• الصفحة الرئيسيةخريطة الموقعRSS
  • الصفحة الرئيسية
  • سجل الزوار
  • وثيقة الموقع
  • اجعلنا صفحتك الرئيسة
  • اتصل بنا
English Alukah
شبكة الألوكة شبكة إسلامية وفكرية وثقافية شاملة تحت إشراف الدكتور خالد الجريسي والدكتور سعد الحميد
 
صفحة الكاتب  موقع الدكتور صغير بن محمد الصغيرد. صغير بن محمد الصغير الدكتور صغير بن محمد الصغير عليه وسلم
شبكة الألوكة / موقع د. صغير بن محمد الصغير / خطب مكتوبة
لمراسلة الدكتور صغير الصغير


Tweets by d_sogher
علامة باركود

نماذج من سير العلماء والصالحين (4) الإمام البخاري رحمه الله تعالى

د. صغير بن محمد الصغير


تاريخ الإضافة: 17/1/2019 ميلادي - 10/5/1440 هجري

الزيارات: 26930

 حفظ بصيغة PDFنسخة ملائمة للطباعة أرسل إلى صديق تعليقات الزوارأضف تعليقكمتابعة التعليقات
النص الكامل  تكبير الخط الحجم الأصلي تصغير الخط
شارك وانشر

نماذج من سير العلماء والصالحين (4)

الإمام البخاري رحمه الله تعالى


الْحَمْدُ لِلَّهِ، نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا، وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولَهُ، ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ ﴾، ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا ﴾، ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا ﴾.


أَمَّا بَعْدُ: فَإِنَّ أَصْدَقَ الْحَدِيثِ كَلَامُ اللَّهِ، وَخَيْرَ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم وَشَّرَّ الْأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا، وَكُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ، وَكُلَّ ضَلَالَةٍ فِي النَّارِ.

 

أيها الإخوة: لا يزال الحديث عن سير العلماء كالطِّيب، من أصلهِ يفوح شذاه، يضفي على المسلم انشراحاً، بل وثباتاً حقًّا، ومعنا اليوم عالمٌ نطُّل على سيرته إطلالة سريعة، إنه وحدَه رحمه الله جامعةٌ تخرَّج منها: أمثالُ الإمام مسلم، والإمامِ الترمذي، والإمامِ النسائي، والإمامِ أبي حاتم، والإمامِ أبي زرعة، وابن خزيمة، وخلقٌ كثير.

 

قال الإمامُ ابن كثير رحمه الله: وروى الخطيب البغدادي عن محمد بن يوسف الفِرَبْرِي، أحد أكبر تلاميذ البخاري، أنه قال: «سمع الصحيح من البخاري معي نحوٌ من سبعين ألفًا»[1]، ولم يكد يشتهر بين الناس بسعة حفظه وتثبُّته وإتقانه حتى أقبل طلاب الحديث يسعون إليه ويتحلّقون حوله طلباً للرواية عنه والسماع منه، قال محمد بن أبي حاتم ورّاق البخاري: «كان أهل المعرفة يَعْدون خلفه في طلب الحديث وهو شاب حتى يغلبوه على نفسه ويجلسوه في بعض الطريق فيجتمع عليه ألوف أكثرهم ممن يكتب عنه وكان شاباً لم يخرج وجهه»[2].

 

إنه الإمام محمد بن إسماعيل بن إبراهيم بن المغيرة بن بَرْدِزبَه الجعفي البخاري، صاحب كتاب الجامع الصحيح، المشهور باسم صحيح البخاري، الذي أجمع علماءُ أهل السنة والجماعة أنه أصح الكتب بعد القرآن الكريم وتلقته الأمة بالقبول.[3] وقد أمضى في جمعه وتصنيفه ستة عشر عاماً. قال رحمه الله: «ما وضعت في كتابي الصحيح حديثاً إلا اغتسلت قبل ذلك وصليت ركعتين»[4].

 

