• الصفحة الرئيسيةخريطة الموقعRSS
  • الصفحة الرئيسية
  • سجل الزوار
  • وثيقة الموقع
  • اتصل بنا
English Alukah شبكة الألوكة شبكة إسلامية وفكرية وثقافية شاملة تحت إشراف الدكتور سعد بن عبد الله الحميد
 
الدكتور سعد بن عبد الله الحميد  إشراف  الدكتور خالد بن عبد الرحمن الجريسي
  • الصفحة الرئيسية
  • موقع آفاق الشريعة
  • موقع ثقافة ومعرفة
  • موقع مجتمع وإصلاح
  • موقع حضارة الكلمة
  • موقع الاستشارات
  • موقع المسلمون في العالم
  • موقع المواقع الشخصية
  • موقع مكتبة الألوكة
  • موقع المكتبة الناطقة
  • موقع الإصدارات والمسابقات
  • موقع المترجمات
 كل الأقسام | أسرة   تربية   روافد   من ثمرات المواقع  
اضغط على زر آخر الإضافات لغلق أو فتح النافذة اضغط على زر آخر الإضافات لغلق أو فتح النافذة
  •  
    القيادة في عيون الراشدين... أخلاقيات تصنع
    د. مصطفى إسماعيل عبدالجواد
  •  
    حقوق الأولاد (3)
    د. أمير بن محمد المدري
  •  
    جرعات سعادة يومية: دفتر السعادة
    سمر سمير
  •  
    التاءات الثمانية
    د. خميس عبدالهادي هدية الدروقي
  •  
    المحطة الثانية عشرة: الشجاعة
    أسامة سيد محمد زكي
  •  
    البطالة النفسية: الوجه الخفي للتشوش الداخلي في ...
    محمود مصطفى الحاج
  •  
    حقوق الأولاد (2)
    د. أمير بن محمد المدري
  •  
    مقومات نجاح الاستقرار الأسري
    د. صلاح بن محمد الشيخ
  •  
    تطوير المهارات الشخصية في ضوء الشريعة الإسلامية
    يوسف بن طه السعيد
  •  
    حقوق الأولاد (1)
    د. أمير بن محمد المدري
  •  
    المحطة الحادية عشرة: المبادرة
    أسامة سيد محمد زكي
  •  
    تحليل محتوى المواقع الإلكترونية لحوادث انتشار ...
    عباس سبتي
  •  
    طلب طلاق وشكوى عجيبة
    الداعية عبدالعزيز بن صالح الكنهل
  •  
    المحطة العاشرة: مقومات الإيجابية
    أسامة سيد محمد زكي
  •  
    أنماط التعليم الإلكتروني من حيث التدرج في ...
    د. هيثم بن عبدالمنعم بن الغريب صقر
  •  
    وصية امرأة لابنتها في زفافها
    الشيخ محمد جميل زينو
شبكة الألوكة / حضارة الكلمة / أدبنا / دراسات ومقالات نقدية وحوارات أدبية
علامة باركود

أغراض شعر ابن القم

أغراض شعر ابن القم
د. نبيل محمد رشاد

مقالات متعلقة

تاريخ الإضافة: 16/1/2014 ميلادي - 14/3/1435 هجري

الزيارات: 7787

 حفظ بصيغة PDFنسخة ملائمة للطباعة أرسل إلى صديق تعليقات الزوارأضف تعليقكمتابعة التعليقات
النص الكامل  تكبير الخط الحجم الأصلي تصغير الخط
شارك وانشر

الفصل الأول: المرسِلُ / ابن القُمِّ ونتاجه الأدبي

المبحث الثالث: أغراض شعره


1- إذا كان موضوع رسالة ابن القُمِّ التي نتعرض لها بالتحليل والدرس هو المديح والاستعطاف، فإن جانبًا كبيرًا من شعره يدور - أيضًا - حول المديح والعتاب، فلقد أورد له العماد الكاتب في خريدته عددًا كبيرًا من النصوص الشعرية التي قالها في هذين الغرضين الشعريين[1].

 

أ- المديح:

والجدير بالذكر أن الممدوح الذي استأثر بالنصيب الأكبر من هذه القصائد هو السلطان الأوحد سبأ بن أحمد بن المظفر بن علي الصليحي، الذي تولى الحكم بالنيابة في اليمن بعد وفاة ابن عمه المُكَرَّم أحمد بن علي بن محمد بن علي الصليحي عام أربعة وثمانين وأربعمائة من الهجرة[2]، وظل في حكمها إلى أن وافته المنية عام اثنين وتسعين وأربعمائة من الهجرة[3]، وقد امتدحه شاعرنا بسبع قصائد ومقطوعات من مجموع ما وصل إليَّ من نصوص شعره في هذا الغرض، وهو تسعة نصوص، ومن ذلك قوله[4]:

إنْ ضَامَكَ الدَّهْرُ فاستعْصِمْ بأشيح أو
أزرَى بكَ الفقرُ فاستمطِرْ بنانَ سَبَا
ما جاءه طالبٌ يبغي مواهِبَهُ
إلا وَأَزْمَعَ منه فَقْرُه هَرَبَا
تخَالُ صارمَه يوم الوغى نهرًا
تضرَّمَتْ حافَتَاه من دَمٍ لَهَبَا
بَنِي المظفَّرِ ما امتدت سماءُ عُلا
إِلاَّ وألفيتُم في أُفْقِهَا شُهُبَا
إنَّ امرأً كنت دون الناس مطلبه
لَأَجْدَرُ الناسِ أن يحظى بما طلَبَا

 

والشاعر يَستَهِلُّ هذه الأبياتَ بتوجيهِ الخطاب إلى صاحبه على سبيل إسداء النصيحة، قائلاً له: إن جار عليك الزمان، فالجأ إلى الحصن الذي يسمى بأشيح، واطلب العصمة به، والحماية من بطش الأيام، وإن عضَّك الفقر، فما عليك إلا أن توليَ وجهك شطر سبأ بن أحمد؛ فإن أطراف أصابعه تنهمر على أتباعه ومريديه بالخير كما ينهمر الغيث النازل من أبواب السماء على الأرض الجديبة.

