• الصفحة الرئيسيةخريطة الموقعRSS
  • الصفحة الرئيسية
  • سجل الزوار
  • وثيقة الموقع
  • اتصل بنا
English Alukah شبكة الألوكة شبكة إسلامية وفكرية وثقافية شاملة تحت إشراف الدكتور سعد بن عبد الله الحميد
 
الدكتور سعد بن عبد الله الحميد  إشراف  الدكتور خالد بن عبد الرحمن الجريسي
  • الصفحة الرئيسية
  • موقع آفاق الشريعة
  • موقع ثقافة ومعرفة
  • موقع مجتمع وإصلاح
  • موقع حضارة الكلمة
  • موقع الاستشارات
  • موقع المسلمون في العالم
  • موقع المواقع الشخصية
  • موقع مكتبة الألوكة
  • موقع المكتبة الناطقة
  • موقع الإصدارات والمسابقات
  • موقع المترجمات
شبكة الألوكة / ملفات خاصة / ملف الحج / استراحة الحج
علامة باركود

عندما أخبرنا كابتن الطائرة أن تلك الأنوار هي أنوار الحرم

عندما أخبرنا كابتن الطائرة أن تلك الأنوار هي أنوار الحرم
عامر الخميسي

مقالات متعلقة

تاريخ الإضافة: 26/9/2020 ميلادي - 8/2/1442 هجري

الزيارات: 12808

 حفظ بصيغة PDFنسخة ملائمة للطباعة أرسل إلى صديق تعليقات الزوارأضف تعليقكمتابعة التعليقات
النص الكامل  تكبير الخط الحجم الأصلي تصغير الخط
شارك وانشر

عندما أخبرنا كابتن الطائرة أن تلك الأنوار هي أنوار الحرم

 

قبل تسعة أشهر تقريبًا، كنتُ مسافرًا في الجو مجتازًا البحر من إفريقيا، قاصدًا مطار مسقط، واقتربنا من جدة، ومن بعيدٍ شاهدنا مدينةً تُعانق السماء بأنوارها، تتلالأ بأضوائها كعروسةٍ تتهادى في حُلَلِها ... فمكثتُ مليًّا أفكر وأقول: يا تُرى ما اسم هذه المدينة؛ فلم يسبق لي طوال ثلاثين سنة منذ جئتُ إلى هذه الحياة زيارة الحجاز؟

 

وفجأةً قطع تفكيري صوتُ الكابتن وهو يتحدث إلينا في مكبرات الصوت أن تلك المدينة التي نشاهد أنوارها هي مكة.

 

كنتُ أقول لنفسي: ويحكِ، هذه مكة التي كان يردد أحد الشعراء شوقًا إليها:

تاقَ الفؤادُ لأرضِ مكَّةَ شوقه
وحنينه لهوائها وثَرَاها
يا ربِّ قرِّب بُعْدَ مكَّةَ إنَّني
من عُمْقِ قلبي صادقٌ أهواها

 

هذه مكة التي حالت العوائق دون الوصول إليها، وتقطَّع القلب دون مرآها.

 

كنتُ أنظر إلى أنوارها، فأشعر أنَّ الشوقَ يكاد يقفز بي من السماء لعِناقِها، كان الظلام دامسًا، وكان الوقت سَحَرًا، وكانت أنوار الحرم تتدفق قاطعةً ظُلْمَةَ الليل البَهِيمِ.

 

لقد تدفَّقتْ أنوارُها كشلالات قويَّة مندفعة تطمِرُ صحاري الأسى، ومفازات الألم، وغَيَابات الضياع.

 

في استنشاقِ نسائمِ أنفاسِها تشعر بالراحة والسكون، وفي القرب منها تُحِسُّ بالدفء، وفي لمح أنوارها يتسلل النور إلى قلبك:

كم مُتعَبٍ في أرضها الْتَحفَ الثَّرَى
تحت الظِّلالِ بجهده وتبرَّدا
كم مُرهَقٍ قد ضاق واعتزل الورى
فارتاح في ساحاتها متفرِّدا

 

كان الشوق قد برَّحَ بي، والمسافرون من طول الطريق ومشقة السفر قد أغفَوا، وبقيتُ أتأمل أنوار الحرم.

 

إنها مكة يا قلبي.

 

الشوقُ نحو رحابها متوقِّدٌ وهَّاج ... يا ليتنا ندنو لمكَّةَ كلما نحتاج.

