• الصفحة الرئيسيةخريطة الموقعRSS
  • الصفحة الرئيسية
  • سجل الزوار
  • وثيقة الموقع
  • اتصل بنا
English Alukah شبكة الألوكة شبكة إسلامية وفكرية وثقافية شاملة تحت إشراف الدكتور سعد بن عبد الله الحميد
 
الدكتور سعد بن عبد الله الحميد  إشراف  الدكتور خالد بن عبد الرحمن الجريسي
  • الصفحة الرئيسية
  • موقع آفاق الشريعة
  • موقع ثقافة ومعرفة
  • موقع مجتمع وإصلاح
  • موقع حضارة الكلمة
  • موقع الاستشارات
  • موقع المسلمون في العالم
  • موقع المواقع الشخصية
  • موقع مكتبة الألوكة
  • موقع المكتبة الناطقة
  • موقع الإصدارات والمسابقات
  • موقع المترجمات
شبكة الألوكة / ملفات خاصة / رمضان / مواعظ وخواطر وآداب / مدارسة القرآن في رحاب رمضان
علامة باركود

نفحات قرآنية (36)

بخاري أحمد عبده

مقالات متعلقة

تاريخ الإضافة: 8/5/2013 ميلادي - 27/6/1434 هجري

الزيارات: 6208

 حفظ بصيغة PDFنسخة ملائمة للطباعة أرسل إلى صديق تعليقات الزوارأضف تعليقكمتابعة التعليقات
النص الكامل  تكبير الخط الحجم الأصلي تصغير الخط
شارك وانشر

نفحات قرآنية (36)


بسم الله الرحمن الرحيم

﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ * أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ * شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ﴾ [البقرة: 183 - 185].

 

هو البَرُّ الرحيم:

﴿ وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ ﴾ [المائدة: 64].

 

والبَرِيَّة قاطبة لن تحصي ثناء عليه، وهو كما أثنى على نفسه، ولو ذهبت البريَّة تنظم كَلِم الحمد؛ تعبيرًا عن العرفان، وانفعالاً بالنِّعم التي لا تُحصى، والبِرِّ الذي فاض فغمر الدارين، ووَسِعَ الحياتين ما وُجِدَت كلماتٌ أرحب، وأوجز وأغنَى من كلمتين اثنتين ردَّدَتْهما - في الجنَّة - ألسنةُ المؤمنين، وباركَهما ربُّ العالَمين؛ ﴿ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ ﴾ [الطور: 28].

 

فأقدار العباد المنفَعِلين بفضلِ الله الغامر، وقفَتْ خاشعة عند وُسْعِها، مكتفيةً بهاتين الكلمتين اللتين جاءتا صدًى لإحساس المتَّقين العميق بما اكتنفَهم من نعيم الإيجاب والسَّلب، والتكريم بالمحسوس وبالمعنويِّ، على النَّحو الذي عرض في آيات "الطُّور"، حتَّى كان القارئُ يلمس المشاهد "جمع مَشْهَد"، ويجد المذاقَ، ويشمُّ العبير: ﴿ إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَعِيمٍ * فَاكِهِينَ بِمَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ وَوَقَاهُمْ رَبُّهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ * كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ * مُتَّكِئِينَ عَلَى سُرُرٍ مَصْفُوفَةٍ وَزَوَّجْنَاهُمْ بِحُورٍ عِينٍ * وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ * وَأَمْدَدْنَاهُمْ بِفَاكِهَةٍ وَلَحْمٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ * يَتَنَازَعُونَ فِيهَا كَأْسًا لَا لَغْوٌ فِيهَا وَلَا تَأْثِيمٌ * وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ غِلْمَانٌ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ لُؤْلُؤٌ مَكْنُونٌ * وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ * قَالُوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ * فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ * إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ ﴾ [الطور: 17 - 28].

 

كلمتان - كما ترى - ذَواتا سعةٍ، وفيهما كناية؛ لأنَّهما مشمولَتان برِضا المولى، ولأنَّه سبحانه أثنى بهما على نفسه، وارتضى بهما شُكرانًا، برغم أنَّ نعمه لا تحصى، وأنَّ يده سبحانه سحَّاء الليل والنهار.

