• الصفحة الرئيسيةخريطة الموقعRSS
  • الصفحة الرئيسية
  • سجل الزوار
  • وثيقة الموقع
  • اتصل بنا
English Alukah شبكة الألوكة شبكة إسلامية وفكرية وثقافية شاملة تحت إشراف الدكتور سعد بن عبد الله الحميد
 
الدكتور سعد بن عبد الله الحميد  إشراف  الدكتور خالد بن عبد الرحمن الجريسي
  • الصفحة الرئيسية
  • موقع آفاق الشريعة
  • موقع ثقافة ومعرفة
  • موقع مجتمع وإصلاح
  • موقع حضارة الكلمة
  • موقع الاستشارات
  • موقع المسلمون في العالم
  • موقع المواقع الشخصية
  • موقع مكتبة الألوكة
  • موقع المكتبة الناطقة
  • موقع الإصدارات والمسابقات
  • موقع المترجمات
 كل الأقسام | أسرة   تربية   روافد   من ثمرات المواقع  
اضغط على زر آخر الإضافات لغلق أو فتح النافذة اضغط على زر آخر الإضافات لغلق أو فتح النافذة
  •  
    المحطة العاشرة: مقومات الإيجابية
    أسامة سيد محمد زكي
  •  
    أنماط التعليم الإلكتروني من حيث التدرج في ...
    أبو مالك هيثم بن عبدالمنعم الغريب
  •  
    وصية امرأة لابنتها في زفافها
    الشيخ محمد جميل زينو
  •  
    المحطة التاسعة: العادات
    أسامة سيد محمد زكي
  •  
    الشباب بين الطموح والواقع: كيف يواجه الجيل الجديد ...
    محمود مصطفى الحاج
  •  
    هبة فيها النجاة!
    أ. رضا الجنيدي
  •  
    بركة الزوج الصالح على الزوجة في رفع درجتها في ...
    فهد عبدالله محمد السعيدي
  •  
    تربية الأطفال في ضوء توجيهات سورة الحجرات
    محمد عباس محمد عرابي
  •  
    السلاسل الحقيقية لا ترى!
    أمين محمد عبدالرحمن
  •  
    تطوير العلاقات الإنسانية في الإسلام
    يوسف بن طه السعيد
  •  
    المحطة الثامنة: القرارات
    أسامة سيد محمد زكي
  •  
    التربية بالقدوة: النبي صلى الله عليه السلام
    محمد أبو عطية
  •  
    مهن في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم
    نجاح عبدالقادر سرور
  •  
    تزكية النفس: مفهومها ووسائلها في ضوء الكتاب ...
    عاقب أمين آهنغر (أبو يحيى)
  •  
    الإنذار المبكر من التقاعد المبكر
    هشام محمد سعيد قربان
  •  
    دور الذكاء الاصطناعي في تعزيز كفاءة العملية ...
    أبو مالك هيثم بن عبدالمنعم الغريب
شبكة الألوكة / مجتمع وإصلاح / روافد
علامة باركود

الوقاية من الجريمة في التشريع الجنائي الإسلامي

د. محمد بن سعد الشويعر

المصدر: مجلة البحوث الإسلامية، العدد 29، ص125-167
مقالات متعلقة

تاريخ الإضافة: 5/1/2007 ميلادي - 15/12/1427 هجري

الزيارات: 140323

 حفظ بصيغة PDFنسخة ملائمة للطباعة أرسل إلى صديق تعليقات الزوارأضف تعليقكمتابعة التعليقات
النص الكامل  تكبير الخط الحجم الأصلي تصغير الخط
شارك وانشر
الحمد لله الذي شرع لعباده ما تستقيم به أحوال معاشهم، ويسعدهم في معادهم بالجزاء الاوفى الذي حدّ الحدود لتبعث في النفوس اطمئناناً، يمنع من الجريمة، وواقياً يحمي المجتمعات من تسلط المجرمين، والصلاة والسلام على البشير النذير الذي أرسله ربه مقيماً للعدل وموضحاً للحق وحريصاً على تنفيذ حدود الله، حتى لا تفسد الأمة، وعلى آله وصحابته الذين أقاموا سنته، ونشروا راية الإسلام في أرجاء المعمورة. رمزاً للعدل، وتمكيناً لحق لا إله إلا الله.
أما بعد: فإنها حدود وزواجر، وترغيب وترهيب، منها الوازع الديني ومراقبة النفوس، ومنها الوازع السلطاني وردع المعتدي بالقوة، حكمة أرادها الله لتحدث توازناً في المجتمع ككفتي الميزان، فالشعرة المحددة للعدالة هي شريعة الله التي توازن بين الحالين، فتبين الحق وتردع الظالم، وتعين المظلوم. فالإسلام قد كفل بتعاليمه، والشرع الذي أبانه لله فيه للمجتمع الراحة والأمان، وللفرد فيه الهدوء والاستقرار بما جاء في كتاب الله. وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وإن فهم الصفوة الأولى من هذه الأمة للشريعة وما تدل عليه، وما اشتملت عليه من أوامر وزواجر، لمما يتلاءم مع النفس البشرية وما يردعها، وهو الدين الذي ارتضاه الله جل وعلا لخير أمة أخرجت للناس، لأنه المصلح لأحوال البشر والمنظم لمعيشتهم، والحالّ لكل معضلة تعترض مسيرتهم، فهو دين الفطرة، وهو الدين الحق، الذي لا يقبل سبحانه من البشر سواه، لأن سعادتهم باتباعه، وفلاحهم في تطبيق حدوده، وشقاوتهم في الانصراف عنه، واتخاذ قوانين وضعية لتحكيمها بدلاً منه، قال تعالى: {وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِيناً فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الأَخِرَةِ مِنَ الخَاسِرِينَ}[1]. وهو الدين الذي بعث الله به الرسل، وأنزلت به الكتب، ودعا إليه أنبياء الله أممهم، منذ خلق الله آدم حتى أتم جل وعلا الرسالة بمحمد صلى الله عليه وسلم.
فهذا نبي الله نوح عليه السلام يقول: {وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ المُسْلِمِينَ}[2] وإبراهيم الخليل قال عنه سبحانه:
{مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُوِديًّا وَلاَ نَصْرَانِيًّا وَلَكِن كَانَ حَنِيفاً مُّسْلِماً}[3].
ويوسف عليه السلام دعا ربه قائلاً: {أَنتَ وَلِىِّ فِي الدُّنْيَا وَالأَخِرَةِ تَوَفَّنِى مُسْلِماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ}[4] وموسى عليه السلام قال لقومه: {يَا قَومِ إِن كُنتُمْ ءَامَنتُم بِاللهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُواْ إِن كُنتُم مُّسْلِمِينَ}[5].
فما من نبي إلا وقد كان الإسلام هو معتقده، وهو ما يدعو قومه إليه، وقد خصّ الله أمة محمد صلى الله عليه وسلم بهذا الدين ليكون سمة لهم بين الأمم، وامتثالاً لإرادة الله جل وعلا التي جاءت على لسان أبي الأنبياء إبراهيم الخليل عليه السلام، عندما سمى خير الأمم وخاتمها، أمة محمد صلى الله عليه وسلم بالمسلمين فقال عز وجل: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ المُسْلِمِينَ مِن قَبْلُ}[6]، وعندما بنى الكعبة هو وابنه إسماعيل، عليهما السلام دعا ربه قائلاً: {رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِن ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ}[7].
ذلك أن الإسلام مع كونه دين الفطرة، وهو دين العدالة الاجتماعية، وهو دين التوازن، وأمة حباها الله بالإسلام، وشرفها بالانتماء إليه، عليها أمانة الفهم، ودراية التطبيق، وفتح الصدور لإدراك ما تنطوي عليه شريعة هذا الدين من مصالح يؤمر المرء بها، ومفاسد يدرؤها الله عن البشر بزواجر هذا الدين، وحدوده الرادعة.
والجريمة واحدة من المفاسد الإجتماعية التي جاءت تعاليم الإسلام، ترسم للناس: قادة ومرؤوسين، طريقاً ممهداً، تحمى به المجتمعات من آفاتها، ومن تسلط ضعفاء النفوس على الآخرين مستغلين قدرتهم وحيلهم، وغفلة الناس أو ضعفهم أمامهم، فكان لولي الأمر، وبما أعطاه الله من سلطان في التتبع والإصلاح، وبما أيد به من حكم صادر عن شرع الله، أن يعمل جاهداً في حصر نطاق الجريمة بأضيق الحدود، وأن يتابع ببذل الطاقة للقضاء عليها، في منهجين مستمدين من تربية الإسلام، وحسن رعايته للفرد والجماعة، حيث اهتم التشريع الجنائي في الإسلام بذلك، وهما:
– الطرق الوقائية.
– أسلوب المكافحة.
وقبل الحديث في هذين الأسلوبين، يحسن بنا أن نعرّف الجريمة، والجناية، والحدود، تعريفاً لغوياً، وشرعياً لندرك من ذلك المقصود بالدلالة وما عليه أكثر العلماء من تعيين المراد بهذه الألفاظ كما هي عادة الفقهاء رحمهم الله، بجعل التعريف اللغوي والشرعي، مدخلاً لكل موضوع يريدون التحدث عنه، ليكون منبئاً عن الهدف الذي أرادوا به الإحاطة والشمول، ذلك أن اللغة العربية هي وعاء الدين والمفسرة لما قد يغمض من دلالات المعاني فيه.

الجريمة:
مأخوذة من مادة جرم، وقد أطال ابن منظور في لسان العرب[8] والزبيدي في تاج العروس[9] في توضيح دلالة هذه المادة واشتقاقاتها، ويهمنا هنا ما يدل على الموضوع الذي نحن بصدده حيث قال الزبيدي: "جرم فلان جرماً: أذنب كأجرم واجترم، فهو مجرم وجريم، وجرم لأهله كسب لهم، يقال: خرج يجرم لأهله، ويجرم أهله: أي يحتال ويطلب، وهو جارم أهله أي كاسبهم".
والجرائم جمع جريمة، وهي الجناية والذنب كيفما كان، سواء كان صغيراً أو كبيراً.
أما في الإصطلاح الفقهي، فمن ذلك ما حكاه الماوردي في الأحكام السلطانية بقوله: "الجرائم محظورات شرعية زجر الله عنها بحد أو تعزير، يعني إذا كانت ممن يتعمد ارتكابها"[10].
ويظهر من دلالة الكلمة أجرم وما تدل عليه في كتاب الله جل وعلا، حيث وردت أكثر من خمسين مرة وأغلبها في حالة الجمع ((مجرمين)): أن المجرم هو من ارتكب كبيرة فقط، والكبيرة في تعريف أكثر العلماء، هي:
ما استحق عليها عقاب أو وعيد، يدل على مثل هذه الدلالة الآيات الكريمات: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِىٍّ عَدُوًّا مِّنَ المُجْرِمِينَ}[11] وقوله تعالى: {إن المجرمين في عذاب جهنم خالدون}[12]. وقوله سبحانه: {أَفَنَجْعَلُ المُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ}[13] وقوله: {إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنتَقِمُونَ}[14] وقوله جل وعلا: {إِنَّهُ مَن يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِماً فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لاَ يَمُوتُ فِيهَا وَلاَ يَحْيَى}[15].

