• الصفحة الرئيسيةخريطة الموقعRSS
  • الصفحة الرئيسية
  • سجل الزوار
  • وثيقة الموقع
  • اتصل بنا
English Alukah شبكة الألوكة شبكة إسلامية وفكرية وثقافية شاملة تحت إشراف الدكتور سعد بن عبد الله الحميد
 
الدكتور سعد بن عبد الله الحميد  إشراف  الدكتور خالد بن عبد الرحمن الجريسي
  • الصفحة الرئيسية
  • موقع آفاق الشريعة
  • موقع ثقافة ومعرفة
  • موقع مجتمع وإصلاح
  • موقع حضارة الكلمة
  • موقع الاستشارات
  • موقع المسلمون في العالم
  • موقع المواقع الشخصية
  • موقع مكتبة الألوكة
  • موقع المكتبة الناطقة
  • موقع الإصدارات والمسابقات
  • موقع المترجمات
 كل الأقسام | أسرة   تربية   روافد   من ثمرات المواقع  
اضغط على زر آخر الإضافات لغلق أو فتح النافذة اضغط على زر آخر الإضافات لغلق أو فتح النافذة
  •  
    الإسلام يحافظ على الكيان الأُسري
    الشيخ ندا أبو أحمد
  •  
    حقوق المسنين (2)
    د. أمير بن محمد المدري
  •  
    المحطة الثالثة عشرة: التسامح
    أسامة سيد محمد زكي
  •  
    تربية الأبناء في عصر "الشاشة" كيف نربي طفلا لا ...
    محمود مصطفى الحاج
  •  
    تطوعي نجاحي
    د. زيد بن محمد الرماني
  •  
    القيادة في عيون الراشدين... أخلاقيات تصنع
    د. مصطفى إسماعيل عبدالجواد
  •  
    حقوق الأولاد (3)
    د. أمير بن محمد المدري
  •  
    جرعات سعادة يومية: دفتر السعادة
    سمر سمير
  •  
    التاءات الثمانية
    د. خميس عبدالهادي هدية الدروقي
  •  
    المحطة الثانية عشرة: الشجاعة
    أسامة سيد محمد زكي
  •  
    البطالة النفسية: الوجه الخفي للتشوش الداخلي في ...
    محمود مصطفى الحاج
  •  
    حقوق الأولاد (2)
    د. أمير بن محمد المدري
  •  
    مقومات نجاح الاستقرار الأسري
    د. صلاح بن محمد الشيخ
  •  
    تطوير المهارات الشخصية في ضوء الشريعة الإسلامية
    يوسف بن طه السعيد
  •  
    حقوق الأولاد (1)
    د. أمير بن محمد المدري
  •  
    المحطة الحادية عشرة: المبادرة
    أسامة سيد محمد زكي
شبكة الألوكة / حضارة الكلمة / روافد
علامة باركود

بعض الذكرى....!

بعض الذكرى....!
محمود محمد شاكر

المصدر: الرسالة، السنة الرابعة عشرة (العدد 696)، نوفمبر 1946، ص1213- 1215
مقالات متعلقة

تاريخ الإضافة: 24/9/2011 ميلادي - 25/10/1432 هجري

الزيارات: 48964

 حفظ بصيغة PDFنسخة ملائمة للطباعة أرسل إلى صديق تعليقات الزوارأضف تعليقكمتابعة التعليقات
النص الكامل  تكبير الخط الحجم الأصلي تصغير الخط
شارك وانشر

بعـض الذكـرى[1]

 

