• الصفحة الرئيسيةخريطة الموقعRSS
  • الصفحة الرئيسية
  • سجل الزوار
  • وثيقة الموقع
  • اجعلنا صفحتك الرئيسة
  • اتصل بنا
English Alukah
شبكة الألوكة شبكة إسلامية وفكرية وثقافية شاملة تحت إشراف الدكتور خالد الجريسي والدكتور سعد الحميد
 
موقع العلامة محمد بهجة الأثريالعلامة محمد بهجه الأثري شعار موقع العلامة محمد بهجة الأثري
شبكة الألوكة / موقع العلامة محمد بهجة الأثري / مقالات


علامة باركود

خط سير جديد في تدوين تاريخ الأدب العربي (1)

خط سير جديد في تدوين تاريخ الأدب العربي (1)
العلامة محمد بهجه الأثري


تاريخ الإضافة: 11/1/2014 ميلادي - 9/3/1435 هجري

الزيارات: 14505

 حفظ بصيغة PDFنسخة ملائمة للطباعة أرسل إلى صديق تعليقات الزوارأضف تعليقكمتابعة التعليقات
النص الكامل  تكبير الخط الحجم الأصلي تصغير الخط
شارك وانشر

خط سير جديد في تدوين تاريخ الأدب العربي (1)


السيد الرئيس، السادة الزملاء الأجلاء:

كتاب الدعوة إلى مؤتمر مجمعِكم مجمع الخالدين، تضمَّن عبارة لطيفة تومئ ولا تصرِّح، وتشير ولا تحكم، في صورة جميلة من السلوكية الذوقية المهذَّبة، وأقول: "السلوكية"، ولا أقول: "الدبلوماسية"؛ أنفًا من استعمال الدَّخيل في لغة أغناها الله، وقد عوَّدَتْنا هذه "السلوكية المهذبة، التي طبع عليها مزاج السيد الزميل الكبير العليم[1]: "إبراهيم مدكور" وأدبُه - أن نفهم من إيماءاتها معاني الطلب، ومن إشاراتها دلالات الحكم، وما أَحَبَّ هذا وذاك إلى قلوبنا، ولا سيما إذا وضعنا في تقديرِنا أن من مقاصد هذا الحكم أو ذلك الطلب، الإحسان إلينا بدعوتِنا إلى واجب مقدَّس تفرضه علينا قوميَّتنا وديننا، وطبيعة وجودنا المستقل، فلا مندوحة لنا من أن نتلقى هذه الإيماءات المكسوة بمطارف الذوق الأنيق، بمعناها الضمني، فنمتثل ونسارع بدارًا إلى ما يريد، وإن كنَّا خليقينَ أن نبادر من ذات أنفسنا ودوافعنا الشعورية لأداء هذا الواجب القومي كما نؤدِّي فروض العبادة في أوقاتها من غيرِ أن ننتظر تجدُّد وحي السماء بها يومًا بعد يوم ووقتًا بعد وقت.


ولقد بادرت فاغتنمت الرغبة، وقدَّمت عنوان موضوعي كما ترونه في جدول الأعمال: "صور من المدركات اللُّغوية والأدب والنقد إبَّان عصر الولاة المماليك في بغداد"، والمفروض في هذه الصور - وقد تولَّدت في آخر المنحدر من العصور التركية التي سماها مؤرِّخو الأدب العربي المحدَثون "العصر المظلم"، وانبعثت في مصرٍ آضَ كَقَرْيَةٍ نامت على الخمول، وأوتْ إلى الضعف في أحضان تلك الأيام - أن تكون شبيهةً بزمنها هذا، كما تُخيِّله لنا أقلام هؤلاء المؤرِّخين المحدَثين، وطبعوا عليها طابعه، ووسَموها بما شاؤوا لها من مياسم التفاهة والركاكة والضعف.


ولكنَّ الواقع أن هذه الصورَ تمثِّل في جملتِها القوة التي اقترنت بها عصور القوة، ولا غرابة في هذا؛ ذلك أن روح الأمة العربية الذي لا يقهر، لم ينهزم أمام الغزو المغولي الذي دمَّر حضارة هذه الحاضرة العربية العظمى، وأعني (بغداد)، وأن هذا الروح القوي ما لبث أن استردَّ إيمانه بنفسه، ففرض قوته على الغالب حتى صيَّره مغلوبًا له، وجعل من الدول المتتابعة حرَّاسًا للغة القرآن يحمون حماها بحكم دخولهم في الإسلام.