الجناية:
جمعها جنايات وهي مصدر جنى يجني جناية، والقياس في اللغة العربية أن المصادر لا تجمع، وإنما ساغ جمع الجناية هنا على جنايات لأسباب منها:
– اختلاف أنواعها فإن منها ما هو قتل أي جناية على النفس، ومنها ما هو غير قتل، أي جناية على ما دون النفس من الأطراف وغيرها، كالشجاج والجراحات، وغير ذلك، بل إن الجناية على النفس تختلف فقد تكون عمداً موجبة للقود، وقد تكون شبه عمد أو خطأ أو ما في معناه[16].
قال الزبيدي في تاج العروس: جنى الذنب عليه يجنيه جناية: بكسر الجيم، جرّه إليه قال أبو حية النميري:
وإن  دماً  لو   تعلمين   جنيته        على الحي جان مثله غير سالم
ثم ظاهر سياق صاحب اللسان ((ابن منظور)) أنه حقيقة، وصرح الراغب بأنه مستعار من جني الثمرة، كما استعير اجترم، وفي الحديث لا يجني جان إلا على نفسه. الجناية الذنب، والجرم ما يفعله الإنسان مما يوجب عليه العقاب، أو القصاص في الدنيا والآخرة، والمعنى أنه لا يطالب بجناية غيره من أقاربه وأباعده، فإذا جنى أحدهم جناية لا يطالب بها الآخر قال أبو عبيدة: "قولهم جانبك من يجني عليك يضرب مثلاً للرجل يعاقب بجناية، ولا يؤخذ غيره بذنبه، وإنما يجنيك من جنايته راجعة إليك، وذلك أن الأخوة يجنون على الرجل".
ويقال للرطب جنى، والكمأة تجنى، والذهب جنى، وتجنّى فلان على فلان ذنباً: إذا ادعى ذنباً ولم يفعله[17] وملخص الرأي اللغوي: التعدي على بدن أو مال أو عرض، وفي العرف مخصوصة بما يحصل فيه التعدي على الأبدان[18]، يقال: جنى فلان ثمرة عمله الصالح، فالأول في الخير والثاني في الشر.
أما التعريف الشرعي: فيرى بعض الفقهاء أنها: أي الجناية اسم لفعل محرم حل بمال أو نفس، كما قال بذلك ابن عابدين في حاشيته[19]، ووافقه على هذا التعريف ابن حطاب من المالكية فإنه قال: "الجناية ما يحدثه الرجل على نفسه أو غيره، مما يضر حالاً أو مالاً"[20].
فالتعريف هنا عام في كل محرم حل بمال، كالسرقة والنصب ونحوهما، وفي كل محرم حل بالنفس كالزنا والقذف والشرب، وغير ذلك من المحرمات. والبهوتي من الحنابلة عرّف الجناية: بأنها التعدي على البدن بما يوجب قصاصاً أو مالاً[21]، ويعبر كثير من الفقهاء الشافعية عن الجناية بأنها الجراحات، فيقولون في كتبهم كتاب الجراح، ويذكرون تحت ذلك بحث كل الجنايات وأحكامها.. وهذا اصطلاح، والبلاغيون قالوا: لا مشاحة في الاصطلاح، لكن الشيخ زكريا الأنصاري منها قال: والتعبير بالجنايات أولى ليشمل التعدي بغير المحدد[22].
وأكثر الفقهاء يقسم الجناية إلى ثلاثة أضرب:
– عمد يختص القود فيه. بشرط أن يقصد الجاني الجناية.
– شبه العمد، ويسمى بخطأ العمد، وعمد الخطأ.
– الخطأ... وقد اتفق على هذا التقسيم جمهور الفقهاء، وبإثباته قال عمر وعثمان وعلي وغيرهم، ولا مخالف لهم من الصحابة[23].
ولم ترد مادة جنى في كتاب الله جل وعلا إلا مرتين بمعنى الثمر، وهو من المعاني اللغوية[24].
الحدود: جمع حدّ وهو في اللغة المنع، ومنه يقال للبواب حداداً، لأنه يمنع الناس من الدخول، فكل ما يحجر بين شيئين. ويمنع اختلاطهما يسمى حداً، ومثله في المحسوسات حدود الأرض، وحدود الحرم، وفي المعنويات: العقوبات.. فإنها تمنع مرتكب الجريمة من العود لمثل عمله، وتمنع غيره عن طريق الخوف أو الاعتبار كذلك فهي مانعة زاجرة، والحدّ تأديب المذنب كالسارق والزاني وغيرهما بما يمنعهما عن المعاودة[25].
وفي الإصطلاح الشرعي: عقوبة مقدرة شرعاً في معصية كالزنا والقذف، وقطع الطريق والسرقة. لتمنع من الوقوع في مثلها[26].
وقد أوجبها الله سبحانه على مرتكبي الجرائم التي تتقاضاها الطباع، وليس عليها وازع طبيعي فهي من أعظم مصالح العباد في المعاش والمعاد. بل لا تتم معايشة ملك من ملوك الأرض إلا بزواجر وعقوبات لأرباب الجرائم حيث يزع الله[27].
وللفقهاء رحمهم الله: اصطلاحات في تخصيص الحدود بالعقوبات:
– فالحنفية: عرفوا الحدود بالعقوبات المقدرة حقاً لله عز وجل[28] فأخرجوا عقوبة التعزير لأنها غير مقدرة. وأخرجوا عقوبة القصاص ونحوها لأنها ليست حقاً لله غالباً، بل حق لله وللعبد، إذ تسقط بعفو العبد.
– والحنابلة: عرّفوا الحدود بالعقوبات المقدرة شرعاً في معصية من الوقوع في مثلها[29]، فأخرجوا عقوبة التعزير كالحنفية، لكنهم أدخلوا عقوبات القصاص ونحوها في مسمى الحدود، لأنها وإن لم تكن حقاً لله خاصة، فهي مقدرة شرعاً[30].
وقد وردت الكلمة: بالحدود والمحادّة في كتاب الله جل وعلا ثماني عشرة مرة، وفي ذلك أمر للفئة المسلمة عقيدة، والمؤمنة بربها سلوكاً ومنهج عمل، بالتزام حدود الله، والوقوف عند شرعه الذي شرع لعباده، لتستقيم أحوال الناس، وينتظم معاشهم.. وحدود الله هي محارمه.
– الوقاية من الجريمة:
يقول ابن تيمية رحمه الله: "لولا العقوبة التي فرضها الله على الجناة والمفسدين، لأهلك الناس بعضهم بعضاً، وبذلك يفسد نظام العالم، وهي لا تتم إلا بمؤلم يردعهم، ويجعل الجاني نكالاً وعظة، لمن يريد أن يفعل مثل فعله"[31].
ولذا تهتم الدراسات الأمنية بالجريمة، ومعرفة المداخل التي أوصلت إليها، والأسباب والمسببات التي تدفع المجرم إلى الجريمة، وهل وراء الانسياق إلى ارتكاب الجريمة دوافع شخصية، أو مؤثرات اجتماعية، وعلى ضوء ما يسفر من نتائج تتضح المقترحات التي تبرز أمام الدارسين لذلك ليروها حلاً معيناً في تلافي الجريمة، ومن ثم محاولة حصرها في أضيق السبل والمختصون في الدراسات الأمنية، وحسبما يظهر أمامهم من ملابسات للجريمة، ومجريات للأمور، يدركون أن الغالبية العظمى من المجرمين، يمتازون بالذكاء، وسعة الحيلة، والمكر والمراوغة، ولكن هؤلاء يستخدمون هذه الصفات في أمور تضر بالمجتمع، وتثير القلق لدى المواطنين.
وما يرسمه المخططون للوقاية من الجريمة، من أساليب يقصد بها مكافحتها، والحدّ من تزايدها، واتساع دائرتها في المجتمع، لا تعطي نتائج مرضية في الغالب، وليس ذلك لقصور في أفكار وتوجيهات ودراسات المهتمين بمحاصرة الجريمة، أو نقص في استعداداتهم، ولكن لأن ما يضعونه من حلول توجد عليه مداخل كثيرة من حيث:
– الرأفة بالمجرم.
– إعادة الجريمة لعوامل نفسية أو اجتماعية.
– تخفيف الحكم على المجرم إذا لمس منه السلوك الحسن.
– تحديد الجزاء بغرامة مالية، أو مدة زمنية قد يوقف تنفيذها.
– إتاحة الفرصة لكل مجرم أن يشتري مدة الحكم أو نوع الجزاء بمبلغ مالي.
– عدم إحصاء الجرائم السابقة التي لم يضبط متلبساً بها، وبالتالي قد لا يعطى عليها حكماً ولا جزاء.
إلى غير ذلك من أسباب ومؤثرات جعلت الإجرام في بعض مناطق المعمورة يأخذ شكلاً تنظيمياً، يخيف المجتمعات، ويزعج رجال الأمن، ويؤثر على النمو الاقتصادي، لأن المال كما يقال: جبان لا ينمو إلا في الجو الآمن، ولا يتسع نطاقه مع الخوف.
ولو تتبعنا بأرقام إحصائية ما تدفعه دول العالم صغيرها وكبيرها، على الأمن من جهود وأموال، وما ينجم من خسارة يوقعها المجرمون يومياً على الأنفس والأموال، وسائر الممتلكات، لوجدنا أرقاماً خيالية، كفيلة بتنظيم حياة الناس، وتوفير العيش الرغيد لهم براحة واطمئنان وهدوء نفس.
ولكن الضعف النفسي الذي سببه الضعف الإيماني الذي يدفع أناساً للتسلط على الآخرين، والتعدي على نفوسهم وأعراضهم وأموالهم، بالحيلة أو القوء ليصبح هؤلاء المجرمون عالة على المجتمع، مفسدين بين أفراد الأمة متسلطين على حقوق غيرهم، حاقدين على الناس عموماً، كما حرص علماء النفس على تسميتهم بمصطلحات عديدة ذات دلالة في المعنى، كالنرجسية والسادية والأنانية.. صفات تنبئ عن حقيقة العمل، واتجاه صاحبه.
وفي نظري أن أهم الثغرات في دراسات وتخطيطات المهتمين بمكافحة الجريمة، وإغفالهم الجانب الروحي، وإبعادهم التدين الذي يخاطب القلوب بما يؤثر فيها، وليس كل مؤثر روحاني يعطي نتيجة في هذا، ولا كل تدين يعتبر تديناً، لأن كل ما يرسمه البشر من سماته الخطأ والقصور، وما جاء من عند الله فهو الكامل الذي لا نقص، ولا مدخل فيه لتأويل.
ودين الإسلام الذي رضيه الله لأمة محمد صلى الله عليه وسلم، عقيدة في القلوب، ومنهج عمل للنفس يقوّمها، وللمجتمع يحميه من الآفات، ويسير نظانم أبنائه، هو الذي ينبعث من المؤثر الروحاني، ويتعمق مفهوم التّدين، وما ذلك إلا أن تعاليمه المستقاة من كلام الله جل وعلا، تخاطب الوجدان، وتنفذ إلى القلب وتمتلك نتائجها المشاعر إحساساً ظاهراً، ونتيجة ملموسة، لأنه دين رضيه الله سبحانه: عقيدة ومنهج سلوك لخير أمة على وجه الأرض، بنعمة منه سبحانه وتعالى وفضل، وشيء رضيه الله لابد أن يكون كاملاً في توجيهه، متناسقاً في تنظيمه، شاملاً في حمايته لأبنائه، ورعاية مصالحهم، كما ندرك هذا من النص الكريم: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِيناً}[32].
فالبشر يعتريهم القصور، وتكثر المداخل عليهم وعلى أعمالهم، وينقصهم بعد النظرة، أما ما يشرعه الله وهو سبحانه أرأف بعباده من الأم بولدها، فلا اختلاف فيه ولا تباين مع الأزمنة والأشخاص، ولا مع اختلاف البيئات والمتطلبات كما قال تعالى: {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفاً كَثِيراً}[33].
وهذا سرّ من أسرار عالمية الإسلام، إذّ رغم أن أنظمة البشر، ووجهات نظرهم في كثير من الأمور، قد تبدّلت باختلاف الأمم، وتعاقب العصور، إلا أن ما شرعه الله من حدود وزواجر، وما نظمته الشريعة من جزاءات وعقوبات، فإنه قد ثبتت سلامتها في تقويم النفوس، حيث تتلاءم مع الطباع السليمة، ونجحت في حماية المجتمعات من الفوضى، فلم تكن وقتية تتلاءم مع أمة دون أمة، أو تصلح لبلد دون بلد.
ذلك أن التركيب الغريزي للنفس البشرية واحد: طبعاً وتهذيباً، وتأثيراً واستجابة، كما أن الماء منذ أن خلقه الله واحد في تركيبه، وفائدته وحاجة الجسم إليه.

