• الصفحة الرئيسيةخريطة الموقعRSS
  • الصفحة الرئيسية
  • سجل الزوار
  • وثيقة الموقع
  • اتصل بنا
English Alukah شبكة الألوكة شبكة إسلامية وفكرية وثقافية شاملة تحت إشراف الدكتور سعد بن عبد الله الحميد
 
الدكتور سعد بن عبد الله الحميد  إشراف  الدكتور خالد بن عبد الرحمن الجريسي
  • الصفحة الرئيسية
  • موقع آفاق الشريعة
  • موقع ثقافة ومعرفة
  • موقع مجتمع وإصلاح
  • موقع حضارة الكلمة
  • موقع الاستشارات
  • موقع المسلمون في العالم
  • موقع المواقع الشخصية
  • موقع مكتبة الألوكة
  • موقع المكتبة الناطقة
  • موقع الإصدارات والمسابقات
  • موقع المترجمات
 كل الأقسام | أسرة   تربية   روافد   من ثمرات المواقع  
اضغط على زر آخر الإضافات لغلق أو فتح النافذة اضغط على زر آخر الإضافات لغلق أو فتح النافذة
  •  
    تطوير المهارات الشخصية في ضوء الشريعة الإسلامية
    يوسف بن طه السعيد
  •  
    حقوق الأولاد (1)
    د. أمير بن محمد المدري
  •  
    المحطة الحادية عشرة: المبادرة
    أسامة سيد محمد زكي
  •  
    تحليل محتوى المواقع الإلكترونية لحوادث انتشار ...
    عباس سبتي
  •  
    طلب طلاق وشكوى عجيبة
    الداعية عبدالعزيز بن صالح الكنهل
  •  
    المحطة العاشرة: مقومات الإيجابية
    أسامة سيد محمد زكي
  •  
    أنماط التعليم الإلكتروني من حيث التدرج في ...
    أبو مالك هيثم بن عبدالمنعم الغريب
  •  
    وصية امرأة لابنتها في زفافها
    الشيخ محمد جميل زينو
  •  
    المحطة التاسعة: العادات
    أسامة سيد محمد زكي
  •  
    الشباب بين الطموح والواقع: كيف يواجه الجيل الجديد ...
    محمود مصطفى الحاج
  •  
    هبة فيها النجاة!
    أ. رضا الجنيدي
  •  
    بركة الزوج الصالح على الزوجة في رفع درجتها في ...
    فهد عبدالله محمد السعيدي
  •  
    تربية الأطفال في ضوء توجيهات سورة الحجرات
    محمد عباس محمد عرابي
  •  
    السلاسل الحقيقية لا ترى!
    أمين محمد عبدالرحمن
  •  
    تطوير العلاقات الإنسانية في الإسلام
    يوسف بن طه السعيد
  •  
    المحطة الثامنة: القرارات
    أسامة سيد محمد زكي
شبكة الألوكة / مجتمع وإصلاح / روافد
علامة باركود

مشكلة وقت الفراغ

زهير الكرمي

المصدر: من كتاب "العلم ومشكلات الإنسان المعاصر"
مقالات متعلقة

تاريخ الإضافة: 19/1/2008 ميلادي - 10/1/1429 هجري

الزيارات: 76737

 حفظ بصيغة PDFنسخة ملائمة للطباعة أرسل إلى صديق تعليقات الزوارأضف تعليقكمتابعة التعليقات
النص الكامل  تكبير الخط الحجم الأصلي تصغير الخط
شارك وانشر

مشكلة وقت الفراغ

منذُ أن بدأ الإنسان حياتَهُ على هذه الأرض صيَّادًا، يَصْرِف طولَ نهاره، وبعضًا من ليلِه عاملاً في نَصَبٍ وشقاء؛ لِيوفِّرَ الغِذاءَ لنفْسِه ولأُسْرَتِه، وهو يَحلُمُ بِتَوْفِير ما يَحتاجُ ويَشْتَهِي بأقلِّ جُهدٍ يَبْذُله أوْ بِدُونِ جُهدٍ مِنْهُ، ولم يتغيَّرْ حُلْمُ الإِنسان عندما تحوَّل الإنسان إلى مُزارع، وظلَّ الحُلم يراود الإنسان بإلحاح عندما مَرَّ الإنسان عَبْر تاريخِهِ الطويلِ بحضاراته المختلفة.

وصحيحٌ أنَّ بعضًا منَ الناس حصلوا في حياتهم على ما يحتاجون دون جُهد كبير، إلا أنَّ هؤلاء كانوا قِلَّة، وبقيتْ غالبيةُ الناس تشكو التَّعب إلى حدِّ الإرهاق، والبُؤْسَ إلى حَدِّ التعاسة، والقلقَ والخَوْفَ إلى حدِّ فِقْدَانِ الكرامة، والفَقْرَ والجوعَ إلى حدِّ التَّنازُل عنِ الإنسانية، وحتَّى الفئةُ القليلة التي حصلتْ على ما تحتاج بسهولةٍ ويُسْرٍ شعرتْ دومًا بأنَّ ما أُتِيح لها ليس كلَّ ما تَشْتَهِي، وظلَّتْ تُعانِي من إحساسٍ بِفِقْدان شيء غامضٍ أُسْمِيَ السعادةَ، ويَنْجُمُ الغموض عنِ اختلاف الناس اختلافًا كبيرًا في تحديد مفهوم السعادة.