كان ذلك منذُ عِشرين سنةً، وكنتُ فتًى لا يَمَلُّ الدُّؤوبَ والسَّعيَ، وكانت أوَّل مرَّةٍ أدخُل فيها بيت ذلك الشيخ الضَّئيل البدن، المَعرُوق اللحم، الذي ينظُر إليك أبَدًا كالمتعجِّب، وكان الذي سعَى بي إليه حُبٌّ قد مَلأ قلبي له، وإجلالٌ قد أخَذ عليَّ العهد أنْ أَفِي لهذا الشيخ ما حَيِيتُ، وفاءَ الذِّكرى ووفاء العلم ووَفاء الاقتداءِ؛ وكنتُ يومئذٍ قد حضرت بعضَ دُروسه في مسجد البرقوقي، وقرَأتُ عليه شيئًا من كتاب أبي العباس المبرِّد، وكان يَعُدُّني كبعض ولَدِه؛ لسابق معرفتِه بأبي - رحمهما الله - وكنتُ يومئذٍ سقيمَ الجسم، خفيفَ اللحم، نحيلَ التجاليد، ثائر الشَّعر، فإذا لقيتُه فربما كان يقول لي: "كأنَّك آيبٌ من سفرٍ بعيد أيُّها الفتى"، فكنتُ أفهَمُ عنه، فإذا انقَلبتُ إلى الدار عَدَوْتُ إلى المرآة لأرى ماذا حمَل الشيخَ على مَقالته التي لم يزلْ يقولُها لي ويدي على يَدِه أو في يده، فما أرى سِوى وَجْهٍ شاحِبٍ ضامِر، وعينين غائرتَيْن كأنهما تنظُران إلى شيءٍ بعيدٍ في جَوْفِ وادٍ سحيقٍ عميقٍ، فأقولُ لنفسي: هذا جُهْدُ التحصيلِ، وكَدُّ النَّفس في قِراءة هذه الأسْفار القديمة التي تباعَدتْ مَعانِيها وتقادَمتْ عُهودها.

 

طرقتُ بابَه في ذلك اليوم على غير مِيعاد، ففتح لي صغيرٌ من حَفَدَتِه وقادَنِي إلى غُرفةِ الشيخ، فإذا هو جالسٌ على حَشِيَّةٍ على بِساطٍ كالحٍ من تَقادُم الأيَّام، وعلى يمينِه خِزانةُ كتبٍ مَطويَّة في جوف الجدار، وأمامَه صِينيَّة صَفراء من نُحاس فيها أداةُ القهوة، وعلى يَسارِه كتبٌ مركومةٌ، وفي يُمناه قلمٌ يكتب، فلمَّا سمع حِسِّي رفَع إليَّ بصَرَه وسكَن، وظَلَّ كذلك ساعةً وأنا بين يدَيْه يأخُذني ما قَرُبَ وما بَعُدَ من هَيْبَتِه، وجعَل ينظُر إليَّ، فأطالَ النَّظَرَ، ثم لم يلبثْ أنْ قال بصوتٍ خافت ما كنت لأتبيَّنُه لولا أنِّي عرَفتُ الذي يقولُ وكنتُ أحفَظُه، وهي هذه الأبيات من شعر بعض الأعراب:

 

رَأَتْ نِضْوَ أَسْفَارٍ أُمَيْمَةُ شَاحِبًا
عَلَى نِضْوِ أَسْفَارٍ، فَجُنَّ جُنُونُهَا[2]

فَقَالَتْ مِنَ ايِّ النَّاسِ أَنْتَ وَمَنْ تَكُنْ
فَإِنَّكَ رَاعِي صِرْمَةٍ لا يَزِينُهَا[3]

فَقُلْتُ لَهَا لَيْسَ الشُّحُوبُ عَلَى الفَتَى
بَعَارٍ، وَلا خَيْرُ الرِّجَالِ سَمِينُهَا

عَلَيْكِ بِرَاعِي ثَلَّةٍ مُسْلَحِبَّةٍ
يَرُوحُ عَلَيْهِ مَخْضُهَا وَحَقِينُهَا[4]

سَمِينِ الضَّوَاحِي، لَمْ تُؤَرِّقْهُ لَيْلَةً
- وَأَنْعَمَ - أَبْكَارُ الهُمُومِ وَعُونُهَا[5]

 

وكان الشيخ حَسَنَ التَّقسيم للشِّعر حين يَقرَؤُه، فيقفُ حيث ينبغي الوقوف، ويَمضِي حيث تتَّصِلُ المعاني، فإذا سمعتَ الشعرَ وهو يقرَؤُه فهمتَه على ما فيه من غَريب أو غُموض، أو تقديم أو تأخير أو اعتراض، فكأنَّه يُمثِّله لك تمثيلاً لا تحتاجُ بعدَه إلى شرحٍ أو توقيف، وكان في صوت الشيخ مَعنًى عجيبٌ من الثقة والاقتدار، وفي نَبراته حين يُنشِدُ الشعْر معنى الفهْم للَّذي يَتلُوه عليك، فلا تكاد تُخطِئُ المعاني التي ينطَوِي عليها؛ لأنها عندئذٍ ممثَّلة لك في صوته، والصوت الإنساني هو وحدَه القادر على الإبانة عن المعاني الخفيَّة المستكنَّة في طَوايا النُّفوس أو في أحاديث النُّفوس.

