• الصفحة الرئيسيةخريطة الموقعRSS
  • الصفحة الرئيسية
  • سجل الزوار
  • وثيقة الموقع
  • اجعلنا صفحتك الرئيسة
  • اتصل بنا
English Alukah
شبكة الألوكة شبكة إسلامية وفكرية وثقافية شاملة تحت إشراف الدكتور خالد الجريسي والدكتور سعد الحميد
 
صفحة الكاتب  موقع الدكتور علي الشبلالدكتور علي بن عبدالعزيز الشبل شعار موقع الدكتور علي الشبل
شبكة الألوكة / موقع د. علي بن عبدالعزيز الشبل / مقالات


علامة باركود

شرح العقيدة الواسطية (28)

شرح العقيدة الواسطية (28)
الدكتور علي بن عبدالعزيز الشبل


تاريخ الإضافة: 12/4/2016 ميلادي - 4/7/1437 هجري

الزيارات: 11709

 حفظ بصيغة PDFنسخة ملائمة للطباعة أرسل إلى صديق تعليقات الزوارأضف تعليقكمتابعة التعليقات
النص الكامل  تكبير الخط الحجم الأصلي تصغير الخط
شارك وانشر

شرح العقيدة الواسطية (28)


وَفِي عَرَصَاتِ الْقِيَامَةِ: الْحَوْضُ الْمَوْرُودُ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، مَاؤُهُ أَشَدُّ بَيَاضًا مِنَ اللَّبَنِ، وَأَحْلَى مِنَ الْعَسَلِ، آنِيَتُهُ عَدَدُ نُجُومِ السَّمَاءِ، طُولُهُ شَهْرٌ وَعَرْضُهُ شَهْرٌ، مَنْ يَشْرَبْ مِنْهُ شَرْبَةً لا يَظْمَأْ بَعْدَهَا أَبَدًا.


وَالصِّرَاطُ مَنْصُوبٌ عَلَى مَتْنِ جَهَنَّم - وَهُوَ الْجِسْرُ الَّذِي بَيْنَ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ - يَمُرُّ النَّاسُ عَلَيْهِ عَلَى قَدْرِ أَعْمَالِهِمْ، فَمِنْهُمْ مَنْ يَمُرُّ كَلَمْحِ الْبَصَرِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَمُرُّ كَالْبَرْقِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَمُرُّ كَالرِّيحِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَمُرُّ كَالْفَرَسِ الْجَوَادِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَمُرُّ كَرِكَابِ الإِبِلِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَعْدُو عَدْوًا، وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي مَشْيًا، وَمِنْهُمْ مَنْ يَزْحَفُ زَحْفًا، وَمِنْهُمْ مَنْ يُخْطَفُ خَطْفًا وَيُلْقَى فِي جَهَنَّم؛ فَإِنَّ الْجَسْرَ عَلَيْهِ كَلالِيبُ تَخْطَفُ النَّاسَ بِأَعْمَالِهِمْ، فَمَنْ مَرَّ عَلَى الصِّرَاطِ دَخَلَ الْجَنَّةَ.

 

وَفِي عَرَصَاتِ الْقِيَامَةِ:

العرصة والعرصات هي مواقف القيامة، والقيامة على أرض الشام، لكنها أرض كالزلفة، ليس فيها هضاب، ولا أودية، ولا مرتفعات، ولا منخفضات، وإنما صعيد واحد ﴿ يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ ﴾ [إبراهيم: 48]، وفي هذا الموقف العظيم تحصل هذه الأهوال، هذه العرصات.

 

الْحَوْضُ الْمَوْرُودُ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، مَاؤُهُ أَشَدُّ بَيَاضًا مِنَ اللَّبَنِ، وَأَحْلَى مِنَ الْعَسَلِ، آنِيَتُهُ عَدَدُ نُجُومِ السَّمَاءِ، طُولُهُ شَهْرٌ وَعَرْضُهُ شَهْرٌ:

وفي ذلك الموقف من مراحله الحوض المورود، والحوض مجمع الماء، والمورود الذي يرده الواردون، ولكل نبي حوض كما جاء في الحديث: ((وَحَوْضُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَعْظَمُهَا، وَحَوْضُ صَالِحٍ حَوْضُ نَاقَتِهِ)). الحوض جاء في القرآن في قوله تعالى: ﴿ إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ ﴾ [الكوثر: 1]، والكوثر نهرٌ أعطاه الله نبيَّنا في الجنة، يصب منه ميزابان عظيمان إلى حوضه، وجاءت السنة المتواترة، حتى إن أحاديث الحوض نافت على ستين حديثًا، عُنِيَ بها علماء السلف، وجمعوها، وحققوها، جاء من أوصافه: أَنَّ مَاءَ حَوْضِهِ صلى الله عليه وسلم أَشَدُّ بَيَاضًا مِنَ اللَّبَنِ، وَأَشَدُّ حَلاوَةً مِنَ الْعَسَلِ، وَأَشَدُّ بَرْدًا مِنَ الثَّلْجِ مِنْ غَيْرِ مَا ضَرَرٍ، وَأَنَّ عَلَى الْحَوْضِ كؤوسًا وكيزانًا، لا إِحْصَاءَ لِعَدَدِهَا، قَالَ صلى الله عليه وسلم: ((بِعَدَدِ نُجُوم السَّمَاءِ))[1] ؛ أيْ: كَثرةً؛ لئلا يظنَّ الظانُّ أنه سيُشاحُّ في هذه الكؤوس والكيزان، وأن هذا الحوض طويلٌ مربع، طوله كعَرضه، جاء في الروايات: ((طُولُهُ شَهْرٌ وَعَرْضُهُ شَهْرٌ)). وجاء في بعضها: ((أَنَّهُ مِنْ مَكَّةَ إِلَى بُصْرَى)). وجاء في بعضها: ((أَنَّهُ مِنْ مَكَّةَ إِلَى أَيْلَةَ))[2] ؛ إلى بيت المقدس، وجاء في بعضها: ((أَنَّهُ مِنْ مَكَّةَ إِلَى عُمَانَ، أَوْ إِلَى صَنْعَاءَ)).


كل الأحاديث التي جاءت فيها متفاوتة في ذكر الحدود، لكن تفيد أنه حوض طويل واسع، وهذا مما تواترَت به السُّنة، وأجمع عليه أهلُ السنة، ولكن في ذلك المقام الذي هو أشد ما يكون رهبة، وخوفًا، ووجلاً، وعظمة، وعطشًا، يَرِدُ الناسُ الأحواض، أقوامٌ مِن هذه الأمة سيُذادون؛ بمعنى أنهم يُمنعون مِن وُرود الحوض، جاء في الصحيحين قولُه صلى الله عليه وسلم: ((فَيُذَادُ بِأَقْوَامٍ مِنْ أُمَّتِي، فَأَقُولُ: أُمَّتِي، أُمَّتِي. فَيُقَالُ: إِنَّكَ لا تَدْرِي مَاذَا أَحْدَثُوا بَعْدَكَ))؛ أي: غيَّروا، وبدلوا من دينك، وسُنَّتك، ((فَأَقُولُ: بُعْدًا بُعْدًا لِمَنْ أَحْدَثَ بَعْدِي))[3] ، فأفاد الحديث أن المبتدع بأي: إنواع البدع سواء بالقول، أو بالاعتقاد، أو الفعل، أو في المكان، أو في الزمان، أو في الحال، أو الهيئة أنه متوعد بأنه لا يرد حوضه صلى الله عليه وسلم ويُمنع منه؛ لتبديلِه سُنةَ النبي صلى الله عليه وسلم، وفي هذا تحقيقٌ قاعدة: الجزاء من جنس العمل؛ كما قال تعالى: ﴿ جَزَاءً وِفَاقًا ﴾ [النبأ: 26]؛ وذلك أنه لَمَّا بدَّل أو غيَّر في سُنته صلى الله عليه وسلم ما بدل وغيَّر إلاَّ اتباعًا لهواه وشهوته، واتباعًا لجماعته وحزبه كان الجزاء أن يُمنع أن يرد حوضه صلى الله عليه وسلم؛ إذ لا يرده إلا المستمسك بسنته.

