• الصفحة الرئيسيةخريطة الموقعRSS
  • الصفحة الرئيسية
  • سجل الزوار
  • وثيقة الموقع
  • اتصل بنا
English Alukah شبكة الألوكة شبكة إسلامية وفكرية وثقافية شاملة تحت إشراف الدكتور سعد بن عبد الله الحميد
 
الدكتور سعد بن عبد الله الحميد  إشراف  الدكتور خالد بن عبد الرحمن الجريسي
  • الصفحة الرئيسية
  • موقع آفاق الشريعة
  • موقع ثقافة ومعرفة
  • موقع مجتمع وإصلاح
  • موقع حضارة الكلمة
  • موقع الاستشارات
  • موقع المسلمون في العالم
  • موقع المواقع الشخصية
  • موقع مكتبة الألوكة
  • موقع المكتبة الناطقة
  • موقع الإصدارات والمسابقات
  • موقع المترجمات
 كل الأقسام | أسرة   تربية   روافد   من ثمرات المواقع  
اضغط على زر آخر الإضافات لغلق أو فتح النافذة اضغط على زر آخر الإضافات لغلق أو فتح النافذة
  •  
    القيادة في عيون الراشدين... أخلاقيات تصنع
    د. مصطفى إسماعيل عبدالجواد
  •  
    حقوق الأولاد (3)
    د. أمير بن محمد المدري
  •  
    جرعات سعادة يومية: دفتر السعادة
    سمر سمير
  •  
    التاءات الثمانية
    د. خميس عبدالهادي هدية الدروقي
  •  
    المحطة الثانية عشرة: الشجاعة
    أسامة سيد محمد زكي
  •  
    البطالة النفسية: الوجه الخفي للتشوش الداخلي في ...
    محمود مصطفى الحاج
  •  
    حقوق الأولاد (2)
    د. أمير بن محمد المدري
  •  
    مقومات نجاح الاستقرار الأسري
    د. صلاح بن محمد الشيخ
  •  
    تطوير المهارات الشخصية في ضوء الشريعة الإسلامية
    يوسف بن طه السعيد
  •  
    حقوق الأولاد (1)
    د. أمير بن محمد المدري
  •  
    المحطة الحادية عشرة: المبادرة
    أسامة سيد محمد زكي
  •  
    تحليل محتوى المواقع الإلكترونية لحوادث انتشار ...
    عباس سبتي
  •  
    طلب طلاق وشكوى عجيبة
    الداعية عبدالعزيز بن صالح الكنهل
  •  
    المحطة العاشرة: مقومات الإيجابية
    أسامة سيد محمد زكي
  •  
    أنماط التعليم الإلكتروني من حيث التدرج في ...
    د. هيثم بن عبدالمنعم بن الغريب صقر
  •  
    وصية امرأة لابنتها في زفافها
    الشيخ محمد جميل زينو
شبكة الألوكة / حضارة الكلمة / اللغة .. والقلم / الوعي اللغوي
علامة باركود

الشاهد الشعري في مبحثي الفصاحة والبلاغة (3/3)

د. عيد محمد شبايك

مقالات متعلقة

تاريخ الإضافة: 9/3/2010 ميلادي - 23/3/1431 هجري

الزيارات: 62912

 حفظ بصيغة PDFنسخة ملائمة للطباعة أرسل إلى صديق تعليقات الزوارأضف تعليقكمتابعة التعليقات
النص الكامل  تكبير الخط الحجم الأصلي تصغير الخط
شارك وانشر

المبحث الثاني
البلاغة

البلاغة: الوصول والانتهاء، يقال: بلغ الشيء يبلغ بلوغًا وبلاغًا: وصل وانتهى، والبلاغة: الفصاحة، ورجل بليغ: حسن الكلام فصيحُه، يبلغ بعبارة لسانه كُنْهَ ما في قلبه، وقد بلغ بلاغة: صار بليغًا[1].

إذًا تتبلوَر المعاني اللغوية للبلاغة في البلوغ والإبلاغ بمعنى بلوغ الصنعة الكلامية درجة النضج والجودة والحسن التامِّ، بتخيُّر الفصيح من الألفاظ، وبالاجتهاد في تهذيب الكلام؛ من أجل تحقيق التواصُل مع المتلقِّي، والنفاذ إلى قلبه، بل الانتهاء إليه، بعد إمعان النظر في الكلم، وإدراك ما فيه من محاسن.

وهي في اصطلاح البلاغيين تختلف باختلاف موصوفها، وموصوفُها إمَّا الكلام، وإمَّا المتكلِّم، يقال: هذا كلام بليغ، وهذا متكلِّم بليغ، ولا تُوصَف بها الكلمة، فلا يُقَال: كلمة بليغة؛ لأن الكلمة المفردة لا تكون معنى كاملاً يمكن تبليغه، فلا تُوصَف بالبلاغة[2]، وإنما يُقال: كلمة بليغة، إذا أُرِيد بالكلمة القصيدة أو الخطبة، ويصحُّ أن نطلق الكلمة على القصيدة فنقول: كلمة الحُوَيدرة، أو كلمة البحتري.

وقد استحسن الجاحظ (ت255هـ) قولَ بعضهم في تحديد مفهوم البلاغة: "لا يكون الكلام يستحقُّ اسم البلاغة حتى يسابق معناه لفظه، ولفظه معناه، فلا يكون لفظه إلى سمعك أسبق من معناه إلى قلبك"[3].

ونلحظ اشتمال هذا التعريف على ثلاث ركائز جمالية: الإيجاز، والتوازن بين الظاهر والباطن، وبروز فكرة السياق، فالإيجاز بنية حسيَّة ظاهرة، تحمِل بين طيَّاتها كثيرًا من المعاني العقلية الخفية، كما أنه سِمَة جمالية تتوِّج الكلام البليغ، والتوازن بين الظاهر والباطن سِمَة جمالية تريك التوحُّد بين الشعور واللاشعور، وبروز فكرة السياق بيَّنها الجاحظ بأن: "السياق نشاط يطَّرد نحو كمال البنية الشعرية يجدل بين عناصر التشكيل اللغوي وعناصر الموقف الفكري الاجتماعي"[4].

ولا يبعد عن هذا التفكيرِ تعريفُ أبي هلال (ت395هـ) للبلاغة بقوله: "البلاغة كلُّ ما تبلغ به قلب السامع فتمكِّنه في نفسه كتمكُّنه في نفسك مع صورة مقبولة ومعرض حسن"[5].

نلحظ في هذا التعريف أن أبا هلال أشار إلى جمال النص ودوره في التأثير كما أنه لم يُهمِل دور المتلقِّي الذي يحدِّد مستوى "نجاعة الكلام البليغ وعملية التواصُل الأدبي"[6]، ولا دور المبدع؛ لأنه لا يؤثِّر في المتلقِّي إلا إذا كان صادقًا ومتمكِّنًا من فنِّه.

ولعلَّ موقف العسكري في احتمال إطلاق الفصاحة والبلاغة على ما جاد نظمه وحَسُن هو ممَّا دفع عبدالقاهر (ت471هـ) إلى عدم التفرِقة بين البلاغة والفصاحة كما فعل ابن سنان[7]، بل يضيف إليهما البراعة والبيان: "وكل ما شاكل ذلك ممَّا يعبَّر به عن فضل بعض القائلين على بعض، من حيث نطقوا وتكلَّموا وأخبروا السامعين عن الأغراض والمقاصد، وراموا أن يُعلِمُوهم ما في نفوسهم، ويكشفوا لهم عن ضمائر قلوبهم"[8].

ونلحظ في هذا النص اهتمام عبدالقاهر بدور القائلين/ المبدِعين، ولم يغفل عن دور السامعين/ المتلقِّين، ودور كلٍّ منهم في إصدار وتلقِّي الرسالة/ الخطاب لتحقيق الغرض، والغرض هو اللذَّة التي يشعر بها المتلقِّي حينما يفهم النصَّ ويتذوَّقه، وتتحقَّق له فائدة جديدة.

ونستطيع القول بأن البلاغة عمل المبدِع على تحقيق الفائدة لدى المتلقِّي والتأثير فيه بواسطة خطاب منطوق أو مكتوب، عبر وسيلة اتِّصال مسموعة أو مقروءة في موقف أو مقام معيَّن، فإذا جاء الكلام مطابقًا لمقتضى الحال تحقَّقت البلاغة، وقد ذكرنا أن البلاغة وصفٌ للكلام وللمتكلم، وفيما يلي بيان ذلك:
بلاغة الكلام:
عرَّف البلاغيون بلاغة الكلام بأنها: "مطابقة الكلام لمقتضى الحال"، والحال هو الموقف بملابساته أو الظروف القائمة، أو بمعنى أوسع المقام الداعي لإصدار الخطاب، ومقتضى الحال ما يجب أن يكون عليه الخطاب من بيان الحال والتعبير عنها، مع مراعاة الملابسات المحيطة بالموقف، فإذا أصدر المتكلمُ الخطابَ على ما يجب أن يكون من مراعاة الحال - حال المخاطب وحال المتكلم - والملابسات القائمة، وحقَّق الفائدة لدى المتلقِّي - كان مطابقًا لمقتضى الحال.

وممَّا أورده الجاحظ في شأن مقتضى الحال قولُ الإمام إبراهيم بن محمد: "يكفي من حظِّ البلاغة ألاَّ يُؤتى السامع من سوء إفهام الناطق، ولا يُؤتَى الناطق من سوء فهم السامع "وعلَّق على هذا بقوله: "أمَّا أنا فأستحسن هذا القول جدًّا"[9].

يهدف الجاحظ من قوله هذا إلى أن يكون الناطق أو المتكلِّم فاهمًا لمعنى ما يقول ويؤدِّيه بعبارة سهلة تقرِّبه من المتلقِّي مع مراعاة طبقته، فمدار الأمر لإفهام كلِّ قومٍ بطاقتهم، والحمل عليهم على أقدار منازلهم، وألا يهمل أدوات التوصيل من نبر وتنغيم وإشارة ومراعاة مواضع الفصل والوصل، وكذلك على المتلقِّي أن يكون منتبهًا؛ حتى لا يختلط عليه أمرٌ من الأمور "فإنما مدار الشرف على الصواب، وإحراز المنفعة مع موافقة الحال، وما يجب لكلِّ مقام من المقال"[10].

فحين يكون المقام داعيًا إلى التنويه برجل تتحدَّث عنه؛ أي: حين تنفعل نفسك بمآثره وأخلاقه، تقول: هو الرجل، فتذكره معرفًا بهذه الأداة التي تُكسِبه في سياق العناية به وصف الرجولة الصادقة الكاملة، وكذلك توهم أن الرجولة بكلِّ أوصافها، تتحقَّق فيه ويشتهر بها، حينئذ نقول: إن التعريف جاء مطابقًا لمقتضى الحال؛ أي: مقتضى المقام؛ لأن المقام يتطلَّب التنويه والإشادة لما هتفت دواعي النفس بذلك، فوقع الكلام وفيه خصوصية تُعِين على إفادة هذا المعني، ولا ننسى دور التنغيم في تحديد الدلالة، فأنت في قولك: (هو الرجل) تزيد من قوة اللفظ الثاني وتركز النبر عليه لتلفت المتلقِّي بهذا النبر والتنغيم إلى الدلالة التي تعنيها[11]، وهناك عوامل أخرى غير النبر والتنغيم تقع على عاتق المتكلِّم أهمها القرائن المحيطة به والمؤثِّرة فيه عند الكلام، وهذه القرائن قد تكمُن في قدراته الخاصَّة التي يتمتَّع بها؛ كطريقته في النطق، أو قوَّة شخصيته، أو مكانته بين سامعيه، ومدى صدقه مع نفسه، كما قد تتعلَّق هذه القرائن بمقتضيات الأحوال أو المقام والمقال وهذا لا يخصُّ الفصاحة وحدها، وإنما يتعلَّق بالبلاغة أيضًا[12].

المطابقة ومقتضى الحال:
والذي أريد أن أقوله وألفت إليه: إن المطابقة تعني - أولاً - المطابقة لحال النفس والشعور، ولذلك يكون التهويل والكذب علي النفس مخالفًا للمطابقة وخارجًا من حدِّ البلاغة "المطابقة إذًا تعني الصدق والوفاء بما في النفس"[13]، وهذا مناط التأثير؛ لأن المتكلِّم لا يؤثِّر في المتلقِّي إلاَّ إذا كان صادقًا ومتمكِّنًا من صناعته، فالصورة المقبولة والمعرض الحسن مداخل للجمال، والجمال في تعاضد الإفادة والتأثير.

وقد بيَّن عبدالقاهر طرفي تلك المطابقة البلاغية في أثناء عرضه لنظرية النظم، فهو يقول مبيِّنًا كيف تحدث المزية في معاني النحو: "اعلم أن ليست المزية بواجبة لها في أنفسها، ومن حيث هي على الإطلاق، ولكن تعرض بحسب المعاني والأغراض التي يُوضَع لها الكلام، ثم يحسب موقع بعضها من بعض، واستعمال بعضها مع بعض.

تفسير هذا: أنه ليس إذا راقك التنكير في سؤدد وفي دهر من قوله: "فلو إذ نبا بك دهر"، فإنه يجب أن يروقك أبدًا وفي كلِّ شيء... بل ليس من فضل ومزيَّة إلا بحسب الموضع، ويحسب المعنى الذي تريد والغرض الذي تؤمُّ..."[14].

وقد أخذ عبدالقاهر يطبِّق نظرته تلك على نصوصٍ من الشعر، منها قول الفرزدق:
وَمَا حَمَلَتْ أُمُّ امْرِئٍ فِي ضُلُوعِهَا        أَعَقَّ  مِنَ  الْجَانِي  عَلَيْهَا  هِجَائِيَا
فإنك إذا نظرت لم تشكَّ في أن الأمر والأساس هو قوله: "وما حملت أم امرئ"، وأن ما جاوَز ذلك من الكلمات إلى آخر البيت مستند إليه ومبني عليه[15].

