• الصفحة الرئيسيةخريطة الموقعRSS
  • الصفحة الرئيسية
  • سجل الزوار
  • وثيقة الموقع
  • اتصل بنا
English Alukah شبكة الألوكة شبكة إسلامية وفكرية وثقافية شاملة تحت إشراف الدكتور سعد بن عبد الله الحميد
 
الدكتور سعد بن عبد الله الحميد  إشراف  الدكتور خالد بن عبد الرحمن الجريسي
  • الصفحة الرئيسية
  • موقع آفاق الشريعة
  • موقع ثقافة ومعرفة
  • موقع مجتمع وإصلاح
  • موقع حضارة الكلمة
  • موقع الاستشارات
  • موقع المسلمون في العالم
  • موقع المواقع الشخصية
  • موقع مكتبة الألوكة
  • موقع المكتبة الناطقة
  • موقع الإصدارات والمسابقات
  • موقع المترجمات
شبكة الألوكة / ملفات خاصة / ملف الحج / استراحة الحج
علامة باركود

إلى قاصدي مكة! هل يُذهب الشوق المشقة؟

إبراهيم الأزرق

مقالات متعلقة

تاريخ الإضافة: 3/12/2008 ميلادي - 4/12/1429 هجري

الزيارات: 34183

 حفظ بصيغة PDFنسخة ملائمة للطباعة أرسل إلى صديق تعليقات الزوارأضف تعليقكمتابعة التعليقات
النص الكامل  تكبير الخط الحجم الأصلي تصغير الخط
شارك وانشر
يغفل بعض الناس، فيظنُّ أنَّ الحجَّ قد عسر في هذا العصْر؛ لكثرة الزحام، وربَّما ظنَّ أنَّ المشقَّة الحاصلة بسببه نازلةٌ من النوازل، تقتضي من التيسير والتَّرخيص أمورًا لم يقل بِها المتقدِّمون من أهل العِلْم والبصيرة، ولا عدَّ المحققون منهم القول بها تحقيقًا.
والحقُّ: أنَّ المتأمِّل لواقع الحجيج في عصور الإسلام المختلِفة يلمَسُ اليُسر الذي حدث للنَّاس في هذا الزَّمن، من غيْر جِهة.

فقد كان سفر الحجِّ قديمًا، في أحيانٍ كثيرة - طويلاً مخوفًا، تُقطَع فيه مَهَامِهُ وقِفار، يتعرَّض النَّاس فيه إلى خطر قطَّاع الطريق والأعداء، حتى تَرَكَ قصْدَ الحرمين نفرٌ من الكِبار، مع عظيم شوقِهم إلى المناسك والمشاعر والمواقيت والمناحر؛ كابْنِ حزْمٍ، والقاضي عِياض القائل شوقًا إلى ربوع المدينة طيبة:
لَوْلا العَوَادِي وَالأَعَادِي زُرْتُهَا
أَبَدًا وَلَوْ سَحْبًا عَلَى الوَجَنَاتِ


وأمَّا الزِّحام الحاصِل اليوم، فليْس هو بالنَّازلة العصريَّة، فقد كانت المشاعر قديمًا على معالِمها في العهْد الأول، فلم تكُن التَّوسُّعات الأولى قريبةً في مداها من توسُّعات هذا العصْر، بل كان المطاف محدودًا، وربَّما دخله السيل - قبل أن يُصرف مجراه عن البيت - فطاف بعضُ النَّاس بالكعبة سُبَّحًا، بل حصل هذا حتَّى بعد تحويل مجرى السيل[1]، وأثبت بعضُ أهل العلم في مناقب بعضِهم: أنَّه طاف حول البيتِ سباحة[2]، وذكروه عن ابن الزُّبير - رضي الله عنه وعن أبيه - وقالوا: طاف البدْر بن جماعة بالبيت سباحةً، كلَّما حاذى الحجَر غطس لتقْبِيله، وذكروه عنْ جَماعةٍ من المكيِّين[3]، وقد رأينا صورًا مأخوذة في أواسِط القرن الهجري الماضي، والماء قد غمر المسجِد وبعض النَّاس حول الكعْبة يسبحون.