 

وقد أراد ابن القُمِّ أن يعجِّب صاحبه أو محدِّثه من كرم سبأ بن أحمد، فالتفت في البيت الثاني من الخطاب إلى الغَيْبَة، حيث تحدَّث عن الممدوح وأفصح عن خلاله، فقال: ما وفد عليه وافد يطلب رفده إلا وأعطاه الغمرَ الكثير، الذي يُذهِبُ الفقر، ويجعله يولِّي إلى غير رجعة.

 

وفي ثلاثةِ الأبيات الأخيرة يرجع الشاعر من الغَيْبَة إلى الخطاب ليَذكرَ لصاحبه في البيت الثالث أن الممدوح لا ينفك يعطي ويمنح حتى في أوقات الشدائد والحروب، وليتوجه في البيت الرابع بالمديح إلى بَنِي المظفر، وهم قوم الممدوح وعشيرته الأقربون، ثم يُنهي الأبيات بمخاطبة السلطان نفسه قائلاً له: إن امرأ يقصدك دون غيرك من الناس طالبًا رفدك لجديرٌ بأن يُجاب إلى طلبه.

 

ومن هنا تظهر براعة الشاعر، ومقدرته على التفنن في المديح؛ إذ لم يعمد إلى كيل الثناء كيلاً مباشرًا، وإنما جرَّد من نفسه صاحبًا أو خليلاً توجه إليه بالنصح، ثم أخذ يحكي لصاحبه هذا نوادرَ وغرائبَ من كرم الممدوح أقامها مقام الدليل على جوده وسخائه، ثم صوَّر له حال الممدوح في ساعة الحرب، إذ هو فارس مغوار يخوض في المعامع ويخرج ظافرًا منتصرًا، ومع هذا لا تشغله الجحافل التي يُقاتِلها عن أداء ما يجب عليه تجاه قاصديه؛ حتى إنك لتنظر إلى سيفه فتظنه نهرًا من شدة بريقه ولمعانه، وتنظر إلى ما على السيف من دماء الأعداء فتخالُها لكثرتها وشدة حمرتها نَارًا أوقدها الممدوح على حافَتَيِ النهر لِلْقِرَى.

 

وما أن بلغ الشاعر هذه المرحلة من الخطاب، حَتَّى توجه بالكلام إلى قوم الممدوح مثنيًا عليهم، وواصفًا إياهم بالشُّهب، وهو وصف بالغ الدلالة ها هنا؛ لأن الشهب أجرام لها خاصية الإضاءة والإحراق، فهي لامعة وخلابة، وهي في الوقت نفسه حارقة ومدمرة للمردة والشياطين، ولا يجب أن ننسى في هذا السياق أنّ بَنِي المظفر هؤلاء شيعة فاطميون، وكأن الشاعر يمتدحهم بما استقرَّ في عقائدهم من أنهم الهداة المعصومون الذين تضيء وجوههم بنور الحق الساطع، وتتجلى بركاتهم فيما يمنى به أعداؤهم من الخيبة والنكال.

 

ثم جاء خطاب الممدوح في آخر أبيات النص في غاية الوجازة التي تتطلَّبها مخاطبة الملوك والسلاطين، ومع هذا لم يخْلُ من الإشارة إلى ما يريد الشاعر من حض الممدوح على الإحسان إلى صاحبه.

 

ويُلِحُّ الشاعر على هذين المعنيين - أعني الشجاعة والكرم - في جميع ما امتدح به سبأ بن أحمد من نصوص، فها هو ذا يقول في قصيدته اللامية[5]:

مليكٌ يَفُضُّ الجيشَ والجيشُ حافلٌ
ويُخجِلُ صَوْبَ الْمُزْنِ والمزنُ هَاطِلُ
سَحَابٌ غَوَادِيهِ لُجَيْنٌ وَعَسْجَدٌ
وليثٌ عواديه قَنا وقَنَابِلُ
تَوَقَّى الأعادي بأسَهُ وهْو بَاسِمٌ
ويرجو الموالي جُودَهُ وهْو صَائِلُ

 

والشاعر في هذه الأبيات يرسُم صورةً زاهيةً للممدوح؛ إذ هو يفض الجيش، ويُخجل صوب المُزْن، ولاحِظْ دَلالة التعبير بالفعلين المضارعين: "يفض" و"يخجل"؛ إنهما يوحيان بتجدد الحدث واستمراره، وهذا بدوره يؤدي إلى ترسيخ الاعتقاد بأن شجاعة الممدوح وسماحته صفتان ملازمتان له، وليستا صفتين عارضتين أوجبتْهما ظروف خاصة.

 

وهذا الذي قيل في هذين الفعلين يمكن أن يقال مثله في الفعلين: "توقَّى" و"يرجو" في البيت الثالث، فإنهما فعلان مضارعان، غير أن أولهما حذفت إحدى تاءيه، وهما يدلان - أيضًا - على تجدُّد الحدث واستمراره، والمعنى أن الشاعر يريد أن يقول: إن الأعادي يتوقَّوْنَ بأسه في السِّلْمِ كما يتوقَّوْن بأسه في الحرب، وإن الموالي يرجون جوده في شدته، كما يرجون جوده حال بُلَهْنِيَتِهِ.

 

وتُظهِر مدائح ابن القُمِّ في سبأ بن أحمد أن هذا السلطان كان يتعهد مواليَه وأتباعه بالعطاء، حتى ولو كانوا بمنأى عنه، يقول الشاعر حاكيًا تجربة شخصيته[6]:

كتبتُ إليْهِ والمفاوزُ بيننا
فكان جوابي جُودُ كَفَّيْهِ لا الكُتْبُ
وما كنتُ أدري قبل قَطْعِ هِبَاتِهِ
إليَّ الفيافي أنَّ أَنْعُمَهُ رَكْبُ

 

وفي القصيدة نفسها يتحدث الشاعر عن خصلة أخرى من خصال سبأ، وهي ثناؤه على طالبي رفده، وتواضعه لهم، يقول[7]:

ويُثني على قُصَّادِهِ فكأنَّه
يُجَاد بما يُجْدِي ويُحْبَى بما يَحْبُو

 

وهذا الذي امتدح به الشاعر سبأ بن أحمد ليس محض مبالغة من شاعر متملق يتغيَّا التكسب بالشعر، فلقد أثنى المؤرخون وكتاب التراجم على هذا السلطان، فقال يحيى بن الحسين بن القاسم: "كان شجاعًا كريمًا، شاعرًا فصيحًا، يثيب على الشعر، ويمدح مادحه"[8]، وقال حسين بن فضل الله الهمداني اليعبري الحرازي: "وكان فاضلاً ورعًا تقيًّا زاهدًا، وكان فوق ذلك كريم الأخلاق، طيب الأسباب والأعراق"[9].