ولكن هذا الأصل مع ضرورته - أو رغم ضرورته - لا يمثِّل المعنى أو الغرض الخاص الذي أراده الفرزدق - في نظر عبدالقاهر - والذي من أجله كان للبيت مزيَّته وجماله الفني، فغرض الفرزدق هو تحذير المتطاوِلين عليه من سلاطة لسانه وقوة شاعريته في الهجاء، وهذا الغرض هو ما يلائمه البيت ويجسِّده برمَّته، بحيث يكون لكلِّ لفظة في موقعها وظيفتُها الخاصة في تأدية ذلك الغرض؛ أي: إن لكل إضافة أضافها الشاعر على طرفي الإسناد دورها الخاص في تشكيل ذلك الغرض الخاص الذي لا يُنسَب إلا إليه - هذا ما يقرره عبدالقاهر حيث يقول: فلولا أن معنى الجملة يصير بالبناء عليها شيئًا غير الذي كان، ويتغيَّر في ذاته، لكان مُحالاً أن يكون البيت بحيث تراه من الحسن والمزيَّة، وأن يكون معناه خاصًّا بالفرزدق، وأن يُقضَى له بالسبق إليه؛ إذ ليس في الجملة التي بُنِي عليها ما يُوجِب شيئًا من ذلك، والنكتة التي يجب أن تُراعَى في هذا أنه لا تتبيَّن لك صورة المعنى الذي هو معنى الفرزدق إلا عند آخر حرف من البيت، حتى إن قطعت عنه قوله: (هجائيَا)، بل (الياء) التي هي ضمير الفرزدق، لم يكن الذي تعقله ممَّا أراده الفرزدق بسبيل؛ لأن غرضه تهويلُ أمرِ هجائه، والتحذير منه، وأن مَن عرَّض أمه له كان قد عرَّضها لأعظم ما يكون من الشر[16].

المطابقة إذًا في تصوُّر عبدالقاهر هي بين الغرض الخاص أو المعنى الفني الذي لا يُنسَب إلاَّ إلى صاحبه من جهة، والصورة اللغوية الخاصَّة التي سِيقَت من أجله وتشكَّلت في ضوئه من جهة أخرى، وتصوُّر المطابقة على هذا النحو واكَبَه أو ترتَّب عليه بعبارة أدق وعي عبدالقاهر بأن تذوُّق المعاني والأغراض في النصوص لا يتحقَّق إلا عن طريق التأمُّل في البناء اللغوي الخاص في تلك النصوص.

وقد قال الزمخشري في دعم تلك النظرة: "إذا كان الكلام منصبًّا إلى غرض من الأغراض وجُعِل سياقه له وتوجَّه إليه، كان ما سواه مرفوض مطَّرح..."[17]، فالعلاقة قائمة بين بنية النص كما قالها المبدِع وغرضه منها.

وفي "الكشاف" أمثلة كثيرة تتشكَّل في سياق لغوي يتناسَب فيه النص مع هدفه في معرض من التناسب والانسجام؛ حيث يكون الكلام فصيحًا مترابطًا متماسكًا متلاحمًا بتخيُّر الألفاظ وحُسْنِ تجاورها؛ ففي قوله - تعالى -: {أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صَافَّاتٍ} [الملك: 19]، يقول الزمخشري: "فإن قلت: لِمَ قيل: (يقبضن) ولم يقل: (وقابضات)؟ قلت: لأن الأصل في الطيران هو صفُّ الأجنحة؛ لأن الطيران في الهواء كالسباحة في الماء، والأصل في السباحة مدُّ الأطراف وبسطُها، وأمَّا القبض فطارئ على البسط للاستظهار به على التحرُّك، فجيء بما هو طارئ غير أصلٍ بلفظ الفعل على معنى: أنهن صافات، ويكون منهن القبض تارة بعد تارة كما يكون من السابح[18].

وفي قوله - تعالى -: {وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَسُقْنَاهُ} [فاطر: 9]، إن قلت: لِمَ جاء (فتثير) على المضارع دون ما قبله وما بعده؟ قلت: ليحكي الحال التي تقع فيها إثارة الرياح السحاب وتستحضر تلك الصور البديعية الدالَّة على القدرة الربانية، وهكذا يفعلون بفعلٍ فيه نوع تمييز وخصوصية بحال تستغرب أو تهمُّ المخاطب أو غير ذلك"[19].

فالزمخشري دومًا يلتمس الأسباب والعلل لتجاوز النسق القرآني للأسلوب العادي أو المألوف، ويوضح قيمة ذلك بلاغيًّا وجماليًّا؛ لذلك يأخذ بنا الزمخشري إلى قضية الترتيب في الكلام، والأصل فيها، وقيمة تقديم ما حقه التأخير؛ ففي قوله - تعالى -: {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ} [النساء: 12]، يقول الزمخشري: "فإن قلت: لِمَ قُدِّمت الوصية على الدَّين، والدَّين مقدَّم عليها في الشريعة؟ قلت: لمَّا كانت الوصية مشبِهة للميراث في كونها مأخوذةً من غير عِوَضٍ كان إخراجها مما يشقُّ على الورثة، ويتعاظمهم، ولا تطيب أنفسهم بها، فكان أداؤها مظنَّة للتفريط بخلاف الدَّين، فإن نفوسهم مطمئنَّة إلى أدائه، فلذلك جيء بالكلمة أو للتسوية بينهما في الوجوب"[20].

وهنا يضيء الزمخشري مفهومًا دقيقًا لأجمل أنواع المطابقة، مطابقة الكلام لمقتضى الحال، حيث يصبح الكلام نقطة التقاء فاعلة بين المتكلِّم والمتلقِّي، كما أن فيه بيانًا بأن البلاغة تتدرَّج من الأقل إلى الأكثر، وأنها تتدرَّج من الأدنى وتتطوَّر إلى الأعلى.

ونتوقَّف مع السكاكي (ت626هـ) لنرى موقفه ونظرته لمقتضى الحال، يقول السكاكي: "إن كان مقتضى الحال بخلاف ذلك فحُسْنُ الكلام تحلِّيه بشيء من ذلك بحسب المقتضى ضعفًا وقوَّة، وإن كان مقتضى الحال طي ذكر المسند إليه فحُسْنُ الكلام تركه، وإن كان المقتضى إثباته على وجهٍ من الوجوه المذكورة فحُسْنُ الكلام وروده على الاعتبار المناسب، وكذا إذا كان المقتضى ترك المسند فحُسْنُ الكلام وروده عاريًا عن ذكره..."[21].

فنظرة السكاكي إلى المطابقة كما تتَّضح في هذا النص هي نظرة ضيِّقة يعوزها الشمول؛ إذ إنها لا تتجاوَز نطاق الكلمة أو الظاهرة التعبيرية الواحدة من تأكيد أو إطلاق أو تعريف أو ما إلى ذلك، الأمر الذي أدَّى إلى تفتيت البحث البلاغي، وانحداره إلى هوَّة الجفاف والجمود[22].

ثم يُورِد - على سبيل المثال - في ظاهرة التنكير بيت ابن أبي السمط:
لَهُ  حَاجِبٌ  عَنْ  كُلِّ   أَمْرٍ   يَشِينُهُ        وَلَيْسَ لَهُ عَنْ طَالِبِ الْعُرْفِ حَاجِبُ
ثم يقول: "كيف تجد الفهم والذوق يقتضيان كمال ارتفاع شأن حاجب الأول وكمال انحطاط حاجب الثاني..."[23].

وقد غفل السكاكي عن أن مجيء كلمة (حاجب) الأولى مثبتة في جانب الشين، ومجيء الثانية منفيَّة في جانب طلب العرف، ثم سَوْق البيت برمَّته في (مقام) المدح - كلُّ أولئك أدلَّة وقرائن لا يمكن إغفالها في استنباط ما يقرِّره من ارتفاع شأن الحاجب أو انحطاطه.

وقد واكَب تلك النظرة الجزئية في مباحث علم المعاني لدى السكاكي نزعته إلى التقنين، فقد راح يقنِّن ظواهر الأداء؛ من ذكر أو حذف، أو تعريف أو تنكير، أو ما إلى ذلك، تارةً بحسب الأغراض والمعاني، وتارة أخرى بحسب الأحوال أو المقامات.

يقول السكاكي: "إذا ألقى - المتكلم - الجملة الخبرية إلى مَن هو خالي الذهن عمَّا يلقى إليه ليحضر طرفاه عنده وينتقش في ذهنه استناد أحدهما إلى الآخر ثبوتًا أو انتفاء، كفى في ذلك الانتقاش حكمه... فتستغني الجملة عن مؤكِّدات الحكم، وسُمِّي هذا النوع من الخبر ابتدائيًّا، وإذا ألقاها إلى طالبٍ لها متحيِّر طرفاها عنده دون الاستناد، فهو منه بين بين لينقذه من ورطة الحيرة، استُحسن تقوية المنقذ بإدخال اللام في الجملة أو إن... وسُمِّي هذا النوع من الخبر طلبيًّا، وإذا ألقاها إلى حاكم فيها بخلافه ليردَّه إلى حكم نفسه استوجب حكمه ليترجَّح تأكيدًا بحسب ما أُشرِب المخالف الإنكار في اعتقاده..."[24].

فالسكاكي في هذا النص يقنِّن ظاهرة التأكيد في الجملة الخبرية، ويربط ربطًا محكَمًا بين تدرُّج تلك الظاهرة قوَّة وضعفًا وبين المقامات أو الأحوال التي تتدرَّج على أساسها في نظره.

ومَن يتأمَّل عبارة السكاكي يلحظ أن الحال لم تعد وسيلة من وسائل كشف المعنى، بل أصبحت قوَّة متسلِّطة تُفْرَض على المعنى فتحتويه وتشكِّله تشكيلاً آليًّا، وهذا يمثِّل منحنى خطيرًا في تصوُّر المطابقة في تراثنا البلاغي، فالأساليب الفنيَّة ليست رصدًا مباشرًا للأحوال والمقامات الخارجية، بل هي تصويرٌ لرؤية الأديب الخاصَّة لها، وتجسيدٌ لانفعاله المتميِّز بها، وموقفه المتفرِّد منها، ولولا ذلك لانحدرت تلك الأساليب إلى هوَّة التقرير المباشر الذي يسجِّل الواقع تسجيلاً آليًّا لا فنية فيه.

يقول أحد النقَّاد المعاصرين: "إذا كنَّا سنفهم الواقع على أنه حاضر محدَّد الزمان والمكان ومحدَّد المشكلات والقِيَم والانطباعات، فالأدب ليس تصويرًا له؛ وذلك لأنه يدخل في تشكيل الأدب بالضرورة عواملُ لا صلَة لها بالواقع الذي تصوره، عواملُ تتَّصل برؤية الكاتب المبدِع التي تُستمَدُّ من قِيَم متَّصلة بطرق الإحساس والتفكير والتأمُّل، وكيفية التشكيل، وعوامل تتَّصل بنظام اللغة، وقوَّة الكلام، وأساليب الأداء"[25].

وثمَّة ملاحظة أخرى؛ إن الأحوال التي قنَّن السكاكي ظاهرة التوكيد إزاءها هي أحوال المخاطب فحسب، مهملاً جانب المتكلِّم أو المبدِع، ففي النص الذي نحن بصدده كان خلوُّ ذهن المخاطب من الحكم، أو تردُّده فيه، أو إنكاره له، هي الأحوال التي قنَّن على أساسها ظاهرة التوكيد وجودًا أو عدمًا، وقلَّة أو كثرة، وتلك نظرة قاصرة إلى المطابقة؛ لأن ربط تلك الظاهرة - بالصورة التي حدَّدها السكاكي - بأحوال المخاطب فحسب أمر لا يطَّرد صدقُه في كلِّ الأساليب؛ فقد يؤكَّد الأسلوب الخبري في خطاب غير المنكر، ويُجَرَّد من التوكيد في خطاب المنكر.

فتأكيد الخبر في خطاب غير المنكر نحو قوله - تعالى -: {ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ * ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ} [المؤمنون: 15- 16]، فالمخاطبون لا يُنكرون الموت ولا البعث، وإنما ما يبدو من حالهم، وانصرافهم عن الحق، وما هم فيه من لهو وانشغال عن العمل بالآخرة، صار ذلك منهم بمثابة الإنكار للموت والبعث، لذلك أُلقي إليهم الخبر مؤكَّدًا بـ(إنَّ) و(اللام).

وعلى العكس من ذلك قد يُجَرَّد الخبر من التوكيد في خطاب المنكِر، إنك قد تقف أمام منكرٍ لحقيقةٍ من الحقائق يؤمِن بها كلُّ الناس إلا هو، كحقيقة الإيمان بوجود الله مثلاً، فالناس جميعًا يؤمنون بوجود الله، ومع ذلك ترى هذا الرجل يابس العقل، محدود التفكير، طائش العقيدة، أضلَّته الفلسفات، وهوَتْ به الانحرافات، ويزعم ألاَّ وجود لله.

مثل هذا الجاحد المنكِر، يحتاج في القانون البلاغي - حسب رؤية السكاكي - إلى أن تأتي له بخبرٍ فيه كلُّ أنواع التأكيد، لتزيل إنكاره، وتمحق أوهامه ونُكْرانه، ولكنَّك إذا فعلت ذلك فأنت تقليدي، اتبعت النص، ولم تُعمِل فكرك، وكأنك تابعته في إنكاره، فلا تُعدُّ من المبدِعين.