وأمَّا المسعى، فكالمطاف لا طباق لهما، وذرع المسعى في حَدِّ الأزرقي: خمسة وثلاثون ذراعًا ونصف[4]، وفي حدِّ إبراهيم الحربي - كما في منسكه - دون ذلك قليلاً[5]، ومع ذلك تكتنِفه البيوتات، وربَّما أخذ بعض البناء من جنباتِه التي تلي الكعبة، وقد نقل هذا بعضُ مَن اعتنى بتأريخ المسجد الحرام، وربَّما أخذ من عرض المسعى الباعة والمارة، بل حدَّثنا بعضُ مشايخنا الذين شهدوا تلك المعالم قبل ما يَزيد على نصف القرن: بأنَّ بسْط التجار سِلَعهم في المسْعَى، ولاسيَّما يوم العيد - قد كان أمرًا مشهودًا مشهورًا.

وأمَّا عرفة، فقد كانت عراءً، يتحاشى النَّاس كثبان رملِها، ويرغبون في موطن الصخرات أسفل الجبل ويتدافعون عندها، حتى ضَرَب بالازدحام فيها المثالَ بعضُ الشعراء؛ بل كان التدافع على جبلها عادةً قديمة قبل الإسلام؛ كما في قول نابغة بني ذبيان:
بِمُصْطَحِبَاتٍ مِنْ لَصَافٍ وَثَبْرَةٍ
يَزُرْنَ إِلالاً سَيْرُهُنَّ التَّدَافُعُ


وإلالٌ: ذكر السُّهيْلي وغيرُه: أنَّه جبلُ عرفة، قال: سُمِّي بذلِك؛ لأنَّ الحجيج إذا رأَوْه، ألوا في السير؛ أي: اجتهدوا فيه ليدركوا الموقِف[6].

وقد جاء ذكر الوقوف عند إلالٍ في شعر الإسلاميين المخضرمين والمتأخرين، ولا يزال التدافع عنده حاصل حتى عصرنا هذا، فإلال هو ما يعرف اليوم بـ"جبل الرحمة"؛ كما ذكر شيخ الإسلام في "اقتِضاء الصراط المستقيم"[7]، وكثير من الفقهاء[8].

فلا عجَبَ أن تقْرأ في كثيرٍ من تراجِم بعْض الأعلام قولَهم: مات في الحجِّ، أو مات حاجًّا، مع أنَّهم أعلام، هم مَحَطُّ رِعايةٍ ومَحَلُّ عناية، أمَّا عموم النَّاس، فما أكثرَ حوادثَهم! فتارةً تقرأ في كُتُب التَّاريخ: مات ستَّة آلاف من حجَّاج كذا؛ بِسبب قلَّة الميرة، وحجْز مناهل الماء[9]، وتارةً تقرأ خبرَ مقتل كلِّ حجَّاج بعْض الأصْقاع، كما حصل لحجَّاج أصبهان في بعْض الأعْوام، وكانوا زهاء عشرين ألفًا[10]، وفي حوادث بعْضِ الأعوام يقولُ ابن كثير - رحِمه الله -: "ولَم يقف بعرفة عامئذٍ سواه ومَن معه من الحرامِيَّةِ، لا تقبَّل الله منهم صرفًا ولا عدلاً"[11]، وتارة تقرأ عن الموت بسبب التدافُع عند باب كذا من المسجد؛ قال ابن حجر في حوادث سنةِ أربعٍ وثمانين وسبعمائة من "إنباء الغُمْرِ": "وفيها كان الحَاجُّ بِمكَّة كثيرًا؛ بحيث مات من الزحام بباب السلام أربعون نفسًا، أخبر الشيخ ناصر الدين بن عشائر: أنَّه شاهدَ منهم سبعةَ عشر نفسًا موتى بعد أنِ ارتفع الزحام، وأنَّ شيوخ مكَّة ذكروا أنَّهم لم يرَوُا الحاجَّ أكثر منهم في تلك السَّنة"[12]، وذكر ابن الضياء في تاريخ مكَّة: أنَّه في سنة إِحْدى وثَمانين وخمسمائة مات عند الكعْبة أربعةٌ وثلاثون نفرًا، وتارة يقول المؤرِّخ: وفيها مات بالمسْعَى جَماعة من الزِّحام؛ لكثْرة الخلْق الذين حجُّوا في هذه السَّنة من العراق والشَّام[13]، ومع ذلك ما نادى أحدٌ بتوسِعة عرض المسعى مع أنَّه لم تكن له جدران!