 

وبهذا يتضح أن الشاعر لم يكن يرسم في هذه النصوص وغيرها صورةً مثالية لما ينبغي أن يكون عليه الحاكم أو السلطان، وإنما كان يرسم صورة واقعية لحاكمٍ عَرَفه عن كثب، وعاش معه مدة طويلة في قصر أشيح[10].

 

والملاحظ أن ابن القُمِّ كان يدفعه الإعجاب بمليكه إلى اهتبال كل مناسبة للإطراء عليه ومديحه، فلقد روى المؤرخون أن سبأ بن أحمد اصطحب شاعرنا معه يومًا وهو يتفقَّد ما بحديقة قصره من أُسُودٍ وكلاب، وكان السلطان على ما يبدو يقدم لها الطعام بنفسه، ولاحَظَ الشاعر أن أسدًا منها لم يُقْدِمْ على الأكل من الفريسة التي طرحها السلطان أمامه، فأنشأ يقول[11]:

يا أكرمَ الناسِ في بُؤْسٍ وفي نِعَمٍ
وخيرَ ساعٍ إلى مجد على قَدَمِ
لا تعجبَنْ لعمومِ الأمن في بلدٍ
أضحيْتَ فيها فأضحَتْ منكَ فِي حَرَمِ
أمَا ترى الليثَ لَمَّا أنْ طَرَحتَ له
فريسةً حاد عنها وهو ذو قُدُمِ
ملأْتَ بالخَوْفِ أكبادَ الورى ذُعُرًا
فعبدُكَ الليثُ لا يَسْطُو على الغَنَمِ

 

والشاعر في هذه الأبيات يُثني على سياسة الحزم والشدة التي انتهجها السلطان في تدبير شؤون مملكته، ويشير إلى أن هذه السياسة قد أدت إلى استقرار الأمور، واستتباب الأمن في ربوع البلاد، وهذا بلا ريب مما يُمتدَح به الملوك في الشعر، إلا أن الشاعر قد خانه التعبير في البيت الأخير؛ لأنه - فيما أتصور - يوحي بأن هذا السلطان قد ساس الناس بالقهر والبطش، والتسلط والجبروت والظلم.

 

ومن المواضع التي أخفق فيها الشاعر في امتداح هذا السلطان قوله من قصيدة:

لَوْلاَ المخافةُ من أن لا تدومَ له
إرادةُ البذلِ أعطَتْ نَفْسَهَا يَدُهُ[12]
كأنَّه خافَ أن ينسى السماحَ فما
يزال منه له دَرْسٌ يُرَدِّدُهُ

 

لأن هذين البيتين يوحيان بأن السلطان يعطي ويمنح تطبُّعًا لا طبعًا؛ ففي البيت الأول يتحدث الشاعر عما يتلبس السلطان من الخوف لحظة العطاء، فيقول: إنه يريد أن يعطي، وإنه ليريد أن يعطي بسخاء، وإنه ليريد أن يجود بأغلى ما يَملِك؛ بنفسه التي بين جنبيه، لكنه لا يفعل، بل ينتهج في العطاء سبيلَ التوسط والاعتدال؛ كي تدوم له إرادة البذل، وفي البيت الثاني يصوره رجلاً بخيلا ًشحيحًا يحاول بالعطاء المستمر، والبذل المتواصل أن يُعَوِّدَ نفسَه الأَرْيَحِيَّةَ والجُودَ.

 

ولقد امتدح ابن القُمِّ عددًا من شخصيات البيت الصليحي الذين حكموا اليمن بعد سبأ بن أحمد، من مثل السيدة الحرة أروى بنت أحمد الصليحية، التي يقول فيها من قصيدة[13]:

أَعْلَى الأنام أبًا، وأكرمُ طيبةً
وأتمُّ أعراقًا، وأصلبُ عُودَا
لو كان يُعْبَدُ للجلالة في الورى
بَشَرٌ لكانت ذلك المَعْبُودَا
هي نعمةُ الله التي لا ماؤها
ثمدًا ولا معروفها مَجْحُودَا
هي رحمة الله التي ما زال من
فوق البريَّةِ ظلُّها ممدودَا

 

والشاعر في هذه الأبيات يمتدح السيدة الحرة بصراحة النسب، وعراقة الأصل، وقوة الشكيمة التي تتمثَّل في صلابة العود، وكأنه يشير إلى ما تميَّزت به هذه السيدة من الحزم في إدارة شؤون البلاد بعد وفاة زوجها سبأ بن أحمد، حيث تحصَّنت بما تملك من معاقل، وتولَّت ما كانت تحكم من حصون، وأقامت لها وزراءَ وعمالاً، واستطاعت أن تطيل حكم الصليحِيِّين أربعين سنة بعد أن كاد يضعف أمرهم[14].

 

وفي البيت الثاني من هذه الأبيات يشير الشاعر إلى ما كانت عليه هذه السيدة من الجمال والحسن، والبهاء والإشراق، كما يشير إلى المكانة السامية التي احتلتها هذه المرأة في قلوب رعاياها، حيث تغلغل حبها في كل قلب، وأصبحت في قلوب اليمنيين رمزًا دالاًّ على الجمال والحب مثلها في ذلك مثل حتحور عند قدماء المصريين، أو أفروديت عند اليونانيين القدماء.