 

كنت أتساءل: ما أسرار هذا النور الذي يشقُّ الحُجُبَ؟

لم أعرف أبدًا أن هذا النور هو النور الذي قال عنه الشاعر:

نورٌ تدفَّق من حنايا مكةٍ  *** فقضى على ليلِ الأسى وطَوَاهُ


شوقٌ طويل لم ينْتَهِ، ولا أظنه سينتهي أبدًا، أليست مكة هي مهوى الأفئدة؛ كما قال عنها أحدهم:

مهوى الفؤاد وقِبْلةُ الأشواقِ  *** ومسيلُ حبٍّ صادقٍ دفَّاقِ


بلى ... فالقلوب تهواها، وتتطلع لمرآها، وتَحِنُّ لوصالها.

مكةُ قطعة ألماس تجذب بمغناطيسيتها قلوبَ المحبين المشتاقين.

 

مَن زارَها وجد السلسبيل العذْبَ الذي يروي عروقه، والمرهم الشافيَ الذي يداوي حروقَهُ، وما زارها أحدٌ إلا اشتهى ألَّا يغادر حِماها.

 

كانت الطائرة تَمخُرُ عُبابَ الأجواء النَّدِيَّةِ القُدسية؛ فأشعرُ بالقلبِ يرقصُ طربًا وشوقًا، وكأن حالي حال الشاعر إذ يقول:

وبي شوقٌ إليْكِ أعَلَّ قلبي  *** وما لي غير قُرْبِكِ مِن طبيبِ

 

كيف لهذا الشوقِ المنبعث إلى هذا البيت المعظم أن يهدأ، وقد شاهد أنوار الجمال، وسرادقات الجلال؟

كان بجواري طبيبُ قلبٍ تعرَّفت عليه في الطائرة، ما شعرت به إلا وهو يتأوَّه شوقًا، ويمدُّ يده ويُتَمْتِمُ، ويضعها على قلبه، فشعرتُ أنَّ قلبه أيضًا في غمرة الهُيام يقطعه أسى الوجْدِ.

 

أخبرني أنه قد زار البيت مِرارًا، فتخيَّلتُ عهوده السالفة، وكيف هو الآن يصارع الحنين، يَتُوقُ للبيت العتيق:

وما شِمتُ بَرقًا أو رأيتُ غَمامةً
سَرَتْ نحوه إلا وكنتُ أسوقُ
دموعي وقلبي واصطباري وغربتي
وذكرى عهودٍ قد خَلَوْنَ أتوقُ

 

إنها مكة؛ أطيب بلاد الله؛ ففيها بيته، وإليها يتجه زُوَّاره ... وفيها حرمه الذي تحفُّهُ أنواره.

 

كنتُ أتخيَّل الطمأنينة تتنزل على قلبي، والسكينة تغمر جوارحي، والدفء يحفُّني، والسماء أقرب ما تكون إليَّ ...

 

لقد تذكَّرتُ ما قالته عائشة الصديقة بنت الصديق أمُّ المؤمنين رضي الله عنها، وأنزل على قبرها شآبيبَ رحمته: "لولا الهجرة لسكنتُ مكة، إني لم أرَ السماء بمكانٍ قطُّ أقرب إلى الأرض منها بمكة، ولم يطمئنَّ قلبي ببلد قط ما اطمأنَّ بمكة، ولم أرَ القمرَ بمكان أحسنَ منه بمكة".

 

يا لهذا الكلام البديع!!

إنها تصف مشاعر المحبين ...

تتحدث بحديث يتساقط منه الدُّرُّ، وتتناثر منه اليَواقِيتُ ...

إنها مكة ... هي الشمس والأقمار منها ولائدُ ...

إنها مكة عروس الرمال، ومنتجع الجمال، ولذة الوصال، والمورد العذب الزُّلال ...

تأوي إليها النفوس المَشُوقةُ، فتعود جَذْلَى بالأُعْطِيات والمِنَحِ ...

 

مهوى الفؤاد وقِبْلةُ الأشواقِ  *** ومسيلُ حبٍّ صادقٍ دفَّاقِ

 

لا جلالَ في أي بقعة على الأرض يفوق هذا الجلال ...

هنا يبدو الحسن البديع والصفاء، هنا القداسة والرَّونَقُ والنقاء ...

ماذا أقولُ؟ جميلةٌ وتزيَّنت

جلَّت محاسِنُها عَنِ الأوصافِ

 

هنا مخزن الأسرار، ومَنْجَمُ الهِبات، ومُدَّخر الأعطيات، هنا قصة المجد المنفرد، والمزايا التي تطاول السماء، وتسمو على الأفلاك.

في هذي الرحاب المُغتسل البارد والشَّرَاب ... وفي هذه البقاع يتنزل عطاء الملك الوهَّاب ...