 

ورُبَّ رجلٍ أو امرأةٍ تسمَعُ كلامَه أو كلامَها وأنت لا تعرف عن أحدِهما شيئًا، فيُخيَّل إليك وأنت تسمَعُ أنَّك قد نفَذتَ على نَبرات هذا الصوت إلى أعمَقِ الأعماق المدفونة في هذه النَّفس الإنسانيَّة التي تُحادِثُك، وهذا شيءٌ لا يكونُ إلا في ذوي النُّفوس الصادقة الصافية البريئة من حشو الحياة وسَفْسافِها، وهذه النُّفوس وحدَها هي القادرةُ على أنْ تجعَلَ الصوت بمجرَّده لغةً مُبينة عن أغمَضِ المعاني التي تَعجِزُ البشَر عن حمْلها وأدائِها.

 

وأنت محتاجٌ حِين تسمَعُ (لغة الصوت) أنْ تكون يَقِظَ النَّفس، حَيَّ الإحساس، نَفَّاذًا إلى المعاني المتلفِّعَة بالغُموض، حسنَ التيقُّظ للنَّبرات التي تدلُّ على ضمير اللفظ، سريعَ الخاطر في إدراك هذا الموج المتلاحِق من الحرَكات المختلفة، فإذا كان الذي تسمَعُه كلامًا يُتلَى أو يُنشَد كالشعر مثلاً، وكان الذي يُنشِدُه قد عاشَ ساعةً في مَعانِيه حتى تلبَّس بها ونطَق لسانه مُعبِّرًا عن لسانها وعن لسان قائلها الأوَّل، كان عليك أنْ تكون لَيِّنًا، طَيِّعًا، سريعَ التبدُّل، جريءَ النَّفس في غَمرات العَواطف؛ حتى يُتاح لك أنْ تعيشَ أنت نفسُك في هذه المعاني ساعةَ تُتلَى عليك، وعندئذٍ تَغشاك غَمرةٌ لذيذة تدبُّ في غُضون نفسك، فتحسُّ كأنَّك تُبعَثُ بعثًا جديدًا في حياةٍ جديدة حافلة بالصُّور التي قلَّما يُدرِكها العقل إلا مُشوَّهةً مُشيَّأةً[6] مُتَخالِفة التركيب، فلا يَزال يجهدُ في تَلفِيق أجزائها حتى لا يبقى من أصولها الحيَّة الصريحة الصادقة شيءٌ ألبتَّة، فإنِ استطعتَ يومًا أنْ تجدَ في نفسك أنَّك مستطيعٌ أن تكون على هذه الصِّفة، فقد فهمتَ الشعر ونفَذتَ إلى أغْواره، وإنْ عجزت عن بَيان ما فيه.

 

وفي الناس ناسٌ - وقليلٌ ما همْ - قد أجادوا (لغة الصوت) إجادةً بارعةً، وإنْ كانوا في أكثَرِ الأحيان لا يُدرِكون أنهم يُحسِنون منها شيئًا؛ وذلك لطول ما انطوَوْا على أنفُسِهم حتى غمروها في بحر النِّسيان، وربما سمعتَ أحدَهم وهو يتكلَّم فما يكاد ينطق حرفًا أو حرفين حتى تحسَّ كأنَّ كلَّ معاني نفسه تنسربُ في نفسك واضحةً بيِّنَة، وأنَّك قد عرفتَ منه ما يَكاد يُخفِيه عن الناس جميعًا؛ لأنَّه مُتكبِّر أو قانط أو هيَّاب جَزُوع، وهذا الضَّرب من الناس هم أشدُّ خلْق الله حِرْصًا على إخفاء آلامهم، وأبعَدُهم رغبةً في الاستِمتاع بالعَذاب الذي يُقاسُونَه؛ لأنهم يظنُّون أنهم بذلك قد حازوا النَّصر على آلامهم، وعلى الناس أيضًا؛ إذ استطاعوا أنْ يُواروا عنهم خبءَ ما في نُفوسهم الحزينة المعذَّبة.