والأخبار كثيرةٌ شاهدة على أنَّ الحجَّ لم يكن بالأمر اليسير، وأنَّ توسُّعات الحرم، وانبساط الأمْن، ومُخترعات العصْر، قد سبَّبت كثيرًا من التَّيسير، وأنَّ الزِّحام ليس بالشَّيء الجديد، أو النَّازلة التي ما عَرَفها الأسْلاف، كيْف وقد قيل - كما ذكر صاحبُ القاموس وغيره - إنَّما سمِّيت مكَّة بكَّة لازدِحام النَّاس بها، بل لازدحام النَّاس والدوابِّ والأنعام وأدائِهم المناسك بها في العهْد الأول، وهذا ما خفَّ كثيرًا في هذه الأزمان، فلا أحدَ يرمي من على بعيرٍ أو يطوف به.

ومع ذلك فقد فَقِهت تلك الأجيال أنَّ الحجَّ تكليف وجهاد، لا ينفكُّ عن مشقَّة مقصودة مُطَاقة، أو عارضةٍ فوق الطَّاقة، وهذه هي التي ينبغي أن تُزال إن قدر عليْها بغيْر تَحْريف التَّكْليف، أمَّا المشقَّة المُطاقة، فعليْها مدار التَّكْليف، وبِها يتحقَّق الابتِلاء الذي من أجْلِه خُلِقَت الخليقة؛ ﴿ الَّذِي خَلَقَ المَوْتَ وَالحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً ﴾ [الملك: 2]، وبها يظهر بعضُ كمالِ عدْلِ الله الَّذي خلق الخلائقَ، وهو أعلمُ بما كانوا عاملين، ولكنَّه أناط جزاءَهم بالتَّكليف، بعد أن خلقَهُم في كَبَد.

وقد أدرك مَن أدركَ من العامَّة في الغابِر والحاضر هذه المعاني، فكانوا يَحتسِبون المشقَّة المُلفاة في الحجِّ؛ بل كانوا يستعذبون تلك الرِّحلة إلى البقاع المباركة، ويفرحون بالتنقُّلات بين المشاعر لإقامة الشعائر؛ أُنسًا بِما يجدونه في أنفُسِهم من آثار تلك المنازل.