لا أنوار تعلو بين الخافقين تضاهي هذه الأنوار ... ولا أستار تعدِل أو تماثل تلك الأستار ...

 

تخيلتُ وصفًا بديعًا حكاه لي أستاذ الأدب والبلاغة الذي درَّس لي في الأول الثانوي قبل أربعة عشر عامًا تقريبًا، عندما زار البيت - تخيَّلتُهُ وهو يحكي لي عن أول نظرة للبيت الحرام، وكيف امتلأ قلبه من الجلال والهَيْبَةِ والقُشْعَرِيرَةِ، وكيف مكثَ ساعة كاملة يصف لي الحنين الفيَّاض، والشوق المؤرِّق، ولحظة احتضان البيت ...

 

يا لها من مشاعر!

كيف سأُترجم الآن هذه الأحاسيس، وأصل لذِروةِ التعبير عن مكنون الفؤاد؟ وماذا عسى القلم أن يسطِّرَ، والبيان أن يكتب؟

فَاض الحنينُ فماذا يفعل الدَّنِفُ
يا كعبةَ اللهِ إني مَسَّني التَّلفُ
يا كعبة الله هذا النأيُ أوجعنا
إني بشوقي إلى "لبيك" أعتَرِفُ

 

هنا يبدو الحب الذي لا يقدِرُ أحدٌ على كتمانِهِ ...

والشوق الذي لا يستطيع أحد أن يخبِّئه أو يُخفِيه ...

 

ما استُكمِلَتْ لي فِيكِ أوَّلُ نظرةٍ  *** حتَّى علِمتُ بأنَّ حُبَّكِ فاضِحِي

 

يا لغرابة الشعور وفيضان المشاعر!!

يا للعطش الذي يفتك بالضلوع!!

إني لأعلم أن هذا الكابتن سيمضي يخترق الأجواء تاركًا القلب يحوم حول هذه الأنوار.

 

لقد كدتُ أن أخاطبه أن يقف بي هنا، مع علمي أنه لا يقدر ألبتَّةَ على الوقوف:

خذني لها، متعطِّشٌ فَتَكَ الحنينُ بخافقي

والشَّوقُ باتَ من المساءِ إلى الصباحِ مرافقي

وأنا أصيحُ بزحمةِ الأشواقِ فيَّ ترفَّقِي


أشاهد الأرض تحتي تُطْوى، والليل داجٍ قد عمَّ الأرض بحُجُبِهِ، والسَّحَرُ يُنعش الأرواح السابحة في الفضاء، والفجر يقترب ليعمَّنا بأنواره، ولا أنوارَ على كوكب الأرض كهذه الأنوار.

يا فجرَ مكَّةَ كم حنَّت خوافقُنا
نقصُّ ذكرى ليالٍ كم تُسلِّينا
ندعوك يا ربِّ والأشواقُ تغمُرُنا
قرِّب بفضلك أميالَ المُحبينا

 

سمعتُ خلفي رجلًا كبيرًا في السن يتمتم خاشعًا، والقوم رُقُودٌ، فعلِمتُ أنه يصلي، ويا لروعة هذه الصلاة من هذا الطاعن في السن!

 

إنه شيخ سوداني لحيته على صدره بيضاء، وكأنه مع دخول السحر تنبَّه إلى وِرْدِهِ الذي يقضيه مصليًّا لربه، مناجيًا مولاه؛ فقام يُهْرَعُ شوقًا للسَّحَرِ ...

جمال في جمال ...

إنه يصلي فوق السحاب ...

تتساقط دموعه كالدر المنثور ...

أظنه كان يقرأ في سورة الحجر ...

كان يقرأ فنسمع أحيانًا تمتماتِهِ، فلكأنها غضَّةٌ طريَّةٌ تلامس المشاعر ...

 

كانت الطائرة متجهة تمامًا إلى البيت العتيق؛ فقد كانت الشاشة التلفزيونية أمامنا تشير بالسهم أننا صَوْبَ البيت، وكانت الأضواء الداخلية للطائرة خافتة باهتة؛ حتى لا تُزعِجَ النائمين، وكان هذا الطاعن في السن يمخُرُ عُبابَ الليل بتلاوته الهادئة المنبعثة من حنايا قلبه، كما يمخر هذا الكابتن عباب الجو سواءً بسواء، رأيته على حالته فشعرت ببرد اليقين، وروعة المناجاة، وجمال السَّحَرِ فوق هذه البقاع؛ حيث تكون السماء أقرب إلى الأرض.