 

لما سمعتُ الشيخ - رحمه الله - يُنشِدُ تلك الأبيات، تمثَّلتْ لعيني تلك المأساةُ الخالدة بين الرجل الصادق والمرأة التي أحبَّها، وكانت تطمَعُ أنْ يكون لها كما خيَّلَتْ لها أوهامُها، وأنْ يأتيها بتحقيق أحْلامها - أي: أحلام حوَّاءَ، منذُ كانت حوَّاءُ على اختلاف العُصور وتبايُن الحضارات.

 

فهذا أعرابيٌّ محبٌّ لصاحبته (أميمة) التي ذكَرَها في شِعره، فدارت به الأيَّام في فَيافِي الحياة مُلتَمِسًا ما يُحقِّق به أماني هذه المرأة المحبوبة، ثم عاد إليها وقد أذابَتِ البِيدُ منه ما أذابَتْ بظمَئِها وشمسِها وجُوعِها ومَخاوِفها، فلمَّا رأَتْه شَاحِبًا مَهزُولاً رَثًّا أسوأ حالاً ممَّا عهدَتْه، أنكرَتْه وقد أثبتَتْه معرفةً، فجُنَّ جُنونها؛ لأنها محبةٌ قد أخطَأتْ في الرجل الذي تحبُّ كُلَّ ما كانت تُؤمِّلُه، وخانها ما كانت تتَمثَّله في أحلامها من صحَّةٍ وشَباب وأناقةٍ وجمال، وما أسرَعَ ما تتنكَّر المرأة إذا خاب ظنُّها، وتبدَّدت أحلامُها، وفاجأتها الحقيقةُ العارية بالشيء الذي يُخالِفُ ما كانت تتَوهَّم!

 

كانت المفاجأة صارخةً في نفس أميمة، فلم تلبثْ أنْ غلبَتْها تلك الطبيعة المتقلِّبة الغَدَّارة التي طالَ عَهْدُ المرأة بها، فأظهرت كأنها لا تَعرِفُه ولم تلقَه ساعةً من دَهْرٍ، وجرى على لِسانها ذلك الحديث الذي يَروِيهِ لنا المحبُّ، فقالت: مِن أيِّ الناس أنت؟ ولم تَقِفْ عند هذا، فأبدت الفزَع منه؛ لئلاَّ يخونها ما في حَنايا ضُلوعها فيظهر على لِسانها، فعادَتْ تقول: ومَن تكُنْ؟ ولكنْ أنَّى للمرأة الضَّعيفة التي زَلزَلتِ المفاجأة بُنيانَها أنْ تكتُم حقيقةَ نفسِها؟ لقد كانت منذُ هُنَيْهَةٍ تسأَلُه سُؤالَ الجاهل: مَن هو؟ ومَن يكون؟ فإذا بها تَنهارُ من شِدَّةِ ما تُعانِي من اهتزاز كيانها، فتقولُ له مَقالةَ الناقد الساخِر، محاولةً أنْ تُبدِي عن احتِقارها وازدِرائها لما ترَى، فزَوَتْ عنه وجهَها وهي تقولُ: لو كنت رَاعِيَ إبل لكُنت خليقًا أنْ تُنكِر النُّفوسُ والأعْيُن ما ترى من حَقارتك وبَذاذتك[7]، فكيف ترجو أيُّها المحب المغرور أنْ تكون حَسَنًا في عين مَن تحبُّ، وأنْ تكون زينًا لامرأة أحبَّتْك؟ وهكذا المرأة - إلا مَن عصَم الله...