وجديرٌ بِمواطنَ عُمرت بالوحي والتنزيل، وتردَّد بِها جبرائيل وميكائيل، وعرجت منها الملائكةُ والرُّوح، وضجَّت أرجاؤُها بالتَّقديس والتَّسبيح، واشتملتْ على مشاهدِ الفضائل والخيرات، ومعاهد البَراهين والمُعْجِزات، ومناسك الدِّين، ومشاعِر المسلمين، ومواقِف سيد المُرْسلين، ومتبوَّأ خاتم النَّبيين، حيثُ انفجر مَعين الرِّسالة وأين فاض عبابُها، أرض المُعجزات المشتهرة منذ زمن الخليل، ومجال الرِّسالات السماويَّة من عهد آدم، قصدها الأنبِياء والمرسلون، وأَمَّها الشُّهداء والصِّدِّيقون، وحجَّ إليْها الأوْلياء والصالحون، وضَجَّ بالدعاء فيها إبراهيم، ورتع بين جنباتِها إسماعيل، وأحبَّها مَن نشأ فيها - صلى الله عليه وسلم - جديرٌ بتلك المواطِن أن تَشتاق النُّفوس إليْها، وتَبذُل نفائسَ الأموال راضيةً بغُنْم الوصول إليْها، وحريٌّ أن تُعَظَّم حرماتُها، وتُحترم عرصاتها، وكيفَ لا تأْنس النُّفوس بِها وتطمئنُّ فيها، وتستعذب ما تلْقاه في أمِّها وإن بعدت الشُّقة، وتضاعفت المشقَّة، وشتَّان شتَّان ما بين الغنم والغرم!
ولئن تلذَّذ المُفَرِّطون بالمعْصية، ونشطوا للرَّقْص والطَّرب، فتجِدُ أحدَهم في حركةٍ دؤوب، يصِل ليلَه بنهارِه لا يكلُّ ولا يملُّ - فإنَّ قلوب المحبِّين لربِّ العالَمين، تجِدُ الأُنْس واللَّذَّة في الطَّاعة، وتستعْذِب المشقَّة العارضة أثناءَ العبادة.

بل ليْس أثر تلك المشاعِر ومكانة ذلك النسُك مِمَّا اختصَّت به نفوس أهْلِ الصَّلاح والطَّاعة؛ بل هو معنًى تشْهَده في أحوال العامَّة، فكم رأيت نفسًا عند بيْت الله المعظَّم، ربَّما تلبَّس صاحبُها بشيء محرَّم، تشقُّ طريقَها بعد رحلة مُضنِية بعزمٍ يَحدوه الشَّوق نَحو الكعبة المشرَّفة، يركب أحدُهم قُحْمة الطريق، ويُصابر اللأواء والضِّيق؛ شوقًا إلى البيت العتيق، فإذا رأى البيت، نَسِي بُعدَ الشُقَّةِ، وما لقِيه من عَنَتٍ ومشقَّة، واستقلَّ ما يستقبِلُه، بل ربَّما فاضتْ دمعتُه، وظهرت عَبْرته، وشهِدَت فعاله وكلِماتُه على استِجابة الله لِخليله دعْوته: ﴿ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ ﴾ [إبراهيم: 37]، قال ابن كثير: "فليْس أحدٌ من أهل الإسلام إلا وهو يَحِنُّ إلى رؤية الكعبة والطَّواف، فالنَّاس يقصدونَها من سائر الجهات والأقْطار"، ويتُوقون إلى أداء المناسِك على اختِلاف أصْقاعهم وأمصارهم، فمن قائل:
تَذَكَّرْتُ أَيَّامَ الحَجِيجِ فَأَسْبَلَتْ
جُفُونِي دِمَاءً وَاسْتَجَدَّ بِيَ الوَجْدُ
وَأَيَّامَنَا بِالمَشْعَرَيْنِ الَّتِي مَضَتْ
وَبِالخَيْفِ إِذْ حَادِي الرِّكَابِ بِنَا يَحْدُو


فهذا يقول وذاك يخمس قول الآخر:
سَقَا اللَّهُ أَيَّامَ الحَجِيجِ عَلَى مِنىً
مُنَاهَا وَمَنْ لِي لَوْ يَعُودُ نَظِيرُهَا
وَلِلَّهِ لَيْلاتُ الصَّفَا دَامَ ذِكْرُهَا
وَحَقٌّ عَلَى حُجَّاجِ مَكَّةَ شُكْرُهَا
وَتِلْكَ لَيَالٍ لا يُقَدَّرُ قَدْرُهَا
فَلَوْ شُرِيَتْ لَمْ يَغْلُ فِي السُّوقِ سِعْرُهَا