والله سبحانه وتعالى هو الخالق للبشر، العالم بطبائعهم، وهو جل وعلا الذي شرع لهم الواجبات ليتبعوها، ويتعبدوه بها، وحدّ الحدود لئلا ينتهكوها، ويعصوه باقترافها، وبيّن سبحانه المحرمات حتى لا يقعوا فيها وسكت عن أشياء رحمة بعباده غير نسيان، فيجب عدم الإلحاف بالسؤال عنها، حتى لا يقع التشديد على الأمة، حسبما حذّر رسول الله صلى الله عليه وسلم من ذلك أمته، لئلا يحل بها ما حلّ بالأمم السابقة.
والدارسون لأثر الشريعة الإسلامية في مكافحة الجريمة، من أبناء الغرب أدركوا ما اشتملت عليه أوامر الإسلام ونواهيه، من حواجز تحمي النفوس من المصائب، وتحيطها به عن التردي إلى أوحال الجريمة، وما ينجم عن ذلك من الإضرار بالأفراد والمجتمعات، فقال أحدهم في مؤتمرات الاستشراق: لو طبق المسلمون تعاليم دينهم، وحرصوا عليها عملاً، فإن دور الشرطة والمحاكم والسجون ستغلق، لأنه لن يبقى لها عمل، وبذلك يوجد المجتمع الصالح الذي رسم الإسلام معالمه، وتتشوق لمثله شعوب الأرض، وسوف تنساق أوروبا بأكملها للإسلام، وبمثل هذا المفهوم قال الشاعر العربي:
لو أنصف الناس استراح القاضي        وجنح      الجميع       للتراضي
وما ذلك إلا أن تعاليم الإسلام، قد جاءت لمداخل الجريمة بتعليمات تسد منافذها، فالأموال والأعراض والنفوس هي وسائل يطمع بواسطتها بعض الناس للتعدي على بعض، والتسلط عدواناً وبغياً، رغبة في الاستئثار أو التكبر أو الظلم، فجاء تنظيم مداخلها ومخارجها في شرع الله الذي شرع لعباده، ورسم المنهج الذي يجب أن تلتزم به النفس المعتدلة، حتى لا يبغي أحد على أحد، وحتى لا يتسلط قوي على ضعيف، رحمة من الله بعباده، وإحساناً منه إليهم. ولهذا قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "الحدود صادرة عن رحمة الخلق، وإرادة الإحسان إليهم... وينبغي لمن يعاقب الناس على ذنوبهم، أن يقصد بذلك الإحسان إليهم.. والرحمة بهم كما يقصد الوالد تأديب ولده، وكما يقصد الطبيب معالجة المريض"[34].
فالقسوة هنا ليست ظلماً ولكنها عدل ورأفة لأن الأصل في مشروعيتها الكتاب والسنة والإجماع.
ذلك أن الأموال التي هي محك النفوس، ومنزلة الترابط والتآخي في المجتمع، قد تولى الله جل وعلا تقسيمها بين الناس، وأبان مداخلها الشرعية: من ميراث وغنيمة ومصرف زكاة، وبيع وشراء، ومداينة وصداق للنساء، وهبات وغير ذلك.. فكان الحق واضحاً، ومداخل الاعتداء فيها بيّنة، وعليها تشفق النفوس: طمعاً وخوفاً، وزكاة للنفوس، تبرز بالحرص عليها أداء، وتنقية من أمانات وحقوق، ووقاية النفس منها، تعدياً واستضعافاً، فكان الحلال منها بيّناً وواضحاً أثره في العمل والعلامات عليه في الأعمال التعبدية متميزة بالدليل العقلي والنقلي.
والحرام منها فيه علامات تميزه أيضاً، وتوضيحات تقطع الحجة على كل متقوّل، كما نجد في مثل هذا النص الكريم الذي قاله المصطفى صلى الله عليه وسلم: لمن سأله بأن يدعو الله له بأن يكون مستجاب الدعوة: ((أطلب مطعمك تكن مستجاب الدعوة)) رواه الترمذي. وقوله صلى الله عليه وسلم: ((لحم نبت من السحت فالنار أولى به)) رواه الدارمي في مسنده.
وبعد المال يهتم الإنسان بعرضه دفاعاً ومحافظة، لأن التطاول على الأعراض، مما يهدد كيان الأسرة، وينخر في سوس المجتمع، فالعرض هو السمعة وهو الكرامة.. لذا حرصت تعاليم الإسلام على حمايته وصيانته عن التطاول والاعتداء.. ولحرص العرب على حماية الأعراض كانت الحروب تدور من أجله، وكانت الدماء تراق، والغارات تتتابع من أجل كلمة، ووقاية من مسبة، خوفاً من العار، وتوجساً من فضيحة اجتماعية صحيحة أو مفتعلة. فجاءت تعاليم هذا الدين تضع الحواجز، وتردع المعتدي، وتحمي الضعيف، حيث يقول رسوله الله صلى الله عليه وسلم: ((كل المسلم على المسلم حرام دمه وماله وعرضه)) متفق عليه.. وأكد هذه الدلالة صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع، وفي خطبته صلى الله عليه وسلم البليغة، والتي تعتبر من أسس الأمور التشريعية في كثير من القضايا الإسلامية.
والعرض والمال عند الإنسان يعادلان النفس التي قد يتجرأ بعض الناس بالتطاول عليها بالقتل أو الإعاقة. أو الإضرار بأي نوع من الجروح، فأحاطها التشريع الإسلامي بسياج من الحماية والمدافعة لتبقى في مأمن من التسلط، مع الوعيد الشديد، بعقاب دنيوي، وجزاء أخروي لمن في قلبه وازع إيماني حتى لا يقدم، ولمن لم يبق محافظاً على حرمة الآخرين، أما من مات وازعه الديني فإن السلطة التي جعلها الله للولي، بواسطة الحاكم الشرعي، القائم على حدود الله، وقوة دافعة للعمل، وحجاب يحمي عن التطاول والانتهاك حيث يبرز أثرها الرادع لمن يفكر بالإقدام، على مثل ذلك العمل.
هذه الأمور الثلاثة، هي في الغالب أقوى الركائز المحركة للإجرام، والتي من أجلها يكثر التنازع بين الناس، وتتكالب الفتن في المجتمعات، مستشرية بين صفوفهم.
فكان للتشريع الجنائي في الإسلام طرق في التضييق على الجريمة، ومكافحتها إذا وقعت، تتمثل في مثل:
– تهذيب النفوس، وتهيئتها للاستعداد قبولاً وإدراكاً.
– إبانة الحق من الباطل بعلاماتها ومميزاتها، وتحريك ملكة العقل لاتباع الحق بمنافعه، والابتعاد عن الباطل لمساوئه.
– وضع المعالم الزجرية كحواجز تكبح جماح النفوس، وتردها عن غيها.
– تطبيق الحدود، وتنفيذ القصاص.
وغير هذا من أمور يمكن إجمالها في منهجين فقط:
1 - الطرق الوقائية.
2 - الطرق الزجرية.
وكل رادع نفسي أو اجتماعي، أو مؤثر بيئي أو سلطوي، استجابة أو قناعة أو خوفاً، فإنه داخل تحت هذين المنهجين مهما كان سببه أو أثره.
فالعقاب في الشريعة الإسلامية بطريقيه: الوقائي والزجري، مبعثه المحافظة على الضرورات الخمس:
النفس والعقل والدين والعرض والمال.
وهذه الأمور الخمسة هي دعائم حياة الجنس البشري على الأرض، فمتى اختل واحد منها اضطرب ميزان الأمن والاستقرار.

الطرق الوقائية:
طرق الوقاية من الإضرار بالمجتمع وأهله، أنفساً أو أموالاً أو أعراضاً، أو وقاية اجتماعية، مما تحرص الأديان كلها عليه، وقد أبان الله في كتابه الكريم، وسنة رسوله المصطفى عليه الصلاة والسلام أن الفساد في الأمم السابقة، ما جاء إلا من إخلالهم بالنصوص، وتحايلهم على ما بين أيديهم من تشريع ومفاضلتهم في الأحكام بين الشريف القوي، وبين الضعيف الوضيع، ممن لا سند له من جاه أو مال أو عشيرة.
فالأول: يعفى من الإيقاع أو التشهير، أما الثاني: فيضاعف الجزاء عليه ويذل. كما أخبر المصطفى صلى الله عليه وسلم بقوله: ((إنما أهلك من كان قبلكم أنه إذا سرق فيهم القوي تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد، وايم الله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها)) حيث قال ذلك لأسامة بن زيد عندما جاء ليشفع في أمر المخزومية التي سرقت، وأهم الناس أمرها[35].
وإذا كان الناس يلمسون الأثر الوقائي في الأمور الصحيّة، ودوره المحسوس في المحافظة على الأجسام عن كثير من الأوبئة، حيث اختفت بعض الأمراض التي كانت تفتك بالناس، وخاصة الأطفال كالجدري والسعال الديكي، والدفتريا والحصباء، والدرن وغيرها، إيماناً بالهدف القائل: الوقاية خير من العلاج، فكانت اللقاحات في وقت معين، وبمقدار معين، مفيدة في إعطاء الجسم مناعة، وبتوفيق من الله – عن كل مرض يلقح الجسم عنه، ذلك أن الأمراض أوبئة يحتاج الجسم إلى أن يحافظ صاحبه عليه، ويهتم به، ويراعي الجو المحيط به، ويقسر القادرون الناس الذين لا يدركون البعد الصحي لأنفسهم، على ضرورة المحافظة على أجسامهم وأولادهم، الذين هم أمانة في أعناقهم، لأن الولاية والمسؤولية في مناحي الحياة، لا تقل أهمية عن الناحية الصحية، وذلك باتباع أساليب السلامة التي تعين في الوقاية من المخاطر.
وأساليب السلامة كثيرة، ومتنوعة منها الصحي والمروري ومخاطر الطريق والحريق، وحماية الأطفال من الأمور الضارة التي لا يدركون خطرها كالأدوية والغازات والسموم، ولذا أنشئت لها في كثير من دول العالم مؤسسات، وعقدت الندوات، واهتم المختصون بتنظيمها، ووضع جزاءات رادعة لمن لم يبد اهتماماً ومتابعة.
والجريمة آفة اجتماعية اكثر خطراً من الآفة الجسمانية، فكان اهتمام الإسلام بالوقاية منها أكثر من الأساليب الزجرية، لأن الزجر جزاء يوقع على من فسد ضميره، وعمي قلبه، فكان بمثابة تكثيف الدواء للجسم، أو إجراء العملية، بعدما استفحل المرض، فقد تكون النتائج إيجابية أو سلبية، وقد تكون بعض النتائج استرشادات يأخذ بها الأصحاء في تلافي أسباب المرض.
أما الوقاية فهي اهتمام فردي لمعرفة الأثر السيئ، وما يترتب عليه، ثم تهذيب النفس، ومدافعة نوازعها عن الانجذاب إلى الشر، وهذا الاهتمام الفردي يأتي من تفهم النصوص الشرعية لمن أعطاه الله قدرة وعلماً، واستفادة من مجالس العلماء وحلقات الذكر، حيث أمر الله بالسؤال في قوله تعالى: {فَسْئَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ}[36]. وبالاستجابة للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، حيث ينظر رجال الحسبة للمجتمع وما فيه بميزان التوجيه والنصح، غيرة عليهم، وحمية لدين الله.
وللوقاية من الإجرام ومراقبة المجتمع عن أن تستشري فيه ثلاثة خطوط متوازية لا يؤدي أحدها الدور الكامل، إلا بتكامل هذه الثلاثة، من حيث الإحاطة والشمول، والحرص والتطبيق.
ذلك أن المجتمع مكون من فرد وأسرة وجماعة، كما أن الجسم مكوّن من أعضاء متعددة، ومرض العضو الواحد من الجسم يعوق الجسم كله، فكذلك المجتمع لا تستقيم أحوال الأمة فيه، ولا ينتظم معاشهم، إلا بسلامته كله، ومعالجة الخلل الذي نجم في أحد أطرافه.