ولمَّا كان المفهوم يتأثَّر كثيرًا بما يَفْتَقِدُهُ الفرد في حياته، ونظرًا لاختلاف ما يَفْتَقِدُهُ الناس كثيرًا؛ بسبب اختلافهم أنفُسِهِمْ؛ لا بل إن الفرد نفسَه يَختلِفُ مفهومُهُ عنِ السعادة في فترات متعددة من حياته، كان هذا التضارب في تحديد مفهوم السعادة.
وفوق ذلك: فإنَّ غالبية بَنِي البَشَر كانوا يفتقدون الكثير مما يحتاجون ويشتهون، وبذا كان مفهوم السعادة عندهم أكثرَ غموضًا، وأصعبَ تحديدًا.
ولا شكَّ أنَّه من غير المنطقي أن يعيش الإنسان - خليفةُ الله في الأرض وسيِّدُها - عُمرَهُ المحدودَ في شقاء وتعاسة ومَرَارَةٍ، حتَّى إنَّ الموت كان - وما زال - بالنسبة للكثيرين الحلَّ الأمثلَ للراحة مما يعانون.

ولَمَّا كانت حاجاتُ الإنسان المادّيَّةُ أسْهَلَ تحديدًا من حاجات الإنسان النفسيةِ والروحيةِ، انصرفتْ جُهود الإنسان أوَّلَ ما انصرفتْ إلَى مُحاولة توفيرها وجمعها وخزنها.
وكانتْ أنانِيَةُ الإنسان سَبَبًا في تصارُع الأفراد والجماعات الإنسانيَّة؛ في سبيل توفير هذه الحاجات، وضمانِ المزيد منها، وكان طبيعيًّا أن تَزيد هذه الصراعاتُ في أَسَى الإنسان، وبُؤْسِهِ، وشقائه، وتعاسته.

وحتَّى في أغْنَى المُجتمعات كان هناك دومًا فريقٌ كبير من البائسين والفقراء، الذين عاشوا ويعيشون حياتَهم في ضَنْك وبُؤْس، وماتوا ويموتون، وكثيرٌ منِ احتياجاتِهم مُجرَّد أحلام لم تتحقَّق.
وكما ذكرنا في البداية يعود جزء من هذه التعاسة إلى اختلاف الناس فيما بينهم في القُدُرات والإمكانات، وعدم تساويهم، غير أنَّ جزءًا آخر من هذه التعاسة يرجع إلى ظلم الناس بعضهم بعضًا، واستغلالهم لمن يستطيعون استغلاله.

ولا بد من الإشارة إلى أن الحيوان يَصْرِفُ معظم وقته وجُهده في سبيل توفير الغذاء لنفسه ولصغاره، ولذا فإن منَ الظلم أن يُفرَضَ على فريق منَ الناس ألا يرتفعوا عن مستوى الحيوان هذا، ففي ذلك حطٌّ من قَدْر الإنسان، وإحباط لإنسانيته؛ لأن معظم وقته يجب أن يُخَصَّصَ لاهتماماتٍ متعلِّقَةٍ بفِكره ووِجْدَانِهِ وزيادةِ فَهْمِهِ لبيئته ونفسِه وبَنِي جِنْسِهِ ومستقبَلِهِ على هذه الكرة الأرضية.

وفي غَمْرَةِ هذا الشعور بالألم والبُؤْس وكذلك الإحساس بعَجْزِهِ تُجاه تحقيق أحلامه بعَيْشٍ أسهلَ وأفضل -: اضطُرَّ الإنسان قديمًا إلى أن يحلُم بمساعدة قُوى خارقةٍ تَخَيَّلَها، وصار يعتقد بها فكانتِ الجِنّيَّات الخَيِّرات، وكان خاتَم سليمان، ومصباح علاء الدين إلى آخِرِ ما ابتَدَعَتْ مُخَيِّلَةُ الإنسان من هذه القوى الخارقة، ولعلَّ دراسةً موضوعيَّة لهذه القصص والروايات من هذه الزاوية، يمكن أن تُلقِيَ أضواءً على ما كان الإنسان يشتهي، وما كان يَستَشْعِرُ نَقْصَهُ، ويمكن أن تَزيد وعْيَنَا لمفهوم السعادة عنده.

كما أنَّ الأُدَباءَ والشُّعراءَ لم يقصروا بدرجاتٍ مُتفاوِتَةٍ في معالجةِ مَوضوعِ بُؤسِ الإنسان وشقائِه، وراح عدد كبير منهم ينادي بإسعاد الناس والعدل في معاملتهم، وتبلْوَرَتْ هذه الدَّعْوَى في الدَّساتير الوضعيَّة، وإن بَقِيَ مُعْظَمُها نُصوصًا بغير رُوح، وأقوالاً بدون تطبيق، ولعلَّ الصُّعوبةَ في التطبيق والتنفيذ نابعة من أن عدم تساوي الناس أصلاً في القدرات والإمكانات خَلَقَ صعوبةً هائلةً في إيجاد مِعيار مُقَنَّنٍ لِلعدالة بَيْنَ النَّاس، فاستغلَّ المُتَسَلِّطُون ذلك لِوَضْعِ معايِيرَ خاصَّة لكل مجتمع؛ بل ولكل مناسبة وزمن، وحتَّى عندما اصطلح الناس في إعلان حقوق الإنسان على العدالة في تكافؤ الفُرَص، والعدالة في توزيع الحقوق والواجبات، لم يتقدَّم أحد بإيضاحِ كيف يمكن تنفيذُ ذلك بعدالةٍ ودِقَّة، فأُسلوبُ التنفيذِ الوحيدُ المتاحُ في عدالة تكافؤ الفُرَص مَثَلاً هو التساوي في إعطاء كلٍّ فُرصَةً مساوِيَةً لفُرصة الآخَرِ؛ ولكن في ضوء ما نعرفه عن اختلاف الناس قدراتٍ وإمكاناتٍ، هل يُمكن أن نقول مخلصينَ: إنَّ في هذا عدالةً مطلقةً؟ ثم لو حاولنا التنفيذ فعلاً متجاهلينَ اختلاف الناس عقلاً وقدراتٍ، فمَن يستطيع الجزم بأن إعطاء الأطفال أو الطلاب فرصًا متساوية ممكن؟! وإذا كان ممكنًا ظاهريًّا في المدرسة مثلاً، أفلا يُؤَثِّر البيتُ وإمكاناته في إعطاء بعض الأطفال امتيازاتٍ لا تُتاح لغيرهم؛ بمعنى أنَّ الطفل ذا العائلة الغنية والمستنيرة يَنْعَمُ بميزات لا يجد مثلَها الطفلُ ذو العائلة الفقيرة والجاهلة، وفي ذلك إخلال بتكافؤ الفُرَص، لا سلطان لأحد عليه.