 

خُيِّل إليَّ أني أمام الكعبة دون حجاب ...

تخيَّلتُ شعور التائه الضائع وسط الظلام الذي يبحث عن النور والأمان، ليجد فجأة أن السعادة قد لامست قلبه، حتى عجز أن يكُفَّ عن فرحه وسروره ...

اللهم مكة ...

 

تذكَّرت أستاذي الذي تسمَّر في مكانه، وشعر وكأنها تمطر ورأى زخَّات المطر، والكعبة تتألق وسط قطرات عَبِقَةٍ، وتلفُّهُ رائحة البخور والعود، وشعر بدفء المكان، وجمال الحياة، ومتعة اللحظات، وتذكَّرته وهو يضع يده على قلبه ويبتسم، ثم تنهمر دموعه فيبكي وكأنه أول مرة يعرف البكاء في حياته، وكان من قبل يردد:

ألا ليت شِعري هل أزورنَّ مكةً
وأبقى بها كيما تكف دموعي
وهل أستقي من ماء زمزمَ شربةً
فيهدأُ من برد الشراب ولوعي

 

تخيَّلت ذلك الكاتب الذي تحدث عن شعوره وهو يقدِّم أول رِجْلٍ لدخول باب الحرم؛ إذ يقول عن شعوره: "شعوري أشبه بعثوري على الأمان والسكينة، والطمأنينة والحب والسلام، لن أنسى أبدًا أول خطوةٍ لي في الحرم، أول نظرةٍ لي للكعبة المُشرَّفة ... شعرتُ حينها فعلًا بمعنى القُرب من الله، كنت قريبًا جدًّا للحدِّ الذي نسيتُ فيه دنيا الفناء ... وكان همِّي الوحيد القُرب من الله".

آتٍ لبابك لا أخطو ولا أقفُ
يلفُّني في الطريق الخوفُ واللَّهفُ
آتٍ لبابك يا الله يحملني
ما كنتُ ملءَ يَباسِ الروح أقترفُ

 

بقيت أردد: سنَمُرُّ من هذه الأجواء، فكيف لو لم يُكتب لي زيارة هذا البيت؟

 

يا رب:

أنا متعَبٌ أحْبُو لبابكَ مُثقلًا  *** وَيْلِي إذا يدنو العبادُ وأُطردُ

 

كنتُ كدَنِفٍ عليلٍ يشكو لوعة الحرمان، أخاطب مكة بكل حرارة:

يا مكَّةَ الأشواقِ فاضت أعينِي *** والقلبُ يشكو لوعة الحرمانِ


أتلمَّس قلبي وأضع يدي عليه، فإذا هو يخفق بالحب ...

نبضاته تهز ضلوعي ...

ويحك هذا مقام المحبين ...

هنا وُلد الحبيب ...

هنا ديار حليمةَ التي رضع فيها ...

هذه الجبال التي رعى فيها الغنم ...

هنا مراتع الصبا ومغاني الطفولة ومسارح الجمال ...

هنا الشوق الذي لا يُحَدُّ مداه ...

من هنا أشرق نور الحضارة الوهَّاج الذي أضاء للعالمين ...

من أرضِ مكة شعَّ النورُ مؤتلقًا *** وجهًا يُجلِّي عَتامَ الليل والسُّدُمِ


وهنا رونقُ الحسن وأصله ومنبته ومَحْتِدُهُ الذي يتضاءل أمامه حُسْنُ البقاع، ووجهة المقصد التي تنجلي أمامها سحب الضياع.

فيا كعبة الحسن البديع الذي غدا
بها كل صبٍّ والهِ القلب حائرِ
ويا مركز الأسرارِ والنورِ والبها
ولطف جمالٍ راق في كل ناظرِ

 

حدَّثُونا عن ألم الفراق، ودموع الشوق، ولهفة الحنين، وموَّار الوجد، والتياع القلب، لكن ما رأيت كذلك الشعور، وأنا أشاهد أنوار الحرم.

ما كنت أعلمُ قبل بيت الله كم يهوى الجَنان ...

ما كنت أعلمُ كم يفيضُ النور يكتسح المكان ...

 

دومًا كنتُ كلما تذكرتُ البيت أُمنِّي نفسي بزيارته، وأعتبر تلك الأمنية إحدى أجمل أمنياتي، والآن يا لهذه اللحظة التي ما تخيلت أني سأصارع أحداثها، إني لأشاهده وأتجرَّع الغُصَصَ؛ إذ إني كمَن اشتدَّ به العطش، وقُرِّب منه الماء، ولكن جُعِل بينه وبين الوصول إلى حياضه حاجزًا وشِباكًا، فلا يخلُص إليه أبدًا، ولا هو بقادر أن يصرف نظره عنه.