الرقابة الذاتية:
ما أكثر التوجيه القرآني الكريم للنفس البشرية، حتى تستعمل العقل في التبصر، وحتى تدرك ما تدل عليه الحواس التي وهبها الله للإنسان، فتميز الخير من الشر، والنافع من الضار، لأن الإنسان سوف يحاسب على سرائر أعماله وظواهرها، ولأن كل ما يعمله محصى عليه، ومرصود في سجل أعماله كما قال تعالى: {وَوَجَدُواْ مَا عَمِلُواْ حَاضِراً وَلاَ يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً}[37]. ورسول الله صلى الله عليه وسلم مكث في مكة المكرمة ثلاثة عشر عاماً، يرسخ في الناس القاعدة الأساسية التي عليها مدار الأمور، لأن سلامة الجوهر في صفاء العقيدة، وصحة الأعمال في صدق المأخذ، وترسيخ قاعدة الإسلام التي أعطاها رسول الله صلى الله عليه وسلم نسبة تزيد عن 56% من مدة مكثه صلى الله عليه وسلم يبلغ رسالة ربه، كانت في تأصيل الوحدانية مع الله: لا إله إلا الله، محمد رسول الله.. التي هي أول أركان الإسلام، وتأكيد حقها على الفرد المسلم، لأن هذه الكلمة، إذا تمكنت من النفوس فهماً وعملاً، وسيطرت على الأحاسيس إدراكاً وتشبعاً، كانت حصناً منيعاً يحمي الله به النفوس من مسارب الشرور والآفات، ويقف عمق معناها دون الانحدار إلى الرذيلة والاستسلام للجريمة.
فمن أدرك هذه الدلالة لابد أن يحافظ على شعائر دينه، كما أمر الله: من صلاة وزكاة، وصوم وحج، وإيمان بالله، ووقوف عند حدوده التي أبانها لعباده سبحانه وبحمده.
وكل أمر تشريعي في الإسلام يلمس من المستقرئ تحليلاً يقي النفس، أو المجتمع ضرراً تبين نتائجه بمعرفة المداخل عليه.
– فشهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله: يعطي مفهومها إدراك حقيقة الوحدانية مع الله فتمنح النفس البشرية رقابة تحجز عن الوقوع فيما يناقضها، فلا يصرف العمل لغير الله ولا يعبد بحق إلا الله، ولا يشرك معه غيره، فيما لا يصح صرفه إلا له سبحانه، كالدعاء والذبح والخوف والرجاء وغير ذلك من أنواع العبادات، كما قال سبحانه: {وَأَنَّ المَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلاَ تَدْعُواْ مَعَ اللهِ أَحَداً}[38].
فمشاركة المخلوق للخالق في العمل المصروف، ينفي تحقيق الوحدة لله جل وعلا، كما جاء في الحديث القدسي: ((أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملاً أشرك معي فيه غيري تركته وشركه)).
والمشاركة مع الله في العبادة شرك حذر الله منه، وجعله البارئ جل وعلا من أشد العقوبات، كما قال تبارك وتعالى: {إِنَّ اللهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاءُ وَمَن يُشْرِكْ بِاللهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْماً عَظِيماً}[39].
والرقابة الذاتية في المحافظة على النفس، من إدراك دلالة كلمة الوحدانية مع الله سبحانه، والعمل بمقتضاها، واليقين بما تدل عليه، والصدق والمحبة في ذلك، وأنه الإله الحق ومصرف الأمور، خالق الخلق، وكافل أرزاقهم، فلا يجب أن تتعلق القلوب إلا به، ولا تنقاد الجوارح إلا لشرعه الذي شرع لعباده، مع القناعة بأن ما جاء من عند الله، فهو المصلح لمعاشهم، والمسعد لهم في معادهم، وأن على الخلق الامتثال له، إذا كانوا يريدون السعادة والفوز، والخلاص من كل مشكلة.
وإن من مهمات الوقاية العقدية، قناعة النفس بأن محمداً هو آخر رسل الله، وأن الديانة التي جاء بها من عند الله، هي الديانة الحق، الذي لا يقبل الله من البشر سواه، فهو رسول الله يقيناً، نشهد أنه قد أدّى الأمانة، وبلّغ الرسالة، ونصح الأمة، وجاهد في الله حق جهاده.
فاليقين بذلك عصمة للنفس من اتباع الطرق المتشعبة، أو اللجوء إلى تحكيم القوانين الوضعية لأن في رسالته صلى الله عليه وسلم، وتبليغه ما أوحي إليه غنى عن كل بديل وضعته الأمم التي لا تؤمن بذلك، ولم تمتثل لشرع الله الذي شرع لعباده، أو ترضى به دستوراً في تصريف شئون حياتها.
ورقابة النفس في ذلك، مما يطرد الوساوس، ويقضي على التشكيك والرياء في الأعمال، إذ سوف تحرص بما تشبعت به، على أداء حق هذا الإحساس الوجداني بالمتابعة، والابتعاد عما ينافي مدلول كلمة الإخلاص.
– وإقامة الصلاة مما يعطي النفوس: فردية أو جماعية، حباً للنظام وتقيداً بالطهارة، وانقياداً للسلطة، لأنها طهارة البدن والثوب والبقعة للصلاة، مما يعطي أهمية في تربية النفس للاهتمام بالطهارات الأخرى، في تنقية الأعمال والبعد عما فيه إضرار بالنفس أو المجتمع مما حذر منه التشريع، والجريمة في مقدمة ذلك.
فالنظام في الأوقات، والتهيؤ للصلاة، والتقيد بعدد الركعات المفروضة، بدون زيادة أو نقص، حيث المسلم المصدر في ذلك عن كيفية صلاته بحسن الإستجابة لرسول الله صلى الله عليه وسلم في مثل قوله: ((صلوا كما رأيتموني أصلي)) فهو صلى الله عليه وسلم مشرع للأمة، ومبلغ عن الله، ذلك أن الصلاة خضوع أمام الله، واستجابة لأمره، ولذا كانت من أعظم العبادات، المهذبة للطباع، والناهية عن المنكر، والرادعة عن طرق الغواية، كما قال جل وعلا: {إِنَّ الصَّلاَةَ تَنْهَى عَنِ الفَحْشَاءِ والْمُنكَرِ}[40].
وإدراك حقيقتها، واستحضار القلب عند أدائها، ثم أخذها سلاحاً تحارب به النفس الشرور المحيطة، والآثام المتسلطة، ومنها الجريمة التي لا تتحرك في النفس، إلا من مدخل ضعف جاء من الإخلال بفرضية الصلاة، ونقص في مراقبة ما يجب أن تنتهي عنه النفس، من أمور تتباين مع منزلة الصلاة، ودورها في حماية النفس، ووقاية المجتمع من كل ما يضرّ به، فعن ابن مسعود رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((لا صلاة لمن لم يطع الصلاة))، قال ابن كثير: "وطاعة الصلاة أن تنهاك عن الفحشاء والمنكر، وقال: قال سفيان: ((قالوا يا شعيب أصلاتك تأمرك)) قال: فقال سفيان: أي والله تأمره وتنهاه"[41].
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ((إن فلاناً يصلي بالليل، فإذا أصبح سرق، فقال: إنه سينهاه ما تقول))[42].

ولما كان القلب كما يقال: هو ملك الجوارح، والمسيطر على أفعالها وتوجيهها، فإن القلب الخاشع في الصلاة، هو الذي يتشبع بدلالة الآية، وهو الذي يعطي الرقابة للمفهوم الوقائي عن كل منكر وفاحشة، والجريمة من ذلك سواء كان مردودها على الفرد، أو بان أثرها في المجتمع.
– وإيتاء الزكاة: طهرة للمال، ومشاركة للفقير في حق فرضه الله له في مال الغني، لأن بذله بسخاء وطيبة نفس، مما يغني نفوس الفقراء، ويهدئ قلوبهم، فلا تتطاول أيديهم على ما في أيدي الآخرين، ولا يحقدون على الأغنياء المتنعمين بالمال، وهم محرومون منه.
وإذا كان البدن يتطهر بالماء وضوءاً واغتسالاً من أجل الصلاة، التي يجب أن تستقبل بالطهارة الحسية الظاهرة ليتهيأ الجسم بحواسه كلها للطهارة المعنوية التي توجبها الصلاة، وتنعكس آثارها على الأعمال، ومسيرة الفرد والمجتمع، فإن الزكاة تحصّن المال، وتطهر قلب صاحبه، ليحرص على تجنّب كل مدخل حرام، أو أن يصرف ذلك المال في الحرام، حيث إن المال مال الله، وما صاحبه إلا مستحفظ عليه، لينظر جل وعلا ماذا يعمل فيه أخذاً وإنفاقاً، وماذا يؤدي منه حقاً وإحساناً لأنه: نعم المال الصالح عند الرجل الصالح.
فالإنفاق منه على النفس، وعلى من تلزم نفقته شرعاً من أداء حق المال، لما فيه من كفاية عن التطاول على ما في أيدي الآخرين بسرقة أو غيرها، والتصدق منه براً وإحساناً على القريب والمحتاج وسبل الخير الأخرى، ومن تزكية النفس وتعويدها على السخاء بأحب شيء إليها، وترضيته للنفس المدفوع إليها بما يعفها ويشعرها بالترابط الاجتماعي.. أما الزكاة فهي حق لله في مال الغني، تولى الله جل وعلا تسمية أهلها الثمانية، ليكون في ذلك إعانة على الرقابة الذاتية للنفس جوداً بالعطاء، وتنقية للمال، وتلمساً لمن يستحقها حتى تبرأ بها الذمة، وكلما كان بذل المال للآخرين خافياً، كان الأثر أبلغ في المعطي تزكو نفسه، ويرتاح قلبه.
وفي الآخذ حيث يرتفع به عن ذلّ السؤال، وكشف الحال، وفي كليهما ترضى النفوس، وتحمى من الاندفاع إلى الجريمة، يقول جل وعلا: {إِن تُبْدُواْ الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِن تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنكُم مِّن سَيِّئَاتِكُم وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ}[43] لأن في إبدائها إظهاراً للإحسان ومدافعة للنفس، وتحبيباً للآخرين في الاقتداء وفي إخفائها منزلة إيمانية عميقة، وبعداً عن الرياء، وعفافاً للآخرين وصوناً لماء جوههم، وقطعاً للألسنة عن الإساءة، والأيدي عن التطاول.
– ومثل ذلك يستنتج من حكمة أداء الصيام، وكبح رغبات النفس، وتعويدها منهجاً خاصاً في العمل والإلتزام ومنعها من الطعام والشراب والجماع في نهار شهر رمضان، لتأخذ من ذلك درساً عملياً في الابتعاد عن الشر، وسبل الإضرار بالنفس أو بالآخرين، حيث تندفع النفس إلى الترويض على صيانة اللسان من الغيبة والنميمة، وفحش القول، وللبدن بمغالبة الشهوات، ذلك أن اللسان هو الذي يورد النفس المهالك، ويوقعها في الموبقات، وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم معاذ بن جبل رضي الله عنه، ضمن وصيته له ضرورة حفظ اللسان، ولما سأل معاذ: أنحن مؤاخذون يا رسول الله بما نقول؟ أجابه صلى الله عليه وسلم بقوله: ((ثكلتك أمك يا معاذ، وهل يكب الناس في النار على وجوههم إلا حصائد ألسنتهم، وفي رواية على مناخرهم)) متفق عليه.
فالصيام ترويض بدني وكبح للشهوات، وهو رقابة ذاتية، فإذا لم ترسخ في الوجدان إحساساً وإيماناً وينعكس أثرها على المرء عملاً ويقيناً، فإن المرء لا يلتزم بهذا الركن على الوجه المطلوب، ولا انتهى عما يحدثه الصيام من أثر في البعد عن المنكرات، والمقترنة باحساس الصوم، ولا الجرائم التي رسخ ضررها من تفاعل الصوم في النفس، مع مغالبة الحواس بترك كل ما يفسده.
وقول الزور، الذي هو من مداخل الجريمة، وأخذ أموال الناس، والتعدي على أعراضهم بالباطل، هو من فلتات اللسان الذي جاء الصوم ليهذب النفوس عنها، مثل الكذب، والشتم والسبّ، والكلام القبيح الذي هو رمي أعراض الناس بالمعايب، وثلبهم وذكرهم بقبيح القول، في حضورهم أو غيابهم، نجد رسول الله صلى الله عليه وسلم حذّر من كل ذلك، في وجوب إعطاء الصوم حقه، لنخرج منه بنفس مهذبة، وإحساس عميق، وأعمال مستمرة وزاكية، يقول صلى الله عليه وسلم: ((من لم يدع قول الزور والعمل به، فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه))[44].
– والحج الذي هو عبادة مالية وبدنية، يدفع المرء إلى الحرص على جمع المال الحلال، وتقوية البدن على أداء تلك الشعيرة، والمجيء في وقت مخصوص، وبلباس متميز، وإلى أماكن موحدة تجمع المسلمين من مشارق الأرض ومغاربها، على اختلاف ألسنتهم وألوانهم، ليكون في مجتمعهم عبرة، وفي التقائهم درساً من دروس الحياة المهمة، كأهمية التعارف والتدارس، ومراقبة النفس عن الوقوع في المحظورات الإحرامية، وفداء كل عمل يخل بالحج السليم بما يلائم ذلك من الكفارات البدنية والمالية، وحتى لا تكون تلك الكفارات مربحاً شخصياً نلمس رقابة ذاتية جاء بها التشريع في الجزاءات والكفارات، بأن يكون النسك لفقراء الحرم، ولا يأكل منها صاحبها شيئاً، وأن يكون بعض الصيام في أيام الحج، وهي ثلاثة لمن لم يستطع الفداء، وسبعة إذا رجع إلى أهله تلك عشرة كاملة.
وإن تتبع أحكام الحج، والحرص عليها أداء وعملاً، لما يعطي المسلم درساً في معرفة السبل التي يتّقي بها المرء ارتكاب ما يؤثر في هذه الشعيرة والمنهج السلوكي الذي يجب أن يسير عليه أثناء تأديتها، أدباً وحسن تعامل واهتماماً بإخوانه المسلمين، الذين تقاطر جمعهم على بيت الله الحرام، استجابة لأمر الله، وتلبية لنداء إبراهيم الخليل، عندما أذن في الناس بالحج.
ولولا مراقبة الله، والحرص على امتثال أمره الذي شرعه لعباده، والقدوة برسوله الكريم صلى الله عليه وسلم الذي قال: ((خذوا عني مناسككم)) لكان كل فرد يعمل ما يشاء، فلا يلتزم بميقات، ولا يتقيد بلباس، ولا يتجنب محظوراً ولا يصرف الكفارة لمستحقها، إلى غير ذلك من أمور هي في صحة وسلامة الحج، لكن الوازع الإيماني، والرقابة الذاتية، جعلتها على النفس حارساً، يأخذ بها العمل المفيد، ويوجهها إلى الصواب، ويدفعها إلى السؤال استرشاداً، ورغبة في الخير، فعرفت الحق بعلاماته، واتجهت إليه محبة فيه، وأدركت الشر بالتحذير منه، لأنه محظور يجب اجتنابه، والتكفير عنه إذا تمّ الوقوع فيه.
وجميع فرائض الإسلام، إذا حرص المرء فيها على معرفة الحلال من الحرام: بأن حرص على الحلال فألزم نفسه به، لأنه هو المنهج السليم الذي وجهه دينه إليه، ورُغِّب فيه بالإندفاع إليه، بأمر يجب احترامه لقدسيّه مصدره، فإنه بذلك يجد الفضيلة التي تتوقد إليها النفوس، ويرتاح للعمل الذي يتفق مع الفطرة.
والنصوص الشرعية التي توضح الحلال من الحرام، فترغب في الحلال وتجازي عليه، وتنهى عن الحرام الذي يمثل الشر وآثاره، فتعاقب عليه وعلى فعله، هي زواجر وحدود تقوّي الرقابة بالوقوف عند النص واتباعه في الحلال، والتبصر في دلالته، والابتعاد عما حذر منه من حرام.. ذلك أن الحرام هو كل ما فيه ضرر بالنفس أو المجتمع، سواء أدرك الإنسان النتيجة أو خفي السّر عنه.
وإذا كانت أنظمة البشر تعطي طابعين في المتابعة والتقويم: ذاتي بإحساس النفس، ورقابي مدفوع بقوة النظام، فإن الذاتي، يحرص عليه التربويون والإداريون، لإشعار أهل هذين التخصصين بأن القناعة العلمية، والارتباط المعرفي، هما الدافع لإجادة العمل، ومحاسبة النفس، واتخاذ ميزان تقاس به الأعمال وتقوّم به النتائج.
أما الرقابي المدفوع بقوة النظام، فهو سلطة قوية، يستعملها الرقابيون بأساليبها الرادعة، مع المقصرين في العمل، المتراخين في متابعة الواجبات الملقاة عليهم.
ومن هذا الأمر المحسوس في حياة الناس، نقارن النظرة الشرعية في مكافحة الجريمة، فالطريقة الوقائية: هي منهج يحرص عليه الإسلام في تحصين النفس، وتزويدها بالطاقة الإيمانية، المكافحة للجريمة قبل وقوعها، من حيث إدراك كنهها، وتجسّم ضررها، ومداخل وطرق الوقاية منها، ويتعاون عليها ثلاث فئات: الفرد والأسرة، ثم المجتمع.. ولكل من هذه الفئات الثلاث، مداخل للمعرفة، ومسارب لتمكين الهدف في معرفة الجريمة ورسم الطريق الموصل إلى مكافحتها، وحصرها في نطاق الكراهية والتنفير.

