• الصفحة الرئيسيةخريطة الموقعRSS
  • الصفحة الرئيسية
  • سجل الزوار
  • وثيقة الموقع
  • اجعلنا صفحتك الرئيسة
  • اتصل بنا
English Alukah
شبكة الألوكة شبكة إسلامية وفكرية وثقافية شاملة تحت إشراف الدكتور خالد الجريسي والدكتور سعد الحميد
صفحة الكاتب  
شبكة الألوكة / موقع ثقافة ومعرفة / فكر


علامة باركود

التوازن في حياة الإنسان: نظرة قرآنية وتنموية

التوازن في حياة الإنسان: نظرة قرآنية وتنموية
أ. محمد كمال الدلكي


تاريخ الإضافة: 5/11/2025 ميلادي - 15/5/1447 هجري

الزيارات: 200

 حفظ بصيغة PDFنسخة ملائمة للطباعة أرسل إلى صديق تعليقات الزوارأضف تعليقكمتابعة التعليقات
النص الكامل  تكبير الخط الحجم الأصلي تصغير الخط
شارك وانشر

التوازن في حياة الإنسان: نظرة قرآنية وتنموية

 

في عالم تتزايد فيه التحديات وتتسارع الإيقاعات، يصبح مفهوم التوازن في الحياة ضرورةً وجوديةً، لا ترفًا فكريًّا أو شعارًا مثاليًّا، فالحياة المتناغمة لا تعني توزيعًا ميكانيكيًّا متساويًا للوقت أو الجهد بين مجالات الحياة، بل هي حالة من انسجام داخليٍّ وتكامل وظيفي بين مختلف الجوانب: الروحية، والنفسية، والعلمية، والمهنية، والاجتماعية، والمالية، فالتوازن ليس مساواةً صارمة بقدر ما هو انسجام حكيم يراعي الأولويات، ويحقق التوازن بين متطلبات الحياة المتعددة دون إفراط أو تفريط.

 

وهنا، تبرُز الحاجة إلى منظومة فكرية متكاملة تستمد هُداها من نور القرآن الكريم، فالحديث عن التوازن يُحيلنا – في الواقع - إلى تصور قرآني عميق؛ حيث إن القرآن الكريم لم يكن - يومًا من الأيام - كتابَ عبادات فحسب، بل كان وسيظل كتابَ حياة، يرسم للإنسان والإنسانية خريطةَ النجاة والتوازن، ويقدِّم أنموذجًا فريدًا في بناء شخصية متزنة، تعي أبعاد وجودها في هذا الكون، فنجد القرآن الكريم، وهو كتاب الهداية الربانية، قد رسم لنا معالم هذا التوازن في أبعاد متعددة من حياة الإنسان؛ يقول الله تعالى: ﴿ وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا ﴾ [البقرة: 143]، والوسطية هنا ليست وسطيةً جغرافية، بل هي وسطية فكرية وسلوكية وروحية، تقوم على العدل والاعتدال، وتنبذ الغلو والتطرف أو الإفراط والتفريط؛ كما يؤكد النبي صلى الله عليه وسلم هذا المعنى حين يقول: ((إن لبدنك عليك حقًّا، وإن لأهلك عليك حقًّا، وإن لزَورِك عليك حقًّا))؛ [رواه البخاري]، في إشارة صريحة إلى ضرورة التوازن بين الحقوق والواجبات.

 

في السياق التنموي، يشير المختصون في إدارة الذات إلى أن اختلال التوازن يؤدي إلى نتائجَ سلبية على الصعيد النفسي والجسدي والاجتماعي، تتراوح بين الإرهاق، والقلق، والعلاقات المتوترة، وصولًا إلى فقدان المعنى في الحياة؛ ولذلك، يُعد التوازن هدفًا إستراتيجيًّا في مسار التنمية الشخصية والمهنية، وهو ما يجعلنا أمام تحدٍّ كبير في عصرٍ تتزاحم فيه الالتزامات، وتتعدد فيه المغريات.

 

إن التوازن الروحيَّ يشكِّل الأساس الذي يُبنى عليه التوازن في الجوانب الأخرى، فحين تتغذى الروح بالإيمان والذكر والتأمل في آيات الله، يكتسب الإنسان سَكينة داخلية تُعينه على مواجهة ضغوط الحياة، وقد لمسنا هذا التوازنَ في القرآن الكريم حين جمع بين الإيمان والعمل، بين العبادة والسعي؛ فقال تعالى: ﴿ فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ * وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ ﴾ [الشرح: 7، 8]، فالإيمان في القرآن مرتبط بالعمل، واليقين مرتبط بالسعي، والذكر مرتبط بالمسؤولية؛ قال تعالى: ﴿ إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا ﴾ [المزمل: 19]؛ أي: إن التوازن الروحي لا يعني الانعزال، بل اتخاذ السبيل، أي السعي المنضبط بالإيمان، وهذا ما يؤكده المفكر الأمريكي ستيفن كوفي في كتابه "العادات السبع للناس الأكثر فعالية"، حين أشار إلى أن الفعالية الحقيقية تبدأ من الداخل، من عمق القيم والمبادئ.