 

اللهُ يَعلَمُ أَنَّ الرُّوحَ قَد تَلِفَت *** شَوقًا إِلَيكَ وَلَكِنِّي أُمَنِّيهَا


إنه مهما تَبارتِ القرائح، وتجارتِ الأقلام متحدِّثةً عن البيت الحرام، حاديةً أناشيدَ عظمتِهِ، فستظلُّ باهتةً كأنها لم تبرحْ مكانَها، وكأنها لم تُحرِّك بالقول لسانَها.

 

يا مكة ...

يا قِبْلَةَ النور ...

يا سرَّ الجمال ...

هذه مشاعري تتدفق حبًّا، والقلب يحنَّ شوقًا وتلهُّفًا ...

 

يا قبلةَ الأطهار هاكِ مشاعري
فالقلبُ حنَّ إلى ثَراكِ العاطِرِ
والشَّوقُ أرَّقني وصاحَ بحُرقةٍ
وا لهفتاهُ على المقام الطاهرِ

 

خالَجَتْني هيبةٌ شديدة ما عرفتُ هيبة في حياتي تجلَّلتْني مثلها: أحقًّا هذا بيت الله؟ أحقًّا هناك على جبل أبي قبيس نادى إبراهيم بالحج؟


ليت شعري كيف كانت حياة إسماعيل وهو يترعرع في هذا الوادي الذي كان قاحلًا، ثم أصبح جنة؟

 

كانت عيناي ترى هاجرَ من على بُعْدِ مسافات الزمان الغابرة وهي عند دوحة زمزم ...

يا لله ...

أي قلب كانت تحمل هاجر؟

تخيَّلتها أول ليلة وحيدة في تلك الشعاب ...

كيف أنها لم تفقد شيئًا وليس عندها شيء؟

تذكرتُ أنها كانت واثقة من الله كلَّ الثقة، وبسبب ثقتها بربها تفجَّرت زمزم ...

تخيَّلتها وهي تجري جري المرأة المتعَبَةِ الوالهة تبحث عن شربة ماء ...

قفز إلى ذهني مشهدُ جبريلَ وهو يبحَث بعقبه الأرض لتنبع زمزم ...

تواردت صورُ الإنس بقبيلة جرهم وترَعرُعِ إسماعيل فوق تلك الأَكَمَةِ، وزواجه منهم ...

آه ...

لقد تخيلت السكين على عنقه ...

تبادر إلى ذهني مشهد التسليم المطلق لأمر الله، وأمه التي ودَّعته خلف الجبل وقد سلَّمته لربه ...

استلهمتُ الدروس والعِبَرَ التي تتجلى عند ذكر هذا البيت المعظَّم.

هنا منبعُ الطهر، ومجتمع الرسل، وملتقى الملائك ...

هنا التقى آدم بحواء كأول لقاء جمع بين إنسان وصاحبه على ظهر هذا الكوكب؛ إذ عرفها في عرفة ...

هنا مشى نوح، وتردَّد إبراهيم ...

 

أتخيل الحبيب صلى الله عليه وسلم وهو ((يمر بوادي الأزرق، فيسأل: أيُّ وادٍ هذا؟ فيقول الصحابة: هذا وادي الأزرق، فيقول: كأنِّي أنظر إلى موسى عليه السلام هابطًا من الثَّنِيَّةِ، وله جُؤارٌ إلى الله بالتلبية، ثم يمر على ثنية هَرْشَى، فيقول: أيُّ ثَنِيَّةٍ هذه؟ فيقول الصحابة: ثَنِية هَرْشَى، فيقول الحبيب: كأنِّي أنظر إلى يونس بن متَّى عليه السلام على ناقةٍ حمراءَ جَعْدَةٍ عليه جُبَّةٌ من صوف، خِطامُ ناقتِهِ خُلْبَةٌ وهو يلبِّي ...)).

 

هنا ينزل عيسى ابنُ مريم عليه السلام بالرَّوْحاءِ، فيحُجُّ منها ويعتمر في آخر الزمان ...

سألت نفسي: كم مضى زمان على مكة؟ وكم أتى قوم وذهب آخرون؟

 

أين شاعر جرهم الذي قال:

كأنْ لم يكنْ بينَ الحَجُونِ إلى الصفا  *** أنيسٌ ولم يسمُرْ بمكةَ سامرُ


أين مجتمع الصحابة، وجلسات الخلفاء، وحلقات التابعين؟

كم قصصٍ وحكايا حول هذا البيت تطرَبُ لها النفوس، وتشرئب لها الأعناق!