 

وهو - تبارك وتعالى - إذا دخل رمضانُ كان أجزلَ مثوبةً، وأبسطَ يدًا، وأوسعَ رحمةً؛ مصداقَ ما جاء عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إذا دخل رمضان فُتحت أبواب السماء))، وفي رواية: ((فتحت أبواب الرحمة))؛ متفق عليه.

 

أو مصداقَ ما رواه الترمذي، وابن ماجه عن أبي هريرة، قال: قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إذا كان أوَّل ليلة من شهر رمضان صُفِّدت - بالبناء للمجهول - الشياطينُ، ومرَدَةُ الجنِّ، وغلقت أبواب النار، فلم يُفْتَح منها باب، وفتحت أبواب الجنة فلم يغلق منها باب، وينادي منادٍ: يا باغي الخير أقبل، ويا باغي الشرِّ أقصر، ولله عُتَقاء من النار، وذلك كل ليلة)).

 

كذلك الملأ الأعلى، تلهَجُ - مستجيبةً لفطرتها، منفَعِلة بما حولها - بالدُّعاء لأهل الأرض، وتستغفر للأنام - كلِّ الأنام - مصداق ما ذَكَر القرآنُ: ﴿ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ * تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْ فَوْقِهِنَّ وَالْمَلَائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَلَا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ﴾ [الشورى: 4 - 5].

 

والملأ الأعلى في شهر الصيام يُرَوْن - بالبناء للمجهول - أكثرَ اهتمامًا، ورأفةً واحتفاءً بالذَّاكرين الصائمين؛ مصداقَ ما روى البيهقي في "الشُّعَب" عن أنسٍ - رضي الله عنه - قال: قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إذا كان ليلة القدر نزل جبريلُ في كبكبةٍ من الملائكة، يصلُّون على كلِّ عبد قائم، أو قاعد يذكر الله)).

 

كذلك رسولنا - صلى الله عليه وسلم - كما رُوِي عن ابن عباس - رضي الله عنه - في الصِّحاح -: "أجود الناس بالخير، وكان أجودَ ما يكون في رمضان".

 

وكذلك المسلمون؛ تميَّزوا في هذا الشهر بمزيدِ عبادة، وطُهْر، وبِرٍّ، وأُمِروا (بالبناء للمجهول) - وفق ما رُوِي في الصِّحاح عن ابن عباس - بزكاة الفِطْر على العبد والحُرِّ، والذَّكر والأنثى، والصغير والكبير من المسلمين، وأمر بها أن تؤدَّى قبل خروج الناس إلى الصلاة؛ متفق عليه.

 

وأخرج أبو داود بإسناد جيِّد عن ابن عبَّاس - رضي الله عنه - قال: "فرَض رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - زكاةَ الفطر؛ طهرة للصِّيام من الَّلغو، والرفث، وطُعْمة للمساكين".

 

إذًا فلا عجب إذا أطَلْنا المقام مع نفحات آيات الصِّيام، ولا غرابة إذا ازدحمَت المعاني، وتواردت سخيَّة سحَّاء، محيطة بمجتمع المسلمين، قانصةً من الشَّوارد، نافذةً إلى الأغوار، فيَّاضة بالخيرات كشهر الصيام.

 

سلفيُّون وأيضًا عصريون:

ولقد أفضنا - وسنُفيض - في الحديث عن فاعليَّة الظُّروف، وقابليَّة الإنسان.

 

وهذا الإنسان الذي ندعوه إلى أن يتفاعل مع روح هذا الدِّين، وأن يُنسِّق بفطنة بين الدعوة وبين الظُّروف المتجدِّدة المتغيِّرة غير باغٍ، ولا عادٍ، هذا الإنسان - كما تبيَّن - عجيبٌ، تتأثَّرُ "كيميائيَّتُه" بالأعراض التي تنتابُه، أو تعتريه.

 

يتغيَّر إذا امتلأ، ويتغيَّر إذا علم، وإذا ارتفع أو أمسى وجيهًا، وإذا حقَّق شهرة، أو نَعِمَ بصحة، أو ابتُلِي بقوة... إلخ.