 

أما في الجانب الأُسري والاجتماعي، فإن التوازن هنا يعني بناء علاقات قائمة على المودة والرحمة دون استنزاف للذات، لا بد للإنسان من أن يحفظ لنفسه خصوصيتها، ويوازن بين حاجته للعزلة والتأمل، وحاجته للانخراط في المجتمع والمشاركة في همومه، وهذا التوازن يتطلب وعيًا بذاتك وحدود عطائك، ويمنحك القدرة على قول "لا"، حين تشعر أن الأمر سيؤثر على سلامك الداخلي؛ ففي السياق الأسري والاجتماعي، نجد أن القرآن يوازن بين الفردية والجماعية، بين المسؤولية الذاتية والتضامن المجتمعي؛ جاء في قوله تعالى: ﴿ وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا ﴾ [الإسراء: 23]، وهذا الربط بين التوحيد وبرِّ الوالدين يمثِّل قمة التوازن بين العلاقة مع الله والعلاقة مع الخلق، والتجربة الحياتية تشير وفقًا للواقع المعيش إلى أن الإنسان حين يُهمل هذا الجانب، فإنه يفقد توازنه العاطفي والاجتماعي، ويدخل في دوامة من التشتت والانفصال عن الذات.

 

وفي الجانب العلمي، يظهر التوازن من خلال الجمع بين الأصالة والتجديد، بين التخصص الدقيق والثقافة الواسعة، وهنا أستحضر من تجربتي في تدريس اللغة العربية للناطقين بغيرها أنه من غير المقبول أن يخرج المتعلم بلا ثقافة عامة، فإن الاقتصار على المهارات اللغوية دون فهم السياقات الثقافية والدينية والمعرفية، يجعل منه كالعامل الذي لا يتقن سوى "وضع شريحة الجبن"، كما شبهت ذلك في أحد اللقاءات، دون القدرة على "صنع وجبة البرغر" كاملة؛ ومن هنا نستلهم من قوله تعالى: ﴿ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ ﴾ [الزمر: 9]، دعوةً صريحةً للتوازن المعرفي القائم على الوعي والتكامل.

 

فنستطيع القول: إن التوازن بين التخصص العميق والثقافة العامة ضرورة لا ترفٌ، وهو أشبه بالمستوى الديكارتي بخطَّيه العمودي والأفقي، واحدٍ لتكون شيئًا في كل شيء، وواحد لتكون كل شيء في شيء، فالمعرفة الموسوعية لا تُغني عن التخصص، والعكس صحيح، بل إن تآزُر الاثنين هو ما يصنع الشخصية العلمية القادرة على العطاء المتجدد، والتي تعي تمام الوعي خطر الانغلاق في "فقاعة التخصص".

 

ويُعد التوازن التربويُّ من أصعب التوازنات، خاصة في عصر التكنولوجيا وتسارع وتيرة الحياة، فالمربِّي مطالَب بأن يكون حازمًا دون أن يكون قاسيًا، رحيمًا دون أن يكون ضعيفًا، مرنًا دون أن يكون متهاونًا، ولعل من المناسبات القرآنية الدالة على هذا المعنى ما ورد في سورة طه عند الحديث عن موسى وهارون عليهما السلام في دعوتهما لفرعون: ﴿ فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى ﴾ [طه: 44].

 

وفي الجانب المهني، تظهر أهمية التوازن جليَّة في التوفيق بين الاجتهاد والإبداع من جهة، وتجنُّب الاحتراق الوظيفي من جهة أخرى، فالانخراط الزائد في العمل دون فواصل راحة، أو تجديدٍ، يقتل روح الإبداع ويؤدي إلى التبلُّد الذهني؛ ومن هنا، تأتي أهمية تنظيم الوقت، والتخطيط للأولويات، وممارسة الرياضة، وتخصيص وقت للعائلة وللهوايات، بما يُعيد التوازن إلى النفس ويجدد الطاقة، وقد أشار إلى هذا المعنى روبن شارما في كتابه "الراهب الذي باع سيارته الفيراري"؛ حيث شدد على ضرورة تخصيص وقت للذات من أجل الاستمرار في العطاء؛ وهذا يتقاطع مع قوله تعالى: ﴿ فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ * وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ ﴾ [الشرح: 7، 8]، في دلالة على التوازن بين الإنجاز المهني والتأمل الروحي.