ولو أردت أن تكون بليغًا مبدِعًا، وجب عليك أن تخاطبه بأسلوب أعلى وأقوى وأعنف؛ لتزيل إنكاره، وتحرفه عن جحوده وطيشه، فقُلْ له بكل بساطة: الله موجود، ثم اسكت.

إنه لو رجع إلى فطرته الأولى، وفكَّر في ذاته وفي وجوده وخلقه، والكون من حوله - لاهتدى إلى الإيمان، ولرجع إلى الحق، ودخل في نطاق الضرب الأوَّل الذي لا يحتاج في إخباره أكثر من خبرٍ ابتدائي خالٍ من أيِّ تأكيد وتوثيق.

إذًا؛ فالمسألة في خروج الكلام عن مقتضى الظاهر راجعة إلى قدرة الأديب المبدِع على مراعاته أحوالَ المخاطَبين والبواعث والمناسبات المحيطة بالموقف، وأن يتخيَّر التعبير الملائم ليُفهِم المتلقِّي، فالعبارة الأدبية عبارة فضفاضة، وروح اللغة من السيولة بحيث لا تنضبط في مقولات "والعرب تتوسَّع في كلامها، وبأيِّ شيء تَفَاهَم الناس فهو بيان، إلا أن بعضه أحسن من بعض"[26].

إن ذلك الإفهام لا يُؤتي ثماره إلا في ضوءٍ من الوعي بالمقام أو الحال الذي تُساق فيه العبارة، فكما أن للمعنى علاقته العضوية بالعبارة التي تجسِّده وتطابقه بألفاظها الخاصة في نسَقِها الخاص، فإن له كذلك علاقته بالمقام الذي هو بمثابة التربة التي يستنبت فيها؛ إذ هو ظروف ومؤثِّرات خارجية تلابس نشأته، ودواعٍ تقتضيه، وهكذا يمكننا تصوُّر المطابقة الفنية لحظة الإبداع، أمَّا مقتضى الحال فهو المعنى أو الغرض الخاص به، أو بلغة معاصرة: التجربة التي تمثِّل رؤية الأديب الخاصَّة لهذا الواقع، تلك التي يخرج التعبير الفني على لسانه مجسِّدًا لها مطابقًا إياها، وفي ضوء هذا التصوُّر فإن تمثُّل المعنى أو مقتضى الحال في التعبير الفني لا يتحقَّق إلا بالنظرة المتأنِّية الواعية التي تحيط بالأحوال التي هي بواعث ومناسبات له من جهة، ثم بالخصائص والظواهر الفنية في ذلك التعبير والتي هي رموز فنية تلبَّس فيها وتشكَّل بها من جهة أخرى.

إن رصد المعنى وفهمه في اللغة التقريرية المجرَّدة أمرٌ لا يحتاج إلى جهد أو عناء؛ لأن هذا المعنى هو الدلالة الظاهرة للعبارة، تلك التي يُستَطاع إدراكها عن طريق العلم بمواضعات اللغة، أمَّا المعنى في اللغة الفنية فهو أمرٌ وراء تلك الدلالة، ومن هنا كانت الحاجة إلى اصطحاب (القرائن) في فهمه وتذوُّقه، سواء أكانت تلك القرائن من داخل البناء اللغوي أم من خارجه، وهذا ما عناه بعض الأصوليين الذين شرطوا لفهم المراد من الكلام إذا لم يكن نصًّا لا يحتمل - أي: لا يكفي فيه مجرَّد المعرفة باللغة - أن تراجع قرائنه، والقرينة في نظرهم "إمَّا لفظ مكشوف، وإمَّا إحالة على دليل العقل، وإمَّا قرائن أحوال من إشارات ورموز وحركات وسوابق ولواحق لا تدخل تحت الحصر والتخمين"[27].

ففي قوله - تعالى - بعد الأمر بكتابة الدين: {فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللهَ رَبَّهُ} [البقرة: 283]، وقوله - تعالى - بعد الأمر بمكاتبة المملوكين: {فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا} [النور: 33]، فالأمر هنا اقتَرَن بقرينة لفظية، وهي تعلُّقه بالشرط، فصَرَفته عن الوجوب[28].

ومن هذه القرائن عند الأصوليين ما يُعرَف في اصطلاحهم بـ(القياس الجلي)، نحو قوله - تعالى -: {فَلاَ تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ} [الإسراء: 23]، فإن عبارته النهي عن التأفُّف، ومناط هذا النهي يُفهَم بمجرَّد فهم اللغة، وهو الأذى، فيدلُّ على النهي عن الضرب، والسكوت عنه أَوْلَى بالنهي من المذكور وهو التأفُّف[29]، فقِيسَ النهي عن سلوكيات العقوق على النهي عن التأفُّف، وبيان ذلك - حسبما يقتضي السياق اللغوي - أن النهي تخطَّى مقتضى الملفوظ اللغوي إلى إنتاج الدلالات المضمنة المُشار إليها، يُضاف إلى ذلك أن النهي عن مجرَّد التأفُّف الملفوظ في الآية، يُنتج دلالة التأكيد على ما هو فوقه من سلوكيات العقوق للوالدين، ومن ثَمَّ نجد دلالة النهي هنا تتجاوَز الحياد في الإبانة عن سلوك يجب البُعد عنه إلى الدلالة على الزجر والترهيب[30].

بلاغة المتكلم:
ونلتقي بالقزويني (ت739هـ) آخِر مَن وقف عند البلاغة من المتأخِّرين وميَّز بين بلاغة الكلام وبلاغة المتكلِّم؛ فبلاغة الكلام: "هي مطابقته لمقتضى الحال مع فصاحته"[31]، وبلاغة المتكلم: "ملَكَة يقتدر بها على تأليف كلام بليغ"[32]، وقد سبَقَه الجاحظ في تعريف بلاغة المتكلم، أن تبلغ بتعبيرك ما تُفهِم به العامة معانيَ الخاصة، فإن استطعتَ ذلك فأنت بليغ[33]، والبليغ مَن كان "لفظه في وزن إشارته، ومعناه في طبقة لفظه"[34].

فأشار بذلك إلى جهد المبدع في صناعته، وإلى علاقة البلاغة بالمتلقِّي، فبلاغة المتكلِّم في تقديم الصياغة في معرض حسن، وإحداث التوازن بين السياق اللغوي والسياق الموقفي، لكن هذا لا يتحقَّق للبليغ إلاَّ بإثارة فاعلية السياق اللغوي؛ إذ ينبغي أن يُمسِك بالمعاني المتعدِّدة للمفردة من أجل "أن يفرض قيمة واحدة بعينها على الكلمة بالرغم من المعاني المتعدِّدة التي في وسعها أن تدلَّ عليها"[35]، ولا يتسنَّى له ذلك إلا بمعونة السياق السببي الذي "يُسهِم من جانب في كثرة المترادفات، وإنشاء ألفاظ جديدة يُلحَظ فيها وجوهٌ مختلفة للتسمية، ومن جانبٍ آخر يُسهِم في تفسير وجود المترادفات في اللغة، من حيث كونها ظاهرة"[36].

ومقتضى الحال مختلف؛ فإن مقامات الكلام متفاوتة "فمقام التنكير يُبايِن مقام التعريف... ومقام التقديم يُبايِن مقام التأخير، ومقام الذكر يُبايِن مقام الحذف... ومقام الإيجاز يُبايِن مقام الإطناب، وكذلك خطاب الذكي يُبايِن خطاب الغبي، وكذا لكلِّ كلمة مع صاحبتها مقام، ولكلِّ حدٍّ ينتهي إليه الكلام مقام، وارتفاع شأن الكلام في باب الحسن والقبول، وانحطاطه في ذلك بحسب مصادفة الكلام لما يليق به، وهو الذي نسمِّيه مقتضى الحال"[37].

وكلُّ حال من هذه تستدعي بالضرورة بناءً لغويًّا معينًا وصياغة فنية معيَّنة، فكلُّ اعتبار له ناتج صياغي يتوافَق معه، ومن هنا لا يمكن تصوُّر وحدة الناتج الصياغي مع اختلاف المقتضيات، وهذا معنى قولهم: "لكل مقام مقال"[38]، ومعنى هذا: أن البلاغيين لم يحصروا المقام في الإطار الخارجي المصاحب، بل إنهم تحرَّكوا به إلى داخل التركيب عن طريق مقولتهم الدقيقة: "إن لكل كلمة مع صاحبتها مقام"، وهذه المقولة تجعل المقام الداخلي كائنًا متحرِّكًا، لا يعرف الثبات الذي كان له في الحالة الأولى المصاحبة... إذ يحضر المقام بحضور الكلمة المجاورة، علي معني أن مقام المجاورة يأتي من الطرَف المجاور، أو من المجاور له طردًا وعكسًا، فالفعل له مقام مع (إن) الشرطية، يُخالِف مقامه مع (إذا) فإذا اتَّفقت (إن) و(إذا) في أصل المعنى، وهو (الشرط)، فإن للفعل مع كلِّ واحدة منهما مقامًا مغايرًا للآخر، كما أن كلَّ أداة منهما تؤثِّر في ما يُصاحِبها، فإذا صاحَبَت (الماضي) فإن المقام يُخالِف مصاحبة (المضارع) بالرغم من اشتراكهما في أصل المعنى وهو الحدثية[39].

ويؤيِّد ذلك قولُ ابن عصفور: "فإن دلَّ الحرف على معنيين فصاعدًا نحو (مِنْ) التي للتبعيض ولابتداء الغاية ولاستغراق الجنس، وما أشبهها من الحروف، فإنما ذلك في أوقات مختلفة؛ ألا ترى أن الكلام الذي تكون فيه (مِنْ) مبعضة لا تكون فيه لابتداء الغاية"[40].

السياق اللغوي والسياق الموقفي:
لقد أَوْلَت البلاغة العربية الملابسات السياقية اهتمامًا لا يُنكَر، ولعلَّ التفات البلاغة إلى هذه الأبعاد السياقية من الملامح شديدة الإيجابية في الدرس البلاغي العربي القديم، وإن العناية بالملابسات السياقية قد اتَّخذت بُعدَين في البلاغة العربية، يتعلَّق أحدهما برؤية معيارية تؤسِّس نظريًّا لعملية إنشاء القول البليغ، وقد تصدَّر هذا البعد التنظير البلاغي من البدايات الأولى لنشأة الدرس البلاغي، ويتحدَّد هذا البعد في التعريف الذائع للبلاغة بأنها: "مطابقة الكلام لمقتضى الحال مع فصاحته"، ويتعلَّق البعد الآخر بالمنحنى التحليلي الوصفي الذي يقتضي أن يؤخذ المقام والحال في اعتبار المحلِّل بما يشكِّلان من مُلابَسات سياقية تتعلَّق بها عملية الفهم والتفسير ثم التحليل، وقد ظهر هذا البعد مبكرًا في معالجة سيبويه النحوية، كما ظهر بعد ذلك في تحليلات عبدالقاهر[41]، والزمخشري[42] من بعده، وغيرهما.

بَيْدَ أن البعد المعياري قد سيطر على التفكير العربي قبل هذا التعريف الذي تحدَّد على يد القزويني، فإنه في حقيقة الأمر ليس من نتاج فكر القزويني؛ إذ يمتدُّ إلى البدايات الأولى للتدوين البلاغي في صحيفة بشر بن المعتمر، فقد أصَّل لفكرة المطابقة بقوله: "ينبغي للمتكلم أن يعرف أقدار المعاني، ويوازن بينها وبين أقدار المستَمِعين وبين أقدار الحالات، فيجعل لكلِّ طبقة من ذلك كلامًا، ولكلِّ حالة من ذلك مقامًا، حتى يقسِّم أقدار الكلام على أقدار المعاني، ويقسِّم أقدار المعاني على أقدار المقامات، وأقدار المستمعين على أقدار تلك الحالات"[43]، أو بمعنى أبسط مراعاة مقتضى الحال.

مقتضى الحال: هو في الحقيقة لبُّ البلاغة وجوهرها، إنه وضع الكلمة المناسبة في المكان المناسب، إنه مخاطبة الناس على قدر عقولهم وفهومهم، إنه حديث الأذكياء بما يليق بالأذكياء، ومخاطبة الأغبياء بما يليق بهم، مقتضى الحال أن تخاطب الملوك بلغة تليق بالملوك، وتحدث السوقة بما يفهمونه - مع مراعاة الفصاحة.

شواهد تطبيقية محلَّلة:
لكي يتَّضح هذا المفهوم لا بُدَّ أن نسوق بعض الأمثلة من واقع تراثنا؛ فمن ذلك الخبر الذي ورد في كتاب "الأغاني"[44] قول الأصمعي: كنت أشهد أبا عمرو بن العلاء وخلفًا الأحمر يأتيان بشارًا، ويسلِّمان عليه بغاية التعظيم، ثم يقولان: يا أبا معاذ، ما أحدثت اليوم؟ فيخبرهما وينشدهما، ويسألانه ويكتبان عنه متواضعين له حتى يأتي الظهر، ثم ينصرفان عنه، فأتياه يومًا فقالا له: ما هذه القصيدة التي أحدثتها في سلم بن قتيبة؟ فقال: هي التي بلغتكما، قالا: بلغنا أنك أكثرت فيها من الغريب، فقال: نعم، بلغني أن سلمًا يتباصَر بالغريب؛ فأحببت أن أردَّ عليه بما لا يعرفه، قالا: فأنشدناها، فأنشدهما:
بَكِّرَا صَاحِبَيَّ  قَبْلَ  الهَجِيرِ        إِنَّ ذاكَ النَّجَاحَ فِي التَّبْكِيرِ
حتى فرغ منها، فقال له خلفٌ: لو قلت: يا أبا معاذ مكان "إن ذاك النجاح في التبكير": "بكِّرَا فالنجاح في التبكير" كان أحسن.