 

ويتأثر كذلك بكلِّ ضُمورٍ يطرأ عليه؛ في عِلمه، أو جسمه، أو جاهه، أو ماله، أو... أو... والتفاعل الأوَّل خطير؛ لأنَّه إيجابي، وخطورته تَكْمُن في أنه قد يورث عُتوًّا وتطاولاً، أو انحرافًا وتسيبًا، أو ترَفًا وإخلادًا إلى الأرض.

 

أما الثاني فسلبيٌّ قد يحدُّ من القدرة، وقد يرجعه القَهْقَرى، وينحدر به، ويُسلمُه إلى الفتور والخمول، والعجز شيئًا فشيئًا.

 

كذلك الأجيال؛ تتقلَّب بين الزيادة والنقص، وتتأثَّر بعوامل التَّعرية.

 

والإسلام - بحكم عالَمِيَّتِه، وشموله، وخلودِه - ينشد الحياة المهذَّبة، ويحدو نحو الأساليب التي تكفل التفاعل المبارك بين الدِّين وقيمه وهداياته - من جهةٍ - وبين قُوَى الواقع، ومشكلات الحياة بكلِّ عُقَدِها، ومنحنياتها - من جهةٍ أخرى.

 

فالحقُّ أن الإسلام قديرٌ على أن يفتح الآفاقَ، ويستوعِبَ مشاكل الدُّنيا؛ لأنَّه - برغم مثاليَّتِه - رَحْب، مَرِن، بعيدٌ مدى الرُّؤية.

 

والداعية الحَصِيف يضع نُصْبَ ناظرَيْه كلَّ هذه الحقائق، ويصل الماضي بالحاضر على هُدًى وبصيرة كلَّما قاد وخطط، أو جال ونفَّذ، أو كرَّ وفر - وإلا اضطربَتْ رؤيته، واختلَّت خُطاه - لا يلهث لهاثَ الكلاب وراء أي جديد، نابذًا كلَّ قديم؛ حتى لا يفقد الأصالة، ويضحي بالمقومات، ولا يرتبط ارتباطًا أعمى بكل قديم، فيفقد الانسجام، وتلفظه الحياة وراءها ظِهْريًّا.

 

وهذا الفقه الواعي للحياة في كنف الدِّين - أو قُلْ إن شئتَ: للدين في كنف الحياة - هو السِّياسة الشرعيَّة، أو السلفيَّة الحقة؛ لأنَّ السلف كانوا على وعيٍ عالٍ بحياتهم، وبمشاكل عصرهم، وكانوا يطلُّون - من خلال الإسلام - على عالمهم، وما يدور فيه.

 

ربَّانيون لا رهبانيُّون:

بل ذلك الفقه هو الربَّانية التي أُغْرِينا بها في قول الله سبحانه: ﴿ وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ ﴾ [آل عمران: 79].

 

1- والربَّانيُّ قد يكون منسوبًا إلى الربِّ، فالكلمة - حينئذ - توحي بالثَّراء، والعطاء، والاقتداء بالربِّ سبحانه في التيسير، وسداد التدبير[1]، كما تنمُّ عن الحكمةِ والالتزام.

 

2- وهي تَحْمل في تضاعيفها معانِيَ "التربية"، القائمة على التدرُّج، والتوصُّل إلى المقصود بصغار العلم قبل كباره؛ الأمر الذي يتطلَّب فقهًا، وسياسة[2].

 

3- وربما كانت الكلمة - كما أُثِرَ عن المبرِّد - جمعًا واحِدُها "ربَّان" من قولهم: رب يربُّ، فهو ربان، إذا دبَّر وأصلح، وبُنِيَ على علمٍ؛ فهي - إذًا - توحي بالإصلاح، وتدبير أمور الناس، الأمر الذي يتطلَّب بصَرًا وحذقًا، ومعرفةً بمشاكل التطبيق، مع العلم بالحلال والحرام، والوقوف على أنباء الأمم، وما كان، وما يكون[3].

 

4- وجِمَاعُ كلِّ هذا ما قيل من أنَّ الربانيَّ هو الذي يجمع إلى العِلمِ البصرَ بالسياسة، ويربط الحاضرَ بالماضي، مستعينًا بالفَراسة، وحُسْن القياس، والألمعيَّة.