 

ويستوقفنا وصفه لها في البيت الثالث بقوله: "هي نعمة الله"؛ لأنه يشير به - في غالب الظن - إلى ما أصاب اليمن في عهدها من رغد العيش، فقد روى المؤرخون من مآثرها أنها اهتمت "برعي المواشي، وتحسين النسل؛ لكي توفِّر للشعب بمختلِفِ طبقاته اللحومَ والألبانَ"[15]، وأنها اهتمت بتعبيد الطرق، وبناء المدارس والمساجد[16]، وعملت على نشرِ العدل، وإقامة الحدود، وولت من الوزراء والعمال من عفَّ عما بأيدي الناس من مثل الأمير المفضل بن أبي البركات الحِمْيَري، والأمير الموفَّق علي بن إبراهيم بن نجيب الدولة[17].

 

كما يستوقفنا وصفه لها في البيت الرابع بقوله: "هي رحمة الله"؛ لأنه يشير في غالب الظن إلى ما كانت عليه من الورع والتقى والصلاح، قال عماد الدين بن الحسن القرشي المتوفى 472هـ: "وكانت امرأة فاضلة ذات نسك وورع وفضل، وكمال عقل وعبادة وعلم، تَفُوقُ الرجال، فضلاً عن ربَّاتِ الحِجَال"[18].

 

ب- العتاب:

لابن القُمِّ ثمانية نصوص شعرية في العتاب أوردها العماد الكاتب في خريدته، ونصٌّ واحدٌ أورده ياقوت الحموي في معجم الأدباء؛ ومن ثمَّ فإن مجموع ما لدينا من شعر صاحبنا في هذا الباب تسعة نصوص، يبلغ عدد أبياتها أربعة وخمسين بيتًا.

 

ومن هذه النصوص قوله معاتبًا سبأ بن أحمد[19]:

أبا حِمْيَرٍ إنَّ المعالي رخيصةٌ
ولو بُذِلَت فيها النفوسُ الكَرَائِمُ
وجدتُ مطارًا يا ابنَ أحمدَ واسعًا
إلى غرض لو سَاعَدَتْنِي القَوَادِمُ
وما أنا إلا السهمُ لو كان رائشٌ
وما أنا إلا النصلُ لو كان قائمُ
ولا عار إن جار الزمانُ وإنْ سطا
إذا لم تَخُنِّي هِمَّتِي والعزائمُ
فلا تحتقر جَفْنًا يَبيتُ مُسَهَّدًا
ليُدرِكَ ما يهوَى وجفنُكَ نائِمُ

 

وقوله - أيضًا - في معاتبته[20]:

إذا تضايَقَ عن رَحْلِي فِنَا مَلِكٍ
وَسِعْنَنِي أبدًا دونه الهِمَمُ
كل البلاد إذا لم تَنْبُ لي وَطَنٌ
وكل أرض إذا يَمَّمْتُهَا أَمَمُ

 

وهذان النصان يدلان على ما حدث بين الشاعر ومليكه من الجفاء والقطيعة، ومن الممكن أن يعود تاريخ هذين النصين إلى سنة 481هـ؛ إذ تشير المصادر التاريخية إلى ما حدث في هذه السنة من خيانة والد شاعرنا لوزير الصليحِيِّين الأسعد بن شهاب بعد ما حدث من المنافرة بينهما، حيث تآمر مع جيَّاش بن نجاح للاستيلاء على زبيد[21]، ويبدو أن سبأ بن أحمد قد أخذ شاعرنا بجريرة والده، فتنكَّر له، وقلب له ظهر المِجَنِّ[22]، وكان الشاعر في سن الفتوة والشباب، فأبت نفسه أن ترضخ لظلم سبأ، فَوَلَّى وجهه شطر جياش بن نجاح وخاطبه قائلاً[23]:

أذاع لساني ما تُجِنُّ الأَضَالِعُ
وَأَعْرَبْنَ عما في الضميرِ المَدَامِعُ
وإني مما يُحدِثُ الهَجْرُ جَازِعُ
وما أنا مما يُحدِثُ الدهرُ جازعُ
فيا ابنَ نصير الدين دعوةَ هاتف
دعا بك للجُلَّى فهل أنتَ سامعُ
تقلص عني الظِلُّ والظِلُّ شَامِلٌ
وَأَقْصَرَ عنِّي الفضلُ، والفضلُ واسعُ
أترضى - وَحَاشَا المجد - أن يَشْبَعَ الورى
جميعًا، وَيُمْسِي ضيفُكُمْ وَهْوُ جَائِعُ

 

لكن جيَّاشًا أعرض عنه، ويبدو أن شاعرنا قد عاش بعد ذلك طريدًا شريدًا؛ مما أدى إلى أن ساءت أحواله النفسية والمعيشية، ولقد صور لنا ما آل إليه حاله في قصيدة من قصائده التي عاتب فيها جيّاشًا على إعراضه عنه، إذ يقول في تذلل وخنوع[24]:

يا أيها الملك الذي
كُلُّ الملوك له رَعِيَّةْ
إن كنتُ مِنْ خُدَّامِكم
فعلامَ لا أعطى جَرِيَّةْ
أو كنتُ من ضِيفانِكم
فالضيفُ أَولى بِالعَطِيَّةْ
أو كاتبًا فلسائرِ الـ
كُتَّاب أرزاقٌ سَنِيَّةْ
واللهِ ما أبقى الخمو
ل على وليِّك من بقيَّةْ
ووحقِّ رأسك إنَّ حا
لي لو علمتَ بها رَزِيَّةْ
وإذا هممْتُ بكشف با
طنها أبتْ نفسٌ أَبِيَّةْ
لا تنظرنَّ إلى التجمُّـ
ل إنَّ عادته رَدِيَّةْ
فَفِ لي بِوَعْدِكَ إنَّني
وعُلاك من أوفى الْبَرِيَّةْ
لله أو لمدائحي
أو خدمتي أو لِلْحَمِيَّةْ

 

والذي يظهر أن هذه الصرخات قد ذهبت هي الأخرى أدراج الرياح؛ لأن جياشًا لم يلتفت إليه، ولم يثق به، ولعل هذا ما حدا بالشاعر إلى أن يقرع أبواب سبأ مرة أخرى متوسلاً ومستعطفًا، وطالبًا السماح والعفو كما يدل على ذلك قوله[25]:

فَجُدْ وَعُدْ وَاعْفُ وَاسْمَحْ لِي وَهَبْ وَأَعِدْ
واصفح وأَدْنِ وأَجْمِلْ وَارْضَ وَابْتَسِمْ
فَلَسْتُ أوَّلَ عبْدٍ عَقَّ سيدَهُ
ولسْتَ أَوَّلَ مَوْلًى جَادَ بِالكَرَمْ

 

ولعل تاريخ هذا النص يعود إلى أوائل العقد الأخير من القرن الخامس الهجري، والجدير بالذكر أن الشاعر لم يدم به الحال على هذا السوء بعد ذلك؛ إذ لم يلبث أن قضى سبأ بن أحمد نحبه عام 492هـ، ومات جياش بن نجاح بعده بستة أعوام، ويبدو أن السيدة الحرة زوجة سبأ بن أحمد كانت تُقَدِّرُ للشاعر سابقَ خدمته للبيت الصليحي، وكانت ترى بفِرَاستها أو بِدَهَائِهَا أن العفو عنه أفضل من اجتنابه واطِّرَاحِهِ، فعفت عنه، وقرَّبته حتى صار كاتبَهَا إلى أئمتها بالديارِ المصرية، وإلى غير أئمتها من حكام الأقطار النازِحَةِ.

 

ولابن القُمِّ شعر في عتاب بعض أصدقائه وإخوانه، ومن ذلك قوله في عتاب شخص يدعى عبدالواحد بن بشارة[26]:

ولئن ذَكَرْتُ هَوَى الظعائنِ جمْلَةً
فالقصدُ صاحبةُ البعيرِ الواحدِ
فكما يُعَدُّ الأكرَمُون جماعةً
والواحدُ المرْجُوُّ عبدُ الواحدِ
نُبِّئْتُ أنكَ قد أتتْكَ قَوَارِصٌ
عَنِّي ثَنَتْكَ على الضميرِ الواجدِ
عَمِلَتْ رُقَى الواشينَ فيك وإنها
عندي لَتَضْرِبُ في حَدِيدٍ بَارِدِ

 

وهذا النص يظهر براعة الشاعر وتلطفه في معاتبة إخوانه وأصدقائه؛ إذ لم يواجه صاحبه بمضمون المعاتبة مواجهة مباشرة من أول النص، وإنما أخذ يستميله بالحديث عن النسيب تارة، وبمديحه تارة أخرى، ثم واجهه بالمعاتبة بعد ذلك.

 

وبتأمل ما سبق من نصوص يتضح لنا أن ما ورد بالخريدة من شعر ابن القُمِّ في العتاب قد صور ملامح شخصيته؛ لأنه أفصح عنها حال قوتها، وإحساسها بتضخم ذاتها، وامتلاكها للأسباب التي تبوِّئها مقاعد السؤدد، كما أفصح عنها في حال ضعفها، واستخذائها، وشعورها بالحاجة إلى من ينتشلها من الهوة التي تردَّت فيها.

 

ففي الحالة الأولى - حالةِ القوةِ - نجد شِعْرَهُ يمتزج فيه الفخر الذاتي بالعتاب كما في قوله من عتاب سبأ:

وما أنا إلا السهم لو كان رائشٌ
وما أنا إلا النصل لو كان قائمُ
ولا عار إن جار الزمان وإن سطا
إذا لم تَخُنِّي هِمَّتِي والعزَائِمُ

 

كما قد يلجأ إلى تهديد المعاتب وتوعُّدِه، كما في قوله من القصيدة نفسها مخاطبًا سبأ بن أحمد:

فلا تحتقر جَفْنًا يَبيتُ مُسَهَّدًا
ليُدرِكَ ما يهوَى وجفنُكَ نائِمُ

 

وفي الحالة الثانية - حالةِ ضعفِهِ واستخذائه - نجده يعمد إلى المبالغة في تصوير إخناء الزمان عليه، بل قد يعمد أحيانًا إلى الاستجداء الرخيص كما في قوله من عتاب جيّاش بن نجاح:

إن كنتُ مِنْ خُدَّامِكم
فعلامَ لا أعطى جَرِيَّةْ

 

وقد يرق ابن القُمِّ في عتابه كما في النص الذي أورده له ياقوت في معجم الأدباء، وهو[27]:

أَأَحْبَابَنَا مَنْ بالقطيعة أغراكم
وعن مُسْتَهَامٍ في المودة ألهاكم
صددتم وأنتم تعلمون بأننا
لغير التَّجَنِّي والصدودِ وَدِدْنَاكُمْ
كشفتُ لكم سرِّي على ثقةٍ بكم
فسِرْتُ بهذا السرِّ من بعض أَسْرَاكُم
جعلناكم للنائبَاتِ ذخيرةً
فحين طلبناكم لَهَا ما وجدناكم
قَطَعْتُمْ وَصَلْنَاكُمْ نَسِيتُم ذَكَرْنَاكُمْ
عَقَقْتُمْ بَرِرْنَاكُمْ أَضَعْتُمْ حَفِظْنَاكُمْ
وفي النفس سرٌّ لا تبوحُ بذِكرِه
ولو تَلِفَتْ وَجْدًا إلى يوم لُقْيَاكُم
فإنْ تَجْمَعِ الأيامُ بيني وبينكم
غفرْتُ خطاياكم لِحُرْمَةِ رؤياكم

 