فقال بشار بنَيتُها أعرابيةً وحشيةً، فقلت: إن ذاك النجاح في التبكير، كما يقول الأعراب البدويون، ولو قلت: بكِّرا فالنجاح في التبكير، لكان هذا من كلام المولَّدين، ولا يشبه ذاك الكلام، ولا يدخل في معنى القصيدة، فقام خلف وقبَّل.

فالحال التي اقتضت التوكيد في بيت بشار حال المتكلم (بشار) وليست حال السامع، وهي حال تُوصَف بالانتماء اللغوي والأدبي، فبشار يودُّ أن يكون منتمِيًا إلى مدرسة الأعراب الخُلَّص لا المولَّدين، وهو انتماء اقتضى أن يقول: "إن ذاك النجاح في التبكير"، لا: "بكِّرَا فالنجاح في التبكير".

ألاَ ترى أن بشارًا - وهو الشاعر الأعجمي - عرف من أسرار اللغة وفنون صوغها ما مكَّنه أن يلائم بين الغريب الذي أورده فيها، وبين صَوْغِ عبارات ذلك الغريب، وجعله يفضِّل عبارة على عبارة لأنها أقرب إلى الأسلوب الذي أراد، ولو غيَّر حرفًا واحدًا لكان ذلك من كلام المولَّدين لا من كلام الأعراب الخُلَّص، وهو في موقف التحدِّي؟

ووصف بشار عبارته بأنها أعرابية وحشية؛ يعني: أنه صانعها قاصدًا على طريقة البدو متماسِكة، متينة النسج، قويَّة التأثير، وهو يلتزم بما أوحى به النقاد في هذا المقام حيث يقول ابن طباطبا: "الشاعر إذا أسَّس شعره على أن يأتي فيه بالكلام البدوي الفصيح لم يخلط به الحضري المولَّد، وإذا أتى بلفظة غريبة أتبعها أخواتها، وكذلك إذا سهل ألفاظه لم يخلط بها الألفاظ الوحشية النافرة... كما يتوقَّى أن يرفع العامة إلى درجات الملوك ويعدُّ لكلِّ معنًى ما يليق به، ولكل طبقة ما يُشاكِلها؛ حتى تكون الإفادة من قوله في وضعه الكلام مواضعه أكثر من الاستفادة من قوله في تحسين نسجه وإبداع نظمه"[45].

وها هي ذي رواية ثانية تنبئك عن شدَّة تحسُّسه مواطن البلاغة وتعرُّفه مقتضيات الأحوال الدقيقة.

قال أحد معاصريه: قلت لبشار: إنك لتجيء بالشيء الهجين المتفاوت، قال: وما ذاك؟ قلت: بينما تقول شعرًا تثير به النقع، وتخلع القلوب، مثل قولك:
إِذَا    مَا    غَضِبْنَا    غَضْبَةً    مُضَرِيَّةً        هَتَكْنَا حِجَابَ الشَّمْسِ أَوْ قَطَرَتْ دَمَا
إِذَا   مَا   أَعَرْنَا    سَيِّدًا    مِنْ    قَبِيلَةٍ        ذُرَى   مِنْبَرٍ   صَلَّى    عَلَيْنَا    وَسَلَّمَا
تقول:
رَبَابَةُ     رَبَّةُ      الْبَيْتِ        تَصُبُّ الْخَلَّ فِي الزَّيْتِ
لَهَا   عَشْرُ   دَجَاجَاتٍ        وَدِيكٌ  حَسَنُ  الصَّوْتِ
فقال: لكلٍّ وجهٌ وموضعٌ؛ فالقول الأول جِدٌّ، وهذا قلته في (ربابة) جارتي، وأنا لا آكل البيض من السوق، وربابة لها عشر دجاجات وديك، فهي تجمع لي البيض وتحفظه عندها، فهذا عندها أحسن من قولي:
قِفَا نَبْكِ مِنْ ذِكْرَى حَبِيبٍ وَمَنْزِلِ        .........................
عندَك[46].

إذًا ليس الشعر الفخم الضخم السامي الذي يملأ الدنيا زهوًا أو دموعًا أو مديحًا هو الشعر الرفيع دائمًا، وإنما قد يكون الشعر البسيط الذي يخاطب البسطاء والعامَّة والكادحين باللغة التي يرتاحون إليها ويفهمونها أفضل من الشعر الفخم ما دام طابق مقتضى الحال.

لذا لا ينبغي "أن يؤخذ معنى الجملة من تركيبها المقالي فقط، وإنما ينبغي أن ننظر في الظروف المحيطة بنطق الجملة أيضًا"[47]؛ أي: ينبغي أن ينظر إلى السياق اللغوي والسياق الموقفي[48]، ليكون التذوُّق والتحليل شموليًّا، ألاَّ ترى أن الكلمة الحسنة في بعض الأحوال تكون قبيحة ببعض الاعتبارات، وهي في نفسها حسنة؟[49]

ونجد شاهدًا لذلك عند الزركشي حين يتحدَّث عن دلالة السياق، وأنه من الأمور التي تحدِّد المعنى عند الإشكال يقول: "فهذه الدلالة ترشد إلى تبيين المجمل، والقطع بعدم احتمال غير المراد، وتخصيص العام، وتقييد المطلق، وتنوُّع الدلالة، وهو من أعظم القرائن الدالَّة على مراد المتكلم، فمَن أهمله غلط في نظيره، وغالَط في مناظراته، وانظر إلى قوله - تعالى -: {ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ} [الدخان: 49]، كيف تجد سياقه يدلُّ على أنه الذليل الحقير"[50].

وثَمَّ شاهد آخر؛ فقد نقل عبدالقاهر الجرجاني قول الجاحظ: "ورجع طاوس يومًا عن مجلس محمد بن يوسف، وهو يومئذ والي اليمن فقال: ما ظننت أن قول: (سبحان الله) معصيةٌ لله - تعالى - حتى كان اليوم، سمعت رجلاً أبلغ ابن يوسف عن رجلٍ كلامًا، فقال رجلٌ من أهل المجلس: سبحان الله، كالمستعظم لذلك الكلام، ليغضب ابن يوسف"[51]، فتَعَلُّق التلقِّي هنا بهذه الأبعاد السياقية، أو قُلْ: بخصوصية الحال جعل دلالة العبارة (سبحان الله) مُغْضِبًا، رغم أنها عبارة تسبيح وتعظيم لله، وهذا يدلنا على أهمية النظر إلى الملابسات الشخصية والاجتماعية واللغوية والأدبية والأيديولوجية، التي سِيق فيها النص حتى نتمكَّن من فهمه فهمًا دقيقًا لا لبس فيه[52].

وثمَّة نقطة أخرى يجب أن نلتفت إليها ضمن ملابسات الموقف، وهي طريقة الأداء الصوتي؛ إذ أحيانًا ما تكون كافيةً لشحن المفردات والتراكيب بالكثير من المعاني الانفعالية والعاطفية، ولا يخفى ما للإشارات المصاحبة للكلام من أهمية في إبراز المعاني الانفعالية.

إن مفهوم المقام والحال ليس واحدًا، وإنما بينهما عموم وخصوص؛ فالمقام عام والحال خاص، يُفهم ذلك من كلام القزويني عند حديثه عن مقتضى الحال حيث يقول: "ومقتضى الحال مختلف، فإن مقامات الكلام متفاوِتة، فمقام التنكير يُبايِن مقام التعريف، ومقام الإطلاق يُبايِن مقام التقييد... وكذا خطاب الذكي يباين خطاب الغبي، وكذا لكل كلمة مع صاحبتها مقام"[53].

فكلمة (يرحم) في مقام تشميت العاطس: (يرحمك الله) البدء بالفعل، وفي مقام الترحُّم بعد الموت: (الله يرحمه) البدء بالاسم، فالأولى تعني: طلب الرحمة في الدنيا، والثانية تعني: طلب الرحمة في الآخرة، وقد دلَّ على هذا سياقُ الموقف إلى جانب السياق اللغوي المتمثِّل في التقديم والتأخير"[54].

وممَّن أوْلَوا السياق اللغوي أهمية كبيرة الدكتور حماسة فنجده يقول: "وثمَّة ضرب آخر من السياق هو السياق اللغوي، وهو يعتمد على عناصر لغوية في النص من ذكْر جمل سابقة أو لاحقة، أو عنصر في جملة سابقة أو لاحقة، أو في الجملة نفسها يحوِّل مدلول عنصر آخر إلى دلالة غير المعروفة له؛ كما في قوله - تعالى -: {أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلاَ تَسْتَعْجِلُوهُ} [النحل: 1]، حيث تعدُّ جملة: (فلا تستعجلوه) قرينة لغوية سياقية تصرف الفعل (أتى) عن دلالته على الماضي إلى دلالته على المستقبل، وصرف الفعل عن دلالته يصرف الفاعل (أمر الله) بدوره عن دلالته، أو بعبارة أخرى يحدد دلالته؛ لأن العناصر المكوِّنة للجملة لن تبقى دون تغيُّر إذا صرف عنصر منها عن دلالته الأولى بقرينةٍ ما، و(أمر الله) في سياق هذه الآية ليس مثل (أمر الله) في هذه الآيات: {قَالَ لاَ عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلاَّ مَنْ رَحِمَ} [هود: 43]، {قَالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ} [هود: 73]، {فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ} [الحجرات: 9]، لقد فُسِّر (أمر الله) بأنه: قيام الساعة، وقد أتى الفعل بصيغة الماضي لتحقق وقوع الأمر وقربه... إن اختيار المفردات ووضعها معًا في إطار جملة واحدة يقوم بدور كبير في تحديد دلالة السياق اللغوي الذي ينعكس بدوره على دلالة المفردات في الجملة"[55].

إن سياق الحال هو جملة العناصر المكوِّنة للموقف الكلامي، أو للحال الكلامية، والحال تتعلَّق بالملابسات الخاصة لكلِّ خطاب؛ حيث تتغير مع تغير المواقف، فمقام المدح مثلاً ينطوي على ما لا يُحصَى من الأحوال، فمديح النابغة الذبياني للنعمان بن المنذر حال قربه من النعمان، يختلف عن مديحه إيَّاه حال اعتذاره له بعد الوقيعة بينهما.

ونتوقَّف عند اعتذار النابغة للنعمان في قوله:
فَإِنَّكَ كَاللَّيْلِ الَّذِي  هُوَ  مُدْرِكِي        وَإِنْ خِلْتُ أَنَّ المُنْتَأَى عَنْكَ وَاسِعُ
لنرى ما دار حوله من مناقشات لغوية وأسلوبية تشهد بجمال الصياغة وتكثيف الدلالة والمناسبة لمقتضى الحال، فعندما يعرض عبدالقاهر لبيت النابغة بالتحليل يدرك بحسِّه اللغوي استحالة كون المعنى: "إن فرَرت أظلَّني الليل" أو: "فإنك الليل الذي هو مدركي"؛ لأننا إذا ارتضينا التعبير الأوَّل ضاعت الفكرة الأساسية في البيت وهي أن الشاعر يعجز عن الهرب من الملك؛ لأن الفكرة التي يقدِّمها التعبير الجديد هي: "إذا هربت منك استحالت الحياة كلها عليَّ ظلامًا"، أو: "ضللت طريقي مثل مَن يضرب في الليل"، وهذا ما لم يهدف إليه الشاعر، بل إن هذا سوف يؤدِّي إلى فقدان كلِّ الإمكانات التعبيرية التي تُشعِرنا بسطوة هذا الملك وقوَّته، وقدرة يده على الوصول إلى كلِّ مكان بنفسه أو بعماله، ولو اقتصرنا في رصد الدلالة على ما يُفهَم من الليل باعتبار الإظلام، لفاتت الفائدة؛ فمن الخطأ اعتبار السواد هو الخاصية المطلوبة على أساس أن الشاعر يقع بهذا تحت غضب الملك بحيث يرى كل شيء أسود[56].

ولكن يمكن أن نلحظ أن اختيار الشاعر لكلمة (الليل) توضِّح أبعادًا دلالية أخرى يُضِيفها السياق الموقفي، وتركيب الكلام، فالنهار هو الآخر بمنزلة الليل في الوصول إلى كلِّ مكان... فاختصاصه الليل دليلٌ على أنه قد روَّى في نفسه، فلمَّا علم أن حالة إدراكه - وقد هرب منها - حالة سخط، رأى التمثيل بالليل أَوْلَى[57].

وقد أكّد هذا من قبل ابنُ طباطبا (ت332هـ) فقال: "وإنما قال: "كالليل الذي هو مدركي"، ولم يقل: (كالصبح)؛ لأنه وصفه في حال سخطه، فشبَّهه بالليل وهوله، فهي كلمة جامعة لمعانٍ كثيرة"[58].

فحتمية إدراك النعمان للنابغة، هي الفكرة المدرَكة التي يتمثَّلها ابن طباطبا في البيت السابق، والتي يمكِن - في نظره - أن تُؤَدَّى بصورة أخرى كالتشبيه بالصبح، ولكنه يحسُّ بأن في صورة الليل معانيَ خاصة، ودلالات إيحائية فوق الفكرة السابقة، فالليل مثار ظلام وسكون ووحشة، وهو بذلك أقرب إلى تجسيد رهبة الشاعر، وقلق نفسه، وتوجُّسه من ذلك القدر المحتوم الذي يتوقَّعه، ومن ثمَّ كانت صورة الليل في نظر ابن طباطبا "جامعة لمعانٍ كثيرة"[59].

كلُّ ذلك من منطلق أداء فني لم يحاول فيه النابغة أن يتحرَّك بعيدًا عن الأنساق اللغوية والنحوية المألوفة، وإنما تحرَّك من طبيعة الموقف الإبداعي ذاته متأثرًا بإحساسه الخاص، فجاء نسق التعبير مطابقًا لمقتضى حاله.