ومن تَشطير غيرِه قوله:
حَلُّوا مَوارِدَ عَنْهَا يُحْمَدُ الصَّدَرُ
تَرَحَّلُوا وَأَقَامَتْ عِنْدِيَ الفِكَرُ
وَأَيُّ قَلْبٍ عَلَى التَّفْرِيقِ يَصْطَبِرُ
زَارُوا وَطَافُوا وَحَجُّوا البَيْتَ وَاعْتَمَرُوا
هَذَا وَرَبِّيَ فَخْرٌ مَا لَهُ دَرَكُ ....
....................................

إلى آخر ما قال.

وأحسنَ غيرُه إذْ قال:
أَيُتْرَكُ رَبْعٌ لِلرِّسَالَةِ سَبْسَبُ
تَجِيءُ بِهِ هُوجُ الرِّيَاحِ وَتَذْهَبُ
وَلا تَنْهَمِي فِيهِ العُيُونُ وَتَسْكُبُ
وَتُظْلَعُ أَعْنَاقُ الذُّنُوبِ وَتُنْهَبُ



ومن المشهور قوْل البرعي اليماني في قصيدتِه التي منها:
يَا رَاحِلِينَ إلى مِنًى بِغِيَابِي
هَيَّجْتُمُ يَوْمَ الرَّحِيلِ فُؤَادِي
حَرَّمْتُمُ جَفْنِي المَنَامَ لِبُعْدِكُمْ
يَا سَالِكِينَ المُنْحَنَى وَالوَادِي
فَإِذَا وَصَلْتُمْ سَالِمِينَ فَبَلِّغُوا
مِنِّي السَّلامَ أُهَيْلَ ذَاكَ الوَادِي
وَتَذَكَّرُوا عِنْدَ الطَّوَافِ مُتَيَّمًا
صَبًّا فَنِي بِالشَّوْقِ وَالإِبْعَادِ
لِي مِنْ رُبَى أَطْلالِ مَكَّةَ مَرْغَبٌ
فَعَسَى الإِلَهُ يَجُودُ لِي بِمُرَادِي
وَيَلُوحُ لِي مَا بَيْنَ زَمْزَمَ وَالصَّفَا
عِنْدَ المَقَامِ سَمِعْتُ صَوْتَ مُنَادِي
وَيَقُولُ لِي يَا نَائِمًا جُدَّ السُّرَى
عَرَفَاتُ تَجْلُو كُلَّ قَلْبٍ صَادِي
تَاللَّهِ مَا أَحْلَى المَبِيتَ عَلَى مِنًى
فِي يَوْمِ عِيدٍ أَشْرَفِ الأَعْيَادِ



إلى آخر ما قال، وممَّا ذاع قولُ الزَّمخشري قُبيل رحلة الحجِّ والمُجاورة:
قَامَتْ لِتَمْنَعَنِي المَسِيرَ تُمَاضِرُ
أَنَّى لَهَا وَغِرَارُ عَزْمِيَ بَاتِرُ؟
شَامَتْ عَقِيقَةَ عَزْمَتِي فَحَنِينُهَا
رَعْدٌ وَعَيْنَاهَا السَّحَابُ المَاطِر[14]
حِنِّي رُوَيْدَكِ لَنْ يَرِقَّ لِظَبْيَةٍ
وَبُغَامِهَا لَيْثُ العَرِينِ الزَّائِرُ
لَوْ أَشْبَهَتْ عَبَرَاتُ عَيْنِكِ لُجَّةً
وَتَعَرَّضَتْ دُونِي فَإِنِّي عَابِرُ
سِيرِي تُمَاضِرُ حَيْثُ شِئْتِ وَحَدِّثِي
أَنِّي إِلَى بَطْحَاءِ مَكَّةَ سَائِرُ
حَتَّى أُنِيخَ وَبَيْنَ أَطْمَارِي فَتىً
لِلْكَعْبَةِ البَيْتِ الحَرَامِ مُجَاوِرُ
يَا مَنْ يُسَافِرُ فِي البِلادِ مُنَقِّبًا
إِنِّي إِلَى البَلَدِ الحَرَامِ مُسَافِرُ
سَأَرُوحُ بَيْنَ وُفُودِ مَكَّةَ وَافِدًا
حَتَّى إِذَا صَدَرُوا فَمَا أَنَا صَادِرُ

 

 

 


إلى آخر ذِكْره المناسك والمشاعر.

