• الصفحة الرئيسيةخريطة الموقعRSS
  • الصفحة الرئيسية
  • سجل الزوار
  • وثيقة الموقع
  • اجعلنا صفحتك الرئيسة
  • اتصل بنا
English Alukah
شبكة الألوكة شبكة إسلامية وفكرية وثقافية شاملة تحت إشراف الدكتور خالد الجريسي والدكتور سعد الحميد
 
صفحة الكاتب   موقع  الدكتور حسني حمدان الدسوقي حمامةد. محمد منير الجنباز شعار موقع  الدكتور حسني حمدان الدسوقي حمامة
شبكة الألوكة / موقع د. محمد منير الجنباز / مقالات


علامة باركود

قصة عيسى ابن مريم عليه السلام (1)

قصة عيسى ابن مريم عليه السلام (1)
د. محمد منير الجنباز


تاريخ الإضافة: 9/8/2021 ميلادي - 30/12/1442 هجري

الزيارات: 17708

 حفظ بصيغة PDFنسخة ملائمة للطباعة أرسل إلى صديق تعليقات الزوارأضف تعليقكمتابعة التعليقات
النص الكامل  تكبير الخط الحجم الأصلي تصغير الخط
شارك وانشر

عيسى ابن مريم عليه السلام (1)


سنتعرَّض لسيرة عيسى عليه السلام من خلال استعراض الآيات الواردة في سورتي آل عمران ومريم، وتبدأ القصة من ولادة مريم: ﴿ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ * ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ * إِذْ قَالَتِ امْرَأَتُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ﴾ [آل عمران: 33 - 35]، الاصطفاء بمعنى الاختيار والصفوة، وقد بدأ بآدم وهو أبو البشر، ثم اصطفى من ولد آدم نوحًا، ثم اصطفى من ولد نوحٍ إبراهيمَ، واصطفى من ولد إبراهيم إسماعيلَ وإسحاق، واستمرت النبوة في ولد إسحاق حتى عيسى ابن مريم عليه السلام، ووالد مريم عمران الذي يرجع نسبه إلى سليمان بن داود عليهما السلام، وكان خاتمُ الأنبياء محمد صلى الله عليه وسلم من ولد إسماعيل.

 