وربما كان هذا هو ما دفع عبدالقاهر إلى التماس تفسير دقيق لاختيار كلمة (الليل)؛ حيث يرى أن النابغة كان - أثناء حديثه - بالنهار لا محالة، وإذا كان يكلم الملك وهو بالنهار بعد أن يضرب المثل بإدراك النهار له، وكان الظاهر أن يمثل بإدراك الليل الذي إقباله منتظر وطريانه على النهار متوقع، فكأنه قال وهو في صدر النهار أو آخره: لو سرت عنك لم أجد مكانًا يقيني الطلب منك، ولَكان إدراكك لي - وإن بعدت - حاصلاً كإدراك هذا الليل المقبِل - في عقب نهاري هذا - إياي، ووصوله إلى أيِّ موضع بلغتُ من الأرض[60].

والصياغة عند النابغة تأتي على نمط مألوف، ولكن مع ظهور إمكانات جمالية في الأداء تستمدُّ وجودها من قدرة الشاعر الابتكارية، ومن الموقف الشعري ذاته المتأثِّر بذبذبته الخاصة، ونفسيته المضطربة، ومن البعد الاستعمالي للألفاظ الذي يكسبها كثافة في الدلالة.

ويشهد لذلك قول أبي ذكوان عن النابغة: "ما رأيت أعلم بالشعر منه... ولو أراد كاتب بليغ أن ينثر من هذه المعاني ما نظمه النابغة، ما جاء به إلا في أضعاف كلامه"[61]، وقد عدَّ ثعلب هذا البيت من الأبيات الغرِّ[62]؛ لأنه يكشف عن شاعرية صاحبه.

ومما يُضاف إلى بيان جمال الصياغة الفنية في هذا البيت أنه اشتمل على تشبيه طريف جمع فيه الشاعر - بطاقته الإبداعية - بين متباينات ومتنافرات لها أصلٌ في العقل، لا يمكن إدراكها ببديهة السمع أو بلمحة الناظر المتعجِّل، وإنما بالتأمُّل الذي يكشف عن تفاضل المتلقِّين في الفهم والتصوُّر، ويعرب عن شرف الصنعة وفضيلة القول، ويُوحِي بدقَّة الشاعر في إيجاد المشابهة أو التناسب والتلاؤم بين المتباعدات، بل ينمُّ عن ذكائه ونفاذ خاطره وقدراته التعبيرية، "ألاَ ترى أن التشبيه الصريح إذا وقع بين شيئين متباعدين في الجنس، ثم لَطُفَ وحَسُنَ لم يكن ذلك اللطف وذلك الحسن إلا لاتِّفاقٍ كان ثابتًا بين المشبه والمشبه به من الجهة التي بها شبَّهتَ إلا أنه كان خفيًا"[63]، يحتاج إلى تأمل ورويَّة.

وعمق الأداء يمتدُّ إلى أداة التشبيه التي اتَّصلت بكلمة (الليل)، وأهمية الأداة هنا ينعكس على دلالة اللفظة التي بعدها... فالكاف في (كالليل) لها أثرها القوي في أداء المعنى وتوجيه حركته الدلالية في البيت كله، ليس هذا فحسب، بل إنها تنقله من إطارٍ إلى آخر، تنقله من الهجاء إلى المديح الممزوج بالاستعطاف.

والنكتة التي يجب أن تُراعَى في هذا البيت، أنه لا تتبيَّن لك صورة المعنى الذي هو معنى النابغة، إلا عند آخِر حرف من البيت، حتى إن قطعت عنه قوله: "مدركي"، بل (الياء) التي هي ضمير النابغة، لم يكن الذي تعقله مما أراده النابغة بسبيل؛ لأن غرضه التهويل من قوَّة وقدرة النعمان على إدراكه لا محالة، وفي ذلك المدح له ضمنًا[64].

فلغة شعر النابغة - في هذا الرأي - لغة شعرية مكثَّفة الدلالة، ثريَّة المحتوى؛ قد استُخدِمت فيها الألفاظ استخدامًا ابتكاريًّا فأوحَتْ بفَيْضٍ من المعاني والدلالات الخاصة التي تُشِعَّها في صياغتها المبتَكَرة ومن خلال موقعها السياقي، ولا يتحقَّق ذلك - إن تحقق - في لغة النثر إلا بعد عناء وإسهاب وتطويل.

وبعد هذه الوقفة التي نحسبها قد طالت نرى أن هذا البيت على قصره وإيجازه قد أثار هذه المعاني والأفكار، ولفت النقادَ وحرَّك هذه الأقلام على كثرتها واختلاف أنواعها "ولا ريب أن لهذا الإبداع في الوصف والتصوير تأثيرًا عظيمًا في الوجدان، فمَن ذا الذي يقرأ هذا البيت ويفهم معناه ولا تهزُّه أريحية من الطرب والسرور؟[65]"، إنه عبَّر عن المعنى الواسع بصورة لغوية مختزَلة، والاختزال بلا شكٍّ من أهم السمات الجمالية في لغة الشعر.

على كلِّ حال، إن اللغة الفنية في الشعر لا تؤدِّي معنًى عقليًّا خاصًّا يمكن للرموز الجافَّة أن تؤدِّيه، فالشاعر إذ يحشد قدراته التعبيرية ووسائله الفنية في خلق تلك اللغة لا يفعل ذلك عبثًا، أو لكي يؤدِّي إلى المتلقِّي مجرَّد الفكرة المتداوَلة التي تعِيها ذاكرته سلفًا، ولكن لأن في تلك اللغة تصويرًا لأحاسيسه وخواطره الخاصة، وتجسيدًا لتجربته بكلِّ آفاقها، وحينئذ فإن المعنى الخاص بتلك اللغة الفنية هو أكثر وأغزر من مجرَّد الفكرة التي تنهض بها اللغة الأدائية المجرَّدة، فهو كلُّ ما تفجِّره تلك اللغة بخصائصها الفنية في وجدان القارئ وخياله من صور، وما تُوحِي به إليه من دلالات وأحاسيس، وهذا ما اشتمَل عليه بيت النابغة، فجاء مطابِقًا لمقتضى الحال، فضلاً عن فصاحة مفرداته وبلاغة تراكيبه وجمال صياغته.

ومن الأحوال والأغراض التي يجدر بنا أن نذكرها في هذا السياق أن مديح المتنبي لسيف الدولة يختلف حاله عن مديحه لكافور، بل إن مديحه لسيف الدولة ينطوي على حالات كثيرة، فالمدح حال القرب يختلف عن المدح حال الجفوة والإيذان بالبعد، كما يختلف حال النصر على الروم عن حال الهزيمة والإخفاق، فالحال متعلِّقة بخصوصية المواقف والمقامات والملابسات المكانية والزمانية المنتِجة للنص، فليس ثَمَّ شك في أن الأحوال والملابسات تتعلَّق بعملية التلقِّي وغايتها.

ونجد من الشواهد التي تؤكِّد ذلك وتوضحه ما ذكره ابن الأثير في "المثل السائر" حيث يقول: كان سيف الدولة ابن حمدان مخيمًا بأرض ديار بكر على مدينة (ميَّا فارقين) فعصفت الريح بخيمته، فتَطيَّر الناس لذلك وقالوا فيه أقوالاً، فمدحه المتنبي بقصيدةٍ يعتذر فيها عن سقوط الخيمة، ويبعث روح التفاؤل في نفس سيف الدولة، ليقوِّي من عزمه، فيقول:
فَلاَ  تُنْكِرَنَّ  لَهَا  صَرْعَةً        فَمِنْ فَرَحِ النَّفْسِ مَا يَقْتُلُ
وَلَوْ بُلِّغَ النَّاسُ مَا  بُلِّغَتْ        لَخَانَتْهُمُ حَوْلَكَ الأَرْجُلُ
وَلَمَّا   أَمَرْتَ    بِتَطْنِيبِهَا        أُشِيعَ  بِأَنَّكَ   لاَ   تَرْحَلُ
فَمَا اعْتَمَدَ اللهُ  تََقْوِيضَهَا        وَلَكِنْ  أَشَارَ  بِمَا  تَفْعَلُ[66]
يقول المتنبي - مخفِّفًا عن سيف الدولة ألمه لما حدث من سقوط الخيمة -: ليس نكرًا ولا مستغربًا أن تسقط الخيمة، فقد سقطت من شدَّة فرحها لإقامتك فيها وقربك منها "ومن فرح النفس ما يقتل"، ولو علم الناس ما علمت الخيمة من جليل قدرتك وعظمتك، لم تحملهم أرجلهم من شدة الخوف هيبة لك، فلمَّا أمرت بشدِّ أوتادها، شاع في الناس أنك مقيم لا ترحل لأمرٍ دعاك إلى الإقامة، فما كان سقوطها إلا إشارةً من الله - تعالى - بما يجب أن تفعله من التوجُّه إلى الغزو ونُصرة الإسلام.

هكذا استطاع المتنبي الشاعر بخياله المحلق، وعبيره المبتكر، أن ينسج لنا هذه الصورة الشعرية مستمِدًّا معطياتها من الواقع ومن السياق الموقفي، حتى تجاوَز حرفية هذه المعطيات، وأعاد تشكيلها بذكاء خارق؛ سعيًا وراء تقديم رؤية جديدة متميِّزة للواقع نفسه، أحالت الخوف أمنًا، والتشاؤم تفاؤلاً، فلم يجعل المتنبي العلة في سقوط الخيمة أمرًا طبيعيًّا، أو علة حقيقية، كضعف تثبيتها أو اشتداد الريح بها، وإنما التمَس علة خيالية لسقوطها، وهي الإشارة من الله إلى ما ينبغي أن يفعله القائد من الارتحال إلى الغزو لنصرة الإسلام.

ونلحظ أن هذه الأبيات تشتمل على معانٍ دقيقة، فيها من الجدَّة والغرابة والغموض الشفيف ما يُثِير فضول المتلقِّي لتأمل دلالة الألفاظ التي يُوحي ظاهرها بالتناقض، فالمتنبي هنا يعتمد على المهارة الذهنية، والاتِّكاء على الخيال آخِذًا في اعتباره أحوال المتلقِّين، ولم يهمل ما أحاط بالموقف من ظروف وملابسات صاغَها بصنعته الشاعرة، فأحسن القول وأجاد التعبير، وألطف في العلة حيث ناسبَت الغرض، وكان لها أثرها ووقْعُها في نفس القائد، فشدَّت من عزمه، وصرفت همه، وهيَّأت نفسه للارتحال من أجل الغزو ونصرة الإسلام.

فحسن التعليل هنا من مراعاة مقتضى الحال، فلم يكن زخرفًا من القول خاليًا من الفائدة، وإنما أدَّى وظيفة فنية ما كانت لتتحقَّق بدونه؛ إذ زاد من جمال التعبير، وأثرى المعنى، وراعَى حال المتلقِّين، وعالج أنفسًا أصابها التشاؤم، وضرَب صفحًا عن أقوال المتشائمين ومعتقداتهم، وأثنى على سيف الدولة ثناءً جميلاً، ومدَحَه بما هو أهله.

والأبيات - فوق ذلك - تحمل في صياغتها حدثًا عارضًا، نقله المتنبي إلى عالم الشعر بقوَّة الإحساس والتصوير الفني، ليظلَّ على مرِّ الأيام يشهد للشعر بقوة السحر، ويبين جملة ما للبيان من القدرة والقدر.

إن مقتضى الحال هو المعنى أو الغرض الخاص، أو بلغة معاصرة: هو التجربة التي تمثِّل رؤية الأديب/ الشاعر الخاصة لهذا الواقع، تلك التي يخرج التعبير الفني على لسانه مجسِّدًا لها مطابقًا إيَّاها، وفي ضوء هذا التصوُّر فإن تمثُّل المعنى أو مقتضى الحال في التعبير الفني لا يتحقَّق إلاَّ بالنظرة المتأنِّية الواعية التي تحيط بالأحوال التي هي بواعث ومناسبات له من جهة، ثم بالخصائص والظواهر الفنية في ذلك التعبير، والتي هي رموز فنية تلبَّس فيها وتشكَّل بها من جهة أخرى.

ولدينا قصيدتان لشاعر واحد من الشعراء المعاصرين، قال إحداهما وهو في (الغربة)؛ حيث معاناة الوحدة والوحشة والحنين إلى الوطن، وقال الثانية عند عودته إلى أهله؛ معبرًا عن لحظة اللقاء وانتهاء الاغتراب، وما في ذلك من سرور وغبطة، وهما موقفان متضادَّان وحالتان مختلفتان متقابلتان، لكننا نلحظ في كلٍّ منهما اختلاف التجربة الشعورية، والحالة النفسية التي تسيطر على الشاعر تبعًا للموقف الذي يعيشه والظروف والملابسات التي تحيط به.

ففي القصيدة الأولى وهي بعنوان (الموت في الغربة) يقول:
في  الغُرْبة  تزْدهرُ  الأحزانُ
وتُصبِح  قوتْ
يتغيَّر  وَجْه  الإنسَانْ
تتغيَّر  بصمَاتُ  الإصبعْ
تتجعَّد حتَّى الضحكَاتْ
ومَعَانِي  الكلماتْ
يزدحم الإحساس لأن خطابًا جاءْ
يقول  (فلان) ماتْ
وتموت... لأنَّك تجْهَل  أيْن  تمُوتْ
في جمل شعرية شديدة التكثيف صوَّر الشاعر أثر الغربة في تغيير ملامح الإنسان، وحتى هذه الأشياء الثابتة في الإنسان، والتي تشكِّل إحدى حقائقه الأساسية التي لا تتغيَّر - وهي بصمات الأصابع - تؤثِّر فيها الغربة، حتى الضحكات لم تعد طبيعية بل انكمشت، ومعاني الكلمات تلبس أثوابًا أخرى ودلالات شتَّى نتيجة تشتُّت النفس وتوجُّس الخوف ورهافة الحس، وبخاصَّة حين تصله الخطابات محمَّلة بأخبار الوطن.