وتأمَّل حال أحدِهم وقد عاش في أواخر القرْن الثَّالث وأوائل الرَّابع، قال يصِفُ أحوالَهم ويَعْمَلاتِهم أثناء رحلة حجٍّ مُضْنية:
أَخْفَافُهُنَّ مِن حَفًا وَمِنْ وَجَى
مَرْثُومَةٌ تَخْضِبُ مُبْيَضَّ الحَصَى[15]
يَحْمِلْنَ كُلَّ شَاحِبٍ مُحْقَوْقِفٍ
مِنْ طُولِ تَدْآبِ الغُدُوِّ وَالسُّرَى
بَرٍّ بَرَى طُولُ الطَّوَى جُثْمَانَهُ
فَهْوَ كَقِدْحِ النَّبْعِ مَحْنِيُّ القَرَا[16]


بَعُدَت عليْهم الشقَّة، وتجشَّموا المشقَّة، فجاؤوا من كلِّ فجٍّ عميق، قل لي بربِّك من أجْل ماذا؟ قال:
يَنْوِي الَّتِي فَضَّلَهَا رَبُّ العُلَى
لَمَّا دَحَا تُرْبَتَهَا عَلَى البِنَى


قصْد شريفٌ استقلُّوا فيه ما صنعوا، فجاشت نفوسُهم بِمشاعرها، وفاضتْ عيونُهم بِمدامِعها:
حَتَّى إِذَا قَابَلَهَا اسْتَعْبَرَ لا
يَمْلِكُ دَمْعَ العَيْنِ مِنْ حَيْثُ جَرَى
ولعلَّك تعجب إن علمت أنَّ قائلَ هذه الأبيات، الواصفَ لتِلك المشاعر والأحاسيس ليس من أفراد الزُّهاد، بل لا يعد في العُبَّاد، بل هو رجل موصوفٌ بالإسراف والتَّقصير!

ومن الذَّائع الشهير قول شاعرِ الغزل عمر بن أبي ربيعة:
بِاللَّهِ قُولِي لَهُ فِي غَيْرِ مَعْتَبَةٍ
مَاذَا أَرَدْتَ بِطُولِ المُكْثِ فِي اليَمَنِ؟
إِنْ كُنْتَ حَاوَلْتَ دُنْيَا أَوْ ظَفِرْتَ بِهَا
فَمَا أَخَذْتَ بِتَرْكِ الحَجِّ مِنْ ثَمَنِ
ولِهذا يُقال إنَّ ابن جُرَيْج قال: ما ظننتُ أنَّ الله - عزَّ وجلَّ - ينفع أحدًا بِشِعْر عمرَ بنِ أبي ربيعة، حتَّى سمِعْت وأنا باليمن مُنشدًا ينشد قولَه (وذكر البيتين المتقدمين)، قال: فحرَّكني ذلك على الرُّجوع إلى مكَّة، فخرجت مع الحاجِّ وحججتُ[17].