 

إن التوازن الجسدي والنفسيَّ لا يقلَّان أهميةً في المنظور القرآني عما سبق من توازنات، فهذا النوع من التوازن هو ما يمنح الإنسان القدرة على المواصلة، فالصحة ليست رفاهية، بل ضرورة شرعية وعقلية؛ وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف))؛ [رواه مسلم]، وهذا يشمل التوازن بين الرياضة والتغذية، وبين الراحة والعمل، وبين تقدير الذات والتواضع، وبين الاعتناء بالجسد وتزكية الروح، فالصحة الجسدية والنفسية في القرآن ليست مطلبًا ثانويًّا، بل شرطٌ في العبادة والعمل والعيش الكريم؛ يقول تعالى: ﴿ وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاسًا * وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشًا ﴾ [النبأ: 10، 11]، وهو تأكيد على دور النوم والعمل في إحداث التوازن اليومي، أما من منظور التنمية البشرية، فتوصي أدبياتها دومًا بما يُعرف بـ "ساعة الروح، ساعة الجسد، وساعة العقل"، لتحقيق الاتزان الذاتي.

 

ماليًّا، يعاني كثير من الناس من اختلالات ناجمة عن البذخ أو البخل، وكلاهما مذموم في الشرع؛ يقول تعالى: ﴿ وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا ﴾ [الفرقان: 67]، وهذا هو عين التوازن المالي الذي يدعو إليه الإسلام؛ فالإسلام هو الميزان.

 

إن الإخلالَ بالتوازن له تبِعات كارثية، فاختلال جانبٍ واحد يؤثر في بقية الجوانب، ومن خبرتي الشخصية كأكاديميٍّ ومدرب تربويٍّ، رأيتُ كيف يؤثر التوتر النفسي الناتج عن عدم التوازن في الأداء المهني للمعلمين إلى احتراق ذاتي، يظهر لاحقًا في علاقاتهم بأسرهم وطلبَتِهم، مما ينعكس مباشرة على أداء الطلبة، ويُحدث فجوة في التفاعل الصفي، بل في الرسالة التربوية ذاتها، وقد أثبتت الدراسات النفسية في المقابل أن التوازن يقلِّل من مستويات القلق والاكتئاب، ويزيد من الشعور بالرضا والإنجاز.

 

في النهاية، لا بد من الإشارة إلى أن مفهوم التوازن لا يُفهم إلا بفَهم الإنسان لنفسه أولًا، ولدوره في هذا الوجود ثانيًا، ولرسالته في ضوء مرجعيته القرآنية ثالثًا، فحين يتكامل هذا الإدراك، يصبح التوازن نمطَ حياةٍ، لا مجردَ وصفة علاجية مؤقتة، إنه مشروع مستمرٌّ من التربية الذاتية، والتنمية المتزنة، والتأمل في سنن الله في النفس والكون، واستحضار الآيات القرآنية التي تربط كل ذلك بنسق لغوي ومعنويٍّ مُحكَم.

 

ويبقى سؤال: كيف نحقِّق هذا التوازن؟ والإجابة تبدأ من التأمل الذاتي، ومراجعة الأولويات، وتنظيم الوقت، وتحديد الأهداف، وتعلُّم قول "لا" حين تقتضي المصلحة، وطلب المساعدة دون خجل، وتخصيص وقت يومي للروح، والجسد، والفكر، ولأجل ترميم هذا الخلل، يُعَدُّ التأمل الذاتي أداة أساسية، فمراجعة الأولويات، وتنظيم الوقت، والقدرة على قول "لا" عند الحاجة، جميعها إستراتيجيات يدعو إليها علم إدارة الذات؛ وتتقاطع مع قوله تعالى: ﴿ قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا ﴾ [الشمس: 9، 10]، فالفلاح مرتبط بتزكية النفس؛ أي بتنقيتها، وتحقيق اتزانها.

 

إن التوازن لا يُهدَى، بل يُصنع، وهو مشروع عمرٍ يتجدد بتجدد الفهم والتجربة؛ ومن هنا، فإن استلهام قيم التوازن من القرآن والسنة، واستثمار أدوات التنمية البشرية، والرجوع إلى تجارب الذات، يشكِّل المسار الأمثل لحياة أكثر انسجامًا وطمأنينة.





 حفظ بصيغة PDFنسخة ملائمة للطباعة أرسل إلى صديق تعليقات الزوارأضف تعليقكمتابعة التعليقات
شارك وانشر


 



أضف تعليقك:
الاسم  
البريد الإلكتروني (لن يتم عرضه للزوار)
الدولة
عنوان التعليق
نص التعليق

رجاء، اكتب كلمة : تعليق في المربع التالي

شارك معنا
في نشر مشاركتك
في نشر الألوكة
سجل بريدك
  • السيرة الذاتية
  • الثقافة الإعلامية
  • التاريخ والتراجم
  • فكر
  • إدارة واقتصاد
  • طب وعلوم ومعلوماتية
  • عالم الكتب
  • ثقافة عامة وأرشيف
  • تقارير وحوارات
  • روافد
  • من ثمرات المواقع
  • قائمة المواقع الشخصية
حقوق النشر محفوظة © 1447هـ / 2025م لموقع الألوكة