 

5 - ومراعاة لأبعاد الكلمة قالوا: الربانيُّون فوق الأحبار[4]؛ لأنَّ الحَبْر قد لا يتجاوز العِلم إلى البصر بالسِّياسة، وحُسْن تناول الأمور، ومعرفة المداخل والمخارج.

 

هذا، ومن النماذج العليا للربانيَّة: حَبْرُ الأمة "عبدالله بن عباس" - رضي الله عنهما - فقد تميَّز بفقه النظريَّة، وسداد التأويل، واستيعاب مشاكل التطبيق، قال "محمد بن الحنفيَّة" يوم مات ابن عباس: "اليوم مات ربانيُّ هذه الأمة".

 

كلُّ تلك المعاني تستشعرها إذا استرجعْتَ الآيات الكريمة التي وردت فيها الكلمة.

أ- وردَتْ في قول الله: ﴿ مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ ﴾ [آل عمران: 79].

 

والآية تَنْزيه للأنبياء من الإسفاف والميل، والإنصاتِ لصوت الطِّين، ونزعاته الدُّنيا التي تغرُّ، وتُغْري بالتعالي، وتَنْزيهٌ كذلك للدُّعاة "ورثة الأنبياء" عن أن يَحِيدوا عن دروب العلم، والحكمة، وأخلاق الأنبياء، وعلَّة ذلك التَّنْزيه أنَّهم أُوتوا أسباب السَّداد والنَّزاهة، وهُدوا إلى الصِّراط: "الكتاب والحكم والنبوَّة"، والأنبياء - بِما عندهم من ذخائر - على قمَّة شامخةٍ، فلا يتهافَتون ولا يسفون، بل يحصرون على إيجاد الصفِّ الثاني، والعروج بهم إلى قمَّة تالية تُتيح لهم وضوح الرُّؤية، والحركة الرَّشيدة السديدة على ضوء الكتاب والحكمة وتُراث النبوَّة، والصفُّ الثاني الذي يسلك درب الأنبياء هم الربانيُّون المُتَحلون بكل معاني هذه الكلمة، إن كلمة ﴿ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ ﴾ [آل عمران: 79] تنهض بالدُّعاة كي يرتفعوا إلى الذروة التي تليق بورثة الأنبياء.

 

ب- ووردَتْ في قول الله: ﴿ إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ ﴾ [المائدة: 44].

 

والآية رتَّبت العاملين في ساحات الدعوة ترتيبًا تنازليًّا؛ "النبيُّون، الربَّانيون، الأحبار"، وذكرت - كذلك - من أسباب السَّكينة، والطُّمأنينة، والسداد: الحُكم والهُدى والنُّور، وذكرت تمكُّنهم من الكتاب تمكُّنًا يتيح لهم وضوح الرُّؤية وصدق الشهادة، والحفاظَ على الوديعة، والاعتزاز بالمولى اعتزازًا تهون معه المخاطر، وتتضاءل معه الأقدار؛ أقدار المتربصين، ﴿ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ فَلَا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا ﴾ [المائدة: 44]، إنَّ الرَّبانيين في الآية هم الصف الثاني.

 

جـ- ووردَتْ في قول الله: ﴿ لَوْلَا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ ﴾ [المائدة: 63].

 

والآية جاءت بين آيات تُعالِج أمراضًا عقديَّة، وأخلاقية اجتماعيَّة، تفشَّت في مجتمعات أهل الكتاب في غيبة الأنبياء، وتستحِثُّ الصفَّ الثاني "الربَّانيين"، والصف الثالث "الأحبار"؛ كي ينهضوا ضدَّ هذه المنكرات، ويحملوا رسالة الأنبياء.

 

ومواجهة الأمراض الاجتماعيَّة تتطلب احتكاكًا بالمجتمع، وعِلمًا بالنفسيَّات، وإحاطةً بالدَّوافع والظواهر... إلخ، تتطلب خبرة، وبصَرًا، وسياسة، تتطلب ربانيَّة، إن الربَّاني[5] يضيف إلى العلم اليقظة والفطنةَ، والحكمة والحركة، والبصيرةَ التي تملأ أنحاء المجتمع.