وواضح أن المسألة مُعقَّدة أكثرَ بكثير مما يتصوَّر الإنسان للوهلة الأولى، وقدِ اصطدم كثير من الأدباء بهذه المعضلة، ولما لم يجدوا لها حلاًّ - فيما نعرف من مجتمعات - ولما رأوا أن البؤس الإنساني متأصل في هذه المجتمعات، راح فريق منهم يتخيل مجتمعًا مثاليًّا حَسَبَ تصوُّرِهِم في بُقعة مجهولة، أوِ افتراضية، ورسموا صورة خيالية لمقوِّمات هذا المجتمع المثالي في مدينته الفاضلة.
ولسنا بسبيل مناقشة تصورات هؤلاء الأدباء للمجتمع المثالي؛ إذ إن كتاباتهم ليست سوى نقد معكوس لمجتمعاتهم الحقيقية؛ ولكن قد يكون مفيدًا أن نورد باختصار وصفًا لمجتمع حقيقي يكاد يشبه ما ذهب إليه أولئك الأدباء في خيالهم، ونرى إن كان مثل هذا المجتمع قابلاً للتعميم.

فقد نشر الصحفي المعروف نويل باربر في ثلاث مقالات في صحيفة الديلي ميل في أعداد الخامس والسادس والثامن من يونية (حزيران) عام 1962م تقريرًا صحفيًّا عن زيارته لمملكة هونزا، التي يصفها بأنَّها جنَّة الدَّعَةِ على الأرض، وقد أورد في هذا التقرير أن عدد سكان مملكة هونزا يبلغ 18.000 نسمة، يعيشون في وادٍ خصيب مَنيع يصعب الوصول إليه، ويقع بالقرب من حدود سنكيانج في جبال الهيمالايا على ارتفاع 8000 قدم عن سطح البحر، ويتناقل سكان مملكة هونزا أنَّ أصلهم، نظرًا لبياض بشرتهم من نسل ثلاثة جنود فَرُّوا من جيش الإسكندر مع زوجاتهم الفارسيات، وهم يعيشون في سلام منذ أن بدأ مجتمَعُهم في التكوُّن، إذ لم يدخلوا حربًا منذ ألفي عام، ولعلَّ فِرار أجدادهم من جيش الإسكندر ونَبْذَهُم الحربَ له دَخْلٌ في حُبِّهِم للسلام، وهؤلاء يختلفون عن بقية المجتمعات في أنه: ليس لديهم نقود، ولا تجارة، ولا تحدث عندهم جرائمُ من أيِّ نَوْع، ولا يصابون بأي مرض وبائي، وقلَّما يموت الواحد منهم قبل أن يبلغ التسعين من عمره، وتكون مِيتَتُهُ طبيعيَّة في الغالب، ولديهم توازُنٌ نفسيّ وجسميّ ممتاز، وتلد نساؤهم بدون ألم، ولا يعرفون ألم الأسنان، وعدد السكان هناك ثابت بدون اللجوء إلى وسائط منع الحمل أوِ الإجهاض، وبذلك لا يستشعرون نقصًا في الغذاء، ويتمتعون بوَقارٍ مهيب، فلا يتجادلون ولا يتنازعون ولا يغضبون، وليس لديهم أيُّ نوع منَ الفنون، ولا أيُّ نوْعٍ منَ العلم، ويتتبعون التقاليد بدِقَّة:

وقد يرى بعضُ الناس في هذا المجتمع المَثَلَ الذي يجب أن يُحْتَذَى، والحلَّ لمشكلات الإنسان وبخاصة الإنسان المظلوم المغلوب على أمره.
ولكنَّ هذا المجتمع - في حقيقة الأمر - ليس إلا هروبًا من الواقع، ولعلَّه استمرار لفِرار مُؤَسِّسِيهِ من جيش الإسكندر، ومنَ الصعب أن نتصوَّر المجتمعاتِ الإنسانيةَ مغلقةً على نفسها بهذا الشكل، دون صلة أوِ اتِّصالٍ ببعضها بعضًا، وبخاصَّةٍ في هذا العصر الذي تقلَّصَتْ فيه المسافات "وصَغُر" حَجْمُ العالم إلى حدٍّ كبير بِفَضْل سرعة الاتّصالات وتطوّرها؛ إذ لم تَعُدْ هناك بلادٌ مجهولةٌ أو بعيدةٌ يسمع عنها، ويُنْسَجُ حولها القَصَصُ والأساطير، وفوق كل هذا، فإن مثل هذا المجتمع يُفْقِدُ الإنسان جزءًا كبيرًا من إنسانيَّته، وهو الجزء المتمثل بعقله الموقَدِ الباحث دومًا عن المعرفة، والساعي للسيطرة على بيئته ومُقَدَّراتِهِ، ثم كيف يمكن أن نتصور المجتمعاتِ الإنسانيةَ وقد نَضَبَ مَعِينُ الفنون منها ونُسِيَ العلم؟ بل كيف يُمكِنُ لِلإنْسَانِ اليَوْمَ أن يَتَنَازَلَ عن مكاسبه التي حقَّقها بِفَضْلِ العِلْم والتّكنولوجيا، ويعود للعيش عِيشَةً هي أقرب إلى مَعِيشَةِ البهائم والأنعام؟