 

وقد زعمَت الرافضة أن هذا الحديث دليلٌ على أن الصحابة كفروا؛ لأنه جاء في بعض الألفاظ: ((أَصْحَابِي، أَصْحَابِي))[4] ، وجاء في أكثر الألفاظ في الصحيحين - بعد تتبُّعي -: ((أُمَّتِي، أُمَّتِي))، فظَنوا بذلك - مِن قبيح مذهبهم - أنَّ الصحابة كفَروا، وهم أولى وأخلَقُ أن يكونوا ممن يُمنَعون ويُذادون عن الحوض؛ لأنهم أعظم الناس تغييرًا وتبديلاً لدينه وسنته صلى الله عليه وسلم. وقوله في بعض الألفاظ: ((أَصْحَابِي أَصْحَابِي)) هذا اللفظ لا يردُّ اللفظ الآخر، فيُفهم بمجموعه؛ لأن الإطلاق العام في صحبة الأتباع، فأصحاب الرجل أتباعه، سواء ممن أخذوا عنه، أو ممن أخذوا عمن أخذوا عنه، كما أن الشيعة أتباعه؛ ﴿ وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لَإِبْرَاهِيمَ ﴾ [الصافات: 83]، على أنَّ أكثر الألفاظ في الصحيحين قوله: ((أمتي أمتِي)).

 

الحوض والأحواض التي تكون في العرصات، والميزان والوزن الذي يكون فيها مما أنكرته الجهمية والمعتزلة، حتى قال قائلهم - ويا سُخفَ ما قال، وسذاجتَه، وبلادته! -: إن الميزان لا يَحتاج إليه إلا الفوَّالُ والبقال! وكذَّبوا ما جاء عن اللهِ وعن رسول الله، وهذا نتاج تدخل العقول في الغيبيات، كما أنكروا عذاب القبر ونعيمَه، فقالوا: إذا فتحنا القبور ما وجَدنا لا عذابًا ولا نعيمًا. فأنكروا هذا العالَم الغيْبِي، الذي هو غير محسوس لنا إلا ما أظهره الله لنا، قال تعالى في عذاب القبر ونعيمَه: ﴿ وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ ﴾ [المؤمنون: 100]، الدنيا والآخرة وبينهما البرزخ وهو القبر، ففي الدنيا يكون العذاب والنعيم على الأبدان، والأجساد، وقد يلحق الروحَ شيءٌ من ذلك، وفي القبر يكون العذاب والنعيم على الروح، وقد يصيب الجسدَ بعضٌ من ذلك، أمَّا الدار الآخرة فهي أكمل الأدوار، والعذاب والنعيم على الروح والجسد جميعًا؛ لأنها أكمل الحياة: ﴿ وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ ﴾ [العنكبوت: 64]؛ أي: لهي الحياة الكاملة، التي لا نقص فيها. فهؤلاء منكِرون لما يكون في البرزخ.

 

وممن أنكره مِن الفلاسفة، الذين أنكروا أن يكون البعث كله، كذلك أنكره المشركون والملاحدة، فلاسفة المسلمين؛ كابن سينا، والفارابي، والكِنْدي وأضرابِهم؛ قالوا: إن البعث للأرواح لا للأجساد؛ ليقربوا بين الفلسفة وبين الشريعة، وأنى لهم ذلك؟! أما أهل الإثبات - أهل السنة، أهل القرآن - فإنهم مُصدِّقون بما جاء في كتاب الله، وما صح عن رسول الله من أمور المعاد، لا ينكرونه وإن لم تَبلُغه عقولهم ومَداركهم؛ شأنهم سمعنا وأطعنا، وحالهم أسلَمْنا وأذعَنَّا، وكانوا بهذا أحسنَ دينًا مِن أولئك.

 

وَالصِّرَاطُ مَنْصُوبٌ عَلَى مَتْنِ جَهَنَّم - وَهُوَ الْجِسْرُ الَّذِي بَيْنَ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ - يَمُرُّ النَّاسُ عَلَيْهِ عَلَى قَدْرِ أَعْمَالِهِمْ:

مِن مراحل اليوم الآخر: الصراط، وهو ذلك الجسر المنصوب على متن جهنم، الذي هو أدقُّ مِن الشعر، وأحدُّ مِن السيف، وهو معوجٌّ ومظلم، ودَحضٌ، وعليه كلاليبُ أُمِرَت بخطف أقوام، والناس يمرون عليه كما نطقَت بذلك الأخبار الصادقة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنهم يمرون بحسب أعمالهم؛ أي: بحسب إيمانهم.