﴿ إِذْ قَالَتِ امْرَأَتُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ﴾ [آل عمران: 35]، فقد نذَرت مولودها عتيقًا خالصًا لخدمة بيت المقدس، متفرغًا من شواغل الدنيا، ورجَتْ من ربها أن يتقبل ذلك منها، ﴿ فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ ﴾ [آل عمران: 36]، وكان في نيتها أنَّ حملَها سيكون غلامًا؛ لأنه الأقدر على الخدمة، فلا يعتريه ما يعتري البناتِ من حيض وحجاب يمنعها من المخالطة للرجال، وهذا ما درج عليه مَن يهَب أو يحرِّر للخدمة في المسجد، ومع ذلك وفَّتْ بنذرها، وسمت المولودة مريم، وقامت هي بالأمر؛ لأن زوجها عمران قد توفي قبل أن تضع المولودة، وقد عوذتها بالله هي وذريتها من الشيطان الرجيم، فاستجاب الله لها ذلك، وقد ورد في الحديث الصحيح: ((ما من مولود إلا مسَّه الشيطان حين يولد فيستهل صارخًا، إلا مريم وابنها))، ﴿ فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا ﴾ [آل عمران: 37]، وقبِلها الله من أمها، وكان علامة ذلك أنه أنبتها نباتًا حسنًا، فكانت تنمو نموًّا مختلفًا عن أقرانها؛ جسمًا وعقلًا وخلقًا، فلما كملت أتت بها إلى الأحبار، وقالت: دونكم هذه النذيرة، فتنافسوا في كفالتها؛ لأنها بنت إمامهم، فقال زكريا: أنا أحق بكفالتها؛ لأن خالتها تحتي، والخالة كالأم، فقالوا: لا حتى نقترع، وكانوا تسعة وعشرين حبرًا، فانطلقوا إلى نهر الأردن وألقَوا فيه أقلامهم، على أن من يثبت قلمه في الماء يكون كفيلها، وهذا ما ذكرته الآية: ﴿ ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ ﴾ [آل عمران: 44]، وكانت النتيجة أن الماء قد جرف الأقلام ما عدا قلم زكريا، فتم له كفالتها، ﴿ وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ ﴾ [آل عمران: 37]، ولما كفلها كانت المعجزة؛ فلقد تكفل الله لها الرزق، فكان كلما جاء زكريا يتفقدها ليرى حاجتها يجد عندها رزقًا، وكما ذكر المفسرون، كان يجد أمرًا غريبًا، يجد عندها فاكهة الشتاء في الصيف، وفاكهة الصيف في الشتاء؛ لتتحقق المعجزة، فلا يظنن ظان أن أحدًا يأتيها بالطعام، فلما استبانت المعجزة لزكريا تجاه مريم، ﴿ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً ﴾ [آل عمران: 38]، وكانت الاستجابة لدعائه؛ فرُزق بيحيى، وأما مريم فكان لها شأن آخر، فلم تكن العناية بها من رب العالمين إلا لإعدادها لأمر مهم، ﴿ وَإِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ * يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ ﴾ [آل عمران: 42، 43]، فقد أخبرها جبريلُ بكيفيةٍ ما بأن الله اختارها؛ لطُهرها وعفافها وفضلها على نساء زمانها؛ فهي أفضلهن منزلة وتدينًا وقربًا من ربها؛ ولذلك كان حثها على زيادة الطاعة والسجود والركوع؛ أي: زيادة التقرب إلى الله بالصلاة والتسبيح، ثم كانت المفاجأة المدهشة لمريم، ﴿ إِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ * وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَمِنَ الصَّالِحِينَ ﴾ [آل عمران: 45، 46]، فكانت البِشارة لمريم بهذا التغير الجديد مفاجأة مذهلة؛ لذلك كان وقع البشارة عندها في فتور وتساؤل وحساب دقيق لوضعها بين قومها، ﴿ قَالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ ﴾ [آل عمران: 47]، وفي سورة مريم: ﴿ قَالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا ﴾ [مريم: 20]، سؤال وجيه رغم أنها صبية صغيرة لم تكن قد جربت هذا الأمر بزواج، وإنما هي تعلم أنه لا يكون حَمْلٌ إلا بممارسة جنسية، فكيف يكون هذا وهي تخشى بعد سمعتها الطيبة وتصوُّنها وعفافها أن تُتَّهَم بالزنا؟ وألسنة السوء جاهزة للانطلاق والخوض في عِرضها، فكان الهمُّ مسيطرًا عليها، فهي ليست بذات زوج، وليست من البغايا، وكان من تدينها أن اعتزلت أهلها واتخذت مكانًا شرقيًّا؛ حيث أصبحت في سن البلوغ وجاءها الحيض، ففي هذا المكان تخلع ثيابها للتطهر، وهو بعيدٌ عن أعين الناس وحركة مرورهم؛ صونًا لعِرضها، وتفرغًا للعبادة، ﴿ وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَانًا شَرْقِيًّا * فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجَابًا فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا ﴾ [مريم: 16، 17]، فبعد هذا الحرص والتدين تحمل غلامًا! ماذا يقول قومها عنها؟ ﴿ قَالَ كَذَلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ﴾ [آل عمران: 47]، ومِن أجل هذا الأمر ليتمَّ ﴿ فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا ﴾ [مريم: 17]، فتملَّكها خوف شديد؛ لذلك لجأت إلى الله واستعاذت به، ﴿ قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا ﴾ [مريم: 18] إن كنت من أهل التقوى فتنتهي عني وتتركني لشأني، وهو كذلك، ولكنه عبد مأمور، جاء لينفذ ما أُمِر به، ﴿ قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلَامًا زَكِيًّا ﴾ [مريم: 19]؛ فالنقاش في هذا الأمر لا يجدي؛ فقد تقرر هذا من قبل قيام السموات والأرض، وأما الخوف من قيل وقال، فإن الله تكفل به، وأعَدَّ لإسكات ألسنة السوء معجزات تظهر لكل ذي عينين؛ لذلك أراده الله معجزة بذاته، ﴿ قَالَ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا وَكَانَ أَمْرًا مَقْضِيًّا ﴾ [مريم: 21] هذا أمر قد قضاه الله وحتَّمه وقدَّره وقرَّره، فجرى فيه القضاء، وكتب له الوجود، ﴿ فَحَمَلَتْهُ فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكَانًا قَصِيًّا * فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ قَالَتْ يَالَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنْتُ نَسْيًا مَنْسِيًّا ﴾ [مريم: 22، 23]، كانت الولادة في مدينة بيت لحم، كما ورد أن حملها كان ككل النساء، تسعةَ أشهُر، ولا اعتدادَ لقول مَن قال: تسع ساعات؛ لذلك كان لا بد لها من الابتعاد عن مجتمعها؛ لأن الحمل مع الوقت سيظهر بكبر البطن، وفي العادة فإنه لا يخفى أمر المرأة الحامل على الآخرين، وذكر أن أول من لاحظ عليها الحمل ابن خالها يوسف النجار، وكان يخدم معها في المسجد، فجعل يتعجب من ذلك عجبًا شديدًا؛ وذلك لِما يعلم من ديانتها ونزاهتها وعبادتها، وهو مع ذلك يراها حُبلى، وليس لها زوج، فعرَّض لها ذات يوم في الكلام، فقال: يا مريم، هل يكون زرع من غير بذر؟ قالت: نعم، فمَن خلق الزرع الأول؟! ثم قال: فهل يكون شجر من غير ماء ولا مطر؟ قالت: نعم، فمن خلق الشجر الأول؟ ثم قال: فهل يكون ولد من غير ذكر؟ قالت: نعم، إن الله خلق آدم من غير ذكر ولا أنثى، قال لها: فأخبريني خبرك، فقالت: إن الله بشَّرني، ﴿ إِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ * وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَمِنَ الصَّالِحِينَ ﴾ [آل عمران: 45، 46]، وكذلك فإن يوسف النجار رغم تديُّنه لم يسلم من التهمة بالخَلوة بمريم، وذكر أن خالتها لما زارتها قالت لها: إني حامل، وقالت مريم لها: وأنا حامل، ولما ضمتها إلى صدرها قالت: أشعر أن الذي في بطني يسجد للذي في بطنك، وهذا تفسير قول يحيى: ﴿ مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ ﴾ [آل عمران: 39]؛ لأن المسيح كلمة الله، والسجود هنا في ديانة مَن كان قبلنا للتعظيم، وليس للعبادة، وبالرغم من التطمين الذي قيل لمريم بأن لا تخاف، وأن الله معها، فإنها ظلت وجِلة خائفة، جللها الهم، وخامرها الخوف، فأحزانها بادية قلقة، وخطواتها متعثرة، وأفكارها مضطربة مما سينتظرها؛ لأن ما سيحصل لها بعد الإنجاب هو خلاف المعهود، وهي منزَّهة العِرض، حافظة الفَرْج والشرف، وكان أكثر ما يقلقها نظرات الآخرين المريبة ولمزات الأخريات؛ لذلك تمنت الموت، وألا تكون قد وُجدت على ظهر هذه الأرض، أو أن تكون نسيًا منسيًّا لم تخلق بعد، أو متاعًا متروكًا لا يأبه له أحد، وكانت في هذه اللحظة الحرجة بحاجة إلى التثبيت وبث الثقة في النفس، وأن الله هو الذي سخرها لهذا الأمر العظيم، وجعلها محضنًا لميلاد النبوة المعجِز، فكان هذا التثبيت من جبريل الذي كان يراقب ما يعتَوِرها، ويدرك جيشان خواطرها وما يعتمل في فِكرها من خيالات مخيفة تراودها بعد الولادة واستهلال الولد: ﴿ فَنَادَاهَا مِنْ تَحْتِهَا أَلَّا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا * وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا * فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْنًا ﴾ [مريم: 24 - 26]، كان يريدها ألا تكون بائسة تنظر للأمر وكأنه خطيئة، وإنما يريد لها ولادة ميسرة، تلتفت فيها إلى نفسها من حيث إعطاؤها الاهتمام الكافي من الغذاء والماء، وأن تقر عينًا بهذا المولود الذي سيكسبها شرفًا أبديًّا، وأن ترفع بذلك رأسًا، وتشرف عزًّا، فلتلتفت الآن إلى غذائها الذي وفره الله لها، وهو المناسب لحالة الولادة، نخلة تحمل الرطب، وجدول ماء زلال قراح، وقد حار المفسرون من أين للنخلة هذا الرطب والولادة كانت في الشتاء، ولا بد لهذه الولادة المعجزة أن يرافقها آيات معجزة؛ كوجود هذا الرطب في مثل هذا الوقت؛ فهو لها غذاء طبيعي لا يحتاج لإجراء تحضير له، وهو أيضًا توجيه لمن بعدها من النساء إلى أهمية هذا الغذاء للائي يلِدْن، ومع ذلك لم يلغ دور العمل للإنسان ليحصل على المنفعة: ﴿ وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا ﴾ [مريم: 25]، ثم زودها بالرد الوافي الشافي إن سُئلت عن المولود، وستُسأل، ﴿ فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا ﴾ [مريم: 26]، وكان الصومُ عن الكلام في شريعتهم مشروعًا ومعمولًا به، وبعد الولادة الميسرة والتزوُّد بما وصاها به جبريل عقدت العزم وتوكلت على الله فحملَتْه عائدة إلى دارها، ﴿ فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ قَالُوا يَامَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئًا فَرِيًّا ﴾ [مريم: 27] حملَتْه جهارًا نهارًا ليشهده الناس، وهذا هو المقصد؛ لكي يتعرف عليه الناس منذ ولادته، وكان بإمكانها إخفاؤه، ولكن الله يريد هذا، فوقعوا فيها، واتهموها كما توقعت، فهذا الفعل بحقها - كما قالوا - ذنب كبير لا يغتفر، ثم ذكَّروها بأهلها وما كانوا عليه من الدين والأخلاق، ﴿ يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا ﴾ [مريم: 28]، أنت من دوحة عظيمة، وعائلة كريمة، لم تقترف الإثم في حياتها، وأنت بفعلك هذا تشوِّهين تاريخ هذه الأسرة القويم، ونداؤهم لها بأخت هارون لا يستوجب أن يكون لها أخ اسمه هارون، ولكن نسبوها لرمز الشرف؛ فقد كان اسم هارون عندهم يعني السمو الروحي والديني، فكثرت التسمية به؛ لأن أمها يوم نذرت ولدًا للخدمة في المسجد لم يكن عندها ولد، فولدت مريم، ولو كان عندها ولد لوهبته للخدمة، وبعد هذا التقريع والتبكيت، ﴿ فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا ﴾ [مريم: 29]، لقد أفهمَتْهم أنها نذرت للرحمن صومًا عن الكلام، فانتبهوا إليه ما بين منكر لما أشارت إليه، وغير مصدق أنها تعني ما تقول، فكيف يكلمون صبيًّا ما زال في المهد وعمره لا يزيد عن أربعين يومًا؟! ولكن بهذا التوجه تحقق الأمر الثاني، وهو أن ينتبهوا ويقروا بأنه طفل في المهد جرت العادة أنه لا يتكلم، فسايروها على غير اقتناع منهم وسألوه: من أنت؟ ﴿ قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا * وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنْتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا * وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا * وَالسَّلَامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا ﴾ [مريم: 30 - 33]، سألوه: مَن أنت؟ فأفاض بالجواب الشامل الوافي، ولم يذكر أبًا؛ لأن الله خلقه من غير أب، ذكر أمه وحسب، ﴿ وَبَرًّا بِوَالِدَتِي ﴾ [مريم: 32]؛ فكل إنسان مطلوب منه بر الوالدين، وهو فقط مطلوب منه بر الوالدة؛ لأنه لا والد له، فقد أعطاهم تصورًا من بداية حياته ووظيفته في الدنيا وعمله خلال فترة حياته وطبيعة نفسه الرضية المتواضعة إلى أن يتوفاه الله، وذكر أنه لما ولد خرَّت الأصنام يومئذ في مشارق الأرض ومغاربها، كما روي أنه ظهر نجم عظيم في السماء، وأن ملك الفرس أشفق من ظهوره، فسأل الكهنة عن ذلك، فقالوا: هذا لمولد عظيم في الأرض، فبعث رسله ومعهم ذهب ومر ولبان هدية إلى هذا المولود، فلما قدموا الشام سألهم ملكها عمَّ أقدمهم؟ فذكروا له عن ظهور النجم، ودلالة ذلك على ميلاد عظيم في هذه الديار، فسأل عن ذلك الوقت ومن ولد فيه، فقالوا: وُلد عيسى ابن مريم ببيت لحم، واشتهر أمره بسبب كلامه في المهد، فأرسلهم إليه بما معهم، وسألهم عن سبب اختيار هذه الهدايا، فقالوا: الذهب سيد المتاع، والمولود سيد أهل زمانه، وأما المر فهو دواء يجبر فيه الجرح والكسر، وكذلك هذا المولود يشفي به الله كل سقيم، وأما اللبان فإن دخانه ينال السماء، ولا ينالها دخان غيره، وكذلك هذا المولود يرفعه الله إلى السماء، ولما سمع منهم قيمة هذا المولود حسَده وأرسل معهم من يعرفه له ليتوصل إلى قتله إذا انصرفوا عنه، فلما وصلوا إلى مريم بالهدايا ورجعوا، فقيل لها: إن رسل ملك الشام جاؤوا ليقتلوا ولدك، فاحتملته فذهبت به إلى مصر، فأقامت فيها اثنتي عشرة سنة.

 

ورد أن النصارى يتجهون إلى الشرق في صلاتهم إكرامًا لهؤلاء الذين أتوا بالهدايا من الشرق.

 





 حفظ بصيغة PDFنسخة ملائمة للطباعة أرسل إلى صديق تعليقات الزوارأضف تعليقكمتابعة التعليقات
شارك وانشر


 



أضف تعليقك:
الاسم  
البريد الإلكتروني (لن يتم عرضه للزوار)
الدولة
عنوان التعليق
نص التعليق

رجاء، اكتب كلمة : تعليق في المربع التالي

شارك معنا
في نشر مشاركتك
في نشر الألوكة
سجل بريدك
  • السيرة الذاتية
  • مقالات
  • قصائد
  • صوتيات ومرئيات
  • قصص الأطفال
  • إعراب القرآن
  • معارك إسلامية خالدة
  • كتب
  • بحوث ودراسات
  • قائمة المواقع الشخصية
حقوق النشر محفوظة © 1446هـ / 2025م لموقع الألوكة