ففي البيت الأول يتوجه الشاعر بالخطاب إلى أحبابه الذين يعاتبهم مناديًا إياهم بحرف النداء "الهمزة"، قائلاً لهم: "أأحبابنا"، واستخدم الشاعر حرف النداء "الهمزة" ها هنا دون غيره من سائر حروف النداء؛ ليشير به إلى أنه لا يوجد بينه وبين هؤلاء المعاتبين أيُّ فاصل أو حاجز من أي نوع، فهم قريبون منه، ولصيقون به، ثم يتوجه إليهم بالسؤال: من بالقطيعة أغراكم وعن مستهام في المحبة ألهاكم؟ إنه لا يسألهم عن سبب القطيعة والهجر؛ لإيمانه بأنه لم يأتِ ما يوجب القطيعةَ والهجر؛ وإنما يسألهم عمن أغراهم بالقطيعة وألهاهم عن المحب، ولاحِظْ دلالة التعبير بالفعلين الماضيين: "أغرى" و"ألهى"، إن الإغراء عملٌ فيه تزيين وتحلية، وفيه في الوقت نفسه خداع وتضليل، قال ابنُ منظورٍ: "الإغراءُ: الإيساد"[28]، وقال في مادة "أسد": و"آسَدَ بين القوم: أفسد"[29]، والإلهاء أن تشغل خاطرك أو خاطر غيرك، وتصرفه عما هو آخذٌ في التفكير فيه، فكأن الشاعر يريد أن يقول لهم: إن هجركم إياي، وقطعكم وصلي، ليس قرارًا ذاتيًّا قد اتخذتموه بإرادتكم؛ وإنما هو من إملاء العذال أو اللائمين، أو من إملاء الحاسدين والحاقدين، الذين لا يحبون أن يروا ما بيننا عامرًا، ومن هنا فإن الشاعر يعاتبهم في هذا البيت على خطئهم الأول في حقه، وهو الْتفاتُهم لأقوال العذال واللائمين، أو الوشاة والحاقدين.

 

ويقابلنا في صدر البيت الثاني المركبُ الفعلي "صددتم"، وهو يَتَكَوَّنُ من الفعل (صدَّ)، والضمير الدال على جماعة المخاطبين "أنتم" الذي هو فاعله، وقد أَتبَعَ الشاعرُ هذا المركبَ الفعلي بجملة حالية، هي قوله: "وأنتم تعلمون بأننا لغير التجني والصدود وددناكم".

 

وواضحٌ أن الشاعر في هذا البيت يعاتب أحبابه على خطئهم الثاني في حقه، ذلك الخطأ الذي يتمثل فيما قاموا به من قطيعته وهجره، ولكن لماذا وقع اختيار الشاعر على هذا الفعل بالذات (صدّ) للتعبير عن قطعهم له، وهجرهم وصله؟

والجواب لأن الفعل (صدّ) له استعمالان في اللغة، فهو يستعمل بمعنى أعرض، أو هجر، أو صدف، وهو يستعمل أيضًا بمعنى ضجَّ، أو عجَّ[30].

 

وكأن الشاعر باستخدامه هذا الفعل قد أراد أن يقول لمن يعاتبهم: إنَّ هجركم لي لم يكن هجرًا جميلاً، وإنما كان هجرًا مصحوبًا بالتجني عليَّ، والتشهير بي.

 

وتقف الجملة الحالية التي أتت بعد هذا المركب الفعلي شاهدًا ودليلاً على استهداف الشاعر للدلالة المزدوجة للفعل (صدّ)، وتلفتنا هذه الجملة ببنائها النحوي إذ كان الأصل المعياري للكلام أن يقول: وأنتم تعلمون بأننا وددناكم لغير التجني والصدود، ولكنه عدل عن هذا الأصل إلى تقديم الجار والمجرور "لغير التجني والصدود"، والفصل بين اسم إنَّ والجملة الواقعة خبرًا لها، ومما لا شك فيه أنه لم تكن للشاعر مَنْدُوحةٌ عن هذا العدول؛ حتى تستقيم به بِنْيَةُ البيت الإيقاعية من ناحية، وحتى يبوح بما يعتمل في صدره من آلام وأحزان من ناحية أخرى.

 

وعلى هذا النحو تمضي بقية أبيات النص دالة على رهافة حس الشاعر، وعلى تميُّز معجمه اللغوي، وعلى مقدرته على التصرف في بناء الجملة، وعلى وَلَعِهِ بالتصوير بالتضاد، كما تدل على مقدرته على إيجاع خصومه، والانتصار لنفسه، والثأر لها ممن لم يعرف لها حقها.

 

جـ- الغزل:

لابن القُمِّ شعر في الغزل والنسيب، ومن ذلك قوله من مطلع قصيدة مدحية[31]:

الليلُ يعلم أني لستُ أَرْقُدُهُ
فلا يغرَّكَ من قلبي تجلُّدُهُ
فإن دَمْعِي كصَوْبِ الْمُزْنِ أَيْسَرُهُ
وإنَّ وَجْدِي كَحَرِّ النارِ أَبْرَدُهُ
لي في هوادِجِكم قلبٌ أضِنُّ به
فسلِّمُوه وإلا قُمْتُ أَنشُدُهُ
وبَانَ للناس ما كنا نكتِّمُه
من الهوى وبدا ما كنتُ أَجْحَدُهُ

 

ففي هذا المفتتح الغَزَلِي تظهر روح ابن القُمِّ المُحِبَّةُ، من خلال هذه المكاشفة، وهذا البوح الذي تفصح عنه الأبيات، فلقد أخبر عن نفسه في البيت الأول بأنه يبيت الليل مسهدًا قلقًا يفكر فيمن أحب، ويعاني من تباريح الهوى والوجد، وأن ما يبدو عليه من مظاهر التجلد ليس إلا شكلاً من أشكال التجمل التي يحرص عليها، ولا ينبغي أن يستدل به على قسوة قلبه أو تحجُّر عواطفه.

 

ويواصل الشاعر في البيت الثاني اعترافاته، فيقول: إن أقلَّ ما تَذرِف عيناي من الدموع لَيُشْبِهُ صوبَ الْمُزْنِ في تدفُّقه وانهماره، وإن أضعف ما يعتمل في صدري من حرِّ الجوى لَهُوَ أشدُّ تلهبًا من النار الحامية.

 

وينتقل الشاعر في البيت الثالث من الحديث عن نفسه إلى مخاطبة قوم محبوبته قائلاً لهم: "لي في هوادجكم قلبٌ أضن به"، وهذا الخطاب يشي بأن الشاعر قد اهتاج شوقه واضطرب في إثر تأهُّب المحبوبة وقومها للرحيل، كما يشي بعدم مقدرته على تحمُّلِ آلام الفراق، ومن هنا كان الأمر: "فسلموه"، وكان التهديد الذي تلاه: "وإلا قمت أنشده" في الشَّطْرةِ الثانية من البيت.