هذه مكة مهوى الأفئدة، ومرتع القلوب، ورياض الأرواح، وأنس النفوس ...

 

هذه الأرض التي يصدُقُ عليها قول الشاعر:

وإذا سرى البرقُ في أكنافِ أرضهم *** أقولُ من فَرْطِ شوقي ليتني المطرُ


هذه هي مكة التي سكنتها قريش والقبائل قبلها، واعتزت بما كان في يدها من مفاتيح الكعبة، ورِفادة زوَّارها ...

 

هذه هي مكة التي وُلد فيها رسول الهدى صلى الله عليه وسلم، وتتابع الوحي فيها ثلاث عشرة سنة، وعمرت مواطنها بالوحي والتنزيل، وفاضت أرجاؤها وشِعابها بالتلاوة والترتيل، وتردَّد بها جبريل وميكائيل، وعرجت منها الملائكة والروح، وردَّدت جبالها التقديس والتهليل والتحميد والتسبيح، وعمَّ نورها كل هضبة وجبل، وأكَمَةٍ وسهل.

 

هذه هي مكة التي جرت فيها الأحداث الجِسام، والأخبار العظام.

هنا عُذِّب بلالٌ وتألم خبَّاب، وضُرب أبو بكر، وعانى الرسول ...

هنا كان يمارس حمزة هواية الصيد، ويتدرب خالد على الفروسية، ويتعلم أبو بكر الأنساب ...

هذه هي مكة التي تردد الرسول بين شعابها طفلًا، ثم راعيًا للغنم، ثم تاجرًا لخديجةَ، ثم أمينًا صدوقًا، ثم رسولًا من الله للعالمين ...

هذه مكة التي انتشر منها النور، وعمَّ من أجوائها السرور، وفاض من جنباتها الحُبُور ...

هناك حراء ... وما أدراكم ما حراء؟!

قصة نور شعشع من تلك القمة ...

 

ومنك أشرقَ نورٌ عمَّ مظهرُهُ *** وفاضَ منهُ السَّنا يعلو على القِـمَمِ


هذه هي مكة التي ظلَّت مقصدَ الناس في حجَّهم من عهد إبراهيم الخليل عليه السلام إلى اليوم.

 

كل هذه الذكريات وغيرها تملأ النفس، وتمور في الوجدان، وتأخذ بمجامع القلب، فترى عجبًا أي عجب، مئات الآلاف من الناس - بل الملايين - في ثوب الإحرام، مغمورين بالشعور الديني الرباني الرهيب، يَعِجُّون بالدعاء والتلبية، وترى معرضًا يفوق كل معرض من الأجناس البشرية، مختلفي الألوان، مختلفي الألسنة، مختلفي العادات.

 

يشيع في هذا الجمع الحب والإخاء والمساواة، والتكاتف والتآلف والتعاطف.

 

بَعُدَت عليهم الشُّقَّة، وتجشَّموا المشقَّة، فجاؤوا من كلِّ فجٍّ عميق، ووادٍ سحيق، يسوقهم الشوق، ويحملهم الحنين إلى هذه الرحاب الطاهرة والديار العامرة ...

وتلهفي للحج زاد فكلما
أبصرتُ فوجًا راح قلبي يخفقُ
يهوى الفؤاد إلى الطواف وسعيه
بين الشعائر والمشاعر تنطقُ

 

ويا لشعور الحاج وهو يصل إلى مُناه بعد مسافات شاسعة قطعها، وربما ركب البحر، وقطع الفيافي، وتعرض للأخطار، ولقيَ المهالك، وصعُبت عليه المسالك!

 

فكيف به وقد حقَّق الله مراده، ووصل إلى مبتغاه؟

وهذا البيتُ بيتُ اللهِ بُشرى *** لنفسٍ فيه قد بلغَتْ مُناها


هنا في مكة تتساوى الرؤوس، وهنا تقوم الإنسان قيمته الذاتية، فلا فضلَ لأحد على أحد بماله، أو جاهه، أو لونه، أو منصبه، أو مكانته.

لقد كنتُ أهيم ببصري في تلك البقاع، وأتخيل عظمةَ مشاهدَ كنتُ قد قرأت عنها ...

تراءى لي هَيَجَانُ مواجع الحنين، وتصدُّعُ أكباد المحبين الوالهين.