وحين تأملت هذا المعنى - وأنا أستعرض هذا العصر في (العراق) وغيره من بقاع الوطن العربي والإسلامي، وأرى العربية، وهي عاملة ناصبة وماضية إلى غايتها - بدا لي أن هذه الصور لا بد لها من مقدِّمات تُفسِّر عوامل هذه القوة فيها، وتفنِّد مزاعم مؤرخي الأدب المحدثين فيما صوروا به عصرها.

 

ولما كان توضيح هذا من وراء الإمكان الآن، رأيت العدول عنه، وأنا في (القاهرة)، إلا أن أرسم خط سيرٍ جديدًا لتدوين تاريخ الأدب العربي، يعتمد هذا الروح، ويؤدي إلى تغيير كثير من معالم هذه الصور التي رسمت لأدبنا ولغتنا في تلك العصور التركية خاصة.

 

ويسرني إذ أعرض الرأي في هذه القضية الخطيرة، أن أجد من زملائي الأكرمين ما يستحقه من نقاش جاد كما عوَّدونا، يحملني على أحد ثلاثة أمور: الإبقاء، أو التعديل، أو الاطِّراح والترك.

••••


لما بدأ العرب التدوين في المائة الأولى للهجرة، جروا فيما دونوا من شيء مع الفطرة، بعيدين عن التكلف والتعمُّل والتعقيد، وعُنوا في كتابة أدبهم، بإثبات الرواية - وهي مصدره الأول الأصيل - في أمانة بالغة، تزمَّتوا فيها تزمتًا شديدًا؛ التزامًا للصدق، وتقديرًا لما في أعناقهم من هذه الأمانة، وما يجب عليهم من أدائها سالمةً إلى الأجيال، ذلك شأن تفرَّدوا به بين الأمم قاطبةً، ولم يروِ لنا التاريخ ضريبًا لهم فيه.


وتحت سلطان هذه النزعة، الأمينة الصادقة المتثبتة، على نفوسهم وأقلامهم، حرَّروا نصوص الروايات والآثار، معارضة وضبطًا وتفسيرًا، ثم حفَلوا بأخبار مَن صدرت عنهم هذه النصوص والآثار، من شعراء وأدباء، فدوَّنوها في إيجازٍ تارة وإطناب تارة، وتقصَّوا السِّيَر، وأحصَوا ما أنتج في كل فن من فنون الأدب، وكل لون من ألوان الثقافات، سالكين في ذلك مسالك مختلفة وإن تقاربت في الغايات، على ما هو مشاهد مُحَسٌّ فيما خلَّفوا من تراث زاخر عظيم على توالي العصور، ثم ما برح الخلف يتابع السلف على نهجه، والجيل يقفو أثر الجيل، ويتوفَّر على تدوين الآثار القيمة مما يجد من أدب وعلم، في أزمانه وأقاليمه، ما دنا منها وما بَعُد، على قدر ما يتسع له الذَّرْع، ويتوافر من مادة التأليف، وما فاتهم حين استبحروا في الحضارة والعمران، واتَّسعت معارفهم، أن يستجدُّوا الطريف الممتع الخصب من مذاهب النقد وطرائق الموازنة، فيلوِّنوا بها التأليف بألوان جديدة تكسبه القوة، وتخلع عليه غلائل الجِدة، ومطارف الحسن والرُّواء.

 