وتبدو الجمل الأكثر حضورًا في هذه الأسطر الشعرية، والتي تشكِّل آثار الغربة وتجسِّدها، قوله: "تزدهر الأحزان"، "تصبح قوت"، "يتغير وجه الإنسان"، "تتغير البصمات"، "تتجعد الضحكات"، "يزدحم الإحساس"، فكلُّ جملة من هذه الجمل ليست جملة تحمل إعلانًا أو إخبارًا، وليست ذات دلالة معجمية لا تفارق الحقيقة والواقع، وإنما هي جمل مثيرة محمَّلة بمعانٍ شتَّى، وشحنات شعورية مُتأجِّجة، فالأحزان لا تُوصَف بالازدهار، والضحكات لا تُوصَف بالتجعُّد، فالازدهار والتجعُّد في إطار البعد المعجمي لا تلتقي مع الأحزان والضحكات، وإنما تلتقي في خيال الشاعر.

إن الحياة المأساوية والخوف الذي يعيش داخل الشاعر ويُساوِره دائمًا - جعله يختار هذه التراكيب والصور، ويقيم بينها علاقات تعاوَنت في إبراز إحساسه، وما يُعانِيه من ألم الغربة، كما يدلُّ من ناحية أخرى على بيان قدرة الشاعر على توسيع إمكانات اللغة، وخلق معانٍ جديدة من خلال علاقات لغوية جديدة، تُحدِث الدهشة لدى المتلقِّي، وتؤكِّد له أن اللغة في تطوُّر دائم وخلق مستمر.

إن القِيَم الجمالية تتكاثَر أحيانًا في كلمات معدودة كالتي بين أيدينا؛ لأن فنونها تتوالَد وتتكاثَر بمحاسن النصوص، ودقَّة التصوُّر، وطول التأمُّل، ورهافة الحس، والأوزان التي يستدعيها المعنى، وتمتزج بالتراكيب، فتصبح من كيانها، ومن ثَمَّ يَعظُم تأثيرها، فنشعر بجمالها ونحسُّ بلذَّتها، فالجمال في تعاضد الإفادة والتأثير، واللذة في إدراك العلاقات بين أجزاء الكلام، والقصيدة كلها قائمة على تفعيلة واحدة (فاعلن) موزعة في النص حسبما اقتضَت الموهبة الشاعرة والسياق الموسيقي، فأحدثت سلاسة في الإيقاع وسهولة وعذوبة في الإنشاد نسمعها ونحسُّها في فرحة الشاعر بأَوْبَة التلاقي، ويستشعر منها المتلقِّي انسجامًا وتآلفًا موسيقيًّا تطيب به نفسه؛ لأن "الإيقاع المنظَّم يقوم على أساس وجداني نفسي؛ لأنه يصدر عن النفس ثم يعود إليها ليحرِّك أوتارها، حركة لا تقتصر على النسق الصوتي فحسب، وإنما أيضًا تأخذ بين جنباتها المعاني وإيحاءاتها، ليحيا المتلقِّي بحسِّه وعقله في ظلال الإبداع وتناغمه"[67].

وكما يكون الحزن فادحًا أثناء الغربة عن الوطن تكون الفرحة بالغة حين العودة إليه، تختلف التجربة، ويتغيَّر الإحساس، وتتحوَّل الأحزان أفراحًا وسرورًا، وتحلُّ الفرحة والدمع وطرقة الباب، والدنيا بما فيها من أجناس تشارك الشاعر فرحته بالعودة إلى أرض الوطن، الأطيار في أعشاشها، والفجر في حضن الروابي، ورعاية الله تشمله، كل هذه المشاعر المتداخلة والسعادة الغامرة كانت عندما عانَق أمه ساعة وصوله، وأيقن أن ليل اغترابه قد انتهى، نلحظ ذلك في قوله:
كانَت الفَرْحَة  في الدَّمع
وفي  طَرقَة  بابِي
كانَت الأطيَار فِي أعشَاشِها
والفَجْر فِي حِضْن  الرَّوَابي
والإله  فِي  السَّمَاء
عندما  عانَقَت  أمِّي
وانتَهى  ليلُ  اغتِرَابي
قصيدة بالغة الرهافة، تتوفَّر فيها كلُّ خصائص شعر الومضة: التكثيف الشديد، المعجم الشعري المقتصد، الجملة القصيرة الموحِيَة، التعبير من خلال الصورة المكثَّفة، آلية السَّرْد بعناصرها المختلفة؛ زمانًا ومكانًا، وأحداثًا وشخوصًا، ولحظة تنوير (عندما عانقت أمي، وانتهى ليل اغترابي).

إن الكلمات لدى الشاعر الموهوب "عوالم صغيرة يخدمها بدلاً أن يستخدمها"[68]، والدليل على ذلك أن الكلمات والأدوات ليس لها في ذاتها قيمة جمالية، ولكنها تكتسب قيمتها وجماليتها حين يسكب عليها الشاعر أشعة من نور عقله، وضوءًا شفيفًا من ابتكار خياله، عندئذ يحقق لنا الجمال الذي يحقق لنا السرور؛ لأن "الجمال فيه قوة دمثة تعمل عملها عن طريق الإيحاء"[69].

ونلحظ أن القصيدة شديدة الإيجاز شديدة التكثيف، وهذا يُحدِث لونًا من الغموض الفني الذي يجعل القارئ يتفاعَل مع النص، يتأثَّر به ويؤثِّر فيه، وتلك فلسفة جمالية للكلام، وسمة من أهم سمات لغة الشعر؛ لأن هذا الإيجاز الذي قصَدَه الشاعر أدَّى إلى تكثيف المعاني وفيض الدلالة؛ لأن فيض الدلالة في الإيجاز يتأتَّى من كثافة ما يوحِي به الكلام، لذلك كان ممَّا يمتدحه العرب: "الإيجاز والكلام الذي هو كالوحي والإشارة"[70]؛ لملاصقة هذا النمط أو تلك الفلسفة للطبيعة الإنسانية، فالمتكلم ينبغي له أن يقدِّر عقلية المتلقِّي وذكاءه، فقديمًا اشترط هوراس في الكلام البليغ أن تتعدَّد فيه الدلالات المستترة حتى تحتاج في إيضاحها إلى ألفاظ جديدة لم تكن تُكتَب في النص[71]، تاركًا بذلك مساحة للمتلقِّي وقدراته، من أجل إغناء النص وإثرائه؛ لذا ترى جمال التصوير والتعبير كامنًا في كل قصيدة "في الإيجاز، والامتلاء بالدلالات المستترة، والبراءة من اللغو والفضول... فلا يملُّ إنشادها ولا تحسُّ النفس نبوًّا عنها أو نفورًا منها، وإنما تحسُّ كأن هذا الشعر مرآة صافية لكلِّ نفس كريمة، ولكلِّ قلب زكي وخلق نقي"[72].

ولا شكَّ أن العمل الفني يعبِّر بوضوح عن تمازُج البيئة والذات، وعن محاولة إعادة التشكيل الحرِّ لتحقيق الانسجام والتلاؤم مع النفس والكون.

من خلال الموازنة بين القصيدتين وإشعاعات كلٍّ منهما يتبيَّن لنا أن الشاعر وُفِّق في التعبير في كلتا التجربتين؛ لأنه كان صادق العاطفة، متأثرًا بالموقف الانفعالي، ولا شكَّ أن اختلاف المشاعر وقرائن الأحوال يحتِّم على الشاعر أن ينوِّع بين الأساليب، وأن ينوع بين الجزالة والرقة حسبما اقتضى الحال؛ ليكون تعبيره مطابقًا لمقتضى الحال، بريئًا من سلبيات الفصاحة والبلاغة.

ومن الشواهد أيضًا عن مطابقة الكلام لمقتضى الحال نقدِّم هذه القصيدة لأبي المخشي، وأبو المخشي هذا شاعر أندلسي عاش في القرن الثاني الهجري وكان قد عَرَّض بأحد الأمراء، فاستدرجه حتى أمن له ثم سَمَل عينيه، فكانت هذه التجربة القاسية النادرة التي عاشها الشاعر وعانى من أثرها، فجاءت الصياغة الشعرية للأبيات معبِّرة عن أحاسيسه، واصفة لحاله وحال زوجته التي اكتَوَت هي الأخرى بنار المصيبة، يقول:
خَضَعَتْ     أُمُّ     بَنَاتِي     لِلْعِدَا        إِذْ   قَضَى   اللهُ   بِأَمْرٍ    فَمَضَى
وَرَأَتْ    أَعْمَى    ضَرِيرًا     إِنَّمَا        مَشْيُهُ فِي الأَرْضِِ  لَمْسٌ  بِالْعَصَى
فَبَكَتْ    وَجْدًا    وَقَالَتْ    قَوْلَةً        وَهْيَ  حَرَّى  بَلَغَتْ  مِنِّي   المَدَى
فَفُؤَادِي     قَرِحٌ     مِنْ     قَوْلِهَا        مَا  مِنَ   الأَدْوَاءِ   دَاءٌ   كَالْعَمَى
وَإِذَا   نَالَ    الْعَمَى    ذَا    بَصَرٍ        كَانَ  حَيًّا  مِثْلَ  مَيْتٍ  قَدْ   ثَوَى
وَكَأَنَّ    النَّاعِمَ    المَسْرُورَ     لَمْ        يَكُ  مَسْرُورًا  إِذَا  لاَقَى   الرَّدَى
أَبْصَرَتْ   مُسْتَبْدِلاً    مِنْ    طَرْفِهِ        قَائِدًا  يَسْعَى   بِهِ   حَيْثُ   سَعَى
بِالْعَصَا   إِنْ    لَمْ    يَقُدْهُ    قَائِدٌ        وَسُؤَالَ  النَّاسِ  يَمْشِي  إِنْ  مَشَى
وَإِذَا   رَكْبٌ   دَنَوْا   كَانَ   لَهُمْ        هَوْجَلاً فِي المَهْمَهِ الْخَرْقِ الصُّوَى
لَمْ يَزَلْ فِي كُلِّ  مَخْشِيِّ  السَّرَى        يَصْطَلِي الْحَرْبَ وَيَجْتَابُ الدُّجَى
ليس هذا الشعر من أشعار الفكرة، فليس في القصيدة (ركيزة) فكرية، وإنما فيها عاطفة حزينة، وثورة منكسِرة تعبِّر عن عجزها واستسلامها للقضاء النازل، والكارثة التي اعترضت حياة الشاعر فبدَّلت نهاره ليلاً وسعادته شقاء، وشموخه ذُلاًّ وانكسارًا، وانعكس ذلك بلا شكٍّ على زوجته وبناته.

إن كلَّ إنسان يقدر على التعبير يمكنه أن (يصف) ما حدث للشاعر، وأن يقول أيضًا: إنه حزين متألم، لا يجد حلاًّ لمصيبته، وهو يتذكَّر أيامه الماضية بكثيرٍ من التحسُّر، ولكن مثل هذا الوصف مهما بلغت براعته اللغوية فإنها ستظلُّ براعة زائفة سطحية، مثل قشرة الدهان الخزف الرخيص، لا تحوله إلى ذهب، وإن أعطته بعض الوقت لونَ الذهب وبريقَه.

هنا الشاعر لم يصرِّح بما حدَث له بصورة محدَّدة، ولا بأسبابه، وتحدَّث عن نتائجه من خلال رؤية امرأته، فكأنها هي التي تتحدَّث وتصف كارثتها التي أحاطت بها، حين أُصِيب زوجها، وهي ليست مجرَّد زوجة، إنها أم بناته، والبنت ترقِّق القلب وتحتاج إلى الرعاية أكثر من الولد، ولم يقل: (احتاجت زوجتي) بل: (خضعت)، والخضوع أعلى درجات الاحتياج، وفيه من الذل والانكسار ما فيه، وهي لم تخضع لِمَن يعطفون على مأساتها، وإنما (للعدا) وهو شرُّ خضوع.

وبعد هذه الافتتاحية الحزينة التي تجسم مقدار الكارثة من خلال ما ينعكس منها على الزوجة وبناتها، يستمرُّ في تقصِّي الجانب المباشر منها من خلال التعبير بالصورة، فها هو ذا رجل أعمى (ضرير) بكل ما في الكلمة من إيحاء صوتي بالضُّرِّ، يتحسَّس الأرض بعصاه، ويسأل الناس عن الطريق، أو يعتمد على مَن يقوده بعد أن كان قائد نفسه.

ويعود الشاعر إلى وصف الكارثة من خلال إحساس زوجته، فهي ترى أنه ما من مصيبة تعدل فَقْدَ البصر، وأن المبصِر إذا فقَد بصره فكأنما مات في الحقيقة "كان حيًّا مثل ميْتٍ قد ثوى"؛ لأن وضعه الجديد يقضي على كافَّة مُتَعِه في حياته قبل آفته، وهي تعبِّر عن فقد البصر بالرَّدى - وهو الموت - والشاعر صابرٌ للكارثة، ولكن حزنه يتضاعَف حين يحسُّها بمقدار رؤية زوجته لها: "ففؤادي قرِحٌ من قولها"، فالحزن يتضاعَف في نفسه عبر زوجته ولشدَّة ألمها وشقائها.