 

والبيت الرابع من هذه الأبيات موصول الأسباب بالشطرة الثانية من البيت الذي قبله؛ لأن الشاعر يتحدث فيه عن الآثار السلبية التي يمكن أن تترتب على قيامه بنُشدان محبوبته بنفسه إن هو أُلْجِئَ إلى هذا التصرف، ولم يَقْدُرْ أهلُهَا عاطفةَ الحبِّ قَدْرَهَا.

 

ولقد حازت هذه الأبيات إعجاب القدماء، يقول عمارة اليمني في تعليقه عليها: "حدثني الفقيه أبو السعود بن علي الحنفي قال: حدَّثني ابن أبي الصباح أنه لما دخل العراق وحضر مجلس الوزير يومئذٍ وعنده جماعة يتذاكرون الشعر، فقال لي: هل تحفظ شيئًا لأحد من أهل اليمن؟ فأنشدته قول ابن القُمِّ من قصيدته: "الليل يعلم أني لستُ أرقده"، وكان الوزير متكئًا فاستوى جالسًا واستعادها مرارًا، ثم بعثني في الموسم إلى مكة فاشتريت له الديوان، فلما جئته به كان من أقوى الذرائع إلى صحبته، والانقطاع إلى جملته"[32].

 

وفي نص آخر يقول ابن القُمِّ[33]:

يا صاحبَيَّ قفا المَطِيَّ قليلاَ
يَشفى العليلُ من الديار غليلاَ
هَذِي طُلُولُهُمُ أطلْنَ صبابتي
وتركْنَ قلبي من عَزَايَ طُلُولاَ
ولئن خلَتْ منهم مرابعُهم فقد
غادَرْنَ قلبي بالغرامِ أَهِيلاَ
لو أنَّ عِيسَهمُ غداةَ رحيلهم
حُمِّلْنَ وجدي ما أَطَقْنَ رَحِيلاَ
من كل رِيم لا عديلَ لحسنها
رحلَتْ فكان لها الفؤادُ عَدِيلاَ
كالبدرِ وجهًا والغزالِ سَوَالفًا
والرملِ رِدفًا والقناةِ ذُبُولاَ
غَادَرْنَنِي جاري المدامعِ حَائِرًا
وتركْنَنِي حيَّ الغرامِ قَتِيلاَ

 

والشاعر في هذه الأبيات ينتهج سبيل القدماء من حيث:

أولاً: الوقوف على الأطلال، وبكاء الديار؛ لأنه في الأبيات الأربعة الأولى من النص توجَّه بالخطاب إلى صاحبيه آمرًا إياهما بإيقاف الرحلة، والتَّرَيُّث قليلاً قبل مغادرة المكان؛ حتى يتمكَّن من شفاء علته بالائتناس ببقاء المنازل الدَّارِسَة التي كانت مسرحًا لِلَعِبِ فتيات الحي وَلَهْوِهِنَّ.

 

ثانيًا: استيحاءُ الصور القديمة؛ لأن تشبيهه وجهَ المحبوبة بالْقَمَر، وسوالفَها بالغزال، ورِدْفَها بالكثيب، وقَدَّهَا بالقناة الذابلة - كلُّ هذا من التشبيهات الشائعة في نصوص الشعر الجاهلي.

 

د- الاجتماعيات والحكمة:

أورد ياقوت الحموي لابن القُمِّ نصين في الاجتماعيات والحكمة، يتحدث الشاعر في أولهما عن تنشئة الأبناء، وفيه يقول[34]:

خيرُ ما ورَّثَ الرجالُ بَنِيهِم
أدبٌ صالِحٌ وَحُسْنُ ثناءِ
ذاك خير من الدنانير والأو
راق في يوم شدةٍ ورَخَاءِ
تِلْك تَفْنَى والدينُ والأدَبُ الص
الِحُ لا يفنيان حتَّى اللقاءِ

 

ويتحدث في النص الآخر عن قيمة الهدية، وأثرها في جلب المودة فيقول[35]:

هدايا الناسِ بعضِهِمُ لبعض
تُوَلِّدُ في قلوبِهِمُ الموَدَّه
وتزرعُ في النفوسِ هوًى وحبًّا
لِصَرْفِ الدهرِ وَالحَدَثَانِ عُدَّه
وتصطادُ القلوبَ بلا شِرَاكٍ
وتُسعِدُ حظَّ صاحبِها وجَدَّه

 

وابن القُمِّ في هاتين المقطوعتين يصوغ في ثوب شعري فلسفي خلاصة تجرِبته الحياتية مع أبنائه، ومع غيرهم ممن كانت له بهم صلات أو علاقات، واللافت للنظر أن الشاعر في المقطوعة الأولى قد صبَّ تَجرِبته في أسلوب خبري يتكئ في بنيته اللغوية كلها على المركبات الاسمية؛ وذلك حتى يرسخ مضمونها، ويُقرِّر حقائقها في العقول والنفوس.

 

وفي المقطوعة الثانية ابتدأ الكلام بالمركب الإضافي "هدايا الناس"، ثم جعل الخبر جملة فعلية، هي قوله: "تولِّد في قلوبهم المودة"، وهي جملة لافتة بفعلها تولد، الذي يدل بزمنه أولاً، وبتضعيفه ثانيًا، على تجدد الحدث واستمراره، وبناء الكلام على هذا النحو فيه - إلى جوار الإخبار عن قيمة الهدية وأثرها في القلوب والنفوس - فيه حضٌّ على التهادي، ونصح به، ومما يدل على هذا المعنى ويؤكده أنه عطف على جملة الخبر ثلاث جمل فعلية، هي قوله: "وتزرع في النفوس هوى وحبًّا"، وقوله: "وتصطاد القلوب بلا شراك"، وقوله: "وتسعد حظ صاحبها وجَدَّه".