ونستغرب كثيرًا كيف يرضَى ذَوُو القُدُرات العالية في هذا المجتمع بالعيش بشكل متشابه مع ذَوِي القُدرات القليلة، وكيف تَمَكَّنَ الناس هناك منَ التخلِّي عنِ الطُّموح الإنسانيِّ، وتَحَدِّي المجهول والرغبة في استكشافه.
ولعلَّه مظهرٌ آخَرُ من مظاهر تناقُض الإنسان أن يحلُم بالمجتمع الفاضل الأمثل؛ حتى إذا ما اقترب من تحقيق هذا الحلم وجده سرابًا، لا جدوى من ورائه.
على أن ذلك لا يعني أن البديل هو الإبقاء على الإنسان، أو معظم بني البشر في شقاء، وشَظَفِ عَيْشٍ، وإحساس بالإحباط، والألم والظلم.

ورغم ما صاحب الثَّورةَ الصناعيَّةَ من مآسٍ إنسانيَّة على صعيد الفرد، وعلى صعيد قطاعاتٍ كبيرةٍ مِنَ المُجْتَمَع، إلا أنَّه لا يَخْتَلِفُ اثنانِ فِي أنَّ الحضارةَ العِلْمِيَّة التكنولوجيةَ وفَّرتْ على الإنسانِ الكثيرَ من الجهد والنَّصَبِ؛ فبدلا من العمل الجسميِّ المُضْنِي في سبيل قضاء أيَّةِ حاجة، صارتِ الآلةُ تتحمَّلُ مُعظمَ العِبْءِ في العمل؛ كما سَهَّلَتْ له سُبُلَ الانتقال والاتصال وغيرها من مجالات الحياة بما في ذلك الترويح عن النفس؛ وهكذا صار الإنسان يضيء غرفته بمجرد لمسة أصبع، وكان ذلك يأخذ منه جُهدًا ويستغرق وقتًا، كما أنَّ الضوء المتاح له اليوم يَفْضُل ما كان يحصل عليه مرات عديدة، ومثل ذلك حصل بالنسبة لطهي طعامه؛ لا بَلْ إنَّ التَّطَوّراتِ الحديثةَ في هذا المجال تُبَشِّر بأن يصبح بوُسْعِ الإنسان أن يُنْهِيَ طَهْيَ طعامه في دقيقتين فقط، باستعمال إشعاع الموجات القصار، أو موجات الراديو في أفران خاصة، بينما كانت - وما زالت - هذه العملية تستغرق من ربات البيوت، وهن ربع المجتمع، معظمَ وقتهنَّ، وكذلك حصل تطوُّرٌ كبير في عملية انتقاله وسَفَرِهِ إلى بلاد بعيدة بسرعة ويسر بدلاً من ركوب المخاطر والمتاعب التي كانت تصاحب فِكرة سَفَرِهِ في الماضي، وهكذا مع بقية مجالات الحياة.

وبالإضافة لتوفير الجهد أدَّى تدخُّل العلم والتكنولوجيا إلى توفير الوقت توفيرًا كبيرًا؛ فأصبح المزارع يُنهِي عمله بسرعة بينما كان يجهد فيه طول يومه، وصارت ربة البيت تُتِمُّ أعمالها في جزء من النهار، وكانت تمضي فيه سحابة نهارها، وهكذا بدأ الإنسان يجد – مهما كان عمله – أنَّ لديه وقتًا لا عمل لديه فيه، وهكذا أصبح وقت الفراغ متاحًا لأعداد متكاثرة من بني البشر بعد أن كان مقصورًا على عدد قليل جدًّا.
وكلَّما كان المجتمع متقدِّمًا – بمعنى أنه أكثرُ إسهامًا في الحضارة العلمية التكنولوجية – كان عدد أفراده الذين يتاح لهم وقت فراغ متزايدًا أكثر؛ كما أن التقدم العلمي الطبي أسهم كثيرًا في زيادة عدد الذين يتقاعدون من أعمالهم، وهؤلاء يكون وقت فراغهم طويلاً.