وفي النهاية يصوِّر حالته النفسية وعالمه الخاص، هذا العالم الغارق في الظلام، فكأنه يجتاب الدُّجَى دون أمل في مغادرته، وهو دجى حقيقي، ينعكس على النفس في صورة حرب يصطلي بها دون أمل في انقضائها، وتزيد لوعته حين يكون مع جماعةٍ يسيرون، فيكون سببًا في تعطيلهم لعجزه عن ملاحقتهم، وكأنه يسير في أرض كثيرة الأحجار وعرة المسالك[73]، ولك أن تتصوَّر ما في ذلك من معاناة ومقاساة ومشاقة على النفس.

هذه صورة إنسانية صادقة وبارعة ومؤثِّرة فنيًّا، وليس بموضوعها المؤسِف فقط، شحذ لها هذا الشاعر الفنان كلَّ ما لديه من طاقة فنية، فأحسَن اختيار الكلمات المفردة التي أعطتْ ظلالاً مقصودة تصوِّر ما يعاني، وأحسَن اختيار التعبير عن عاطفته ووصف حاله وحال زوجته، فكأن خياله النشيط خير عَوْنٍ له في التقاط صورة المرأة المَهِيضة الجناح، أم البنات المضطرَّة إلى طلب العَوْنِ من أعدائها، ليجعل هذه الصورة تجسيمًا لعاطفته الحزينة المقهورة، ثم كان اختياره لهذا الوزن السهل الترديد، وتلك القافية الساكنة المقصورة، التي يمتدُّ بها الصوت محاكيًا نواح النائح: (العدا، ثوى، الردى، الدُّجَى، السرى)، يُضاف إلى ذلك بعض الكلمات التي أُشبعت بالمدود مثل: (ضَريرًا، قولها، المسرورَ، الأدواءِ).

إن مدَّ الصوت بهذه الكلمات كتنفُّس الصعداء، وهذه المدود الكثيرة المتنوِّعة المصاحِبة للنص إلى منتهاه، إفضاءات بآلام الشاعر داخل إفضائه الظاهر بشكواه، إنها موسيقا شجوه تخلَّلت موسيقا العروض، إنها أنفاسه داخل كلماته تَهَبُ الأبيات حيويَّة وصدقًا، فلو أضفنا إلى ذلك إيحاء الكلمات: (العمى، المَهْمَه، يصْطلي، يجتابُ)، وهي كلمات تصويرية تصوِّر الألم مجسَّمًا وصاحبه يُعانِي منه ماثلاً.

والقصيدة في تدرُّجها من الاستهلال إلى الخاتمة، وعنايتها بالمشاعر الداخلية وجعلها الصور الحسية محصورة في تلك الدلالات النفسية، وإيجازها بتكثيف التجربة دون عبارات فضفاضة أو جمل خطابية طنَّانة، أو أبيات زائدة عن الحاجة، قد بلغت قدرًا فائقًا من الصدق النفسي والجودة الفنية.

هذا الإيجاز وتكثيف التجربة يعطينا فيضًا كثيفًا من الدلالة؛ لأنه يترك على أطراف المعاني ظلالاً شفيفة يشتغل بها الذهن، ويعمل فيها الخيال حتى تتَّسع، فتزيد بطريق الإيحاء من دلالة الكلام.

إن الخطاب الأدبي لا تقتصر محاسنه على ما ظهر منها؛ لأن لكلِّ تركيب أكثر من سمة جمالية وأكثر من دلالة، ولكن المتلقِّي الواعي مَن يجتني من الأزهار نُوارَها، ومن الألفاظ إيحاءَها، ومن المعاني دلالاتها، ويضع يده على الخصائص التي تعرض في نظم الكلم، ويعدِّدها واحدة واحدة، وتكون معرفته بالأشياء "معرفة الصَّنَعِ الحاذقِ الذي يعلم علم كلَّ خيط من الإبرَيْسَم في الديباج"[74].

إن أيَّ نص أدبي - كما يقول كروتشه في منظوره الجمالي: "له تشكُّله القارُّ به، وأن جماله الخاص به مستكنٌّ في هذا التشكيل في صورته الكلية، ومن ثمَّ فأي بتر أو إضافة أو تحوير أو تبديل، إنما سينتج من ورائه شكل آخر"[75]، ليس هو المراد؛ لذا فقد ذهب كولردج إلى أن: "القصيدة ذات القوة الأصلية التي تستحقُّ اسم الشعر بمعناه الجوهري، ليست هي القصيدة التي منحتنا قراءتُها أكبرَ مقدار من اللذَّة، وإنما هي القصيدة التي تعطينا أكبر مقدار من اللذة حينما نعود إلى قراءتها"[76].

وخلاصة القول: نحن إزاء هذه القصيدة أمام شاعر يملك أسلوبًا قويًّا، ولديه عاطفة مشبوبة صادقة، وقد استطاع أن يعبِّر عن تجربته القاسية بطريقة فنية من خلال الصورة الكلية، وفي إطار القصيدة الشعرية الغنائية، فكان موفَّقًا في ذلك كلِّه أعظم التوفيق، وبذلك نستطيع أن نقول: إن تعبير الشاعر عن تجربته جاء مطابِقًا لمقتضى حاله.

ومن الشواهد أيضًا على مطابقة الكلام لمقتضى الحال قولُ أبي العتاهية يمدح المهدي ويشبِّب بجاريته عتب:
أَلاَ  مَا   لِسَيِّدَتِي   مَا   لَهَا        تَدِلُّ     فَأَحْمِلُ     إِدْلاَلَهَا
أَلاَ    إِنَّ    جَارِيَةً     لِلإِمَا        مِ قَدْ سَكَنَ الحُسْنُ سِرْبَالَهَا
لَقَدْ  أَتْعَبَ  اللهُ  قَلْبِي   بِهَا        وَأَتعَبَ  فِي  اللَّوْمِ   عُذَّالَهَا
كَأَنَّ   بِعَينَيَّ   فِي    حَيْثُمَا        سَلَكْتُ مِنَ الأَرْضِ تِمْثَالَهَا
فلمَّا وصل إلى المديح قال من جملته:
أَتَتْهُ     الخِلاَفَةُ      مُنْقَادَةً        إِلَيْهِ      تُجَرِّرُ      أَذْيَالَهَا
فَلَمْ  تَكُ  تَصْلُحُ   إِلاَّ   لَهُ        وَلَمْ  يَكُ  يَصْلُحُ  إِلاَّ  لَهَا
وَلَوْ   رَامَهَا   أَحَدٌ   غَيْرُهُ        لَزُلْزِلَتِ  الأَرْضُ   زِلْزَالَهَا
وَلَوْ لَمْ تُطِعْهُ بَنَاتُ الْقُلُوبِ        لَمَا   قَبِلَ   اللهُ    أَعْمَالَهَا
تأمَّل هذه الأبيات ترَ أنها أعذب على العذبات، وأعلق بالخاطر، وأسرى في السمع، وهي بلا شكٍّ من رقيق الشعر غزلاً ومديحًا، تحسُّ منها السلاسة واللطافة والجزالة والرقة، فالجزالة تتمثَّل في كون الألفاظ متعارفة في استعمال الأدباء والبلغاء، سالمة من ضعف التأليف ومن التكلُّف وممَّا هو مستكره في السمع... والمراد بالرقة نسجُ الكلام على منوال المحدَثين في اللين والظرف... وقد تُقال الجزالة على هذا الإطلاق على الكلام الذي يصدر في أغراض يناسبها اللين واللطافة كالنسيب والزهريات والمُلَح[77].

ناهيك عن جمال الوزن وسلاسة الإيقاع، فمن السلاسة واللطافة التي تعمَّدها الشاعر هذا النسيج الرقيق على منوال بحر (المتقارب) ذي التفعيلة الموحدة المكرَّرة (فعولن) ثمان مرَّات في البيت الواحد، فيحس المتلقِّي وهو يسمع أو يقرأ بحلاوة النَّغَم ووحدة الموسيقا وجمال الإيحاء.

ويحكَى أن بشارًا كان شاهدًا عند إنشاد أبي العتاهية هذه الأبيات، فلمَّا سمع المديح قال: انظروا إلى أمير المؤمنين، هل طار عن أعواده؟ يريد هل زال عن سريره طربًا بهذا المديح؟

ولعمري إن الأمر كما قال بشار، وخير القول ما أسكر السامع، حتى ينقله عن حالته سواء كان في مديح أو غيره، وقد علَّق ابن الأثير على هذه الأبيات بقوله: وهذا هو الكلام الذي يسمى: (السهل الممتنع) الذي يُطْمِعُك، فإذا ما حاولت مماثلته راغَ منك وامتنع عليك[78].

يُفهَم من تعليق ابن الأثير أن (السهل الممتنع) "أسلوب يتوسَّط الوضوح والغموض، والوحشي الغريب والسوقي العامي، ويعبِّر عن حالة من التوازن بين بديع المعاني وتجويد الصياغة، أو عن التماثُل بين الصياغة والمعنى، والتوازن بين السياق اللغوي والسياق الموقفي"[79].

إن أقلَّ الناس حظًّا في هذه الصناعة/البلاغة، مَن اقتصر في اختياره على سلامة الوزن، وإقامة الإعراب، وأداء اللغة فقط، ثم لا يعبأ بعد ذلك بجمال النظم، وإدراك العلاقات بين أجزاء الكلام، وضرورة معايشة التجربة الجمالية، مما يُعِيق سُبل التلقِّي، من أجل ذلك ذهب الجاحظ إلى أن البيان "يحتاج إلى تمييز وسياسة، وإلى ترتيب ورياضة، وإلى تمام الآلة، وإحكام الصنعة... وأن حاجة المنطق إلى الحلاوة والطلاوة كحاجته إلى الجزالة والفخامة"[80]؛ أي: إن الجاحظ نادَى بإحكام التوازن بين العلاقات الداخلية للنصِّ والعلاقات الخارجية، وذلك لإحداث التأثير في وجدان المتلقِّي وعقله.

فالكلام يقوَى تأثيره في المتلقِّي بترابطه وتأكيد معانيه؛ إذ كلَّما "ازداد الكلام تأكيدًا كان أبلغ"[81]، وأقوى تأثيرًا، لقدرته على تثبيت المعنى، وطمس التردُّد من أفق النص، بمعنى: أن التأكيد يلغي كلَّ ما يعكر تقبُّل الجمال؛ لأنه يتيح المجال بصورةٍ أكبر لتقبُّله بنفس مطمئنَّة، والجمال في الأصل لا يقوَى بناؤه إلا بالراحة واللذَّة والطمأنينة، أمَّا الشك والريب والتردُّد فهي مَعاوِل تهدم الجمال في النفس؛ لهذا قال - تعالى -: {ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ} [البقرة: 2] في بداية القرآن؛ طردًا للشك والريب، وترسيخًا للإيمان، وتهيئة لتلقِّي كلام الله الذي يخلق الانسجام في أنحاء الحياة وأنفُس البشر.

إن البلاغة فنُّ إدراك العلاقات وعبقرية الأداء وحساسية التذوُّق، والكلام البليغ تهشُّ له الأسماع، وترتاح له القلوب، ويصنع فيها صنيع الغيث في التربة، فاللذَّة الجمالية هي عين الإدراك الجمالي، وكلَّما كان الإدراك شموليًّا كانت اللذَّة أعظم.

وفي ضوء هذا التصوُّر فإن تمثُّل المعنى أو مقتضى الحال في التعبير الفني لا يتحقَّق إلا بالنظرة المتأنِّية الواعية التي تُحِيط بالأحوال التي هي بواعث ومناسبات له من جهة، ثم بالخصائص والظواهر الفنية في ذلك التعبير والتي هي رموز فنية تلبس فيها وتشكل بها من جهة أخرى.

خاتمة وتعقيب:
إن تقيُّد البلاغيين والنقَّاد بشروط معيارية لفصاحة الكلمة وفصاحة الكلام وربطها بأمور سلبية، كعدم تنافر الحروف وعدم الغرابة وعدم مخالفة القياس/ الوضع - أدَّى إلى تأخُّر البلاغة، وافتقاد الأذواق الرفيعة، فالفصاحة لم تطرح كعلمٍ جمالي متكامل له مقوماته ومبادئه، وإنما طُرِحت كإشارات مختلفة قامت بمجملها على السلبية؛ أي: إنها كخاصة أسلوبية تحدَّدت بالابتعاد عن بعض الهنات اللغوية أو اللفظية.

إن الفصاحة في هذا المفهوم تدني الكلام من معياريته بعد أن تُنقيه من الأخطاء اللغوية والهنات الصوتية، ولكنها لا تدفع به نحو الأمام؛ أي: إنها لا ترفعه إلى مصافِّ الأدب أو الفن الرفيع؛ لأن النص الأدبي - من وجهة نظر النقد الحديث - وحدة متماسِكة، يرى النور كاملاً، ويؤثر في القارئ من خلال ما يؤدِّيه ككل، وليس من خلال أثر لفظة أو بعض الألفاظ أو بعض المعاني.

فكيف يمكننا أن نحكم على لفظة مفردة أو على مجموعة من الألفاظ بالجمال أو بالقبح، أو بعدم الفصاحة، إذا أبعَدْنا هذه الألفاظ عن سياق النص؟ وما الذي يحدِّد جمال اللفظة؟ آللفظة بذاتها أم بانسجامها في المكان الذي وجدت فيه والسياق الذي شملها؟

إن الفصاحة وَفْقَ هذا المفهوم الحصري والانفصالي لا علاقة لها بالبلاغة؛ لأن هذه الأخيرة تتناوَل بالدراسة التعبيرَ الفنيَّ الجميلَ، بينما يبقى ميدان الأولى محصورًا ضمن إطار التعبير المعياري الشائع في كلام الناس، وعندما تنحصر الفصاحة في هذه الدائرة الضيِّقة نتجاوَزها في دراستنا البلاغية والأسلوبية؛ لأن هذه الأخيرة تهدف أيضًا إلى دراسة أساليب التعبير اللغوية من حيث قدرتها الشعورية والانفعالية، وذلك بملاحظة مواطن الخروج ومناهضة الاستعمال الجاري عليه الكلام، ثم محاولة الكشف عن العلل الاستاطيقية الباعثة على ذلك.