 

هناك على مقربة من مكة صعيد عرفة، فمِنَ العارفين مَن منعته صعوبةُ الموقف أن يبوح بالدمع؛ فلجأ إلى الزَّفَرات والحسرات:

ولله أنفاسٌ يكادُ بحرِّها *** يذوبُ المُحبُّ المُستهامُ المُتيَّمُ


ومنهم من انعقد لسانُهُ، وأصابه الوَلَهُ؛ فلا تراه إلا كما قال الشاعر:

فلم تَرَ إلا باهتًا مُتحيِّرًا *** وآخر يُبدي شَجْوَه يترنَّمُ


إنَّ المحب يظنُّ أنَّه سيقضي بلحظات الوصال شوقَهُ، وتهدأ فيها نفسه الملتاعة، ويطمئن فؤاده المعذَّب، كما ظنَّ ذلك الإمام الدهلوي عندما قال: "وربما يشتاق الإنسان إلى ربِّه أشدَّ شوق، فيحتاج إلى شيءٍ يقضي به شوقه، فلا يجد إلا الحج".

 

كيف لا تهوى القلوب تلك البقاع التي جعل الله لها مكانًا في الأرواح، وشوقًا في النفوس، فلا يحلُّها أحدٌ إلا أخذت بمجامع قلبه، ولا يزورها إنسان إلا حنَّ لها مرة بعد مرة، ولا يفارقها أحد إلا تأسَّى لوداعها وتألم لفراقها، ونوى تكرار الوفادة عليها؛ إنها دعوة أبينا إبراهيم عليه السلام: ﴿ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ ﴾ [إبراهيم: 37].

 

ذاك هو هوى الأفئدة من كل بقاع الأرض، وكم يود المحب أن لو كان له جناحُ طائرٍ؛ حتى يطير شوقًا إلى البيت العتيق ...

وددتُ من الشوقِ الذي بي أنني *** أُعارُ جناحي طائرٍ فأطيرُ


كم يأخذك الاستغراب حين يأتي إليها فقراء لا يملكون شيئًا من متاع الدنيا!

وكم تأخذك الدهشة وأنت ترى ضعفاء من شدة ضعفهم وكبر سنهم يتساقطون، بل وبعضهم يموتون!

 

حال كل واحد منهم:

يـا ربُّ قرِّبني لبيتكَ زائـرًا *** إني لمكة دائمًا مشتـاقُ


سألتُ أستاذي الذي روى لي قصة حجِّهِ قائلًا: أخبرني عن جَمالِ مكة؟

أكاد أجزِم لكم أني ما رأيت عبقريًّا يحار في جواب، ويُدهَش ويتلعثم ويصمت، كما رأيت أستاذي يومئذٍ ...

لقد قال لي: جمالها يفوق الوصف ...

 

لقد ذكَّرتني الكعبة بالله وجماله وجلاله، ثم استعبر وبكى حاله:

لو أنَّ عَيْنِي إليْكِ الدَّهْرَ نَاظِرَةٌ  *** جاءَتْ وَفَاتِي ولمْ أشْبَعْ مِن النَّظَرِ


لقد تخيَّلها ثم صوَّرها لي بحديثه الرَّقْراق، ولا تَسَلْ عن جمال حديث المحبين:

ذكرتُكِ فاستعبرتُ والصدرُ كاظمٌ  *** على غُصَّةٍ منها الفؤادُ يذوبُ

 

كم مضى ركبٌ إلى بيت الله الحرام وكنتَ ضمن المودِّعين، وقلبك يضطرم بين جوانحك، ونار الأسى تشبُّ في ضلوعك، وسِرتَ تعاني حرارة الشوق كالملذوع، وتحدرت الدموع السواكب، وعندما أزِفَ الرحيل، سار قلبك معهم، وكان حالك:

فيا سائقين العِيسَ بالله ربِّكُم
قِفُوا لي على تِلك الرُّبوع وسلِّمُوا
وقُولوا: مُحبٌّ قاده الشَّوقُ نحوَكُم
قضى نَحْبَه فيكُم تعيشُوا وتَسلمُوا

 

أمام مكة تضعف الكلمات، وتتضاءل العبارات، وتخجل الجمل، ويقف التعبير، ويُبهت اللسان؛ هي سيدة المدن، وتاج البقاع، وأم القرى:

ماذا أقولُ وفي فؤادي لهفةٌ
للحِجْرِ والركنين والميزابِ
ولمائهِ ولصحنهِ يا ربِّ هلْ
يسْطيعُ شوقي أن يقودَ ركابي

 