ورغم أنَّ هذا كان مَطْلَبًا إنسانيًّا، وحُلْمًا راوَدَ مُخَيِّلَةَ الإنسان ليرتاح من العمل، والعَناء، والتعب فترة من يومه ويومًا أو يومين من أسبوعه، وشهرا أو بعض شهر من سنته؛ إلا أن الإنسان – بثبات عنيد على مبدأ التناقض فيه – ما لَبِثَ أن بدأ يلمس في الفراغ - الذي سعى إليه كثيرًا - مَفْسَدةً أيَّ مفسدة وضررًا كبيرًا.
فقدِ اتضح أن وقت الفراغ قد أصبح مشكلة عالمية، تستدعي أن تعقد لدراستها المؤتمراتُ العالمية، وقد عُقِدَ في شهر أبريل (نيسان) من عام 1976 في بروكسل عاصمة بلجيكا مؤتمر كان الثاني من نوعه نَظَّمَتْهُ مؤسسة "فان كليه" Van Cle   البلجيكية بإشراف منظمة اليونسكو، وكان موضوعه وقت الفراغ، وحضره حوالَيْ خمسمائة مندوب يُمثِّلون 50 دولةً، وقد تبيَّن من الدراسات والنقاش في هذا المؤتمر أنَّ وقت الفراغ يُجَابِهُ الإنسانَ بعدد من المشكلات المعقَّدة، ومتعددة الوجوه أكثر بكثير مِمَّا كان متصوَّرًا.

ولعلَّ أوَّل مشكلة من هذه المشكلات هي الضَّجَرُ والملل، فاضطرار أيِّ إنسان لقضاء ساعات الفراغ من يومه دون عمل يجعله ضَجِرًا، والضَّجَرُ يسبب مشكلات متعدِّدة على صعيد الفرد والمجتمع، وله انعكاسات نفسية خطرة؛ فالضَّجِرُ يتحلَّلُ تدريجيًّا من قِيَمِهِ وأخلاقِهِ، وقد يدفعه هذا التحلُّل إلى ارتكاب حماقات عديدة يعاقب عليها القانون، وما التصرفات غيرُ الأخلاقية والتجاربُ في ميدان العقاقير المنشطة والمهدئة والمهلوسة والانضمام إلى مجموعات الرافضين للمجتمع وتقاليده وعاداته وقيمه، إلا نتائجُ حتميةٌ وطبيعيةٌ للضَّجَر، والملل الناجمَيْنِ عن كثرة وقت الفراغ والدَّعة؛ بالإضافة لأسباب أخرى.
وليست هذه المظاهر التي تكثر وتنتشر في المجتمعات المتقدِّمة والغَنِيَّة جديدة، فقد كان سُلوك بعض النبلاء وأبناء الطبقات الراقية والغَنِيَّة في الماضي سُلوكًا لا ينسَجِمُ والمعاييرَ الخُلُقِيَّة التي كانت سائدة في عصرهم؛ بل كثيرًا ما انغمس بعضهم في مفاسدَ عديدةٍ، ونرى مثل هذا في المدن قديمها وحديثها نظرًا لما تُوَفِّرُهُ المدنُ لبعض الناس من فراغ؛ وليس الثراء هنا عاملاً أساسيًّا، وإن كان عاملاً مساعدًا في دفع الناس إلى المفاسد والتبذل، فالضجر أشد قوة وتأثيرًا.

ولا يقتصر أثر الضجَر والملل على هذه الظاهرة رغم خطورتها؛ بل يتعداها إلى آثار نفسية محطِّمَة؛ فالشعور بالضجر والفراغ إذا امتد طويلاً يوصل الإنسان إلى التساؤل عن جدوى الحياة، وينقص قدره في نظر نفسه باعتبار أنه لا يحقق إمكاناته وقدراته، وأنه يعيش كمًّا مهملاً على هامش الحياة، ونجد هذه الظاهرة أوضحَ ما تكون في الذين كانوا يعملون بجِدٍّ وتعب ثم توقفوا عن العمل؛ بسبب وصولهم إلى سِنِّ التقاعُد أو بسبب آخَرَ، ولم يجدوا ما يقومون به من عمل في وقت فراغهم الذي صار يملأ أيامهم كلَّها؛ ولا يختلِف اثنانِ في أن مثل هذا الشعور إن تولد في الإنسان حطَّمه من الداخل، وسبَّب له إشكالات متعددة، وردود فعل عنيفة أحيانًا.

والغريب هنا أيضًا التناقض البادي في أنَّ العُمَّال بالذَّات بذلوا جهدًا كبيرًا، وصل إلى حدود العُنف أحيانًا في سبيل إنقاص ساعات العمل الَّتي كانوا يعملونها، وما إن تحقَّق لهم ما يريدون – في بعض المجتمعات الصناعيَّة – حتى بدأتِ الشكوى من الفراغ، والتبُّرم به وبما يسببه، على أنَّ ذلك لم يكنِ انتِقالاً مُباشِرًا سَلِسًا؛ فإنقاص ساعاتِ العمل اليومية إلى ثماني ساعات كان أمرًا مَقْبولاً، إذ تُرِكَ لِلعامل فرصةَ العِناية بِمُتَطلبات بيته وأبنائه وزوجته، ومع ذلك أثَّر تأثيراتٍ سيئةً في بعض العُمَّال الذين لم يكونوا مهتمين بمتطلبات عائلاتهم أصلاً، ثم طالب العمال بإنقاص ساعات العمل عن ثماني ساعات، ونجحوا في كثير من المجتمعات الصناعية؛ ولكنهم وجدوا أن إنقاص ساعة أو نصف ساعة لم تُجْدِهم نَفْعًا، ولم تَزِدْ من وقتِهِمُ الحُرِّ الخاصِّ بهم فراحوا يطالبون بأسبوع عمل أقصر، ويومين لعطلة نهاية الأسبوع، ثم طالبوا بإجازة سنوية أطول، وفي معظم المجتمعات الصناعية لا تَزيد ساعات العمل في الأسبوع عن 40 ساعة، وفي البعض تهبط إلى 35 ساعة، ونتيجةَ طبيعةِ العمل في بعض الصناعات أو تحقيقًا لرغبات العمال أضيف وقت العمال الحر الذي كسبوه بتخفيض ساعات العمل إلى وقت فراغهم في إجازاتِهم فوق فراغهم في عطلة نهاية الأسبوع، وبقيَّة ساعات النهار.