وهكذا كان تدوينهم نتاجَ الأفكار والعقول والضمائر، تدوينًا طبيعيًّا حرًّا، طليقًا من القيود الثِّقال، تسجيلاً ووصفًا وإحصاءً ونقدًا وموازنة، لم يخرُجوا به في معظم أحواله عن الفطرة والطبع، ولم يُفلسِفوه، ولم يربطوا تاريخَه بالأحداث، وإنما تركوا لمن شاء أن يفهم ممَّا يقع له من آثارِه ما يشاء، وأن يستنبط منها ما يستطيعه بالقدر الذي يسمو إليه إدراكه، أو تحاوله إرادتُه، فيقف عندما استنبط راضيًا به أو ساخطًا عليه، أو يتجاوزه فيستزيد منه، ويسعى وراءه في الآفاق القاصية من محيطاته وعُبُبه العميقة أبلغ العمق، والواسعة سعةً ينقلبُ عنها البصر خاسئًا وهو حسير، ذلك بأن امتداد تاريخهم، واختلاف تقلباته، وانبساط رقعة الأوطان التي انتشروا على أديمها ما بين المشرق والمغرب - قد تنوَّعت طبائعُها وأمزجتُها، وتبايَنَت فيها وجوهُ المؤثِّرات، ثم كثرة ما أنتجوا في الحقب الطوال من ولائد الأفكار، وتعدُّد صوره، وتنوُّع ألوانه، كل هذا وغير هذا، لم يأذَنْ بتدوين أدبهم على غير المنحى الذي ذكرت، وهو إذا أذِنَ به يستدعي طاقاتٍ قوية قوة خارقة، تُعين على تقصِّي آثاره، واستحضار مضامين هذه الآثار، وما اختلف منها وما تشابه، وتُنسِّقُ ذلك كله تنسيقًا علميًّا، وتدرسه دراسة جماعية، متأملة مستأنية، نقاشًا وتحقيقًا يخلصان بها إلى نتائج تصدق على هذا الأدب في جملته وتفصيله، ولم يتوافر شيء من هذا، ولا أحسبه سيتوافر بعد زمن طويل أيضًا، فليس حدوث مثله بالمطلب السهل الميسور، وهذا باب واسع ينفذ منه إلى آفاق بعيدة، وليس يعنيني منه ها هنا غير اللمحة الدالة مما يقال فيه.

 

ولما كان هذا العصر الحديث، وحدث الاتصال فيه بأوربة، وجدت آداب الفرنجة مدونةً ومؤرخةً بأسلوب مغاير لهذا الأسلوب العربي، وهو في جملته مُنطَّق بنِطاق التاريخ السياسي عندهم، وموصول به، ومقسوم إلى عصور متميزة، جعلت لكل عصر منها معالم من الأحداث الكبرى تفصل بينها، ووصل فيه أُفُق الفكر وإنتاجه بأُفُقِ السياسة والاجتماع والاقتصاد، قصدًا إلى تبيُّن المؤثرات في الآثار، وتعرُّف الظلال والألوان التي تتخالف فيها من عصر إلى عصر تبعًا لذلك.

 

ولقد ذهب بريقُ هذا المذهب في تدوين تاريخ الأدب بأبصار كتَّاب العرب المحدَثين منذ أوَّل الاتصال بأوربة، وبفرنسة خاصة، كما يكون الشأن عادةً عند الالتقاء بشيء جديد، فبادروا إلى اصطناعه قبل أن يفحصوه، ويتعمَّقوا في درسه، ويلاحظوا الفروق بين طبيعة أدب أمةٍ وأخرى، ويتدبروا القياس كما ينبغي أن يكون التدبر لقانون ما يراد تطبيقه، وجروا وراءه سراعًا مهطعين، ينقلون أقلامهم على آثار ما رسمه الأوربيون، فيما حاكَوهم به من كتابة موجَزات في تاريخ الأدب العربي، غالبها تعليمي، أو مفصلات غلبت عليها طبيعة الفهرسة، وقلَّت حظوظُها من التقصِّي والغوص إلى الأعماق، ولم يكتبوا فيه - في حقيقة الأمر - إلا بقدر ما يحسو العُصفور بمِنقاره من نُغَب من البحر المحيط، وقسَّموا الأدب العربي فيما كتبوا من ذلك وفاقًا لهذه الطريقة الأوربية إلى عصور تاريخية، أخضعوا جملةَ نتاج العقل العربي فيها لعوامل السياسة خاصة، ظانِّين - وظننت ظنَّهم في مطلع الشباب - أن هذا المذهبَ يصلُحُ أن يكون في جملتِه وتفصيله مذهبًا عامًّا، ويحسن تطبيقُه على الأدب العربي وتدوين تاريخه كما يدون التاريخ العام، تدوينًا يجسد أطواره من عصر إلى عصر، ويعطي من الأحكام الجامعة والنتائج المرضية معطيات قيِّمة تطابق الحقيقة والواقع من أمره!

