن يشعر بأنَّ الحاكم لا يعمل لمصلحته ولا لمصلحة الوطن، وأنَّ المواطن في عيون الحاكم لا يُكِنُّ له الولاء.

 

• وهذا الفهم الخاطئ سهَّل بدوره فكرة الخروج على الحاكم بالعنف أحيانًا، وسوَّغوا لهذا الخروج - في رأي الباحث - بالعنف تسويغاتٍ كلّها تصبُّ في نزع الولاء[15]. تلك النزعة جعلت هذه الجماعة أو تلك تميل إلى الأبعاد «الثورية» غير المصرَّح بها لفظًا، حتَّى لو أدَّى هذا إلى ليِّ أعناق النصوص وتغليب التسميات الشرعية التي تصبُّ في تأييد هذا المنحى. ففضَّلت الجماعة أنْ يكون اسم سورة التوبة هو سورة براءة بدلاً من الأَشْهرِ في التسمية وهو سورة التوبة، وإنْ كان اسم براءة مشهورًا. قَالَ تَعَالَى: ﴿ بَرَاءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ﴾ [التوبة: 1].

 

• وفضَّلت هذه الجماعة أو تلك أنْ تسمِّي سورة محمد بسورة القتال، وسورة محمد هي الأشهر وإنْ كانت التسمية للسورة بسورة القتال مشهورةً، فَنَحَتِ الجماعةُ إلى تسمية المشهور على الأشهر وهي سورة محمد. قَالَ تَعَالَى: ﴿ وَيَقُولُ الَّذِينَ آَمَنُوا لَوْلَا نُزِّلَتْ سُورَةٌ فَإِذَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتَالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَأَوْلَى لَهُمْ ﴾ [محمد: 20] وقد يقال إنَّ التسميتين المشهورتين للسورتين وهما براءة بدلاً من التوبة، والقتال بدلاً من محمد ليستا بحقّ مشهورتين وإنما المعتمد، في المصاحف المعتمدة، هو سورة التوبة وسورة محمد. ولا يدخل الباحثُ في جدال في هذه الجزئية، فالتفصيل والترجيح يعود إلى أهل الاختصاص من أرباب علوم القرآن الكريم؛ من باب أعطِ القوس باريها.

 

• وخرجت من المجتمع الواحد عناصر قدَّمت ولاءها لأعدائها، فوالت الأعداء وبرئت من الأهل والوطن، وأضحت معاولَ هدمٍ للوطن وقيادته، دون أنْ تشعرَ عند فئة منها بذلك شعورًا مباشرًا، بل إنها تعتقد أنها تُحسن صُنعًا، وتستشهد بالآيات والأحاديث والآثار نفسها التي يستشهد بها علماء الأمَّة المعتبرون، ممن يدركون مفهوم ثنائية الولاء والبراء إدراكًا صحيحًا، بحسب ما جاء في كتاب الله تعالى وسنة نبيِّه محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم، وعلى الذي فَهِمه سلف هذه الأمَّة.

 

• أما الفئة التي تعلِّم هذا المنهج في الولاء والبراء وتقبض عليه المنافع المادِّية والمعنوية، فهذه لا اعتبار للولاء ولا للبراء عندها؛ فإنما هي قد باعت وطنيَّتها وإنْ احتفظت بمواطنتها، وجعلت من مفهوم «العمالة» منهجًا لها دون أنْ تعترف بهذا، فهي في زعمها تسعى إلى التغيير واللحاق بركب الحضارة المعاصرة التي تستحقُّ عند هذه الفئة الولاءَ لها ولأربابها. وهي فئة موجودة وهي مقتنعة بما تقوم به في الظاهر، على الأقلِّ. ولذا فهي خارجة عن مفهوم الولاء والبراء من منطلق السياسة الشرعية، وتكاد تنفي وجوده على واقع اليوم السياسي، على اعتبار أنه مفهوم يعود إلى زمن الرجعية والتخلُّف والماضوية وما إليها من تعبيرات إقصائية.

 

• وواقع الحال أنَّ ثنائية الولاء والبراء موجودة في واقعنا السياسي اليوم في شتَّى المجتمعات الحَضَرية التي يحكمها نمطٌ من الحكم الحديث، سواءٌ أكان حكمًا ديمقراطيًّا أم كان عسكريًّا انقلابيًّا أم كان تعاقُديًّا، أم أيَّ نوعٍ من أنواع الحكم. فالتابعون للأحزاب السياسية يمارسون هذه الثنائية بما يعود على الحزب بالنفع. وقد يقتصر البراء لدى هذه الفئات على البراءة من تعاليم الأحزاب الأخرى، دون إعلان الحرب الفعلية عليها، بل يُقتصر على الحرب الكلامية الإعلامية. وتختلف هذه الممارسات بحسب البيئة السياسية التي تبرز فيها ثنائية الولاء والبراء، وبحسب التطبيق الفعلي لمفهوم الديموقراطية. ولطالما زرعت الأحزاب القسرية عيونها بين الناس ترصد ولاءهم القسري للحزب بالقمع والتضييق والتهميش، مما زاد من هجرة الناس عن مواطن الأحزاب القسرية، فساحوا في الأرض يلتمسون الرزق والأمن والأمان.