وكان من الممكن أن تنفجر مشكلة الفراغ بشكل حادٍّ لولا أن سارع عدد من رجال الأعمال إلى الاتجار بها، فنشأت صناعات معظمها يقدم حلولاً ترفيهية للناس؛ لملء أوقات فراغهم، وأصبحت صناعات الملاهي والسياحة والألعاب الرياضية والمسارح وما شابهها تُدِرُّ رِبحًا كبيرًا على أصحابها؛ كما تنبهت بعض الحكومات والسلطات المسؤولة إلى ذلك، فأنشأت العديد من المتاحف والمعارض وقصور الثقافة والفنون والمكتبات العامة، وجعلت مع زيارة الناس لها المحاضرات والدراسات في أبحاث معينة متعددة على مدار السنة.

على أنَّ من المهم أن نتنبه إلى أنَّ مقياس نجاح هذه المرافق لا يجب أن يقاس بعدد الناس المتردِّدِينَ عليها فقط؛ بل بمقدار ما يفيدونه منها أيضًا؛ وحتى تكون الفائدة هدفًا مرجوًّا يُسعى إليه لا بد من دراسةٍ نفسيَّةٍ مَيْدانيَّةٍ شاملةٍ للنَّاس ورغباتهم وحاجاتهم الفكرية والنفسية؛ إذ يجب ألا يَغيب عن البال أن الهدف أساسًا من هذه المرافق المختلفة هو إشغالُ وقت الفراغ بما يفيد ويُشبِع حاجاتٍ في النفس، وبذا تقل الخشية من الضجر وما يستتبعه.
ومع كل هذا ظهرت بوادر أعراض تأثير الضجر في كثير من المجتمعات، التي تمكنت بعد لأْيٍ من توفير وقت الفراغ وزيادة مدته، ويرجع جزء كبير من أسباب انتشار الجرائم والمفاسد في هذه المجتمعات إلى كثرة وقت الفراغ وما ينجم عنه.

وقد بدأتْ تظهر في مثل هذه المجتمعات محاولاتٌ لِمَلْءِ الفراغ بالإضافة لِلإمْكانات المُتاحة في المرافق الخاصَّة والعامَّة، بإشغال الناس بالقيام بأعمال كانت تستدعي استقدام العامل المختص للقيام بها، كأن يصبغ الإنسان بيته، أو يقوم بصيانة سيارته، وأدوات منزله، أو يصنع شيئًا من أثاث بيته دون مساعدةٍ مِمَّن يمتهنون هذه الأعمال، ونشأت صناعات متعددة مهمتها تقديم الأدوات الأساسية مع الإرشادات التفصيلية اللازمة لقيام الإنسان غير المتخصص بالعمل وحده في أوقات فراغه.

كما أنَّ عددًا منَ النَّاس يَجِدُون في أوقات الفراغ فُرصةً لِلْقِراءة والكتابة أو الرسم أو الموسيقى، وغير ذلك من النشاط الإنساني، غير أنَّ عدد هؤلاء النِّسْبِيَّ قليلٌ جدًّا، والغريب أنَّ هؤلاء يَشْكُونَ في كثيرٍ منَ الأحيان من قِلَّة الوقت المتاح لهم، في الوقت الذي يشكو فيه غالبية الناس من كثرة وقت الفراغ الذي لا يدْرُونَ كيف يشغلونه. ولا شك أن الذي لا يستشعر مشكلة وقت الفراغ أسعد حظًّا من الذي يشكو منها، بالرغم من أنَّ كلاًّ من الاثنين يحسد الآخر على حظّه.
على أنَّ المتقاعدين عن العمل وكبارَ السِّنِّ يُبَلْوِرُونَ المشكلة من زاوية أخرى؛ فهم خِلافًا للعاملين الذين في معظم الحالات يرغبون في مزيد من أوقات الفراغ، يشكون من تراكم أوقات الفراغ، وامتدادها أمامهم بدون أمل في تناقُصِها أوِ التخفيف من ثقلها.

وقد ساعد على تضخيم المشكلة وزيادتِها حِدَّةً أنَّ تَحسين وسائل العناية الصحيَّة والطبيَّة جعلت أعداد الذين في سِنِّ الشيخوخة تصل إلى أكثر من خُمْسِ عدد السكان في كثير من المجتمعات المتقدمة، وهذه حالة فذَّة لم يَسْبِقْ أن عرفها المجتمع الإنسانيُّ في تاريخه كله، فماذا يمكن أن يُعمَل لهم لتخفيف إحساسهم بالفراغ والدَّعة والضَّجَر والملل؟:
إنَّ الَّذِي يعمل فعليًّا اليوم ممَّن بلغ الستين والسبعين والثمانين قليل جدًّا، ففي بعض المجتمعات التي ما زالت تعطي مفهوم الأسرة شيئًا منَ الاحترام، يعيش هؤلاء في غُربَة عن جيل الأحفاد، وأحيانًا الأبناء ولا يعملون سوى مستشارين في بعض الأمور، ما لم يكن الواحد منهم قويَّ الشخصية متمَلِّكًا ناصيةَ الأُمور في العائلة أصلاً، أو ذا ثروة ينتظر أفراد الأسرة تَوَارُثَها. على أنَّ غالبيَّتَهُمْ يُصْبِحُون في منزلة الضيوف في البيت ويُحتَرَمون؛ ولكن بدون أن يكون لهم أثر كبير في حياة الأُسرة، وينحدر عدد كبير منهم إلى مراكز ثانوية وأحيانًا حتى إلى منزلة الخَدَم، فيُعْنَوْنَ بِالأحفاد بينما يذهب الابن وزوجته إلى عملهما أو إلى حفلات أصدقائهما، أو يقومون بأعمالٍ أُخْرَى من هذا القبيل.