لقد أصبح ميدان البلاغة الحديثة - التي تعدَّت بمفهومها الجديد مفهوم البلاغة القديمة - وميدان الأسلوبية مشتركًا وأهدافهما واحدةً؛ إذ تُحاوِل البلاغة أو الأسلوبية تتبُّع الظواهر الجمالية في العمل الأدبي على مستويات متعدِّدة نابعة من جوهر واحد.

هذه المستويات هي: المستوى الصوتي الإيقاعي، ومستوى الأساليب اللغوية (علم المعاني)، والمستوى المجازى (البيان أو الصورة الشعرية).

ولا شكَّ في أن هذه المستويات تتفاعَل فيما بينها؛ لأنها واحدة في الجوهر؛ لذلك يجب أن يكون البحث في أيِّ مستوى من هذه المستويات على صعيد النص الأدبي مرتبطًا بهذا الكل وناتجًا عنه فلا ينظر إلى الأصوات بقطع النظر عن المجاز، ولا إلى الأساليب اللغوية بقطع النظر عن هذه وتلك، وإذا اهتمَّت الفصاحة في الماضي بالناحية اللفظية؛ أي: الناحية الصوتية ضمن السياق المعنوي العام للنص الأدبي كما فعل الجرجاني، فإننا ننظر إلى المستوى الصوتي الإيقاعي على أنه التطوُّر الطبيعي لهذه الفصاحة؛ لأن كل ذلك يدخل - كما أشرنا - ضمن باب البلاغة أو الأسلوبية.

ليست قوَّة الأسلوب في جزالته أو غرابته، وإنما في تلاحُمِه وتجاوُبِ نظمه، ومعاندته للمتلقِّي وخفاء جمالياته، ولذلك استحسَن البلاغيون الأسلوب (السهل الممتنع)، وحبَّذوا الغموض والإيجاز؛ لما فيه من إثارة المتلقِّي ليتفاعَل مع النص، ويستخرج ما فيه من دلالات مستتِرَة، ويحتلب ما فيه من دسامة، فيشعر بالراحة واللذَّة.

وبناءً على ما أسلفنا من القول كان عملنا قائمًا على إعادة النظر برؤية ثانية أكثر عمقًا إلى تلك النصوص الشواهد التي ذكرها البلاغيون في باب الفصاحة والبلاغة، عند حديثهم عن التنافُر اللفظي والتعقيد اللفظي والمعنوي، وعند حديثهم عن البلاغة ومطابقة مقتضى الحال.

إننا نريد نظرة للنص أوسع وأشمل، نظرة تبحث عن روح الكاتب أو الشاعر في لغته، وفي تعبيره الذي يختطُّه، والتغيُّر الطارئ عليه من روح العصر والثقافة في الصورة اللغوية الجديدة.
ـــــــــــــــــــــــ
[1] "لسان العرب"، مادة (بلغ)، وراجع: "معجم المصطلحات البلاغية": ص 234، 235.
[2] "الإيضاح": ص 19؛ تحقيق: د/ محمد خفاجي.
[3] "البيان والتبيين": 1/115.
[4] "مداخل إلى علم الجمال الأدبي": ص 102، وراجع: "فلسفة الجمال في البلاغة العربية": ص 29.
[5] "الصناعتين": ص 10.
[6] "جمالية الألفة": ص 16.
[7] "سر الفصاحة": ص 59.
[8] "دلائل الإعجاز": ص 43.
[9] "البيان والتبيين": 1/87.
[10] "البيان والتبيين": 1/136، والقول لبشر بن المعتمد.
[11] راجع في ذلك: "الخصائص": 2/270، 271.
[12] "علم الفصاحة العربية"، بتصرف.
[13] "خصائص التراكيب": ص 39.
[14] "دلائل الإعجاز": ص 87، وانظر: "نهاية الإيجاز في دراية الإعجاز": ص 108.
[15] "دلائل الإعجاز": ص 544.
[16] "دلائل الإعجاز": ص 534، 535، وراجع: "المعنى في البلاغة العربية": ص 197.
[17] "الكشاف": 2/467.
[18] "الكشاف": 4/138.
[19] "الكشاف": 3/301، 32.
[20] "الكشاف": 1/508، 509.
[21] "مفتاح العلوم": ص، 70.
[22] "المعنى في البلاغة العربية": ص 203.
[23] السابق: ص 83.
[24] "مفتاح العلوم": ص 81، 82.
[25] د/ محمود الربيعي، "مقالات نقدية": ص 61، مكتبة الشباب، 1978م.
[26] "الحيوان": 5/287.
[27] انظر: "المستصفى": ص 268.
[28] "شرح المعتمد في أصول الفقه": ص 75.
[29] "أصول الفقه": ص 122.
[30] "السياق وتوجيه دلالة النص": ص 60.
[31] "الإيضاح": 1/41.
[32] "الإيضاح": 1/49.
[33] "البيان والتبيين": 1/136.
[34] "البيان والتبيين": 1/111.
[35] "اللغة"؛ فندريس: ص 231.
[36] مصطفى إبراهيم عبدالله: "نظرية السياق السببي في المعجم العربي": ص 196، وقد طبَّق ذلك على أسماء الخمر حيث بلغت واحدًا وثلاثين اسمًا، وأسماء الأسد حيث بلغت خمسة وستين اسمًا، تتبع شرح المعاجم لهذه الأسماء مستعينًا بالسياق السببي فيما ذكرته المعاجم من استخدامات الكلمة، ومن أشعارٍ تضمَّنت هذه الأسماء حيث يلحظ في هذه الاستخدامات وجوه مختلفة للتسمية، راجع في المصدر السابق "أثر السياق السببي في الترادف": ص 185 وما بعدها.
[37] "الإيضاح": 1/43.
[38] هذه العبارة الموجَزة وصفها الدكتور تمام حسان بأنها قفزة من قفزات الفكر العربي.
[39] "البلاغة العربية": ص 72.
[40] ابن عصفور: "شرح جمل الزجاجي".
[41] انظر: "دلائل الإعجاز": ص 435 وما بعدها.
[42] انظر: "الكشاف": 1/316، 317، و3/84، و2/267، و2/467، و3/31.
[43] "البيان والتبيين": 1/138.
[44] "الأغاني": 3/190.
[45] "عيار الشعر": ص 44.
[46] "الأغاني": 3/60، و"الموشح": ص 313، و"مفتاح العلوم": ص 82.
[47] "المصطلح البلاغي القديم في ضوء البلاغة الحديثة": ص 32، د/ تمام حسان، "م فصول" م 7 ع 3، 4 أبريل - سبتمبر 1987م.
[48] إن السياق مجموعة من المواقف والإمكانات المتفاعلة، وفيه تقاطعات مستمرَّة، ولهذا وجب أن يرجع إليه في تبين قيمة الكلمة ودلالتها؛ فهو الذي يكشف عن فاعليتها، ويرد إليها قيمتها الخفية.
[49] "دراسات في علم النفس": ص 115.
[50] "البرهان في علوم القرآن": 2/200- 201.
[51] "دلائل الإعجاز": ص 15، و"البيان والتبيين": 1/395.
[52] "السياق وتوجيه دلالة النص": ص 84، بتصرف.
[53] "الإيضاح في علوم البلاغة": ص 42- 44؛ تحقيق/ خفاجي.
[54] انظر: "علم الدلالة"؛ للدكتور أحمد مختار عمر: ص 71.
[55] انظر: "النحو والدلالة": ص 116.
[56] "أسرار البلاغة": ص 225، 228، وانظر: "بين البلاغة والأسلوبية": ص 151 - 153.
[57] السابق: ص 225.
[58] "عيار الشعر": ص 87، 88.
[59] "المعنى الشعري في التراث النقدي": ص 204.
[60] "أسرار البلاغة": ص 225، وانظر: "بين البلاغة والأسلوبية": ص 153.
[61] "المصون": ص 156، "المعنى الشعري": ص 205.
[62] "قواعد الشعر": ص 73.
[63] "أسرار البلاغة": ص 139، 140.
[64] "دلائل الإعجاز": ص 534، 535، بتصرف.
[65] "دراسات في علم النفس الأدبي": ص 170.
[66] "ديوان المتنبي": 3/194، و"المثل السائر": 2/11، 12، وانظر: "حسن التعليل": ص 134، 135.
[67] "التفسير النفسي للأدب": ص 64.
[68] "ما الأدب؟": ص 15.
[69] "ما الأدب؟": ص 15.
[70] "البيان والتبيين": 1/155.
[71] "هوراس؛ "فن الشعر": ص 112.
[72] "من الوجهة النفسية في الأدب ونقده": ص 175.
[73] استعنت في تحليل هذه القصيدة بما كتبه د/ أحمد هيكل في كتابه "الأدب الأندلسي": ص 100- 102، وعن حياة الشاعر ومناسبة القصيدة: ص 112 – 114.
[74] "دلائل الإعجاز": ص 37.
[75] "القول الشعري": ص 49.
[76] "كولردج": ص 170.
[77] "شرح المقدمة الأدبية": للطاهر بن عاشور ص 70، طبعة الدار العربية، تونس.
[78] "المثل السائر": 1/194، بتصرف.
[79] "فلسلفة الجمال في البلاغة العربية": ص 116، وانظر: "قواعد الشعر"؛ لثعلب ص 40.
[80] "البيان والتبيين": 1/141.
[81] "الوساطة": 202.




 حفظ بصيغة PDFنسخة ملائمة للطباعة أرسل إلى صديق تعليقات الزوارأضف تعليقكمتابعة التعليقات
شارك وانشر

مقالات ذات صلة

  • الشاهد الشعري في مبحثي الفصاحة والبلاغة (1/3)
  • الشاهد الشعري في مبحثي الفصاحة والبلاغة (2/3)
  • العلم المظلوم.. علم البلاغة
  • ظهور منظور المتلقي في التراث النقدي عند العرب (1/ 10)
  • نظرية قواعد "جويار" حول نبر الشعر ومناقشتها
  • نماذج في الفصاحة والبلاغة

مختارات من الشبكة

  • الشاهد الشعري النحوي عند الفرّاء (ت:207هـ) في كتابه (معاني القرآن) دراسة نحوية(رسالة علمية - مكتبة الألوكة)
  • النحو الكوفي من خلال الشاهد الشعري(رسالة علمية - مكتبة الألوكة)
  • صناعة الشاهد الشعري في الدرس الأصولي: الإمام الشاطبي أنموذجا(مقالة - حضارة الكلمة)
  • الشاهد الشعري في كتب طبقات الشعراء بين ابن قتيبة وابن المعتز(رسالة علمية - مكتبة الألوكة)
  • صدر حديثاً كتاب (الشاهد الشعري في تفسير القرآن الكريم) لعبدالرحمن الشهري.(مقالة - موقع الشيخ الدكتور عبدالرحمن بن معاضة الشهري)
  • الشواهد والمتابعات(مقالة - آفاق الشريعة)
  • الشاهد النحوي في تفسير (إرشاد العقل السليم لأبي السعود)(رسالة علمية - مكتبة الألوكة)
  • الشاهد النحوي في كتاب: مصابيح المغاني في حروف المعاني لابن نور الدين المَوزعي (825 هـ)(رسالة علمية - مكتبة الألوكة)
  • فوائد من حديث فليبلغ الشاهد الغائب(محاضرة - موقع الشيخ د. خالد بن عبدالرحمن الشايع)
  • توجيه الشاهد القرآني في مغني اللبيب (تأصيل وتطبيق ومنهج)(رسالة علمية - مكتبة الألوكة)

 


تعليقات الزوار
1- حال و مقتضياته الكلامية
amira - alger 05-12-2011 10:59 PM

أطلب من حضراتكم موجز تلخيص لحال ومقضياته الكلامية

1 

أضف تعليقك:
الاسم  
البريد الإلكتروني (لن يتم عرضه للزوار)
الدولة
عنوان التعليق
نص التعليق

رجاء، اكتب كلمة : تعليق في المربع التالي

مرحباً بالضيف
الألوكة تقترب منك أكثر!
سجل الآن في شبكة الألوكة للتمتع بخدمات مميزة.
*

*

نسيت كلمة المرور؟
 
تعرّف أكثر على مزايا العضوية وتذكر أن جميع خدماتنا المميزة مجانية! سجل الآن.
شارك معنا
في نشر مشاركتك
في نشر الألوكة
سجل بريدك
  • بنر
  • بنر
كُتَّاب الألوكة
  • ختام ناجح للمسابقة الإسلامية السنوية للطلاب في ألبانيا
  • ندوة تثقيفية في مدينة تيرانا تجهز الحجاج لأداء مناسك الحج
  • مسجد كندي يقترب من نيل الاعتراف به موقعا تراثيا في أوتاوا
  • دفعة جديدة من خريجي برامج الدراسات الإسلامية في أستراليا
  • حجاج القرم يستعدون لرحلتهم المقدسة بندوة تثقيفية شاملة
  • مشروع مركز إسلامي في مونكتون يقترب من الانطلاق في 2025
  • مدينة روكفورد تحتضن يوما للمسجد المفتوح لنشر المعرفة الإسلامية
  • يوم مفتوح للمسجد يعرف سكان هارتلبول بالإسلام والمسلمين

  • بنر
  • بنر

تابعونا على
 
حقوق النشر محفوظة © 1446هـ / 2025م لموقع الألوكة
آخر تحديث للشبكة بتاريخ : 23/11/1446هـ - الساعة: 18:47
أضف محرك بحث الألوكة إلى متصفح الويب