 

وأحاديث الصراط من أدلة أهل السنة في أن العمل مِن الإيمان؛ لأن في غالب الأحاديث يقول صلى الله عليه وسلم: ((فَيَمُرُّ النَّاسُ فِيهِ عَلَى قَدْرِ أَعْمَالِهِمْ))، فدل على أن العمل من الإيمان؛ ولهذا عبَّر بالعمل عن الإيمان.

 

فَمِنْهُمْ مَنْ يَمُرُّ كَلَمْحِ الْبَصَرِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَمُرُّ كَالْبَرْقِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَمُرُّ كَالرِّيحِ:

أي: سرعة.

 

وَمِنْهُمْ مَنْ يَمُرُّ كَالْفَرَسِ الْجَوَادِ:

مثل أجاويد الخيل؛ الخيلُ الجياد السريعة.

 

وَمِنْهُمْ مَنْ يَمُرُّ كَرِكَابِ الإِبِلِ: وَمِنْهُمْ مَنْ يَعْدُو عَدْوًا، وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي مَشْيًا، وَمِنْهُمْ مَنْ يَزْحَفُ زَحْفًا، وَمِنْهُمْ مَنْ يُخْطَفُ خَطْفًا وَيُلْقَى فِي جَهَنَّم[5]:

ومنهم من يمر مثلَ أجاويد الركاب؛ أي: الإبل. ومنهم من يمر يَعْدو عدْوًا، ومنهم من يمر يَسعى سعيًا - والعدوُ أعظمُ من السعي وأسرعُ - ومنهم من يمر يمشي، ومنهم من يمر يحبو - والحبو جاءت فيه بعض الأحاديث - ومنهم من يمر يُقدِّم رجلاً ويؤخِّر أخرى، وهذا أضعف مَن يمر على الصراط، وقد ذكر النبيُّ في الحديث عند أحمد وغيره: ((أَقَلُّهُمْ رَجُلٌ إِذَا أَضَاءَ لَهُ فِي إِبْهَامِهِ نُورٌ قَدَّمَ رِجْلاً، فَإِذَا أَخْفَتَ وَقَفَ))؛ لأن الصراط مُظلِم؛ حيث إنه على متن جهنم.

 

فَإِنَّ الْجَسْرَ عَلَيْهِ كَلالِيبُ تَخْطَفُ النَّاسَ بِأَعْمَالِهِمْ[6]:

وعلى الصراط حسَكٌ وكلاليبُ، والحسَكُ أصله نوعٌ من أنواع الشوك، يُشبه شوك السَّعدان، الذي يَكثُر الآن في الصَّحاري والبراري من نتاج الربيع، والكلاليب معروفة، وهي ما تُقَيَّد به الأرجل، وما يُصاد به الصيد، قد أُمِرَت بخطف رجال؛ بخطف أناس، والنبي عند أدنى الصراط رافعٌ يديه، يقول: ((اللَّهُمَّ سَلِّمْ سَلِّمْ))، قال صلى الله عليه وسلم: ((فَنَاجٍ مُسَلَّمٌ، وَمَكْدُوسٌ مُكَرْدَسٌ عَلَى وَجْهِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ)).


والصِّراط (الجَسر المنصوب على متن جهنم) جاء ذِكرُه في القرآن في قوله: ﴿ وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا * ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا ﴾ [مريم: 71، 72]؛ أي: يَجْثون على رُكَبِهم، وهو مذكورٌ على سبيل الإشارة لا التصريح فيما يقَع بين المؤمنين والمنافقين يوم يُضرَب بينهم بسُور؛ ﴿ فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ ﴾ [الحديد: 13]؛ وذلك أن المنافقين يَتبعون المؤمنين في عرَصات القيامة حتى إذا أقبَلوا على الصراط سبَقهم المؤمنون سبقًا.

 

وبعضُهم استدل على الصراط بقوله تعالى: ﴿ اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ ﴾ [الفاتحة: 6]، وهذا الاستدلال ليس بالقويِّ من عدة جهات:

أُولاها: أن الصراط المستقيم في آية الفاتحة هو دين الله القويم، وهو الإسلام الذي مَن استمسَك به فهو مهديٌّ لأنه قال في بدله بعد ذلك: ﴿ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ ﴾ [الفاتحة: 7]، فدلَّ على أن الصراط المستقيم هو صراط الإسلام، غير طريق اليهود وغير طريق النصارى بعد التبديل.