ولَمْ يَستطعْ أحدٌ حتَّى الآنَ أن يتقدَّم بحُلُول ناجعةٍ لمشكلة كبار السن هؤلاء؛ فقدِ اقترح بعضهم أن يُدَرَّبوا على تنمية هوايات خاصة بهم؛ ولكن مفهوم الهوايات أصلا هو أن تشغل جزءًا من وقت الفراغ، وأن تكون الهواية تكملة لنشاط الإنسان في عمله، أما أن تصبح الهواية شغل الإنسان الشاغل ملء وقته كلِّه فأَمْر يسلخ عن الهواية صفتها، ولا يمكن أن نجد إنسانًا يريد التمتُّع بِهِوايَتِه منَ الصَّباح حتَّى المساء كُلَّ يوم، كما أنَّ هؤلاء لا يمكن في سِنِّ الستين أوِ السبعين أن يَنغَمِسُوا في الملذات والليالي الحمراء بشكل مستمر.

واقترح آخرون أن يُتاحَ لِهؤُلاء المتقدمين في العمر مجال الدراسة والاستزادة منها في مدارس خاصَّة بهم؛ ولكن الإنسان يتابع دراسته بهدف تحسين مركزه أو فرص عمله، ويَحِقُّ للمرء أن يتساءل ما الذي يمكن أن يبتغيه هؤلاء من الدراسة؟ وما الدافع الذي يمكن أن يدفعهم لمتابَعَتِها؟ وقد يحصل أن يستمرَّ البَعْضُ مِمَّن وصلوا سنًّا متقدِّمَةً في القراءة أوِ التأليف أو الموسيقى إلى آخِرِ ما هنالك، ولكن ذلك يَظَلُّ دومًا على أساس فرْدِيٍّ ذاتيٍّ، وقلَّما يتقبل الواحد منهمُ الذهاب إلى مدرسة ولو كانت خاصَّة، ثمَّ مَن يدفع مصاريفَ مثْلِ هذه المدارس، إنَّ الحكومات مستعِدَّة لِفَتْحِ المدارس؛ ولكن على أن يكون ذلك استِثْمارًا ذا مردود؛ كما هي الحال في مدارسِ الصّغار، فأين يكون مردود مدارس المتقدّمين في العمر؟! وماذا يمكن أن يستفيد منهم المْجَتمع وقد فرض عليهم نفسُ المجتمع أن يتوقَّفوا عن العمل؟

وهناك اقتراحات بإيجاد أعمال ووظائف مناسبة لهؤلاء؛ ليعودوا للعمل، وبذا يخلصون من مشكلات أوقات الفراغ؛ ولكن الصعوبة في تنفيذ هذا الاقتراح تكمن في قلَّة الأعمال المتاحة أصلاً وفي أنَّ هؤلاء لا يصلحون لكثير من الأعمال، وعلى ذلك تكون الصعوبات المالية والإدارية في ترتيب إعطائهم أعمالاً تناسبهم أكبر من مردود عملهم في أغلب الأحيان، وبخاصَّة أنَّ عددًا لا يستهان به منهم تضعف مع تقدم العمر حواسُّهم أو تضطَرِبُ أَيْدِيهِم أو يُعانون من أمر يُعِيقُ عَمَلَهُم.

وفي الولايات المتحدة الأمريكية فكَّر بعض المموِّلِينَ في إنشاء مدينة كاملة مستقلَّة مخصَّصة للمتقدّمين بالسّنِّ، بحيث يدفعون أجرًا لسُكْناهم، ويقومون بإدارة هذه المدينة والعمل بها والترفيه عن أنفسهم بأَنْفُسِهم، ومع أنَّ تنفيذَ هذه الفكرة ما زال في البداية إلا أنَّ هناك بعضَ الشُّكوك حول إمكان نجاحها وتعميمها، فالأجْرُ المَطلوبُ لن يَستطيعَ دَفْعَهُ إلا فئةٌ منَ النَّاس، ثُمَّ هناك الخيار ذو الحدَّيْنِ وهو: هل يُفَضِّل المرءُ في هذه السّنِّ أن يَنْعَزِلَ عنِ العالم وسطَ مجموعة من أقرانه فقط، أم أنه يُفَضِّل أن يبقَى في تيَّار الأحداث وجُزءًا من نَبْضِ الحياة؟ وهل يفضِّل ألا يتَّصِلَ بِغَير المتقدِّمين بالسّنِّ أمثاله، أم أن يَحْتَكَّ بالشباب والصغار رغم ما يسبِّبُهُ الفرق بين الجيلين في التفكير والسلوك من إثارات واختلافات؟