 

والرهبانيَّة؟

الكلمة مأخوذة من "رهب" بمعني خاف، فهي نسبةٌ إلى الرَّهْبان "بفتح الراء المشدَّدة"، وهو الخائف، والخوف إذا طوى في تلافيفه، والتقَمَ بأضراسه وفكَّيْه، وتمكن حتَّى أمسى سِمَة ونسبة، طحن، وأذاب.

 

والرهبانيَّة - في أحسن معانيها - لا تَعْدو المبالغة في الرِّياضة، والإفراطَ في العبادة والانقطاع - جسميًّا أو فكريًّا - عن الناس؛ إيثارًا للعزلة، وعجزًا عن مُجاراة الحياة، فهي إذًا هروبٌ من الساحة، وانطواءٌ في مفاهيم معتمة ضيِّقة، وإيثارٌ للشلل على الحركة، وحملٌ للنَّفس - على غير سجيَّتِها - على العزوف عن زينة الله التي أخرج لعباده بالامتناع عن المَطْعَم، والمشرَب، والنِّكاح، وبالتعلُّق بالصوامع، والكهوف، وأكنان الجبال، ولا نزاع في أنَّ هذا تزمُّتٌ يأباه الإسلام، وتقوقعٌ يُفْضي إلى الجمود، والتبتُّل المودي[6].

 

وبقدر ما تجد في الربَّانية من انتشارٍ وتحليق، واتِّزان، وسعَةِ أفُق، تجد في الرَّهبانية انطواءً وإسفافًا، وإخلالاً، وضيقَ أفق، هي إذًا عقديَّة، وفكرية، وحضارية، والإسلام يرفض كلَّ أنواع الرِّدة، ويرى أن الارتداد الحضاريَّ أو السُّلوكي كمن يمشي القهقرى، والصحابة كانوا يتحرَّجون من أن يأتوا عملاً فيه شبهة الارتداد الحضاري؛ مصداقَ ما روي عن سلمة بن الأكوع أنَّه دخل على الحجَّاج، فقال له: "يا ابن الأكوع، ارتددتَ على عقبيك؟ تعرَّبْتَ؟ قال: لا، ولكن رسول الله أذِنَ لي في البدو".

 

وكانون يرون مَن رجع بعد هجرته أعرابيًّا مرتدًّا؛ أخْذًا من حديث رسول الله: ((لعن الله آكلَ الرِّبا، وموكِلَه، ومن رجع بعد هجرته أعرابيًّا)).

 

ورهبانيَّة ابتدعوها:

والرهبانيَّة - وإنْ صاحبَها حسْنُ النيَّة - بِدْعة مذمومةٌ، وهروبٌ من معمَّة الحياة المكتوبة على الناس؛ ﴿ الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا ﴾ [الملك: 2].

 

والآية الكريمة: ﴿ وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا ﴾ [الحديد: 27] تقصُّ قصَّة مؤمنين جَبُنوا عن مواجهة الشرِّ، ومقاومة الطُّغيان فآثروا السَّلامة واعتزلوا، نقل الضحَّاك من رواية عن ابن عبَّاس أنَّ ملوكًا من بعد عيسى فجروا وأجرموا، وعصفوا بالآمرين بالمعروف النَّاهين عن المنكر، وداخلَت الرَّهبةُ بقيَّةً باقية من الملتزمين ففرُّوا، واتَّخذوا الصوامع، وتخلَّوْا عن الدعوة، وجَمدوا في قواقعهم، فلم ينتشروا، وكانوا يحسبون أنَّهم يُحْسنون صنعًا، ويبتغون بما ابتدعوا رضوانَ الله، وهؤلاء بصنيعهم هذا ارتكبوا عدَّة جرائر: جريرة التخلِّي عن الموقع والرِّسالة، وجريرة الابتِداع، وجريرة المظهريَّة، والتنازع على الرِّياسة، وليتهم حين عزموا أظهروا رجولةً وصلابة! بل سرعان ما أخَلُّوا وأهمَلوا.