 

ثنائيات في الإدارة:

• ويمكن أنْ يكون من هذه الثنائيات المتلازمة في مجال الإدارة ثنائية الاقتناع والإرادة في مدى جدوى الأنظمة والقوانين واللوائح والضوابط في إدارة المشروعات والبرامج قبل الشروع في تنفيذها. وعوامل الفشل في كثيرٍ من المشروعات والبرامج تعود - في الغالب - إلى فقدان أحد عنصري هذه الثنائية أو كليهما في حضور الجدوى والعلَّة أو الحكمة المبتغاة من وراء المشروع، ولا يغني أحدهما عن الآخر.

 

• ويبدو هذا واضحًا في حال العزل بين التخطيط والتنفيذ، إذا كان المخطِّطون في وادٍ يميل إلى المثالية والتحليق، بينما المنفِّذون هم الذين يعرفون الواقع ويمارسونه ويدركون ظروفه وإمكانات تطبيق المشروعات والبرامج عليه. وما لم يشارك التنفيذيُّون في رسم المشروعات والبرامج فإنَّ هذا التجاهُل مدعاة لانعدام الإرادة والاقتناع أو ضعفها على أقلِّ تقدير.

 

• ولا تقتصر هذه الثنائية على المشروعات الكبرى والخطط والاستراتيجيات في الإدارة العامَّة، بل إنَّ سلوكيَّات المرء في مواجهة مشروعاته الخاصَّة وخططه السريعة مع ذاته وبيئته وأهله ومن يحيط به، تحتاج إلى قدرٍ عالٍ من الإرادة والاقتناع. ويمكن أنْ يطبّق الفردُ هذه الثنائية فيما يعنُّ له من متطلَّبات التغيير أو السير على نمط مختلفٍ عمَّا كان يسير عليه في العادية، فيلفظ التغيير ويرفضه، ويفضِّل بقاء الأمر على ما هو عليه. ومن أبرز أسباب هذا الرفض ضعف توافُر ثنائية الاقتناع والإرادة لديه.

 

• وفي التخطيط الاستراتيجي تلتقي ثنائيات شبه متلازمة، كالفُرص Opportunities والتهديدات Threats - وربَّما سمَّاها البعض المخاطر Risks وهي إلى التهديدات أقرب - التي قد تواجه أي َّمشروع يُخطَّط له، إذ لا فُرصَ دون تهديدات في الأعمال التي تُحال من مرحلة التخطيط إلى مرحلة التنفيذ[16].

 

• وكذلك من الثنائيات المتلازمة في هذا الشأن عناصر القوة وعناصر الضعف، ومثلها عنصرا، أو ثنائية البيئة الداخلية والبيئة الخارجية للمشروع، وعنصر ثنائية المعنيّين بالمشروع، من حيث المنفِّذون والمستفيدون داخل المشروع وخارجه. فهذه ثنائيات في التخطيط الاستراتيجي متلازمة، لا يُنظر إلى تأثير جزءٍ منها بمعزلٍ عن تأثير الجزء الآخر، وإنْ تفاوت مدى التأثير بينها.



[1] انظر: محمد إقبال الناطي الندْوي. أخلاقيات الحرب في الإسلام. - الرباط: المنظَّمة الإسلامية للتربية والثقافة والعلوم، 1435هـ/ 2014م. – 196 ص. وانظر أيضًا: أحمد أبو الوفا. أخلاقيَّات الحرب في السيرة النبوية: دراسة مقارنة مع القواعد الحاليَّة للقانون الدولي الإنساني. - القاهرة: دار النهضة المصرية، 1430هـ/ 2009م. – 322 ص.

[2] انظر في هذا: أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية، أبا العبَّاس تقيَّ الدين. مجموع الفتاوى/ جمع وترتيب عبد الرحمن بن محمد بن قاسم العاصمي النجدي الحنبلي وساعده ابنه محمد. - 37 مج. - الرياض: دار عالم الكتب، 1412هـ/ 1991م. - 28: 169.

[3] انظر في هذا: أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية، أبا العبَّاس تقيَّ الدين. مجموع الفتاوى. - المرجع السابق. - 28: 137.