بل تأمَّل قولَ أحدهم - وهو موصوف بفسق يجاهر - فيقول:
إِذَا صَلَّيْتُ خَمْسًا كُلَّ يَوْمٍ
فَإِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ لِي فُسُوقِي
وَلَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّ النَّاسِ شَيْئًا
فَقَدْ أَمْسَكْتُ بِالدِّينِ الوَثِيقِ
وَجَاهَدْتُ العَدُوَّ وَنِلْتُ مَالاً
يُبَلِّغُنِي إِلَى البَيْتِ العَتِيقِ
فَهَذَا الدَّينُ لَيْسَ بِهِ خَفَاءٌ
دَعُونِي مِنْ بُنَيَّاتِ الطَّرِيقِ


فانظُرْ إلى هذا مع حاله، يرى الجِهَاد لأجْل تَحصيل ما يبلِّغُه البيتَ العتيقَ دَينُ حقٍّ عليه.

وإذا علِمْت هذا، عرفت لِمَ طويت عن القوم المشقَّة، وإذا كانت هذه حالَ مَن ذكرنا من المقَصِّرِين، فكيف بِحال أهل الإيمان واليقين، فلا عجبَ أن قَلَّت المسائل التي توسَّع فيها وترخَّص من نبتوا في دبُر الأيام من متفقِّهة هذا الزمان؛ بدعوى التَّيسير وفْقًا للمشقَّة النازلة في هذا العصر القاسي بزعْمهم! وهذا وإن جاء في صدَد النَّسيب، فإنَّ مضمونَه يُشْعِر بِمكانة البيت العتيق عند العامَّة".


[1] أعني بعد تحويل المهدي وانظر "إنباء الغمر في أنباء العمر" لابن حجر، فقد ذكره في حوادث سنة سبع وثلاثين وثمانمائة، 3/514، وكذلك بعد التحويل من أعلى مكة في القرن الماضي.
[2] عقد الفاكهي في أخبار مكة عنواناً: "ذكر الطواف بالبيت سباحة في السيل العظيم ومن فعله" 1/250.
[3] حكاه مقررًا في كشف الخفاء 2/1522.
[4] ينظر تاريخ مكة له 2/95.
[5] ينظر منسكه المطبوع بعنوان: كتاب المناسك وأماكن طرق الحج ومعالم الجزيرة بتحقيق حمد الجاسر ص502، قال: " وذرع المسعى من المسجد الحرام إلى دار العباس اثنان وثلاثون ذراعاً".
[6] ينظر الروض الأنف فصل في شرح لامية أبي طالب، 1/137، وقد ذكر صاحب اللسان أن اسم الجبل إلالاً وألالاً بالفتح والكسر على وزن بِلال وجَلال، والمشهور الكسر كما ذكر النووي وغيره.
[7] ص428 من طبعة الفقي، ووقع بدلاً من إلال: الأول، ولعله خطأ مطبعي أو تصحيف.
[8] ينظر مثلاً: المجموع للنووي 8/132، والفروع لابن مفلح 3/507، تبيين الحقائق للزيلعي 2/24، ومواهب الجليل للحطاب 3/92.
[9] تنظر البداية والنهاية 13/47 حوادث (604)، وانظر 11/347 حوادث (403).
[10] تنظر البداية والنهاية 11/101 حوادث (294).
[11] البداية والنهاية 11/10 سنة (251).
[12] إنباء الغمر بأنباء العمر 1/260-261.
[13] ينظر إتحاف الورى بأخبار أم القرى 3/37، سنة 619، لابن فهد، وقد ساق في حوادث السنين من هذا أضربًا وأشكالاً.
[14] كأن معناه أغمدت سيف عزيمتي، فشام سيفه تأتي بمعنى أغمده واستلَّه ضدٌّ، والعقائق ما يبقى في السحاب من شعاع وبه تشبَّه السيوف.
[15] يصف تشقُّق أخفاف الرواحل حتَّى سال الدم فصبغ الأرض.
[16] القدح: السهم لا نصْل له ولا أصل، والنبع: شجر تصنع منه السهام، والقَرا: الظهر أو وسطه، ويروى القوى؛ أي: الظهر.
[17] الأغاني 1/120.