 

فَهِمَ الشاعرُ المحبُّ مَرمَى كلامِها، فأنف لنفسه؛ فانطَلَق يسخَرُ منها بعد أنْ تَكشَّف له ضميرُ المرأة الغادرة، فقال لها: ليس الشحوب على الفتى بعارٍ، ولا خير الرجال سمينها، وإذا كان شُحوبي قد ساءَكِ وآذاكِ حتى أنكَرتِ منِّي ما تَعرِفين، فنعمْ ولك العُتْبى عليَّ، عليك بِمَن يزينُك، اطلُبي لنفسك راعي غنمٍ قد اطمأنَّت به وبها الحياةُ، فعاشَ خافِضًا وادعًا لا هَمَّ له إلا بطنه، حتى امتلأ وتضلَّع وغَدا سمينًا بَضًّا جميلاً كأحسن ما تأمُلين، فأنتنَّ أيَّتها النسوة إنما تحببن من الرجال الزينة وحدَها، كأنَّكنَّ إنما تتَّخِذن الرجال حُلِيًّا لا أصحابًا ولا أزواجًا!

 

وهكذا المرأةُ، هي لضَعفِها تُؤثِر لحياتها كلَّ ظاهرٍ يدلُّ على القوَّة؛ فهي تُؤثِر البدنَ القويَّ على البدن الضعيف، وتُؤثِر اليُسر على الخصاصة، وتُؤثِر القَناعة على الطُّموح، وإنْ كان قلبها يُؤثِرُ بالحب ذلك الضعيف الفقير الطَّمَّاح الذي أضرَّ به الكَدْحُ، ولكنَّ قلب المرأة هو آخِر ما تهتمُّ له إذا جاءَها بِمَنْ لا ترضاه لحياتها؛ فالمرأة مفتونةٌ بكلِّ ما يدلُّ على القوَّة الظاهرة، ولا تكاد تُبالِي شيئًا بالقوَّة المستكنَّة كالعلم والعقل والجهاد والصبر؛ لأنها تريدُ أنْ تحيا حياةً مطمئنَّة محفوفة بما يحسُدها عليه النِّساء سِواها، لا أنْ تحيا مجاهدةً في عَذاب حبيبٍ مجاهدٍ.

 

ومنذُ سمعتُ الشيخ يُنشِد تلك الأبيات، وقفتُ على كلمة في هذا الشعر لا أزال أعجب لها، وهي: (أبكارُ الهموم وعُونُها)، أبكار الهموم! يا لها من كلمةٍ عبقريَّة! إنَّ مزيَّة هؤلاء الأعراب البُدَاةِ على سائر مَن نطَق بالعربيَّة هي هذه الجرأة العَجيبة التي تنقضُّ على اللغة فتنفضُها نفضًا، وتختار من ألفاظها كلمةً تضَعُها حيث تَشاء، فلا تَراها تقلق في مَكانها أو تضطرب، وهم بذلك يختَصِرون المعاني كلَّها في كلمةٍ واحدة يُخبِّئون فيها أحلامهم وخَيالهم وأحاسيسهم وأسرار قُلوبهم، كما خبَّأ هذا الأعرابيُّ كلَّ ما كان في نفسه في (أبكار)، ودَلَّ بها على المعاني التي كانت تَضطَرِمُ في قلبه حتى أضنَتْه ومسَحتْ وجهه بالشُّحوب، وعرقت لحمه بالهزال، وصيَّرَتْه إنسانًا مُنكرًا في عين مَن يُحبُّ.

 

فهذا الأعرابيُّ الجريء، والمحبُّ المزدَرَى، والساخِر المستخفُّ عندئذٍ بالناس وبالنساء وبالحياة - قد أراد أن يُعْلِم (أميمته) الباغية أنها إذا كانت تُؤثِرُ عليه امرأً غضًّا ناضرًا ناعمًا لم تُؤرِّقه همومُ النَّفس، ولم يضرَّ به الكَدْحُ في بوادي الأحلام والآلام والآمال، فإنَّه غنيٌّ عنها وعن سائر نساء العالمين، وأنَّ أمثالها لسنَ له بهمٍّ، وأنَّ له من حاجات نفسِه وهمومِها (أبكارًا) كأبكار النساء و(عُونًا) كعُونِها، فهو راضٍ بها وبما يَلقَى في سبيلها من أَرَقٍ وسُهادٍ.