 

ولا ريب عندي في أن هذا المذهب في حد نفسه - بقطع النظر عن إمكان الانتفاع بتطبيقه في كتابة تاريخنا الأدبي، بأبعاده وأغواره وأزمانه - هو مذهبٌ موفور الحظِّ من مَسحةِ التفكير والتنظيم، وعليه طابع الأصالة المنهجية التي تُحدِثُ في البحث أشياء من جمال التبويب والتنسيق، وتجمعُ النظائر والأشباه، وتوضِّح الأقدار المشتركة بينها توضيحًا ما، لا شك في غَنائه وجدواه عند إرادة إدراك علاقة الآثار بالمؤثرات، فيما يمكن حصره والسيطرة على أبعاده من شيء، وحين تتسنى الإحاطة التامة بوسائله، وتتيسر القدرة التي تستطيع الغوص والاستنباط والخَلق.

 

ثم هو مذهب توائم طبيعتُه طبيعةَ الآداب الأوربية عامةً، بوحداتِها المتعددة والصغيرة، وانفصال كل وحدة منها عن الأخرى انفصالاً سياسيًّا وتاريخيًّا، وانفصالاً لُغويًّا وأدبيًّا من حيث استقلال كل منها بلغتها الخاصة، وأدبها الخاص ضمن حدودها الضيقة، ونحو ذلك من أشياء يسهل معها تشخيص السمات وتبين المميزات.

 

ولكن هل كان الأدب العربي في مناشئِه وطبيعته كذلك؟ ومتى؟ وأنَّى؟ فنُخضع تدوين تاريخه العامِّ لهذا المذهب على هذا النحو بحيث نبلُغُ به النتائج الصحيحة التي تصدق عليه؟


جواب هذا التساؤل عندي، ولست أتعجل به من غير تدبر: "لا" مشحونةً بكل دلالة نفيها القاطع، متمثلاً في حرفَيْها المستعليين الشامخين!

 

فلا ريب أن الأدب العربي يتميَّز بخاصتينِ عظيمتين، بايَن بهما آدابَ هذه الوحدات الأوربية وغيرها أيضًا، فامتنع بهذه المباينة - فيما أرى - إخضاعه إخضاعًا تامًّا لما أخضعت له من قانون دونت به تواريخها الأدبية العامة.

 

أما إحداهما، فتلك هي ما انبسط لهذا الأدب من أوطانٍ ترامت ما بين بلاد "الغال" في الغرب وتخوم "الصين" في الشرق، وبين حواشي "البسفور" شمالاً، و"اليمن" وحضرموت جنوبًا، وما ظفر به من مشاركة عبقريات من مختلف الشعوب في بنائه، وما استوى بذلك لآفاقِه من أبعاد وأغوار، وما زخر فيه من آثار متنوعة، إذا استطاع الإحصاء لشيءٍ ما أن يحيط بأفراده حصرًا، فلن يبلغ من آثاره مدى يحصرها في حدوده، ويعطيها صورةً عامة صادقة.


وأما الأخرى، فتلك هي طبيعته الخاصة، ومناشئه وينابيعِه التي تشق مجاريها الدافقةُ طرقَها فيه إلى "لا نهايتها"، وترفده دائمًا بما يمنحُه استقلال الشخصية وحماية وجودها بالثبات بوجه الأعاصير، بل القدرة على التأثير في مجاري أحداث الحياة نفسها، فيفرض عليها سلطانه كما سنرى فيما يأتي من حديث.

 

ونحن إذا تدبَّرنا هذا كله بإزاء هذا الأسلوب الأوروبي في تدوين تاريخ الأدب مقسمًا إلى عصور سياسية، اتَّضحَت لنا صورة الصعوبة في تطبيقه على أدبنا، إن لم نقل بتعذُّر تطبيقه عليه، وبدت لنا هذه المعالم الفاصلة بين أدب عصر وآخر في ضعفها أشبهَ بالحدودِ والحواجز التي أقامتها دولُ الاستعمار في الوطن العربي، واتَّخذت منها "مناطق نفوذ" لها، تتحكَّم في مواردها ومصادرها ومصايرها على نحو ما تشاء! ولكن هذه الحدود والحواجز كانت أمام مور الأمة العربية أضعف من أن تثبت له أو تَحُول دون الأماني القومية أن تتلاقى على هَدْيٍ من أمرها العظيم.