 

ثانيها: هناك مَن يعبر على الصِّراط فيَنجو، وهناك مَن يمر على الصراط فيَكْبو وهو مِن المؤمنين، لكنه أكباه ضعفُ عمَلِه، وطالِحُ كسبِه، ومعلومٌ أن المهديَّ الصراطَ المستقيمَ لو كان المراد به الجَسْر على متن جهنم لكان عابرًا، ومن المؤمنين من أصحاب الذنوب مَن يخبو ويكبو، فيكون في جهنَّم على قدر سيئته، فدل على أن الصراط المستقيم هو الإسلام، وليس الجسر على متن جهنم.

 

ثالثُها: أن الصراط على متن جهنم ليس مُستقيمًا وإنما مُعوجٌّ ودحض.

 

رابعُها: أن مَن هُدِيَ إلى الصراط المستقيم - وهو دين الله القويم - فسيُهدى على الصراط برحمة أرحم الراحمين، وبسبب ما يُقدِّمه من عملٍ صالح.

 

وأما آية مريم فقد استدل بها السلف - عائشةُ وأبو هريرة وجابرٌ وغيرهم رضي الله عنهم - على أنَّ المراد به هو الجَسْر على متن جهنم؛ ولهذا كان كثيرٌ من السلف - من الصحابة ومن التابعين ومَن بعدهم - إذا مرَّ على هذه الآية يخشع لِمَا قام في قلبه من الخشية، ويقولون: "أَنَّى لَنَا الصُّدُورُ بَعْدَ الْوُرُودِ!" الورود في قوله: ﴿ وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا ﴾ [مريم: 71]؛ أي: وُرودُهم على متن جهنم؛ لأن الصراط على مَتنِها، وهذا دليلُ أهل السنة على أن الصراط على متن جنهم، جَسْر على متنها، فيقولون: "مَنْ يَضْمَنُ لَنَا الصُّدُورَ"؛ أي: النجاة "بعد الورود"؛ فإنَّ الله ذكَر الورودَ وأنَّ كلاًّ سيَرِدُها، لكن لم يَضمَنْ سبحانه وتعالى بالورود إلا للمؤمنين: ﴿ وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا ﴾؛ أي: محتومًا ﴿ مَقْضِيًّا ﴾ [مريم: 71]؛ مبرَمًا في قضائه القدَريِّ والشرعي، ﴿ ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا ﴾ [مريم: 72]، وهذا يدل على ما كان عند السلف من كمال الخشية لله تعالى، وعدم الاغترار بأعمالهم وإن عَظُمَت، في مُقابل الخلَف الذين أُعجِبوا بأعمالهم القليلة، وتفريطهم الكثير، وعَظُم عندئذ رجاؤهم في رحمة الله[7].

 

والصِّراط دلت عليه الأحاديث المتواترة فيه تواترًا معنويًّا، وأجمع عليه أهل السُّنة، وخالف فيه طوائفُ من الجهمية والمعتزلة؛ فإنهم خالفوا في هذا الصراط، وعمدُة هؤلاء المنكِرين له أن الصراط لم يُذكَر في القرآن وإنما جاء في أخبار الآحاد، وهذه مطيَّتهم العَفِنة في ردِّ الأمور الغيبية التي لا توافق مَعقولاتهم، وإلا فإنه قد تواترَت فيه الأحاديثُ تواترًا معنويًّا، وليست على شرطِهم بأنها أخبارُ آحاد.

 

ومما جاء في وصف الصِّراط أنه دقيق؛ أحَدُّ مِن الشعر، وأدقُّ من السيف، وأنه دَحْض، وأنه مُظلِم، وأن الناس يَعبُرون عليه على قدر إيمانهم.