وُلِدَ الْبُخَارِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي لَيْلَةِ الْجُمُعَةِ الثَّالِثَ عَشَرَ مِنْ شَوَّالٍ سَنَةَ أَرْبَعٍ وَتِسْعِينَ وَمِائَةٍ، وَمَاتَ أَبُوهُ وَهُوَ صَغِيرٌ، فَنَشَأَ فِي حِجْرِ أُمِّهِ، فَأَلْهَمَهُ اللَّهُ حِفْظَ الْحَدِيثِ وَهُوَ صغير، وَقَرَأَ الْكُتُبَ الْمَشْهُورَةَ وَهُوَ ابْنُ سِتَّ عَشْرَةَ سَنَةً حَتَّى قِيلَ: إِنَّهُ كَانَ يَحْفَظُ وَهُوَ صَبِيٌّ سَبْعِينَ أَلْفَ حَدِيثٍ سَرْدًا. وَحَجَّ وَعَمُرُهُ ثَمَانِي عَشْرَةَ سَنَةً، فَأَقَامَ بِمَكَّةَ يَطْلُبُ بِهَا الْحَدِيثَ، ثُمَّ ارْتَحَلَ بَعْدَ ذَلِكَ إِلَى سَائِرِ مَشَايِخِ الْحَدِيثِ فِي الْبُلْدَانِ الَّتِي أَمْكَنَهُ الرِّحْلَةُ إِلَيْهَا، وَكَتَبَ عَنْ أَكْثَرَ مِنْ أَلْفِ شَيْخٍ، وَرَوَى عَنْهُ خَلَائِقُ وَأُمَمٌ.

 

وَقَدْ دَخَلَ الإمام البخاري رحمه الله بَغْدَادَ ثَمَان مَرَّاتٍ، وَفِي كُلٍّ مِنْهَا يَجْتَمِعُ بِالْإِمَامِ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ.

كَانَ الْبُخَارِيُّ يَسْتَيْقِظُ فِي اللَّيْلَةِ الْوَاحِدَةِ مِنْ نَوْمِهِ فَيُورِي السِّرَاجَ، وَيَكْتُبُ الْفَائِدَةَ تَمُرُّ بِخَاطِرِهِ ثُمَّ يُطْفِئُ سِرَاجَهُ، ثُمَّ يَقُومُ مَرَّةً أُخْرَى حَتَّى كَانَ يَتَعَدَّدُ ذَلِكَ مِنْهُ قَرِيبًا مِنْ عِشْرِينَ مَرَّةً.

 

وَقَدْ كَانَ أُصِيبَ بَصَرُهُ وَهُوَ صَغِيرٌ، فَرَأَتْ أُمُّهُ إِبْرَاهِيمَ الْخَلِيلَ، عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، فَقَالَ: يَا هَذِهِ، قَدْ رَدَّ اللَّهُ عَلَى وَلَدِكِ بَصَرَهُ بِكَثْرَةِ دُعَائِكِ، أَوْ قَالَ: بُكَائِكِ. فَأَصْبَحَ وَهُوَ بَصِيرٌ.

 

وَقَالَ الْبُخَارِيُّ: فَكَّرْتُ الْبَارِحَةَ فَإِذَا أَنَا قَدْ كَتَبْتُ فِي مُصَنَّفَاتِي نَحْوًا مِنْ مِائَتَيْ أَلْفِ حَدِيثٍ مُسْنَدَةً، وَكَانَ يَحْفَظُهَا كُلَّهَا.

 

ودَخَلَ مَرَّةً إِلَى سَمَرْقَنْدَ فَاجْتَمَعَ بِهِ أَرْبَعُمِائَةٍ مِنْ عُلَمَاءِ الْحَدِيثِ بِهَا، فَرَكَّبُوا لَهُ أَسَانِيدَ وَأَدْخَلُوا إِسْنَادَ الشَّامِ فِي إِسْنَادِ الْعِرَاقِ، وَخَلَطُوا الرِّجَالَ فِي الْأَسَانِيدِ، وَجَعَلُوا مُتُونَ الْأَحَادِيثِ عَلَى غَيْرِ أَسَانِيدِهَا، ثُمَّ قَرَؤوهَا عَلَى الْبُخَارِيِّ، فَرَدَّ كُلَّ حَدِيثٍ إِلَى إِسْنَادِهِ، وَقَوَّمَ تِلْكَ الْأَحَادِيثَ وَالْأَسَانِيدَ كُلَّهَا، وَمَا تَعَلَّقُوا عَلَيْهِ بِسَقْطَةٍ فِي إِسْنَادٍ وَلَا فِي مَتْنٍ. وَكَذَلِكَ صَنَعَ بِمِائَةِ مُحَدِّثٍ فِي أَهْلِ بَغْدَادَ.

 

وَقَدْ ذَكَرُوا أَنَّهُ كَانَ يَنْظُرُ فِي الْكِتَابِ مَرَّةً وَاحِدَةً فَيَحْفَظُ مَا فِيهِ مِنْ نَظْرَةٍ وَاحِدَةٍ، وَالْأَخْبَارُ عَنْهُ فِي هَذَا الْمَعْنَى كَثِيرَةٌ.