 

والمقطوعة تفصح قبل كل هذا وبعده عن أخلاق ابن القُمِّ، وما كان يتحلى به من الفطنة والدهاء والكياسة، أو الذكاء الاجتماعي.

 


[1] خريدة القصر وجريدة العصر؛ للعماد الكاتب - قسم شعراء الشام 3/ 74 وما بعدها.

[2] غاية الأماني في أخبار القطر اليماني؛ ليحيى بن الحسين بن القاسم بن محمد 1/ 274.

[3] السابق نفسه 1/ 279.

[4] خريدة القصر، قسم شعراء الشام 3/ 80.

[5] الخريدة، قسم شعراء الشام 3/ 88.

[6] خريدة القصر - قسم شعراء الشام 3/ 87.

[7] السابق نفسه، والصفحة نفسها.

[8] غاية الأماني في أخبار القطر اليماني 1/ 274.

[9] الصليحيون، صفحة 159.

[10] السابق نفسه، والصفحة نفسها.

[11] الخريدة، قسم شعراء الشام 3/ 90.

[12] الخريدة، قسم شعراء الشام 3/ 83.

[13] الصليحيون والحركة الفاطمية في اليمن ص146.

[14] من تقدمة الدكتور شكري فيصل لقسم فضلاء اليمن من خريدة القصر، يراجع: الخريدة، قسم شعراء الشام 3/ 73.

[15] الصليحيون والحركة الفاطمية في اليمن ص205.

[16] السابق نفسه ص206.

[17] السابق نفسه ص 165 وما بعدها، ص 168 وما بعدها.

[18] الصليحيون والحركة الفاطمية في اليمن ص143، 144.

[19] الخريدة، قسم شعراء الشام 3/ 93-94.

[20] السابق نفسه 3/ 94.

[21] غاية الأماني في أخبار القطر اليماني 1/ 273، ونهاية الأرب في فنون الأدب لشهاب الدين النويري 33/ 109.

[22] عصر الدول والإمارات: إيران - الجزيرة - العراق؛ للدكتور شوقي ضيف ص148.

[23] الخريدة، قسم شعراء الشام 3/ 85.

[24] الخريدة، قسم شعراء الشام 3/ 96.

[25] السابق نفسه 3/ 91.

[26] السابق نفسه 3/ 82.

[27] معجم الأدباء 10/ 130-131.

[28] اللسان 5/ 3250.

[29] اللسان 1/ 77.

[30] اللسان 4/ 2409، 2410.

[31] خريدة القصر، قسم شعراء الشام 3/ 79، وقلادة النحر لبامخرمة 2/ 2103.

[32] الخريدة، قسم شعراء الشام 3/ 79، هامش رقم 5.

[33] السابق نفسه 3/ 89.

[34] معجم الأدباء 10/ 131-132.

[35] السابق نفسه 10/ 147.





 حفظ بصيغة PDFنسخة ملائمة للطباعة أرسل إلى صديق تعليقات الزوارأضف تعليقكمتابعة التعليقات
شارك وانشر

مقالات ذات صلة

  • حياة ابن القم وملامح شخصيته
  • آثار ابن القم الأدبية ومظانها

مختارات من الشبكة

  • أغراض التشبيه مع الأمثلة(مقالة - حضارة الكلمة)
  • أغراض تعلم العربية عند الناطقين بلغات أخرى(مقالة - حضارة الكلمة)
  • أغراض إقامة المضاف إليه مقام المضاف: الحاجة إلى المعنى(مقالة - حضارة الكلمة)
  • أغراض إقامة المضاف إليه مقام المضاف: إيجاز الكلام واختصاره(مقالة - حضارة الكلمة)
  • أغراض إقامة المضاف إليه مقام المضاف: الاتساع والتجوز في الكلام(مقالة - حضارة الكلمة)
  • براعة الوصف في شعر ابن الرومي(مقالة - حضارة الكلمة)
  • مفهوم الغرض الشعري(مقالة - حضارة الكلمة)
  • غرض الرثاء في شعرنا العربي القديم(مقالة - حضارة الكلمة)
  • عجز القراءات الحداثية عن تحقيق الغرض من تفسير القرآن(مقالة - آفاق الشريعة)
  • بيان غرض المحتاج إلى كتاب المنهاج للشيخ: برهان الدين الفزاري المشهور بابن الفركاح 729 هـ(رسالة علمية - مكتبة الألوكة)

 



أضف تعليقك:
الاسم  
البريد الإلكتروني (لن يتم عرضه للزوار)
الدولة
عنوان التعليق
نص التعليق

رجاء، اكتب كلمة : تعليق في المربع التالي

مرحباً بالضيف
الألوكة تقترب منك أكثر!
سجل الآن في شبكة الألوكة للتمتع بخدمات مميزة.
*

*

نسيت كلمة المرور؟
 
تعرّف أكثر على مزايا العضوية وتذكر أن جميع خدماتنا المميزة مجانية! سجل الآن.
شارك معنا
في نشر مشاركتك
في نشر الألوكة
سجل بريدك
  • بنر
  • بنر
كُتَّاب الألوكة
  • ختام ناجح للمسابقة الإسلامية السنوية للطلاب في ألبانيا
  • ندوة تثقيفية في مدينة تيرانا تجهز الحجاج لأداء مناسك الحج
  • مسجد كندي يقترب من نيل الاعتراف به موقعا تراثيا في أوتاوا
  • دفعة جديدة من خريجي برامج الدراسات الإسلامية في أستراليا
  • حجاج القرم يستعدون لرحلتهم المقدسة بندوة تثقيفية شاملة
  • مشروع مركز إسلامي في مونكتون يقترب من الانطلاق في 2025
  • مدينة روكفورد تحتضن يوما للمسجد المفتوح لنشر المعرفة الإسلامية
  • يوم مفتوح للمسجد يعرف سكان هارتلبول بالإسلام والمسلمين

  • بنر
  • بنر

تابعونا على
 
حقوق النشر محفوظة © 1446هـ / 2025م لموقع الألوكة
آخر تحديث للشبكة بتاريخ : 24/11/1446هـ - الساعة: 12:14
أضف محرك بحث الألوكة إلى متصفح الويب