 

ومما يجب أن يُنْتَبه له أنَّ مِن أسباب الجُثِيِّ مِن على الصراط على وجوههم كما قال الله: ﴿ وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا ﴾ [مريم: 72]، إنَّ مِن أسباب ذلك ما جاء في حديث معاذ رضي الله عنه الطويل، لما كان مع النبي صلى الله عليه وسلم في سفَرٍ، ثم قال في آخِر حديثه: أَوْصِنِي يَا رَسُولَ اللهِ، قَالَ: ((كُفَّ عَنْكَ هَذَا)) وَأَخَذَ بِلِسَانِهِ، أَوْ بِلِسَانِ مُعَاذٍ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَوَ إِنَّا مُؤَاخَذُونَ بِمَا نَقُولُ؟ قَالَ: ((ثَكِلَتْكَ أُمُّكَ يَا مُعَاذُ! وَهَلْ يَكُبُّ النَّاسَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ - أَوْ عَلَى مَنَاخِرِهِمْ - إِلاَّ حَصَائِدُ أَلْسِنَتِهِمْ))؛ فقوله: ((وَهَلْ يَكُبُّ النَّاسَ عَلَى وُجُوهِهِمْ، أَوْ عَلَى مَنَاخِرِهِمْ - وهذا من باب التعبير بالبعض عن الكل - إِلاَّ حَصَائِدُ أَلْسِنَتِهِمْ)) أفاد ذلك أنَّ من أسباب الجُثيِّ في النار - على وجهه وعلى مَنخِره - نِتاجَ لسانِه إذا صار مشذارًا مهذارًا، سابًّا، لعَّانًا، شتَّامًا، مغتابًا، نمامًا، قادحًا في أعراض الناس، قادحًا في شرفهم؛ لأن العِرْضَ يشمل عِرض الدين في أن يُتَّهم في دينه، أو يُتهم في عقيدته، أو يُتهم بنِسْبته إلى منهج فاسد، أو يُتهم في شرَفه وهو عِرضه النَّسَبي؛ فإن هذا من أسباب الجثي على وجوههم في نار جهنم.

 

والصراط جديرٌ بمن أنكره أن يكون ممن لا يَعبُرَه؛ كمَن أنكر رؤية الله ألا ينالَها، وكمَن أنكر ما يكون في البرزخ أن يُصيبه ضدُّ ما أنكَر؛ طردًا على القاعدة الشرعية: الجزاء من جنس العمل: ﴿ جَزَاءً وِفَاقًا ﴾ [النبأ: 26]؛ ولهذا فإن الذين أنكَروا هذه الأشياء جديرون بأن يَخسَروا، ويرسبوا فيها، ويُرديَهم فيها سيِّئ اعتقادهم، وسيئُ قصدهم! ولا حول ولا قوة إلا بالله.

 

فَمَنْ مَرَّ عَلَى الصِّرَاطِ دَخَلَ الْجَنَّةَ:

أي: إنه في الجملة يدخل الجَنَّة؛ فمِنهم مَن يدخلها مباشرة، ومنهم مَن يبقى على الجَسر؛ على القنطرة بعد الصراط، وهي قنطرةٌ قبل الجنة، يُقتصُّ فيها للمؤمنين بعضِهم مِن بعض مما يكون بينهم من أسباب الخصومات التي لم تُستوفَ بالعرَصات.

 

وقوله: "ومَن عبر الصراط دخل الجنة"؛ أي: إنه نَجا من النار؛ لأن النار تحت الصراط، فالصراط جَسر عليها وهي تحتَه، ولو لم يكن مِن عرَصات القيامة وأهوالِها وشدائدها إلا العبور على الصراط الذي هذه صفته؛ دقيق، ومزلة، ومظلم، ودحض، وعليه حسَكٌ وكلاليبُ، وتحته نارُ جهنمَ سوداءُ مظلمة - لكفى بهذا نذيرًا ووعيدًا، وتخويفًا للمؤمنين ولغير المؤمنين.

 

فَإِذَا عَبَرُوا وُقِفُوا عَلَى قَنْطَرَةٍ بَيْنَ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ، فَيُقْتَصُّ لِبَعْضِهِمْ مِنْ بَعضٍ، فَإِذَا هُذِّبُوا وَنُقُّوا أُذِنَ لَهُمْ فِي دُخُولِ الْجَنَّةِ:

هذه القنطرة - وهي مرحلة بين الصِّراط وبين الجنة - هي للمؤمنين فقط خاصَّة، فلا يَعبُرها كافر، وقد يَعبرها مسلمٌ عليه ظُلامةٌ لإخوانِه، فيكون الاقتصاص في ذلك المكان، ومن المؤمنين مَن سيَسقط من على الصراط على جهنم، وهذا بحسَب ذنبه وكبيرته، لا على جهة الخُلود؛ ولهذا في قوله تعالى: ﴿ ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا ﴾ [مريم: 72] لم يَقل: نُنجِّي الذين آمنوا؛ لأن مِن المؤمنين مَن يقع فيها، ولم يقل: ونذَر الكافرين فيها جثيًّا؛ لأن وصف الظلم يَطول الكافرَ - وظُلمُه الظلمُ الأكبر - ويَطول الفاسقَ - وظلمه ظلم الأصغر - ولهذا في القرآن إذا جاء وصفُ الظلم والكفر والفسق والنفاق فإنه يُراد به إما الأكبر أو الأصغر، ويُحدِّد ذلك السياقُ والآياتُ الأخرى التي يُرجع لها في تفسير هذا النصِّ وهذه الآية.

 

في القنطرة يُقتصُّ للمؤمنين بعضِهم من بعض، مما لم يُستوفَ قبل ذلك في مراحل الآخرة؛ قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم - ونقَله الشيخُ بلفظ الحديث، وحديث القنطرة حديثٌ في الصحيحين -: ((فَإِذَا هُذِّبُوا، وَنُقُّوا))؛ أي: لم تقم عليهم سيئة، ولم تبقَ عليهم ملامة هُذِّبُوا من آثار الذنوب وأسبابها، ونُقُّوا من ملامات الخلق ((أُذِنَ لَهُمْ فِي دُخُولِ الْجَنَّةِ))[8] ، والإذن لهم بعد الإذن للنبي؛ لأنَّ مِن الشفاعات الخاصة به أنه يستفتح له وللمؤمنين بدخول الجنة إذا أخذ بحَلقَةِ باب الجنة.

 

وهذا فيه تشبيهٌ للمؤمنين بالذَّهَب؛ فإن المؤمن كالذهب، والذهب كلما زِيدَ في صِليِّه النارَ نَقِيَ وصَفا مِن الشوائب، شوائبك - يا أيها المؤمن - هي ما تَحمَّلتَه من أسباب الذنوب والمعاصي، والتفريط؛ إن كان في حق الله، أو في حق عباد الله، وهكذا المؤمن تَزداد عليه البلايا والمِحَن، وصِلِيِّه النار إلى أن يتخفف من هذه الذنوب، ولهذا لن يدخل أحدٌ الجنة وعليه خطيئةٌ أو سيِّئة، فإما أن يُجازى بها بأنواع الجزاءات - وهي الأسباب العشرة المسقِطة للذنوب - أو أن يشمَله الله برحمته، وهو أرحمُ الراحمين، فلن يدخل أحدٌ الجنةَ إلا مؤمن، ولن يدخلها مؤمنٌ وعليه خطيئةٌ أو سيِّئة.



[1] رواه البخاري (6579)، ومسلم (2292)، عن عبدالله بن عمرو بن العاص.

[2] رواه أحمد (3/ 230).

[3] رواه البخاري (6582) ومسلم (2304)، من حديث أنس بن مالك.

[4] تقدم تخريجه.

[5] لما رواه البخاري (7439)، ومسلم (183)، من حديث أبي سعيد الخدري.

[6] نفس السابق.

[7] رواه الترمذي (2616)، وابن ماجه (3973)، والإمام أحمد (5/ 231)، من حديث معاذ بن جبل.

[8] رواه البخاري (7439)، من حديث أبي سعيد الخدري.





 حفظ بصيغة PDFنسخة ملائمة للطباعة أرسل إلى صديق تعليقات الزوارأضف تعليقكمتابعة التعليقات
شارك وانشر


 



أضف تعليقك:
الاسم  
البريد الإلكتروني (لن يتم عرضه للزوار)
الدولة
عنوان التعليق
نص التعليق

رجاء، اكتب كلمة : تعليق في المربع التالي

شارك معنا
في نشر مشاركتك
في نشر الألوكة
سجل بريدك
  • السيرة الذاتية
  • مقالات
  • بحوث ودراسات
  • مطويات
  • صوتيات
  • خطب
  • كتب
  • مرئيات
  • قائمة المواقع الشخصية
حقوق النشر محفوظة © 1446هـ / 2025م لموقع الألوكة