 

وَقَدْ أَثْنَى عَلَيْهِ عُلَمَاءُ زَمَانِهِ مِنْ شُيُوخِهِ وَأَقْرَانِهِ: فَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: مَا أَخْرَجَتْ خُرَاسَانُ مِثْلَهُ. وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ الْمَدِينِيِّ: لَمْ يَرَ الْبُخَارِيُّ مِثْلَ نَفْسِهِ. وَقَالَ مَحْمُودُ بْنُ النَّضْرِ أَبُو سَهْلٍ الشَّافِعِيُّ: دَخَلْتُ الْبَصْرَةَ وَالشَّامَ وَالْحِجَازَ وَالْكُوفَةَ، وَرَأَيْتُ عُلَمَاءَهَا كُلَّمَا جَرَى ذِكْرُ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْمَاعِيلَ الْبُخَارِيِّ فَضَّلُوهُ عَلَى أَنْفُسِهِمْ.

 

وَقَالَ نُعَيْمُ بْنُ حَمَّادٍ: هُوَ فَقِيهُ هَذِهِ الْأُمَّةِ. وَقَالَ قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ: هُوَ آيَةٌ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ يَمْشِي عَلَى الْأَرْضِ.

 

وَقَالَ أَحْمَدُ بْنُ حَمْدُونَ الْقَصَّارُ: رَأَيْتُ مُسْلِمَ بْنَ الْحَجَّاجِ جَاءَ إِلَى الْبُخَارِيِّ فَقَبَّلَ بَيْنَ عَيْنَيْهِ، وَقَالَ: دَعْنِي حَتَّى أُقَبِّلَ رِجْلَيْكَ يَا أُسْتَاذَ الْأُسْتَاذِينَ، وَسَيِّدَ الْمُحَدِّثِينَ، وَطَبِيبَ الْحَدِيثِ فِي عِلَلِهِ. ثُمَّ سَأَلَهُ عَنْ حَدِيثِ كَفَّارَةِ الْمَجْلِسِ، فَذَكَرَ لَهُ عِلَّتَهُ، فَلَمَّا فَرَغَ قَالَ مُسْلِمٌ: لَا يُبْغِضُكَ إِلَّا حَاسِدٌ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَيْسَ فِي الدُّنْيَا مِثْلُكَ. وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: لَمْ أَرَ بِالْعِرَاقِ وَلَا بِخُرَاسَانَ فِي مَعْنَى الْعِلَلِ وَالتَّارِيخِ وَمَعْرِفَةِ الْأَسَانِيدِ أَعْلَمَ مِنَ الْبُخَارِيِّ. وَكُنَّا يَوْمًا عِنْدَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُنِيرٍ، فَقَالَ لِلْبُخَارِيِّ: جَعَلَكَ اللَّهُ زَيْنَ هَذِهِ الْأُمَّةِ. قَالَ التِّرْمِذِيُّ: فَاسْتُجِيبَ لَهُ فِيهِ.

 

وَقَالَ ابْنُ خُزَيْمَةَ: مَا رَأَيْتُ تَحْتَ أَدِيمِ السَّمَاءِ أَعْلَمَ بِحَدِيثِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَحْفَظَ لَهُ مِنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْمَاعِيلَ الْبُخَارِيِّ.

قال ابن كثير رحمه الله تعالى: وَلَوْ ذَهَبْنَا نُسَطِّرُ مَا أَثْنَى عَلَيْهِ الْأَئِمَّةُ فِي حِفْظِهِ وَإِتْقَانِهِ وَعِلْمِهِ وَفِقْهِهِ وَوَرَعِهِ وَزُهْدِهِ وَتَبَحُّرِهِ لَطَالَ عَلَيْنَا.

 

وَقَدْ كَانَ الْبُخَارِيُّ، رَحِمَهُ اللَّهُ، فِي غَايَةِ الْحَيَاءِ وَالشَّجَاعَةِ وَالسَّخَاءِ وَالْوَرَعِ وَالزُّهْدِ فِي الدُّنْيَا دَارِ الْفَنَاءِ، وَالرَّغْبَةِ فِي الْآخِرَةِ دَارِ الْبَقَاءِ. قَالَ: أَرْجُو أَنْ أَلْقَى اللَّهَ وَلَيْسَ أَحَدٌ يُطَالِبُنِي أَنِّي اغْتَبْتُهُ..