كذلك كان شأن هذه التقاسيم السياسية في تحديد طبيعة الأدب العربي، فإنها حين فُرِضت عليه عجَزت - من هذا المنطلق المقيد - عن الوفاءِ بتمثيل الصور الصحيحة لأبعادِه وأغواره، في مختلف بيئاته وعهود تاريخه.


ونحن حين نمضي في ملاحظة الأحداث السياسية والاجتماعية على وجهِ الزمن كله، نجدها تجري أبدًا متلاحقةً ومتلازمة بالضرورة تلازمَ أجزاء الزمن الذي تحدُثُ فيه، كل حادث منها ينشأ وهو منفعل بأسباب وعلل تتقدمُه متَّصلة بحادثٍ سابق، فما يكون في يومِنا من حادث جديد، فلأحداثِ الأمس الدابر أثرٌ في حدوثه، وله بها اتصال وثيق مباشر، وإن بدا للنظرة القاصرة قائمًا بنفسه، وما يكون من أحداثٍ في غدٍ آتٍ إنما هو مرتبط بأحداث يومِنا كذلك، وهكذا الشأن كلُّه في أحداث الحياة، تدور في هذه الحلقة المفرغة دورانَ الأفلاك في مساراتها.

 

ثم نمضي في ملاحظة تولُّد الأفكار، فنجد الفكر الإنساني - أي فكر كان، ومتى، وأين، وكيف - لا ينبع من الأذهان ابتداءً، وإنما ينبع من أفكار تقدمتِه وولدته، وإن خرج أحيانًا مباينًا لها في الصورة والشكل، أو بدا منفصمًا عنها في النزعة والمعنى والغاية، وهو كما يكون مؤثرًا فيما يحدُثُ بعدَه من أفكار، يخضعُ لعوامل شتى سبق زمنُ وجودِها زمنَ ظهوره، ومنها تولد من بعدُ وتركَّب في صورة من الصور، وعلى هذا النحو تتلاحق أجزاء السلسلة الزمنية متماسكة، وتتلاحق كذلك الأفكار آخذًا بعضها برقاب بعض، وتتتابَعُ، ويتولَّد فكر من فكر، وتنتقل مؤثرات عصر سابق إلى عصر لاحق، فتظهر آثارها في حياته العامة وفي جملة أفكاره وآدابه، على هذا قام قانون الوجود، واطَّردت سُنَنه منذ أزله، وسيطَّرد على ذلك كذلك إلى أبده، فما ثَمَّ من شيء فيه إلا يولد من شيءٍ سابق له، ثم ينمو رويدًا حتى يبلغ نضجه في الوقت المقدر له، فيظهر فيه سويًّا يحسب الساذجُ حصادَه ابنَ يومِه، كما يتوهمه عند ظاهر عيانه، ولا يكاد يذكر أوائله ومناشئه في زمن سبق ونبت فيه من بِذاره.

 

ثم هذه الأحداث السياسية التي تحدث في زمن ما، إنما تُحدِث آثارَها الحقيقية في الحياة العامة، وفي المعاني الإنسانية خاصةً، بَلْهَ الصور والأشكال، في أناةٍ وبطء، فلا يظهر منها ما يظهر إلا بعد ريثٍ من الزمن يمضي على لقاحها، كما يكون من شأن المواليد.

 

وهي - بعد - أحداثٌ متغايرة تعتري الحياةَ، فتُحدِث لذلك آثارًا متغايرة تتشابك فيها المؤثرات، فيتعذر تبيُّن عناصر كل حدث منها على انفراده، وتعرُّف مدى عمله في خلق تلك الآثار.