مضى كابتنُ الطائرة في تلك الأجواء، وبقيت أتلفَّت خلفي لتلك الأنوار التي سلبت عقلي، وأخذت بلُبِّي، ودخلتُ في غمرة من التفكير العميق حول أسرار تلك الأنوار التي طاولت الثريا جمالًا وبهاء:

أحنُّ إليكِ إنَّ الشَّوقَ سَهمٌ
أصابَ القلبَ واخترقَ الحنايا
ولولا البعد يُقصيني لكنتُ
إلى لقياكِ حمَّلتُ المطايا

 

سمعتُ الكابتن مرة أخرى يأمرنا بربط الأحزمة؛ فقد اقتربنا من مطار مسقط، وهناك حيث الطائرة تستعد للهبوط شعرتُ أن قلبي قد خلَّفته هناك على بعد مئات الأميال ...

 

لقد خلَّفتُهُ يحوم حول تلك الأنوار، سائلًا ربي أن يمُنَّ عليَّ بزيارة للبيت العتيق، وأن يذلِّلَ أمامي الصِّعاب، وبقيتُ أردد:

ليسَ الفؤادُ محلَّ شوقكِ وحـدهُ  *** كلُّ الجوارحِ في هــواكِ فـــؤادُ





 حفظ بصيغة PDFنسخة ملائمة للطباعة أرسل إلى صديق تعليقات الزوارأضف تعليقكمتابعة التعليقات
شارك وانشر

مقالات ذات صلة

  • لقاء في الحرم
  • قبسات من الحرم (1)
  • نشيد الحرم المكي
  • الأشهر الحرم والإصلاح الشامل
  • لوامع الأنوار في شرح صحائح الأخبار لشمس الدين ابن الموصلي

مختارات من الشبكة

  • لمن البشرى اليوم؟ (1)(مقالة - آفاق الشريعة)
  • شمعة الحياة(مقالة - حضارة الكلمة)
  • ماذا يحصل عندما تغيب النهاية؟ (خطبة)(مقالة - آفاق الشريعة)
  • عندما يعتاد المراهق الألفاظ البذيئة(مقالة - مجتمع وإصلاح)
  • عندما نحب(مقالة - حضارة الكلمة)
  • عندما يتطاول الزمن..(مقالة - آفاق الشريعة)
  • عندما يوأد الأطفال (خطبة)(مقالة - موقع الشيخ أحمد بن حسن المعلِّم)
  • عندما تتكافأ أقوال الفقهاء في مسألة(مقالة - آفاق الشريعة)
  • من الفوائد الحديثية: عندما صرخ الشيطان فزعا بعد بيعة العقبة الثانية(مقالة - آفاق الشريعة)
  • عندما يذكر المسجد تذكر معه صلاة الجماعة(مقالة - آفاق الشريعة)

 



أضف تعليقك:
الاسم  
البريد الإلكتروني (لن يتم عرضه للزوار)
الدولة
عنوان التعليق
نص التعليق

رجاء، اكتب كلمة : تعليق في المربع التالي

مرحباً بالضيف
الألوكة تقترب منك أكثر!
سجل الآن في شبكة الألوكة للتمتع بخدمات مميزة.
*

*

نسيت كلمة المرور؟
 
تعرّف أكثر على مزايا العضوية وتذكر أن جميع خدماتنا المميزة مجانية! سجل الآن.
شارك معنا
في نشر مشاركتك
في نشر الألوكة
سجل بريدك
  • بنر
  • بنر
كُتَّاب الألوكة
  • الدورة الخامسة من برنامج "القيادة الشبابية" لتأهيل مستقبل الغد في البوسنة
  • "نور العلم" تجمع شباب تتارستان في مسابقة للمعرفة الإسلامية
  • أكثر من 60 مسجدا يشاركون في حملة خيرية وإنسانية في مقاطعة يوركشاير
  • مؤتمرا طبيا إسلاميا بارزا يرسخ رسالة الإيمان والعطاء في أستراليا
  • تكريم أوائل المسابقة الثانية عشرة للتربية الإسلامية في البوسنة والهرسك
  • ماليزيا تطلق المسابقة الوطنية للقرآن بمشاركة 109 متسابقين في كانجار
  • تكريم 500 مسلم أكملوا دراسة علوم القرآن عن بعد في قازان
  • مدينة موستار تحتفي بإعادة افتتاح رمز إسلامي عريق بمنطقة برانكوفاتش

  • بنر
  • بنر

تابعونا على
 
حقوق النشر محفوظة © 1446هـ / 2025م لموقع الألوكة
آخر تحديث للشبكة بتاريخ : 11/11/1446هـ - الساعة: 0:55
أضف محرك بحث الألوكة إلى متصفح الويب