 

وَقَدْ كَانَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يُصَلِّي فِي كُلِّ لَيْلَةٍ ثَلَاثَ عَشْرَةَ رَكْعَةً، وَكَانَ يَخْتِمُ الْقُرْآنَ فِي كُلِّ لَيْلَةٍ مِنْ رَمَضَانَ خَتْمَةً، وَكَانَتْ لَهُ جِدَةٌ وَمَالٌ جَيِّدٌ يُنْفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَجَهْرًا، وَكَانَ يُكْثِرُ الصَّدَقَةَ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلَانِيَةً، وَكَانَ مُسْتَجَابَ الدَّعْوَةِ، مُسَدَّدَ الرَّمْيَةِ، شَرِيفَ النَّفْسِ، بَعَثَ إِلَيْهِ بَعْضُ السَّلَاطِينِ لِيَأْتِيَهُ حَتَّى يَسْمَعَ أَوْلَادُهُ عَلَيْهِ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ: فِي بَيْتِهِ يُؤْتَى الْحَكَمُ، إِنْ كُنْتُمْ تُرِيدُونَ ذَلِكَ فَهَلُمُّوا إِلَيَّ، وَأَبَى أَنْ يَذْهَبَ إِلَيْهِمْ فَبَقِيَ فِي نَفْسِ الْأَمِيرِ مِنْ ذَلِكَ، فَاتَّفَقَ أَنْ جَاءَهُ كِتَابٌ مِنْ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى الذُّهْلِيِّ مِنْ نَيْسَابُورَ باتهام البخاري رحمه الله بأنّه يقول: لَفْظَهُ بِالْقُرْآنِ مَخْلُوقٌ - وَكَانَ وَقَدْ وَقَعَ بَيْنَ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى الذُّهْلِيِّ وَبَيْنَ الْبُخَارِيِّ فِي ذَلِكَ كَلَامٌ، وَصَنَّفَ الْبُخَارِيُّ فِي ذَلِكَ كِتَابَ "خَلْقِ أَفْعَالِ الْعِبَادِ" - فَأَرَادَ أَنْ يَصْرِفَ النَّاسَ عَنِ السَّمَاعِ مِنَ الْبُخَارِيِّ، وَقَدْ كَانَ النَّاسُ يُعَظِّمُونَهُ جِدًّا، وَحِينَ رَجَعَ إِلَيْهِمْ نَثَرُوا عَلَى رَأْسِهِ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ يَوْمَ دَخَلَ بُخَارَى عَائِدًا إِلَى أَهْلِهِ، وَكَانَ لَهُ مَجْلِسُ الْإِمْلَاءِ بِجَامِعِهَا، فَلَمْ يَقْبَلُوا مِنَ الْأَمِيرِ، فَأَمَرَ عِنْدَ ذَلِكَ بِنَفْيِهِ مِنَ الْبِلَادِ، فَخَرَجَ مِنْهَا وَدَعَا عَلَى خَالِدِ بْنِ أَحْمَدَ، فِلَمْ يَمْضِ شَهْرٌ حَتَّى أَمَرَ ابْنُ طَاهِرٍ بِأَنْ يُنَادَى عَلَى خَالِدِ بْنِ أَحْمَدَ عَلَى أَتَانٍ، وَزَالَ مُلْكُهُ وَسُجِنَ فِي بَغْدَادَ حَتَّى مَاتَ، وَلَمْ يَبْقَ أَحَدٌ سَاعدَهُ عَلَى ذَلِكَ إِلَّا ابْتُلِيَ بِبَلَاءٍ شَدِيدٍ. فَنَزَحَ الْبُخَارِيُّ مِنْ بَلَدِهِ إِلَى بَلْدَةٍ يُقَالُ لَهَا: خَرْتَنْكُ. عَلَى فَرْسَخَيْنِ مِنْ سَمَرْقَنْدَ فَنَزَلَ عِنْدَ أَقَارِبَ لَهُ بِهَا، وَجَعَلَ يَدْعُو اللَّهَ أَنْ يَقْبِضَهُ إِلَيْهِ حِينَ رَأَى الْفِتَنَ، كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ: «وَإِذَا أَرَدْتَ بِقَوْمٍ فِتْنَةً فَتَوَفَّنَا إِلَيْكَ غَيْرَ مَفْتُونِينَ».

 

ثُمَّ اتَّفَقَ مَرَضُهُ عَلَى إِثْرِ ذَلِكَ، فَكَانَتْ وَفَاتُهُ لَيْلَةَ عِيدِ الْفِطْرِ، وَكَانَتْ لَيْلَةَ السَّبْتِ، عِنْدَ صَلَاةِ الْعِشَاءِ وَصُلِّيَ عَلَيْهِ يَوْمَ الْعِيدِ بَعْدَ الظُّهْرِ سَنَةَ سِتٍّ وَخَمْسِينَ وَمِائَتَيْنِ - وَكُفِّنَ فِي ثَلَاثَةِ أَثْوَابٍ بِيضٍ لَيْسَ فِيهَا قَمِيصٌ وَلَا عِمَامَةٌ، وَفْقَ مَا أَوْصَى بِهِ، وَحِينَ دُفِنَ فَاحَتْ مِنْ قَبْرِهِ رَائِحَةُ غَالِيَةٍ أَطْيَبُ مِنَ الْمِسْكِ، وَكَانَ عُمْرُهُ يَوْمَ مَاتَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - ثِنْتَيْنِ وَسِتِّينَ سَنَةً.[5]

 

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: ﴿ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا ﴾.