رقابة الفرد:
رقابة الفرد على نفسه أولاً، وتوجيهه لغيره ثانياً بتوسيع المدارك، وزيادة التمكن في أخذ المعرفة من مصادرها الصحيحة الثابتة، وغرس الفضيلة، ومقاومة الرذيلة، كما يستفاد من هذا النص الكريم: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ لاَ يَضُرُّكُم مَّن ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ إِلَى اللهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ}[45]، وروي عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: إذا سمعت يا أيها الذين آمنوا، فأصخ لها سمعك، فهي إما أن تأمرك بخير تتبعه، أو تحذرك من شرّ فتجتنبه. قال ابن كثير في تفسيره: يقول تعالى آمراً عباده المؤمنين أن يصلحوا أنفسهم، ويفعلوا الخير بجهدهم وطاقتهم، ومخبراً لهم أنه من أصلح أمره، لا يضره فساد من فسد من الناس، سواء كان قريباً منه أو بعيداً.
قال العوفي عن ابن عباس في تفسير هذه الآية: يقول تعالى: إذا ما العبد أطاعني فيما أمرته به من الحلال، ونهيته عنه من الحرام فلا يضره من ضل بعده، إذا عمل بما أمرته به. وعندما سئل أبو ثعلبة الخشني عن دلالة هذه الآية قال: أما والله لقد سألت عنها خبيراً، سألت عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ((بل ائتمروا بالمعروف وتناهوا عن المنكر، حتى إذا رأيت شحاً مطاعاً، وهوى متبعاً، ودنيا مؤثرة، وإعجاب كل ذي رأي برأيه، فعليك بخاصة نفسك، ودع العوام.. الحديث)) رواه الترمذي وقال حديث حسن صحيح[46].

رقابة الأسرة:
والأسرة عندما يدرك أفرادها ما يجب عليهم فهمه من نصوص شرعهم، ودلالات دينهم، ويحرصون على ذلك عملاً، فإن نتيجة ذلك الالتزام بالأخلاق، ومراقبة الأعمال لتزنها من منطلق الفهم الصحيح، حتى توجه الأبناء منذ حداثة أعمارهم التوجيه السليم، وتغرس في نفوسهم حب الفضيلة لفضلها، وعمق أثرها، وكراهية الرذيلة لسوئها، وآثار نتائجها، لأن الرذيلة يتمثل فيها شبح الجريمة التي يحسن بالأسرة تجسيمها لدى الناشئة، وإيصاد الطرق المؤدية إليها، ليكبر هذا الإحساس معهم، فيرونها شبحاً مخيفاً، وعملاً رذيلاً، تكبر أحاسيسهم حياله مع الأيام، حتى إذا كبروا، وصاروا في موطن المسئولية، وعمق الفهم، أدركوا بالدليل الشرعي سرّ ما رسخ في قلوبهم، ودور ما أنشئوا عليه من أعمال وأفكار، حيث أدرك ذلك المفهوم التربوي الشاعر العربي في قوله:
وينشأ ناشيء الفتيان منا        على ما كان عوده أبوه
وأسوة المسلمين في ذلك منهج الصحابة، وفهم التابعين في حسن توجيههم لأبنائهم، وتلقينهم الفضيلة طبعاً وخلقاً وتعويدهم الأعمال الحميدة ترويضاً ومتابعة، حيث تابعوا التطبيق مع أقرب الناس إليهم، ونشأوا محبين لكل عمل مستحسن، آلفين كل منهج سليم، سائرين على الفطرة السليمة، التي هي تعاليم الإسلام الصحيحة، لأن كل مولود يولد على الفطرة، والإسلام وتشريعاته هي الفطرة التي فطر الله الناس عليها، فالأسرة المسلمة، في كل عصر ومصر، عندما يهتم أربابها بأبنائهم تربية وحسن خلق، وإنكاراً للمنكر، وتحذيراً من الصغائر، التي حذر منها رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله: ((إياكم ومحقرات الذنوب)) أي ما تحتقره النفس ويصغر في العين. فإن هذا من أسباب توفر البيئة الصالحة، التي تبغض الجريمة، وتنكر الجنوح إليها، لأن صلاح الأحداث، وتعظيمهم شرائع الله، والوقوف عند حدوده، دافعه الزاجر الإيماني، والتربية السليمة التي حرصت الأسرة على تمكينه في جوانب البيت، ضمن التربية الأولية التي يلقنها الآباء والأمهات لأبنائهم، فالكبير يمتثل ويوجه ويضرب النموذج الصالح بالقدوة والالتزام، أما الصغار فيبيّن لهم أن ذلك العمل ما هو إلا استجابة لشرع الله الذي جاء به الإسلام تربية وتوجيهاً وتعليماً وتطبيقاً.
فالصغير عندما يتعوّد ذلك عملاً، وتنطبع به أخلاقه سلوكاً، فإن الأمر سيعظم في قلبه، والمصدر الذي جاء منه وهو كتاب الله، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، الذي استجاب من أجلها، سيكون له مكانة راسخة في أعماقه، لأن هذا من تعظيم حرمات الله، كما قال تعالى: {ذَلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ عِندَ رَبِّهِ}[47].
وقوله سبحانه: {وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِر اللهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ}[48] إن الأسرة التي تحرص على غرس الروح الإيمانية في قلوب أبنائها، منذ تفتح براعمهم، فإنما تحصنهم لمجابهة الحياة، والاستعداد لإدراك المخاطر، لأن الإيمان بالله وبكتبه وبملائكته وبرسله، وباليوم الآخر، وبالقدر خيره وشره، ترسيخ هذا الإيمان يعطي الأبناء سلاحاً قوياً يدفعهم للعمل، وينمي عندهم بغض الشرّ، وإدراك خطره، ويحبب إليهم الخير، ويرغبهم في البحث عن مداخله، والإستئناس بأهله، لأن من شبّ على شيء شاب عليه، وبذلك يسلم الأحداث – بتوفيق من الله – من الجنوح في صغرهم، ومن ثم الابتعاد عن الجريمة في كبرهم، لأنها لم تجد في قلوبهم باباً مفتوحاً، ولا ارتياحاً يدفعها للاستقرار.
ومعلوم أن من يركب مخاطر اليمّ، إذا لم يكن قادراً على السباحة، فإنه يعرض حياته للموت، ونفسه للخطر، بل أبسط ما يقال عنه: إنه قد ألقى بنفسه إلى التهلكة، لأنه لم يستعد من قبل، بما يعينه على مصارعة الأخطار، والقدرة على توقي أضرارها.