 

روى أحمد عن أبي أمامة الباهليِّ - رضي الله عنه - قال: خرجنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في سريَّة من سراياه، فقال: مرَّ رجل بغارٍ فيه شيءٌ من ماء، فحدَّث نفسه بأن يُقِيم في ذلك الغار، فيقتات بما فيه من ماءٍ، ويصيب مِمَّا حوله من البقل، ويتخلَّى عن الُّدنيا، قال: لو أنِّي أتيتُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فذكرتُ له ذلك فإن أَذِن لي فعلتُ، وإن لم يأذن لم أفعل، فأتاه فذكر له الأمر، فقال - صلى الله عليه وسلم -: ((إنِّي لم أُبْعَث باليهوديَّة، ولا بالنصرانية، ولكني بُعِثت بالحنيفيَّة السَّمحة، والذي نفس محمَّد بيده، لغدوة أو روحة في سبيل الله خيرٌ من الدُّنيا وما فيها، ولَمُقام أحدكم في الصفِّ الأول خيرٌ من صلاته ستِّين سنَة))، إنَّ المسلم لا ينبغي له أن يتبتَّل بِجِسمه، كيف والإسلام في مَسِيس الحاجة إلى قُوَاه وطاقاته، وغدوه ورواحه؟

 

ولا يَنبغي له أن يتبتَّل بفِكْره؛ لأنَّ مُعترك الحياة هو الرَّافد الذي يمدُّ، ويَرْوي الأفكار، واحتكاكُ الأفكار بالأفكار يجلوها، ويغذوها، ويكسبها المَضاء، والتفتُّحَ على آيات الآفاق، وصفحاتِ الكون التي تنشر يجدِّد الدم، ويكفل حُسْنَ التجاوب مع عالَمٍ يتطوَّر كل يوم.

 

والرهبانيَّة لا يوجد سندٌ لها في الكُتُب المقدَّسة الأولى، ولا في سُنة الأنبياء - عليهم السَّلام - بل إنَّ الناظر في سيرة المسيح وأصحابه ليجد ما يضادُّ هذه النَّزعة التبتليَّة، وهذه الرُّوح الانعزاليَّة لم تظهر في الكنائس إلاَّ في أواخر الجيل الثاني، وأوائل الجيل الثالث؛ منتقلةً إليها من الهنود الوثنيِّين[7].

 

ولا يهمُّني - هنا - أن أتعرَّض لتفاصيل الرهبانيَّة والاعتزال، والتقشُّف، والتبتُّل.. إلخ؛ فكلُّنا يعرف أنه لا رهبانيَّة في الإسلام، وأن قدر المسلمين الجهاد الجهير؛ مصداقَ ما أخرجه أبو داود عن أنسٍ - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((... والجهاد ماضٍ منذ بعثني الله إلى أن يقاتل آخِرُ أمَّتِي الدجَّال، لا يبطله جَوْرُ جائرٍ، ولا عَدْلُ عادل…))[8].

 

ولكن الذي يهمُّني - هنا - أن أحذِّر من تبتُّلٍ جديد، طوى بعض الناس في أَسْمالٍ بالية، فبدَوْا جامدين مشتَمِلين بأسمالهم اشتمالَ الصمَّاء، وفقدوا القدرةَ على المُواءمة بين أسمالِهم وبين مطالب الحياة العصريَّة.

 

وهذه الرهبانية الجديدة تختلف عن رهبانيَّة الصوامع، وتبتُّلِ الكهنة، ودعاوى المتصوِّفين، ولكنها تتَّفِق معها في النتائج؛ فكلاهما إغماضٌ عن الواقع، وإيغالٌ في الغفلة، وعجْزٌ عن التكيُّف بالأجواء، والانسجامِ مع موكب الحياة الحافل بكلِّ بديع.



[1] نقل هذا عن ابن عبَّاس.

[2] روي معنى هذا عن عبدالله بن مسعود.

[3] روي هذا عن أبي عُبَيدة.

[4] روي هذا عن مجاهد، وحسَّنه النحَّاس.

[5] إذا اتَّفقنا على أن الكلمة نسبة إلى الربِّ، فأصلها: ربِّيٌّ، وزِيدَت الألف والنُّون؛ للمبالغة، كما يقال: روحاني وعلماني، وماداني، ولحياني لعظيم اللِّحية.

[6] التبتُّل: الانقِطاع.