 

وأراد أنْ يُعلِمَها أنَّه لا يأسى على ما فاتَه من بِكْرٍ ولا عَوانٍ، فإنَّ للنَّفس الشاعرة همومًا (أبكارًا) لم تمسَسْها يدٌ ولا فكرٌ ولا حُلُمٌ، تجدُ النَّفس المحبَّة فيها ما يجدُ المحبُّ في العذراء الحييَّة العصيَّة من فتنةٍ وجمال ونَضرة وشَباب، ولا يَزال يُداوِرها ويُحاوِرُها ويَشقى بالسَّعي في طِلابها شَقاءً لذيذًا له في القلب نَشوة أو سُعار، وهي (أبكار) لا تزال عذراء على وجه الدهر لا تغيِّر منها الأيام شيئًا، ولا تُنيل الطالبَ المحبَّ إلا مَتاع الحبِّ المجرَّد من شَهوات الأبدان، بل هي تغتذي بالأبدان فتُضنِيها وتنهكها لتَبقَى هي أبدًا أبكارًا.

 

وللنفس أيضًا هموم (عُون) قد أصاب الناسُ منها ما أصابوا، ولكنْ بقيت منها للنُّفوس الشاعرة بقيَّةٌ فاتنة بما فيها من دَلالٍ وكِبرياء وقُدرة على الامتناع عند الإمكان، ونُبْل في الخُضوع والتسليم عند العَجز، فهي تُداوِرُ صاحبها وتحاورُه حتى تشقيه شَقاءً لذيذًا ثم تُنِيلُه ما يشاءُ حتى يَرضى.

 

ولقد عجبتُ للشيخ يومئذٍ وهو يُكرِّر: "لم تؤرِّقه ليلة - وأنعمَ - أبكارُ الهموم وعُونُها"، فقد كان في صوته ما جعلَنِي أنسَى أنِّي لم أزلْ واقفًا أنصِتُ لدَبِيبِ هذه الحياة في جَوِّ الغُرفة، ثم خرجتُ من عنده ولا يزالُ صَدى صوته يُردِّد في نفسي تلك الكلمات المصوِّرة المبدِعة: (أبكارُ الهموم وعُونُها).



[1] الرسالة، السنة الرابعة عشرة (العدد 696)، نوفمبر 1946، ص1213 - 1215.

[2] نضو أسفار: مهزول قد أذابَتْ لحمَه الأسفار ولوَّحته البيد، يعني بالأول نفسه، وبالثاني بعيره.

[3] الصِّرمة: القطيع من الإبل والغنم.

[4] الثَّلَّة: جماعة الغنم، مُسْلَحِبَّة؛ أي: مُنبطِحة في مَراعيها قد اطمأنَّت شبعًا وريًّا، والمخض: اللبن الذي يُستَهلَك فيه زبدُه فلا يَكاد يخرج منه زبدٌ، وهذا أطيب ألبان الغنم وأمرَؤُها على البدن، والحقين: هو اللبن يُجمَع في السقاء ويصبُّ رائبة على حليبه، فهو غذاء حسن، وذلك كلُّه كنايةٌ عن طِيب مطعم هذا الراعي وحُسن مشرَبِه، فهو في خفض ونعمة.

[5] الضواحي: ما برز من الإنسان كالمنكبين والكتفين، يريدُ: ممتلئ البدن من الراحة والدَّعة وسُكون النفس، والأبكار: جمع بكر، وهي المرأة لم تتزوَّج بعدُ، والعُون: جمع عَوان، وهي المرأة كان لها قبلَ ذلك زوجٌ، أمَّا قوله: "وأنعم" فهي كلمة معترضةٌ أراد بها أنْ قد طالَ على ذلك الراعي ما هو فيه من خفْض ورغَد وراحة ورفاهية حتى ربا وسمن وزاد، فلم يشغَلْه شيء يُضنِيه أو يأكُل من بدنه.

[6] المُشَيَّأ: المختلف الخلق المُخْتَلُّه القَبِيح.

[7] البَذاذة: رَثاثَة الهيئة.