رقابة المجتمع: 
ثم يتبع ذلك رقابة أوسع، ونظرة أشمل، هي عين المجتمع الفاحصة، وانتقاداته لكل أمر خارج عن المألوف في البيئة الإسلامية، حيث أن البيئة الإسلامية يجب ألا يؤلف فيها، إلا ما يتمشى مع منهج دين الإسلام، كما جاء في الأثر: ((ما رآه المؤمنون حسناً فهو حسن، وما رآه المؤمنون قبيحاً فهو قبيح))[49]، فإيمانهم القوي يردعهم عن تغيير النظرة للأمور الحسنة أو القبيحة، فالحسن عندهم ما أباحه شرع الله والقبيح في نظرهم ما حذّر منه الشرع وحرمته تعاليم الإسلام.
وأهمية الجار والمحافظة عليه سمعة ونصحاً من أساسيات دين الإسلام، حيث وردت أحاديث تدل على أن الجار يتعلق بعنق جاره يوم القيامة، ليحاجه أمام خالقه جل وعلا، لأنه رآه يعمل المنكر فلم ينهه، واستحق بنو إسرائيل اللعن في كتاب الله على ألسنة أنبيائهم، لتركهم التناصح والأمر بالمعروف، كما قال جل وعلا: {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن بَنِى إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَواْ وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ كَانُواْ لاَ يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرِ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ}[50] فحق عليهم بعدم التناصح، وراحة النفس بالجريمة التي يعملها الاخرون، أن وجب عليهم لعن الله، وهو الطرد من رحمته جل وعلا.
والعصيان والاعتداء جريمة، لأن في ذلك مجاوزة لحدود الله التي حدّ لعباده، وأعظم الجرائم عصيان الله في أمره، والاستكبار على شرعه، كما فعل إبليس – لعنه الله – حيث أخرجه ذلك من رحمة الله واستحق مقته وغضبه إلى الأبد، فأعظم بها من خسارة، قال ابن كثير في تفسيره، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لما وقعت بنو إسرائيل في المعاصي، نهتهم علماؤهم فلم ينتهوا، فجالسوهم في مجالسهم)) قال يزيد، وأحسبه قال: ((في أسواقهم، وواكلوهم وشاربوهم، فضرب الله قلوب بعضهم ببعض، ولعنهم على لسان داود وعيسى ابن مريم ((ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون))، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم متكئاً فجلس فقال: ((لا والذي نفسي بيده، حتى تأطروهم على الحق أطراً)) وفي رواية ابن مسعود رضي الله عنه: ((كلاّ والله لتأمرن بالمعروف، ولتنهوّن عن المنكر، ولتأخذنّ على يد الظالم، ولتأطرنه على الحق أطراً، أو تقصرنّه على الحق قصراً))[51].
فالأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر من الأسس المتينة، التي تقي المجتمعات من الجريمة، وبهيمنة الرجال العارفين لما يدعون إليه المدركين حقيقة ما ينهون عنه بحكمة وموعظة حسنة يمكن بتوفيق من الله، وبالنية المخلصة، والصدق في القول والعمل، حماية للأمة من تسلط فئة نبت الشر في قلوبهم، وفقدوا هيمنة الرقابة الذاتية لنقص إيمانهم، والرقابة الأسرية لعدم توجيههم وقت التهيؤ الذهني، والاستعداد العقلي للقبول، لأن أمثال هؤلاء في المنزلة الثالثة، بحيث تردعهم السلطة، وتؤثر فيهم التوجيهات، وتخوفهم الجزاءات الملائمة معهم، ذلك أن سلطة الآمرين بالمعروف، والناهين عن المنكر يجب أن تكون مستندة إلى قاعدة صلبة من الإيمان، الذي يملأ النفس بحرارة اليقين، ويمدها بالشحنات الدافعة إلى العمل، كما يجب أن تدعم بالسلطة الشرعية، لينزجر المعائدون، ويقمع المكابرون، ويجازى المتجاوزون المصرون، لأن الله يزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن[52]، والرفق ما كان في شيء الإزانه، وما نزع من شيء إلا شانه.
لقد جعل الله جل وعلا في شرائع دين الإسلام، وفي كل أمر ونهي، حكمة بالغة تنصلح بها الحياة، في كل زمان ومكان، فالزواجر والحدود التي شرعها الله، ونظمتها تعاليم الإسلام، ليست إلا وقاية للمجتمع من تسلط فئة على فئة، وحماية لأفراده وأمنه، من أصحاب النزعات الشريرة، أو الإغراءات المادية.

ولما كان الدين النصيحة والتوجيه، فإن الفرد مسئول بأن يكون عيناً تراقب الأضرار للتنبيه عليها والتساند مع الجهات المعنية في إنكار المنكر، والترغيب في المعروف، كما جاء في الحديث الصحيح، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((الدين النصيحة، الدين النصيحة، الدين النصيحة، قيل لمن يا رسول الله؟. قال: لله ولكتابه ولرسوله، وللأئمة المسلمين وعامتهم)). رواه مسلم فنصح العامة يتم بالتوعية والتنبيه على الأخطاء برفق ولين، لأن الثمرة لا تتم إلا بهما. أما إذا خيف اتساع النطاق، واستمراء الباطل، فيجب على الجهة المعنية أخذهم على الحق بالقوة، كما جاء في الحديث الذي ساقه ابن كثير في تفسيره، ومرّ بنا آنفاً. ذلك أن رجال الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وهم الذين عرفوا في تاريخ دولة الإسلام برجال الحسبة، وأخذ فكرتهم وجزءاً من مهماتهم رجال الغرب، وسموهم برجال الآداب، أو بوليس الآداب، وعنهم أخذت هذه الفكرة بعض الدولة العربية الإسلامية، لكن ذلك سار في درب يختلف عما عهد عن المسلمين في أعمال الحسبة، حيث عرف عنهم أعمال كثيرة منها:
– الحرص على متابعة صغائر الشر حتى لا يستفحل خطرها.
– مراقبة المكاييل والموازين، والاهتمام بالأسعار ومنع الغش.
– المحافظة على الأمن، وذلك بمتابعة الجانحين من الشباب، وتتبع أصحاب الجرائم الأخلاقية.
– منع النساء من مخالطة الرجال في الأماكن العامة، ومزاحمتهم في الأسواق.
– الاهتمام بمداخل الفتنة، والنصح والتوجيه لكل من يتجرأ على حدود ومحارم الله.
– الاهتمام بتأمين الطرق، والقضاء على شتى صور التعدي فيها على الفرد أو الجماعة[53].
– منع الجار من الاعتداء على جاره، وردع القوي من التسلط على الضعيف.
وغير هذا من أعمال، كلها تدعو إلى الاهتمام بما يصلح المجتمع الإسلامي، وإغلاق منافذ الشر فيه، والمفضية إلى الجريمة لأن في متابعة تلك الأمور حصراً للشرور قبل حدوثها، وحجزاً بالحدود، حتى يمتنع الناس من التحايل على بعضهم، وحتى يشعر من لديه ريبة، بأن هناك أعيناً يقظة، ترصد أحوال الشرور، وتتابع المنتمين إليها، لتقضي عليها قبل بروزها، مما يجعل للمجتمع شخصية آمرة، ولرجال الحسبة الذين هم عين المجتمع مهابة وردعاً لما يجب أن يتصفوا به من علم وحسن سيرة وسلوك، ويقظة ومعالجة للأمور الظاهرة أمامهم بحكمة ولين، وعلم حقيقي لمقتضيات التشريع الإسلامي، حتى يكون الآمر والناهي عالماً بما يأمر به، عالماً فيما ينهى عنه، حليماً فيما يأمر به، حليماً فيما ينهى عنه، وأن تهيأ لذلك البيئة الصالحة، والظروف الطيبة، لأن رجال الحسبة عليهم دور مهم، في الاضطلاع بالمحافظة على الدين، الذي هو قوام المجتمع، والمصلح لما فيه من اعوجاج، حفاظاً عن التعدي على الحرمات، لما في ذلك من حصانة للإسلام، وسلامة لأهله.
وهذا من حماية المجتمع عن كل عمر يجر إلى الجريمة، لأن معظم النار من مستصغر الشرر، والسكوت عن الصغائر يجعلها تستشري وتكبر، وسدّ الذرائع مما يوصي به كثير من الفقهاء رحمهم الله، مخافة اتساع النطاق، والإفضاء إلى ما هو أشمل وأكبر حيث يرى الأصوليون بأن دفع المفاسد مقدم على جلب المصالح[54].
والمجتمع بالتكافل والتعاطف، والراحة النفسية والهدوء والاستقرار، فإنه بإذن الله، سيقضي على الجريمة، بالقضاء على أسبابها، وحصر المؤثر فيها، وبكبت صغائرها قبل التفاقم، ما دام فيه من يمثل رجال الحسبة بالأمر والنهي، والنصح والتبيين، ورجال في المجتمع يتقبلون منهم التوجيه، ويستجيبون للنصح، ويمتثلون بالتطبيق، وهذا يمثل الأخذ والعطاء، أو السالب والموجب، اللذين بهما يتكامل المجتمع، ويتراحم أبناؤه، ويردع قادرهم المعتدي، وقد وصف رسول الله صلى الله عليه وسلم المجتمع المؤمن بالترابط والمحافظة على مداخل الشّر فيه من أن تنتهك حيث جعله بمثابة الجسد الذي يتألم من أي طارئ يحس أي عضو فيه فقال صلى الله عليه وسلم: ((مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم كمثل الجسد، إذا اشتكى منه شيء، تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر)) رواه البخاري وأحمد في مسنده.
وقد رسم صلى الله عليه وسلم في أصول تربيته للمجتمع المسلم، وتوجيهاته لأبناء الأمة المسلمة، طرقاً يستنير بها أبناء المجتمع في التوجيه والعمل، وتعينهم في رسم المنهج لبيئة الإسلام، من حيث الحصانة الفردية، والوقاية الجماعية، حيث أبان صلى الله عليه وسلم في حديث النعمان بن بشير رضي الله عنه أن المرء في توقيه الشبهات والمحارم كالراعي يرعى حول الحمى، يوشك أن يرتع فيه وأن حمى الله محارمه، ولكي يستبرئ المرء لدينه وعرضه، ويتجنب المحارم التي نهى التشريع الإسلامي عنها، فإن عليه أن يتقي الشبهات وأن يقف عند حدود الله، وبذلك يقي نفسه مسارب الجريمة، ويقوده القلب السليم إلى العمل الحسن، حيث إنه ملك الجوارح، وهو الموجه للخير إن صلح، وللشر إذا هو فسد، كما قال صلى الله عليه وسلم: ((ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب)). وكان الدعاء المأثور: اللهم أصلح لي قلبي الذي هو عصمة أمري، واصلح لي دنياي التي فيها معاشي، واصلح لي آخرتي التي إليها معادي، واجعل الحياة زيادة لي في كل خير، والموت راحة لي من كل شر.. وفي البعض: ديني قبل قلبي.
وروى الدارقطني وغيره من حديث أبي ثعلبة الخشني رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إن الله فرض فرائض فلا تضيعوها، وحدّ حدوداً فلا تعتدوها، وحرّم أشياء فلا تنتهكوها، وسكت عن أشياء رحمة لكم من غير نسيان فلا تبحثوا عنها)).

الطريقة الزجرية:
والمرتبة الرابعة التي تستنتج من استقراء التوجيه الشرعي، للوقاية من الجريمة، هي القوة التي تحدّ من استشراء الجريمة، وتغلبها على فئة من المجتمع لتفسده، وتدك دعائمه التي يقوم عليها بنيانه، تلك هي الطريقة الزجرية التي يلجأ إليها ولي الأمر عند استنفاد فرص الإصلاح، فالقلب له حالة الانطماس، والذهن له مرتبة في الانغلاق. فمن انطمس قلبه فإنه لا يفيد فيه نصح ولا توجيه، لأنه أصبح كالصخرة الصماء التي لا تمسك ماء، ولا تنبت كلأ. والذهن إذا انغلق أصبح كالباب الموصد، لا يدخل معه أحد، ولا يخرج منه أحد، والمعاندون لشرع الله المتجاوزون لحدوده سبحانه، ممن طبع الله على قلوبهم، فلا يفيد فيهم توجيه، ولا يردعهم نصح، كهذا الباب لا يتحقق النفع إلا بكسره، أو كالجسم المريض بمرض خبيث لا يرجى برء الجسم منه، إلا بقطع العضو الموبوء، ولو أنه جزء من الجسم، إلا أن الإبقاء على الجسم لا يتم إلا بذلك، ومن أجل المحافظة على الجسم يحرص الطبيب على المبادرة باستئصال العضو المصاب الذي لا يرجى شفاؤه، لأن نزعه من الجسم، فيه مطمع بسلامة باقي الجسم، والإبقاء على صاحبه ممتعاً بصحة وسلامة ليعيش ما شاء الله له.
وقد شبه بعض العلماء حوزة الإسلام بدائرة، تحيط بها من جوانبها الحدود، التي بالمحافظة عليها تسلم للإسلام نقاوته، وبتجاوزها يتخلخل أمن المجتمع، ويدبّ الفساد في أرجائه.
ولأهمية أمن المجتمع في البيئة الإسلامية، فإنه قد جاء ذكر هذه المادة، ومشتقاتها في كتاب الله أكثر من أربعمائة مرة، واشتق الإيمان منها، الذي هو راحة النفس، بصدق العقيدة، ولذا جاء الحديث: ((لا إيمان لمن لا أمانة له)). ومن الأمانة معرفة واجبات شرع الله، والوقوف عند حدود الله، وذلك بالفقه في الدين، الذي هو: العلم بالأحكام الشرعية، العملية المكتسبه من أدلته التفصيلية[55].
ذلك أن العلم بالأحكام الشرعية، يستوجب إدراك كنهها، سواء أخذت من الشرع تصريحاً أو استنباطاً، وذلك من أجل الوقوف عند حدودها، وزجر من يتجاوز هذه الأحكام الشرعية، بما يمكن السلطة، ويؤمن المجتمع، ومن أجل ذلك جاءت الأحكام الزاجرة المانعة، لكي تردع المجرمين عن الاسترسال في الجريمة، وحددت عقوبات كل جرم بما يتناسب مع مكانة ونوعية ذلك الجرم، والأثر الذي يتركه في البيئة الإسلامية، من قتل وقطع، إلى سجن وجلد، أو غرامة في الجناية، أو قصاص لعضو بدل عضو، أو تغريب عن البلد الذي أوقع فيه الجرم، إلى غير ذلك مما بسط في كتب الفقه، في أبواب الحدود والجنايات والقصاص، ومن النصوص الشرعية التي ورد فيها القول الثابت، ندرك أن فساد الأمم السابقة جاء من تركهم حدود الله، ورغبتهم عن حكمه إلى أحكام البشر، كما حكى الله عن بني إسرائيل بقوله جل وعلا: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالأَنفَ بِالأَنفِ وَالأُذُنَ بِالأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ}[56].
وهذا في معرض التبكيت لهم، ومجانبتهم للمنهج الذي رسمه لهم شرع الله، ثم ابتغوا عنه بديلاً، يتفق مع الأهواء البشرية، وتركوا حكم الله الذي أبانه لهم في التوراة التي أنزلها الله جل وعلا على موسى عليه السلام، فغيّروا فيها، وبدّلوا ورغبوا عن حكم الله، إلى أحكام أخرى، من وضع البشر زادت مجتمعاتهم جريمة وتطاولاً، فوصفهم الله بعدم الإيمان، وبالكفر والظلم والفسوق[57].
والقرآن الكريم الذي هو المصدر الأول في شريعة الإسلام، قد مكّن هذه الأحكام بما يخيف المجرمين، لأن في القصاص حياة لأولى الألباب ورغّب رسول الله صلى الله عليه وسلم في إقامة الحدود، حتى تحرص الفئة المؤمنة على التطبيق والملاحقة، فقال عليه الصلاة والسلام: ((إقامة حدّ من حدود الله، خير من أن تمطروا أربعين سنة)). لأن هذا الحدّ يمثل الغيرة لله، والاهتمام بشرعه الذي شرع لعباده، ومن قصة المخزومية التي سرقت، حيث غضب الرسول الكريم عليه الصلاة والسلام، عندما جاء إليه من يتشفع فيها. وقال: ((أتشفع في حدّ من حدود الله؟)) ثم قام خطيباً فقال: ((إنما أهلك من كان قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد، وأيم الله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها))[58].
ومن هنا تشدد علماء المسلمين رحمهم الله في تحريم الشفاعة في الحدود، إذا وصلت القضية إلى السلطان وفي تعظيم أمر المحاباة للأشراف في حقوق الله تعالى، وأن الشفاعة الجائزة فيما يمكن إصلاحه قبل الوصول إلى الحاكم الشرعي، أو من يمثل ولي الأمر.