[7] انظر "محاسن التأويل" ص 5698 من الجزء السادس عشر؛ ففيه تناوُلٌ شافٍ لقضية الرهبانيَّة؛ نقلاً عن مؤلفات علماء المسيحيين المتأخرين.

[8] في سنده «يزيد بن أبي نشبة» وهو مجهولٌ، لكن معنى الحديث صحيح.





 حفظ بصيغة PDFنسخة ملائمة للطباعة أرسل إلى صديق تعليقات الزوارأضف تعليقكمتابعة التعليقات
شارك وانشر

مقالات ذات صلة

  • نفحات قرآنية (32)
  • نفحات قرآنية (33)
  • نفحات قرآنية (34)
  • نفحات قرآنية (35)
  • نفحات قرآنية (37)
  • نفحات قرآنية (38)
  • نفحات قرآنية (39)
  • نفحات قرآنية (40)

مختارات من الشبكة

  • نفحات رمضانية تدبرية: ثلاثون نفحة تدبرية (PDF)(كتاب - ملفات خاصة)
  • وأطل علينا شعبان بنفحة من نفحات الخير(مقالة - ملفات خاصة)
  • نفحات قرآنية (17)(مقالة - آفاق الشريعة)
  • من خصائص رمضان: لله نفحات من رحمته يصيب بها من شاء من عباده وشهر رمضان أرجى الأزمنة لذلك(مقالة - ملفات خاصة)
  • نفحات قرآنية في سورتي الكافرون والإخلاص(مقالة - موقع الشيخ محمد بن صالح الشاوي)
  • نفحات قرآنية في سورتي الماعون والكوثر(مقالة - موقع الشيخ محمد بن صالح الشاوي)
  • نفحات قرآنية في سور الشمس والضحى والعصر(مقالة - موقع الشيخ محمد بن صالح الشاوي)
  • نفحات قرآنية في سورتي الفجر والبلد(مقالة - موقع الشيخ محمد بن صالح الشاوي)
  • نفحات قرآنية في سورتي البروج والأعلى(مقالة - موقع الشيخ محمد بن صالح الشاوي)
  • نفحات قرآنية في سورتي الانفطار والمطففين(مقالة - موقع الشيخ محمد بن صالح الشاوي)

 



أضف تعليقك:
الاسم  
البريد الإلكتروني (لن يتم عرضه للزوار)
الدولة
عنوان التعليق
نص التعليق

رجاء، اكتب كلمة : تعليق في المربع التالي

مرحباً بالضيف
الألوكة تقترب منك أكثر!
سجل الآن في شبكة الألوكة للتمتع بخدمات مميزة.
*

*

نسيت كلمة المرور؟
 
تعرّف أكثر على مزايا العضوية وتذكر أن جميع خدماتنا المميزة مجانية! سجل الآن.
شارك معنا
في نشر مشاركتك
في نشر الألوكة
سجل بريدك
  • بنر
  • بنر
كُتَّاب الألوكة
  • الدورة الخامسة من برنامج "القيادة الشبابية" لتأهيل مستقبل الغد في البوسنة
  • "نور العلم" تجمع شباب تتارستان في مسابقة للمعرفة الإسلامية
  • أكثر من 60 مسجدا يشاركون في حملة خيرية وإنسانية في مقاطعة يوركشاير
  • مؤتمرا طبيا إسلاميا بارزا يرسخ رسالة الإيمان والعطاء في أستراليا
  • تكريم أوائل المسابقة الثانية عشرة للتربية الإسلامية في البوسنة والهرسك
  • ماليزيا تطلق المسابقة الوطنية للقرآن بمشاركة 109 متسابقين في كانجار
  • تكريم 500 مسلم أكملوا دراسة علوم القرآن عن بعد في قازان
  • مدينة موستار تحتفي بإعادة افتتاح رمز إسلامي عريق بمنطقة برانكوفاتش

  • بنر
  • بنر

تابعونا على
 
حقوق النشر محفوظة © 1446هـ / 2025م لموقع الألوكة
آخر تحديث للشبكة بتاريخ : 9/11/1446هـ - الساعة: 17:29
أضف محرك بحث الألوكة إلى متصفح الويب