أقول قولي هذا وأستغفر الله...

 

الخطبة الثانية:

الحمد لله..

أيها الإخوة: تلك هي قُطُوفٌ وشذرات من سيرةِ هذا العالمِ العابدِ الجليلِ رحمه الله، والتي تجعلُ المرءُ يَخْجلُ من نفسهِ حينَ يُقارِنُ سيرتَه بتقصيرِه، ويَعْجَبُ من تخليدِ الله تعالى لها، فها نحن نتذاكرُها بعد ألفٍ ومائتي عامٍ تقريباً، ومِنْ ألْمَعِ العِبَرِ فيها: تلك السنّةُ الكونيةُ والحكمةُ الربانيّة في تقلب أحوال الناس والزمانِ مِنْ رفْعٍ وخَفْضٍ وعز وذل، ﴿ وَتِلْكَ الأيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ ﴾، لكن العاقبةَ في النهاية للمتقين.

 

وكذلكَ من المواعظِ الناطقةِ من سيرته رحمه الله: الصبرُ على الطلب، ومع أنهم رحمهم الله يقطعون الفيافيَ والمسافاتِ الطويلةَ مشياً على الأقدامِ مع قلةِ المؤونةِ وشظف العيشِ إلاّ أنهم يتلذذونَ في التحصيلِ والتحلّقِ على العلماء والمزاحمةِ بالرُّكَبِ، وهنا درسٌ عظيمٌ جداً: أنّ العبادةَ والانقطاعَ لله تعالى سبيلٌ من سبلِ النجاة وقتَ الفتن، قال صلى الله عليه وسلم: (العبادةُ في الهرْجِ كهجرة إليّ) رواه مسلم.

 

ومن أبرز العبر والمواعظ: بقاء هذا العلَم واعتماد الأمة بعد الله تعالى على كتابة خلال هذه القرون الطويلة، فلله دره كم خلدّ علمُه ذكرَه، وكم من الأجور تضاعفَ عنده بسبب إخلاصه! قال ابن كثير رحمه الله: وَقَدْ تَرَكَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - بَعْدَهُ عِلْمًا نَافِعًا لِجَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ، فَعَمَلُهُ فِيهِ لَمْ يَنْقَطِعْ بَلْ هُوَ مَوْصُولٌ بِمَا أَسْدَاهُ مِنَ الصَّالِحَاتِ فِي الْحَيَاةِ، وَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِذَا مَاتَ ابْنُ آدَمَ انْقَطَعَ عَمَلُهُ إِلَّا مِنْ ثَلَاثٍ، مِنْ عِلْمٍ يُنْتَفَعُ بِهِ» الْحَدِيثَ. رَوَاهُ مُسْلِمٌ.[6]

 

فاللهم اغفر لهم وارحمهم واجمعنا بهم في جناتك، واجعلنا ممن سار على نهجهم مقتفينَ سيرةَ أفضل الخلق صلى الله عليه وسلم.



[1] البداية والنهاية ابن كثير 11/25

[2] طبقات الشافعية الكبرى السبكي 2 /217

[3] شرح صحيح مسلم للنووي 1 /14

[4] طبقات الحفاظ للسيوطي 1 /253

[5] انتهى من البداية والنهاية لابن كثير11/ 27 بتصرف.

[6] المرجع السابق.





 حفظ بصيغة PDFنسخة ملائمة للطباعة أرسل إلى صديق تعليقات الزوارأضف تعليقكمتابعة التعليقات
شارك وانشر


 



أضف تعليقك:
الاسم  
البريد الإلكتروني (لن يتم عرضه للزوار)
الدولة
عنوان التعليق
نص التعليق

رجاء، اكتب كلمة : تعليق في المربع التالي

شارك معنا
في نشر مشاركتك
في نشر الألوكة
سجل بريدك
  • السيرة الذاتية
  • كتب وبحوث
  • مقالات
  • خطب مكتوبة
  • صوتيات
  • الاستشارات
  • قائمة المواقع الشخصية
حقوق النشر محفوظة © 1446هـ / 2025م لموقع الألوكة