والحدود الزاجرة أهمها:
– الزنا وله حكمان إذا ثبت بالبينة الشرعية: إقراراً أو شهوداً: الجلد والتغريب سنة لغير المحصن، والرجم للمحصن، ويقام الحدّ في مشهد طائفة من المسلمين، ليكون لذلك صدىً في النفوس، وتشهير بالفاعلين، وهذا من خزي الدنيا.
– وحدّ القذف يتم بعبارات صريحة أو كنايات دالة على المقصود، ليحدد الحاكم الشرعي نوعية القذف، وما يستوجب من التعزير، وللمقذوف التنازل وإسقاط الحق، لأن هذا حق فردي، يدخل في ترويع المسلم، والإضرار به، وهو صاحب الحق في المطالبة أو عدمها.
– وحدّ السكر عند ثبوت ذلك بالبينة القطعية كالاقرار أو شهادة عدلين، من الروادع عن استشراء هذه الآفة الاجتماعية وقد يكون من القياس في هذا وغيره، إقامة الحدود في أمور جدت على الفقهاء الأوائل وما مرّ عليهم، كالمخدرات بأنواعها، وقياسها هي أو غيرها على ما يلائمها من الجرائم والحرابة، ونتائج الأضرار.. كما في قرار هيئة كبار العلماء بالمملكة رقم 138 تاريخ 20/6/1407هـ حول المخدرات.
وقد ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه جلد في الخمر أربعين جلدة، وقال في حديث صحيح من شرب الخمر فاجلدوه. إلى أن قال الثالثة أو الرابعة ثم إن شرب الخمر فاقتلوه[59] وجلد أبو بكر رضي الله عنه وفي عهد الخليفة الراشد عمر بن الخطاب رضي الله عنه كثر شرب الخمر بسبب كثرة الفتوحات فتشاور الصحابة في ذلك. فاجتهدوا بالجلد ثمانين، لأن المرء إذا سكر هذى، وإذا هذى قذف، فقاسوا الحكم على أثر القذف وحكمه.
– حد السرقة وذكر ما يتم القطع به، بعد معرفة ملابسات السرقة، والدوافع إليها، وهل المسروق في حرز مثله، حيث يشترط الفقهاء في القطع للسرقة شروطاً بسطت في كتب الفقه[60]، وقد روي أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه تساهل في حدّ السرقة عام الرمادة، لأن الدافع إليها المجاعة التي حصلت للناس.
وعندما استهزأ المتقولون على الإسلام بحد السرقة، كما قال شاعرهم:
يد بخمس مئين عسجد وديت        ما بالها قطعت في  ربع  دينار
وهو الحد الأدنى للقطع كما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم وخلفائه الراشدين بذلك، فرد عليه ابن القيم رحمه الله:
عزّ    الأمانة    أغلاها    وأرخصها        ذلّ الخيانة فاقهم حكمة الباري[61]
فالحدود والتجرؤ عليها، وعدم الوقوف عند شرع الله الذي شرع لعباده، هذه الأمور هي التي تذل صاحبها، فيستوجب الحدّ، الذي يزجره، ويخيف غيره مما قد تسوّل له نفسه، بعدما يعرف المصير.
– حد القتل عمداً، وتوضيح حقيقة العمد، حيث أفاض المفسرون والفقهاء في ملابسات القتل، ومعرفة الدوافع إليه، والتمييز بين القتل عمداً، والقتل خطأ، وما يدخل في عمد الخطأ، وخطأ العمد، وما يستوجب قصاصاً، أو يفادى عنه بدية، إلى غير ذلك من تفاصيل أوضحها الفقهاء أحكاماً تزجر النفوس عن العدوان، وتشفي غيظ المجني عليه، وتحفظ النفوس والأطراف، وطهرة للمقتول، وحياة للنوع الإنساني، كما قال تعالى: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُوْلِى الأَلْبَابِ}[62].
كما أوضح الله سبحانه وتعالى في سورة النساء، قيمة النفس البشرية، وحرمتها وجزاء الإعتداء عليها: جزاء دنيوياً وجزاء أخروياً، فقال جل وعلا: {وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمناً إلا خطأ، ومن قتل مؤمناً خطأ، فتحرير رقبة مؤمنة ودية مسلمة إلى أهله، إلا أن يصدقوا} إلى آخر الآية، ثم يقول سبحانه في الآية بعدها مشدداً في عقوبات القاتل المتعمد: {وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُّتَعَمِّداً فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا وَغَضِبَ الله عَلَيهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَاباً عَظِيماً}[63].
– أما الجنايات المختلفة التي يتسبب عنها أضرار وجروح، ففي بعضها إرش عن الجناية، وفي بعضها قصاص، وفي بعضها مبادلة شيء من الأعضاء تالف بالجناية، بمقابلة من أعضاء الجاني، وقد يصطلح الطرفان على الدية التي حددها الشارع، بحسب العضو المجني عليه، والضرر الذي أصابه، أو أعاقه عن العمل، والديات والأرش تتفاوت بحسب نوعية الجناية، وباختلاف الزمان والمكان، وحال المجني عليه. ذكراً كان أو أنثى، مسلماً أو كافراً، جنيناً أو صبياً متكاملاً[64].
– وقطاع الطرق المحاربون لله ولشرعه، المخيفون للناس الآمنين على أنفسهم وأموالهم وأعراضهم، وقد أوضح الله في سورة المائدة حكمهم، ونوعية العقاب الشديد الذي يجب أن يحل بهم، جزاء وفاقاً، لتماديهم في الجريمة، وإخافة لمن تسول له نفسه أن يعمل عملهم، ويستهين بالسلطة الحاكمة، ويتجرأ على حدود الله وشرعه، حيث حرم صلى الله عليه وسلم على المسلمين دماء بعضهم البعض، وأموالهم وأعراضهم فقال في حجة الوداع، مؤكداً ذلك الحكم ((أي يوم هذا؟)). قالوا: يوم النحر العيد الأكبر، فقال: ((أي شهر هذا؟)). قالوا: شهر الله الحرام. قال: ((أي بلد هذا؟)). قالوا بلد الله الحرام. فقال صلى الله عليه وسلم ((إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام، كحرمة يومكم هذا، في بلدكم هذا، في شهركم هذا، اللهم هل بلغت اللهم فاشهد)). ويقول صلى الله عليه وسلم: ((بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه، كل مسلم على المسلم حرام دمه وماله وعرضه)) رواه مسلم
وقد أعطى جل وعلا في التشريع الإسلامي، لولي الأمر سلطة تنفيذية، لإقامة حكم الله في الفئات المخالفة، إذا لم تتب من عملها، قبل أن يقدر عليهم، فقال سبحانه: {إِنَّمَا جَزَاؤُاْ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَاداً أَن يُقَتَّلُواْ أَوْ يُصَلَّبُواْ أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم مِّنْ خِلاَفٍ أَوْ يُنفَواْ مِنَ الأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْىٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الأَخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ}[65]. قال كثير من أهل العلم: يطبق الجزاء الوارد في الآية، كحد من حدود الله الرادعة والمريحة، حتى يستتب الأمن في المجتمع الإسلامي، بحسب نوعية الحرابة، من سطو وقتل وسرقة، أو شهر سلاح، أو تعد على السلطة، أو إخافة للآمنين، فهي جزاءات خمسة للولي الشرعي أن ينفذ منها ما يزجر ويؤمن المجتمع بدون مثلة أو تعذيب، ولكل جريمة ما يماثلها من الجزاء.
– ومقاتلة البغاة الخارجين على السلطة، أو إخافة للآمنين، من الروادع ذات الأثر، لأن منهج الإسلام الالتفاف حول قيادة موحدة، وهو من يرتضيه المسلمون إماماً لهم، حيث يحرم الخروج عليه، لما في ذلك من فتح باب الإجرام والفوضى والقتل والهتك، وقد توعد رسول الله صلى الله عليه وسلم من خرج على بيعة الإمام، أو من جاء ينازع من في أعناق الناس له بيعة.
ومن حرص الإسلام على الإمامة يؤكد المصطفى صلى الله عليه وسلم على أهميتها حتى في السفر، بضرورة تنصيب أمير من المسافرين، حتى ولو كان عددهم ثلاثة، إذ عليهم أن يؤمروا أحدهم والصدور عن أمره، كما جاء في الحديث قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إذا خرج ثلاثة في سفر فليؤمروا أحدهم))[66].
وأن من مات وليس في عنقه بيعة مات ميتة جاهلية[67]، وذلك لأهمية الجماعة في الإسلام، وضرورة السمع والطاعة للإمام، وتمثل ذلك الصلاة الركن الثاني من أركان الإسلام، بانقياد المصلين للإمام، وسيرهم خلفه.
يقول صلى الله عليه وسلم: ((إن يد الله مع جماعة المسلمين، ومن شذّ شذّ في النار)).
– أما من ارتد عن دينه، فإنه مجرم يجب محاربته، بعد إتاحة الفرصة له بالاستتابة، فإن تاب وإلا نفذ فيه حكم المرتد بالقتل لقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((من بدّل دينه فاقتلوه))[68]، وقوله صلى الله عليه وسلم ((لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث: النفس بالنفس، والثيب الزاني، والتارك لدينه المفارق لجماعة المسلمين)) متفق عليه.