 

وإذا كان الأمر كلُّه كذلك في جملة شأنه - ولست أحسَبُه يكون غير ذلك - فلا جرم يكون مؤدَّى هذه التقاسيم السياسية - حين نفرضُها على الأدب العربي - أننا نُدخِل بها عليه فسادًا - وأي فساد - ما في ذلك ريب؛ إذ نضيف إلى عصر لاحقٍ نتاجَ عصر سابق حمَل في نفسه كلَّ عوامله ومؤثراته وخصائصه، ونحن - إلى هذا - لا نملك الوسيلةَ إلى تحليل عناصر كل حدث نتخيل له تأثيرًا في الصور والمعاني، وإلى تشريحها لإدراك عملها في الآثار الأدبية، وتمثيلها في شكلٍ ما من الأشكال، يصف حكمًا عامًّا صحيحًا يصدق عليها ولا يَفِيلُ، فنجور بالأول على الأشياء، ونفتئتُ على الحقائق، ولا ينتهي بنا الثاني إلى فائدة مستخلصة توضح ما نحاول تبيُّنَه من السمات الصحيحة من خلال ركام الأحداث.

 

وإذا نحن وسَّعنا الأفقَ، ومددنا أبصارنا إلى خطٍّ أبعدَ وأعمق، وفحصنا طبيعة تغليب العوامل السياسية في هذه التقاسيم، وإعطائها صفة السلطان المطلق، أو شبه المطلق الذي يتحكم في مصاير الأشياء، وتفهمنا مؤدى ذلك - انتهينا منه إلى تصويرِ هذا الأدب في معظم حالاته ذَنَبًا وراء السياسيات لاصقًا بأعجازها، أو عبدًا لها قِنًّا، مجرورًا أبدًا بخطهما، ومُصرَّفًا بهراواتها، أو محبوسًا على الخسف بأَجِرَّتها، كما تريد له، لا كما يريد، دون أن تكون له في نفسه قوة يمتنع بها عن قبول هذه التبعية الذليلة، أو هوى في التمرد على توجيهاتها له وسيطرتها على حريته.


وأنَّى يكون أدب - تستقيم له حياة وترتقي به لغة - حين يكون هذا شأنه من التبعية الذليلة وفقدان الحرية؟ وهل عرف الأدب العربي الأصيل منطلقًا له من غير هذه الحرية؟ وهل تنفس إلا من جوائها الطلقة نواسمها الصافية المنعشة للأرواح والأكباد، والباعثة القوة والنشاط في عروقه؟

 

نخلص من هذا إلى أننا نجد أنفسنا من هذا المذهب بإزاء قانون خاص، إن صلَح لكتابة تاريخ عام به لآداب هذه الوحدات الأوربية الصغيرة، فإن التجارب - في تطبيقه في تدوين تاريخ أدبنا - قد انتهت بنا ولا ريب إلى الإخفاق في إبراز قسماته الدقيقة، ورسم صورته الصحيحة، وتوضيح أصالته وهي تعلو على الخلاف والشبهات.


فلا مندوحة لنا إذًا من اطِّراحه وتركه، إلا ما فيه من مسحةِ التفكير والتنظيم ونحوهما، ومن التماس قانون آخرَ غيره، نكتب به هذا التاريخ كتابةً تحقق صورته الصحيحة على وجه أفضل وأكمل وأصدق.

 

فما هذا القانون الذي أدعو إلى التماسه؟ ما رُوحه؟ وما طبيعته؟ وأين نلتمسه؟

بديهي أن أدب كل أمة تحكمه قوانين لغتها، وروحها المفرغ في هذا الأدب، قبل أن تحكمه المؤثرات الخارجية، وكل أدب أصيل كالأدب العربي - يستمد وجوده واستمراره من روح الأمة بعيدًا عن التقليد والمحاكاة لأي أدب كان - يتميز عادةً بشخصية قوية، قوامُها الوضوح والصدق، وبلاغُها التأثير والإبداع.



[1] العليم: بديل "الدكتور" الأعجمية.





 حفظ بصيغة PDFنسخة ملائمة للطباعة أرسل إلى صديق تعليقات الزوارأضف تعليقكمتابعة التعليقات
شارك وانشر


 



أضف تعليقك:
الاسم  
البريد الإلكتروني (لن يتم عرضه للزوار)
الدولة
عنوان التعليق
نص التعليق

رجاء، اكتب كلمة : تعليق في المربع التالي

شارك معنا
في نشر مشاركتك
في نشر الألوكة
سجل بريدك
  • السيرة الذاتية
  • كتب
  • ديوان الأثري
  • قالوا عن الأثري
  • مراسلات
  • مقالات
  • قائمة المواقع الشخصية
حقوق النشر محفوظة © 1446هـ / 2025م لموقع الألوكة