 حفظ بصيغة PDFنسخة ملائمة للطباعة أرسل إلى صديق تعليقات الزوارأضف تعليقكمتابعة التعليقات
شارك وانشر

مقالات ذات صلة

  • عين على الذكرى (قصيدة)
  • ذكرى (قصة)
  • كلمة عن الذكر
  • الذكرى الخامسة
  • من فضائل الذكر وفوائده
  • معنى الذكر وحقيقته وفضائله
  • عبادة الذكر وعظمة الأجر
  • فضل حلق الذكر
  • خطبة الذكر
  • الذكر بعد الوتر

مختارات من الشبكة

  • ذكريات شموع الروضة (7) ذكرياتي مع محمد العبدالله الراشد وأبيه رحمهما الله (PDF)(كتاب - موقع د. صغير بن محمد الصغير)
  • الذكرى تنفع المؤمنين (خطبة)(مقالة - آفاق الشريعة)
  • خطبة "وذكر فإن الذكرى تنفع المؤمنين"(محاضرة - مكتبة الألوكة)
  • { فذكر إن نفعت الذكرى }(مقالة - آفاق الشريعة)
  • كلمة تذكر أو الذكرى.. تأملات(مقالة - حضارة الكلمة)
  • مركز يقيم ندوة عن دور المرأة في الإسلام بمناسبة الذكرى العاشرة لتأسيسه(مقالة - المسلمون في العالم)
  • الذكرى الجميلة(مقالة - مكتبة الألوكة)
  • الذكرى بجملة من الوصايا للعواد والمرضى (PDF)(كتاب - مكتبة الألوكة)
  • ‏{وذكر فإن الذكرى تنفع المؤمنين} ومضامينها ‏التربوية(مقالة - آفاق الشريعة)
  • صناعة الذكرى(مقالة - مجتمع وإصلاح)

 


تعليقات الزوار
2- من أروع ما قرأت
رامي سليمان - مصر 22-11-2018 08:13 AM

توضيح شاف للمعاني والمقاصد
زادكم الله من العلم وبارك وتقبل العمل

1- بارك الله فيك
Jumana - Jordan 07-11-2014 11:21 AM

غفر الله لوالديك و لجميع المسلمين, ما أجمل معانيها وأجزلها.
بارك الله فيك

1 

أضف تعليقك:
الاسم  
البريد الإلكتروني (لن يتم عرضه للزوار)
الدولة
عنوان التعليق
نص التعليق

رجاء، اكتب كلمة : تعليق في المربع التالي

مرحباً بالضيف
الألوكة تقترب منك أكثر!
سجل الآن في شبكة الألوكة للتمتع بخدمات مميزة.
*

*

نسيت كلمة المرور؟
 
تعرّف أكثر على مزايا العضوية وتذكر أن جميع خدماتنا المميزة مجانية! سجل الآن.
شارك معنا
في نشر مشاركتك
في نشر الألوكة
سجل بريدك
  • بنر
  • بنر
كُتَّاب الألوكة
  • الذكاء الاصطناعي تحت مجهر الدين والأخلاق في كلية العلوم الإسلامية بالبوسنة
  • مسابقة للأذان في منطقة أوليانوفسك بمشاركة شباب المسلمين
  • مركز إسلامي شامل على مشارف التنفيذ في بيتسفيلد بعد سنوات من التخطيط
  • مئات الزوار يشاركون في يوم المسجد المفتوح في نابرفيل
  • مشروع إسلامي ضخم بمقاطعة دوفين يقترب من الموافقة الرسمية
  • ختام ناجح للمسابقة الإسلامية السنوية للطلاب في ألبانيا
  • ندوة تثقيفية في مدينة تيرانا تجهز الحجاج لأداء مناسك الحج
  • مسجد كندي يقترب من نيل الاعتراف به موقعا تراثيا في أوتاوا

  • بنر
  • بنر

تابعونا على
 
حقوق النشر محفوظة © 1446هـ / 2025م لموقع الألوكة
آخر تحديث للشبكة بتاريخ : 1/12/1446هـ - الساعة: 22:18
أضف محرك بحث الألوكة إلى متصفح الويب