الحكمة:
– ويبرز من حكمة العقوبات المفروضة في الإسلام، قوة هذا الدين في إسناد السلطة، لإيقاع الجزاء الوفاق على كل عمل ينافي سلامة وحوزة إسلام، مهما كان نوع هذا التعدي، إذْ لكل ما يسيء للمجتمع أو يضر بالفرد، ما يلائمه من الزواجر، لكي يشعر المجتمع الإسلامي بقوة السلطة التي جعلها الله لولي الأمر، في ملاحقة المجرمين، واستئصال شأفة المفسدين، بما يشفي الصدور، ويؤمن الخائف، ويردع من لا وازع له، وبذا يسعد المجتمع بالأمن، ويحيا الأفراد بالقصاص، وبدون ذلك يتحول المجتمع إلى الفوضى، ثم يلي ذلك طغيان القوي على الضعيف، وانتهاك الأعراض، وتنظيم عصابات البغي والعدوان. ومن أصدق من الله حكماً، فالله الرؤوف الرحيم بعباده، هو جل وعلا أعلم بما يصلح أحوالهم، وأدرى بما تستقيم به حياتهم، وبما ترتدع به نفوسهم.
وإذا كانت أكثر العقوبات جاءت من تجاوز الناس بعضهم على بعض، أو من ظلم الإنسان لنفسه، بالاستهانة بالحرمات، فإن في الكفارات عن كثير من الذنوب والمعاصي، كالظهار، ومواقعة الزوجة في نهار رمضان، والنذر والقتل الخطأ، وغير ذلك مما أبانه كتاب الله جل وعلا، أو شرحته سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم دليلاً آخر على صيانة حرمات التشريع، وإذاقة النفس ألم التراخي، وتسليم القيادة، للشهوات والرغبات.
وما حرص المسلم على السؤال عن هذه الكفارات، إلا رغبة في إبراء الذمة، والحرص على التوبة مما اقترفت النفس، وتنمية القوة الإيمانية بالامتثال، وتوعية الآخرين بحسن الاستجابة والقناعة.
والبشر طباعهم تختلف، وشعورهم يتباين، ونظرتهم للحدود والزواجر تختلف أيضاً بحسن فهمهم ووقوفهم عند النص الشرعي، بحسب قوة الإيمان، وسلامة النية.
فقد تقام الزواجر والحدود، ولا يرعوى القلب، ولا يرتدع الفاعل عن تكرار أعماله، ولذا جاء الحكم بتشديد العقوبة، أو استئصال الشأفة، لأن حماية المجتمعات أمكن من وقاية الأفراد.
ولن تبقى للإسلام مهابة، ولمجتمعه أمن، إلا بالصدور عن حكم الله في ملاحقة المجرمين، وردعهم بسلطة التشريع. وقوة حكم الله، حيث يتميز المجتمع الإسلامي في كل عصر ومصر بالمكانة الأمنية المرموقة، كلما حرص ولاة الأمر على الاهتمام بشرع الله، وتطبيق حدوده.
أما عندما يأتي التراخي في ذلك، ووصف أحكام الله بالشدة والقوة، فإن المجتمع سيجني ثمار ذلك قلقاً اجتماعياً، وجريمة منظّمة، وخوفاً مستمراً على النفس والمال والولد، كما يلمس هذا في المجتمعات التي لم ترض بحكم الله، ولم تحرص على حدوده.
إن المجرم مع جرأته جبان إذا أدرك ما ينتظره من جزاء عادل، ولكنه شرير مخيف، إذا عرف أنه لن يمس بأذى، أو أنه سيمكث في السجن أو الإصلاحية فترة وجيزة، يثبت فيها حسن سيرته، وتأدبه مع نظرائه في السجن، ليخرج بعد ذلك بأسلوب جديد، وعمل منظم، مما يجعل رواد السجون في نظر رجال البوليس في بعض الجهات، أناساً ثابتين، وإذا كان الإمام مالك بن أنس رحمه الله قد قال: "لا يصلح آخر هذه الأمة إلا ما صلح به أولها.. فأولها صلح بالإسلام، وآخرها لا يصلحه إلا الإسلام، ولذا فإن أهل الحل والعقد من المسلمين. عليهم دور مهم في المحافظة على شرائع الله، وبالذات في الجنايات والحدود، وترسيخ العقيدة في القلوب، حيث يضمن للمجتمع الاطمئنان، ورخاء العيش، وإلا حلَّ بالمسلمين ما وقع بغيرهم من الخوف والقلق، والفزع والتعدي، وتفشي أمراض لم تعرف فيمن قبلهم، وذلك بما كسبت أيدي الناس، مع أن ما يعفو الله عنه كثير، وكثير جداً..".
والله الموفق
ـــــــــــــــــــــ
[1]  سورة آل عمران آية 85، واقرأ الآية 19 من نفس السورة والىية 22 من الزمر، والآية 3 من المائدة، والآية 125 من الأنعام.
[2]  سورة يونس آية 72.
[3]  سورة آل عمران آية 67.
[4]  سورة يوسف آية 101.
[5]  سورة يونس آية 84.
[6]  سورة الحج آية ((78)).
[7]  سورة البقرة آية ((128)).
[8]  جـ14، 357 – 362.
[9]  جـ8: 224 – 226.
[10]  ص216.
[11]  سورة الفرقان آية 31.
[12]  سورة الزخرف آية 74.
[13]  سورة القلم آية 35.
[14]  سورة السجده آية 22.
[15]  سورة طه آية 22.
[16]  فقه عمر للدكتور رويعي بن راجح 2:6.
[17]  راجع تاج العروس 10 :77 – 78، ولسان العرب 18 :167 – 170.
[18]  حاشية الروض المربع لابن قاسم 7 :164.
[19]  6 :527.
[20]  راجع مواهب الجليل 6 :277.
[21]  انظر كشاف القناع 5 :585.
[22]  انظر مغني المحتاج 4 :2.
[23]  حاشية الروض المربع لابن قاسم 7 :165 – 166.
[24]  سورة الرحمن آية 54، وسورة مريم آية 25.
[25]  راجع تاج العروس 2 :331.
[26]  راجع التنقيح المشبع في تحرير أحكام المقنع ص369.
[27]  حاشية ابن قاسم على الروض المربع 7 :300.
[28]  فتح القدير 4 :112.
[29]  كشاف القناع 6 :63.
[30]  فقه عمر للدكتور رويعي 1 :73.
[31]  حاشية ابن قاسم على الروض المربع 5 :164.
[32]  سورة المائدة آية 3.
[33]  سورة النساء آية 82.
[34]  حاشية ابن قاسم على الروض المربع 5 :300.
[35]  رواه البخاري ومسلم والترمذي والنسائي وأبو داود جامع الأصول 3 :561.
[36]  سورة النحل آية 43.
[37]  سورة الكهف آية 49.
[38]  سورة الجن آية 18.
[39]  سورة النساء آية 48.
[40]  سورة العنكبوت آية 45.
[41]  تفسير ابن كثير 3 :414.
[42]  نفس المصدر ص415.
[43]  سورة البقرة آية 271.
[44]  رواه البخاري وأحمد وأبو داود.
[45]  سورة المائدة آية 105.
[46]  تفسير ابن كثير 2 :109.
[47]  سورة الحج آية 30.
[48]  سورة الحج آية 32.
[49]  يروى موقوفاً على ابن مسعود.
[50]  سورة المائدة الآيتان 78، 79.
[51]  تفسير ابن كثير 2 :83.
[52]  من كلمات عثمان بن عفان رضي الله عنه.
[53]  راجع كتاب الحسبة لابن تيمية نشر دار الكاتب العربي ص8، 43.
[54]  أعمال الحسبة في الإسلام تحدث فيها كثير من العلماء، منهم شيخ الإسلام ابن تيمية الذي ألف كتاباً في أعمال الحسبة وأثرها في مكافحة الجريمة، وذلك بالقضاء على مسبباتها، وبين ما يجب على رجال الحسبة أداؤه، وأوضح أعمالهم التي كانوا يقومون بها في عصور الإسلام الأولى، حتى وقت المؤلف، حيث استمدوا ذلك من مصدري التشريع كتاب الله، وسنة نبيه محمد صلى الله عليه وسلم، وما سار عليه السلف الصالح من هذه الأمة، وبالأخص ما جاء في سيرة الخلفاء الراشدين، حيث كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه النموذج الفريد لأعمال الحسبة.
[55]  راجع في هذا التعريف شرح مراقى السعود. ص10 – 11.
[56]   سورة المائدة آية 45.
[57]  راجع الآيات 43 – 47 من سورة المائدة.
[58]  إحكام الأحكام شرح عمدة الأحكام 2 :266.
[59]  رواه أبو داود 4 :3385.
[60]  انظر على سبيل المثال حاشية ابن قاسم على الروض المربع 7 :353 – 376.
[61]  وللشافعي بيت يقول فيه:
هناك   مظلومة    غالت    بقيمتها        وها هنا ظلمت هانت على الباري
انظر حاشية الروض ج5 ص360.
[62]  سورة البقرة آية 179 وانظر المصدر السابق.
[63]  سورة النساء الآيتان 92 – 93.
[64]  انظر المغني والشرح الكبير جـ12 الجنايات والحدود.
[65]  سورة المائدة آية 33.
[66]  أخرجه أبو داود عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه.
[67]  رواه مسلم من حديث عبدالله بن عمر.
[68]  رواه النسائي عن ابن عباس.




 حفظ بصيغة PDFنسخة ملائمة للطباعة أرسل إلى صديق تعليقات الزوارأضف تعليقكمتابعة التعليقات
شارك وانشر

مقالات ذات صلة

  • تطبيق الشريعة والوحدة الوطنية
  • التدابير الاحترازية والتشريع العقابي الإسلامي
  • لمحات من روائع تشريعاتنا (1)
  • التشريع والاجتهاد في التصور الإسلامي
  • التتبع والاستقراء لأحداث وقائع الجريمة
  • نظرية تدهور الضابط الديني للسلوك

مختارات من الشبكة

  • مخطوطة مختصر الوقاية (النقاية مختصر الوقاية) وثلاثة رسائل(مخطوط - مكتبة الألوكة)
  • خطبة: الهدي الإسلامي في الوقاية من الأوبئة(مقالة - ملفات خاصة)
  • وسائل الوقاية من الجريمة في ضوء السنة النبوية المطهرة (WORD)(كتاب - مكتبة الألوكة)
  • تكلفة الجريمة وسبل الوقاية منها!!(مقالة - موقع د. زيد بن محمد الرماني)
  • مختصر الوقاية مع شرحه اختصار الرواية لنجم الدين محمد الدركاني(مقالة - ثقافة ومعرفة)
  • الوقاية من الحريق في الإسلام(مقالة - مجتمع وإصلاح)
  • الابتعاد عن الغضب وأسبابه (الوقاية والعلاج)(مقالة - آفاق الشريعة)
  • السحر: حكمه وحكم الساحر وآثاره وأسباب الوقاية منه والعلاج منه(محاضرة - مكتبة الألوكة)
  • وسائل السلامة في الحج وسبل الوقاية من الأضرار بإذن الله وعشر ذي الحجة (خطبة)(مقالة - ملفات خاصة)
  • طرق الوقاية من أهوال يوم القيامة(محاضرة - مكتبة الألوكة)

 


تعليقات الزوار
1- شكر وعرفان
عتي يعقوب علي - sudan 03-03-2013 10:44 AM

أود شكركم على إسهامكم في نشر العلم والمعرفة للمسلمين أجمعين أخي الشيخ دمتم ذخرا للأمة وفقكم الله.

1 

أضف تعليقك:
الاسم  
البريد الإلكتروني (لن يتم عرضه للزوار)
الدولة
عنوان التعليق
نص التعليق

رجاء، اكتب كلمة : تعليق في المربع التالي

مرحباً بالضيف
الألوكة تقترب منك أكثر!
سجل الآن في شبكة الألوكة للتمتع بخدمات مميزة.
*

*

نسيت كلمة المرور؟
 
تعرّف أكثر على مزايا العضوية وتذكر أن جميع خدماتنا المميزة مجانية! سجل الآن.
شارك معنا
في نشر مشاركتك
في نشر الألوكة
سجل بريدك
  • بنر
  • بنر
كُتَّاب الألوكة
  • الدورة الخامسة من برنامج "القيادة الشبابية" لتأهيل مستقبل الغد في البوسنة
  • "نور العلم" تجمع شباب تتارستان في مسابقة للمعرفة الإسلامية
  • أكثر من 60 مسجدا يشاركون في حملة خيرية وإنسانية في مقاطعة يوركشاير
  • مؤتمرا طبيا إسلاميا بارزا يرسخ رسالة الإيمان والعطاء في أستراليا
  • تكريم أوائل المسابقة الثانية عشرة للتربية الإسلامية في البوسنة والهرسك
  • ماليزيا تطلق المسابقة الوطنية للقرآن بمشاركة 109 متسابقين في كانجار
  • تكريم 500 مسلم أكملوا دراسة علوم القرآن عن بعد في قازان
  • مدينة موستار تحتفي بإعادة افتتاح رمز إسلامي عريق بمنطقة برانكوفاتش

  • بنر
  • بنر

تابعونا على
 
حقوق النشر محفوظة © 1446هـ / 2025م لموقع الألوكة
آخر تحديث للشبكة بتاريخ : 9/11/1446هـ - الساعة: 17:29
أضف محرك بحث الألوكة إلى متصفح الويب