[4] انظر في هذا: أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية، أبا العبَّاس تقيَّ الدين. مجموع الفتاوى. - المرجع السابق. - 28: 137.

[5] انظر: جون غراي. الرجال من المرِّيخ والنساء من الزهرة: الدليل الرائع لفهم الجنس الآخر/ ترجمة حمود الشريف. - الرياض: مكتبة جرير، 1992م. – 286 ص.

[6] من قصيدة له بعنوان تلميذة، ومطلعها:

قل لي ولو كذبًا كلامًا ناعمًا
قد كاد يقتلني بك التمثالُ
ما زلتِ في فنّ المحبَّة طفلةً
بيني وبينكِ أبحرٌ وجبالُ
لم تستطيعي بعد أن تتفهَّمي
أنَّ الرجالَ جميعَهم أطفالُ

[7]رواه البخاري.

[8] وتمام الأبيات وفيها من الثنائيات الضدِّية ما لا يخفى على القارئ:

ولستُ بهيَّابٍ لمن لا يهابُني
ولستُ أرى للمرءِ ما لا يرى ليا
فإن تدنُ مني تدنُ منك مودَّتي
وإنْ تنأ عنِّي تلقني عنك نائيا
كلانا غنيٌّ عن أخيه حياتَه
ونحنُ إذا مِتْنا أشَدُّ تَغانيا

[9] عَنْ عُرْوَةَ بن الزُّبَيْر عَنْ عائِشةَ رضي الله عنها، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (مَنِ الْتَمَسَ رِضَا اللَّهِ بِسَخَطِ النَّاسِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَأَرْضَى عَنْهُ النَّاسَ. وَمَنِ الْتَمَسَ رِضَا النَّاسِ بِسَخَطِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَسْخَطَ عَلَيْهِ النَّاسَ». رواه ابن حبَّان في صحيحه.

[10] انظر: موقع أهل الحديث الإلكتروني. (دُرر للإمام الشافعي في آداب المناظرة). (21/ 10/ 1436هـ - 6/ 8/ 2015م).

[11] رواه الترمذي، وابن ماجه برقم، وحسَّنه الألباني في صحيح الترمذي.

[12] رواه البخاري ومسلم.

[13] حَدَّثَنَا قَالَ: حَدَّثَنَا عَنْ عَنْ عَنْ قَالَ: سَأَلْتُ عائشة (ر) عن خُلُقِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَتْ: كَانَ خُلُقُهُ الْقُرْآنَ. حديث مرفوع ورقمه 129.

[14] انظر في مناقشة مفهوم الولاء والبراء من منطلق علمي/ شرعي: مُحَمَّد بن سعيد بن سالم القحطاني. الولاء والبراء في الإسلام من مفاهيم عقيدة السلف. - الرياض: دار طيبة، 1405هـ/ 1985م. - 476 ص.

[15] انظر: حاتم بن عارف بن ناصر الشريف. الولاء والبراء بين الغلوّ والجفاء في ضوء الكتاب والسنَّة. - في: جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية. السجلُّ العلمي لمؤتمر موقف الإسلام من الإرهاب: مؤتمر عالمي عن قضايا الإرهاب والعنف والغلوّ نظَّمته جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية 1 - 3 ربيع الأوَّل 1425هـ/ 20 - 22 أبريل 2004م. - 5 مج. - الرياض: الجامعة، 1425هـ/ 2004م. - 2: 463 - 497.

[16] انظر: الفرص والمخاطر: إدارة عدم التأكُّد. - ص 163 - 169. - في: روبرت جي ويتمان وماتياس بي رويتر وريناته ماجيرل. التخطيط الإستراتيجي: كيف تحصل على أقصى قيمة باتِّباع استراتيجية أعمال فعَّالة/ ترجمة بسمة ياسين. - القاهرة: مجموعة النيل العربية، 2011م. – 200 ص.





 حفظ بصيغة PDFنسخة ملائمة للطباعة أرسل إلى صديق تعليقات الزوارأضف تعليقكمتابعة التعليقات
شارك وانشر


 



أضف تعليقك:
الاسم  
البريد الإلكتروني (لن يتم عرضه للزوار)
الدولة
عنوان التعليق
نص التعليق

رجاء، اكتب كلمة : تعليق في المربع التالي

شارك معنا
في نشر مشاركتك
في نشر الألوكة
سجل بريدك
  • السيرة الذاتية
  • البحوث
  • المقالات
  • الكتب
  • المرئيات
  • في مرآة الصحافة
  • قائمة المواقع الشخصية
حقوق النشر محفوظة © 1446هـ / 2025م لموقع الألوكة