 حفظ بصيغة PDFنسخة ملائمة للطباعة أرسل إلى صديق تعليقات الزوارأضف تعليقكمتابعة التعليقات
شارك وانشر

مقالات ذات صلة

  • أشواق الحجاز
  • شعر عن الحج (1)
  • شعر عن الحج (2)
  • الزحام في المسجد الحرام
  • مع الله في عرفات (شعر)
  • روعة موقف عرفات العام
  • رحلات أهل العلم في الحج
  • حنين إلى مكة
  • أمام الكعبة الغراء (قصيدة)
  • ومن دخله كان آمنا
  • شوق وحنين إلى البلد الأمين
  • أشواق
  • في هوى مكة المكرمة (قصيدة)
  • معنى المشقة عند الأصوليين والفقهاء
  • خصائص مكة شرفها الله

مختارات من الشبكة

  • إلى قاصدي البيت الحرام(محاضرة - موقع الشيخ د. خالد بن عثمان السبت)
  • من أين يحرم المقيمون في مكة للحج؟(مقالة - ملفات خاصة)
  • فتح مكة والخروج إلى مكة(مقالة - موقع د. محمد منير الجنباز)
  • مخطوطة زبدة الأعمال وخلاصة الأفعال في تاريخ مكة والمدينة الشريفة (منتقى من تاريخ مكة للأزرقي)(مخطوط - مكتبة الألوكة)
  • التأثير النفسي لرحلة الحج إلى مكة المكرمة على المسلم (فضائل مكة PDF)(كتاب - مكتبة الألوكة)
  • آفاق في القصدية(مقالة - حضارة الكلمة)
  • متن في المقاصد (غنية القاصد لعلم المقاصد) (PDF)(كتاب - مكتبة الألوكة)
  • مخطوطة منهاج القاصدين في فضائل الخلفاء الراشدين(مخطوط - مكتبة الألوكة)
  • تبصرة القاصد على منظومة القواعد (PDF)(كتاب - مكتبة الألوكة)
  • مخطوطة إرشاد القاصد إلى أسنى المقاصد(مخطوط - مكتبة الألوكة)

 



أضف تعليقك:
الاسم  
البريد الإلكتروني (لن يتم عرضه للزوار)
الدولة
عنوان التعليق
نص التعليق

رجاء، اكتب كلمة : تعليق في المربع التالي

مرحباً بالضيف
الألوكة تقترب منك أكثر!
سجل الآن في شبكة الألوكة للتمتع بخدمات مميزة.
*

*

نسيت كلمة المرور؟
 
تعرّف أكثر على مزايا العضوية وتذكر أن جميع خدماتنا المميزة مجانية! سجل الآن.
شارك معنا
في نشر مشاركتك
في نشر الألوكة
سجل بريدك
  • بنر
  • بنر
كُتَّاب الألوكة
  • ختام ناجح للمسابقة الإسلامية السنوية للطلاب في ألبانيا
  • ندوة تثقيفية في مدينة تيرانا تجهز الحجاج لأداء مناسك الحج
  • مسجد كندي يقترب من نيل الاعتراف به موقعا تراثيا في أوتاوا
  • دفعة جديدة من خريجي برامج الدراسات الإسلامية في أستراليا
  • حجاج القرم يستعدون لرحلتهم المقدسة بندوة تثقيفية شاملة
  • مشروع مركز إسلامي في مونكتون يقترب من الانطلاق في 2025
  • مدينة روكفورد تحتضن يوما للمسجد المفتوح لنشر المعرفة الإسلامية
  • يوم مفتوح للمسجد يعرف سكان هارتلبول بالإسلام والمسلمين

  • بنر
  • بنر

تابعونا على
 
حقوق النشر محفوظة © 1446هـ / 2025م لموقع الألوكة
آخر تحديث للشبكة بتاريخ : 23/11/1446هـ - الساعة: 18:47
أضف محرك بحث الألوكة إلى متصفح الويب