الفراغ في المجتمعات المتخلفة:
من الواضح أنَّ الوضع في المجتمعات المتخلفة هو نفس الوضع الذي كان عليه الإنسانية في الماضي:
ففي المجتمعات الزراعية أو الصناعية الفردية – وغالبًا ما تكون صناعات عائلية - يكون مركز العمل هو البيت، أو مكانًا قريبًا منه، ويَنْدُر أن يُفَرِّقَ المرء في مثل هذا الوضع بين عمله ووقت فراغه؛ بل لعلَّ وقت الفراغ بمعناه الصحيح غير موجود فيما عدا الأعياد والمناسبات الاجتماعية والدينية، وحتَّى في هذه المناسبات الَّتِي يتوقَّفُ فيها العمل لا يستطيع المرء أن يتحلَّل من واجبات تشغله طول وقته، وغالبًا ما تكون هذه الواجبات جماعيَّة وذات طقوس مُعيَّنة، مِمَّا يَنْفِي عنْ هَذِه العُطلات الَّتِي لا يقوم فيها الناس بعملٍ صِفةَ وقت الفراغ، وحتَّى تجمّع عدد من الناس في ساحة منزل وجيه الحيِّ، أو في غرفة خاصَّة من بيته لساعة أو اثنتين بعد انتهاء العمل وتناوُل العشاء، كان يأخذ صفة وظيفة اجتماعية بمعنى أنها جلسات يتبادل فيها أهل الحي الأخبار والرَّأْي فِي الأمور التي تعرِضُ لهم.

وقد أدَّى دخول بعض الأجهزة والآلات التكنولوجية في القرية إلى خلق وقت فراغ، والخطورة هي أنَّ تزايُد وقت الفراغ هذا في غياب الإمكانات التي يمكن أن تسده في القرية أو المجتمع المتخلِّف سبَّبَ ويُسبِّبُ مضاعفاتٍ نفسيةً، عند الشباب بخاصَّة، ونظرًا لتمسُّك المجتمع في القرية بِالتَّقاليد وتماسُكه تماسُكَ الأسرة الواحدة، تكون انعكاسات هذه المضاعفات النفسية والسلوك غير المنسجم مع السلوك المتعارف عليه كبيرة وقوية.

الحرية والوقت الحر:
عَرَضْنَا لبَعْضِ مُحاولاتِ مَلْءِ وَقْتِ الفَرَاغِ عند الناس التي تقوم بها السلطات البَلَدِيَّة والحكومية، ويَخْشَى فريقٌ منَ المُفكِّرين من تدخُّل السُّلُطات في حرية الفرد في هذا المجال، فهم يرون أن من حق الإنسان أن يُقَرِّرَ بملء حُريَّتِهِ كيف يَصْرِف وقت فراغه, ولكنه في حقيقة الأمر مُجْبَر على أن يصرف هذا الوقت كما توفِّره له السُّلطاتُ، أو كما تخطِّطُ لَهُ، فإذا ما كان التخطيط يهدِفُ إلى توجيه الناس وجهات سياسية أو فكرية معينة، تعدى الأمر إلى الاعتداء على حريتهم، وليس هذا وحده ما يَحُدُّ من حرية الفرد في اختيار أُسلوب التمتع بوقت فراغه، فهناك أيضًا مشكلة حماية البيئة، ومشكلة تزايد عدد السكان، وتَمْضِيَتُهُ وقتَ الفراغ تتأثر كثيرًا بنوع البيئة وإمكاناتها، وما تستطيع تقديمه للناس.
وكذلك تتأثر بعدد السكان بعامَّة وعدد أفراد الأسرة بخاصة، ويبدو أننا سنجد أمامنا في المستقبل وقتَ فراغٍ أطولَ بكثير مما نجده اليوم؛ ولكنه سيكون وقت فراغ أكثر تعقيدًا، وسنكون أقلَّ حُرّيَّةً في التَّمَتُّع به.

خاتمة:
يبدو مِمَّا عرضنا في هذه العجالة أن مشكلة الفراغ والدعة، وما تسببه من ضَجَرٍ ومَلَل وانعكاساتها النفسية والسلوكية مشكلة يجب أن لا يستهان بها، وألا تُتْرَكَ لتَتَفَاقَمَ مستقبلاً، وتفاقُمُها مُنْتَظَرٌ نتيجةَ عواملَ عِدَّة منها:
  -أنَّ العالَم وبخاصة المتقدم منه، مُقبِل على أسبوع عمل قصير جدًّا لا يتعدَّى أربعة أيام من كل أسبوع وقد ينقص عن ذلك.
  -وعدد المتقدمين في العمر في تزايد نتيجة تحسين العناية الطبيعية، ونتيجة الأبحاث العلمية الدائبة في معرفة سِرِّ الهرم والشيخوخة وهذه الأبحاث – وقد قطعت شوطًا لا بأس به – توحي بأنَّ الإنسان بوُسْعِهِ في المستقبل المنظور أن ينتظر ارتفاع فترة الحياة المتوقَّعَة إلى حوالي 130 سنة يقضي الإنسان معظمها في نشاط وإنتاج، ثم إن الإنسان في المستقبل سيعتاد رؤية التغيُّر يجري سريعًا من حوله وستَقِلُّ مقاومته للتغيير، وبذا سيكون أسرع في الملل من الأشياء. 

-إذا أضفنا إلى هذه العوامل وغيرها أنَّ حريته في اختيار أسلوب قضاء وقت فراغه ستكون محدودة، عرفنا مبلغ حدة مشكلة الفراغ والدعة التي ستواجهه: 
ما لم يكن الإنسان قادرًا على مواجهة هذه المشكلة بحلول ناجعة في الوقت المناسب تفاعلت المشكلة في نفسه تفاعُلات متفجرة، تتهدَّد صِحَّته النَّفسيَّة وصِحَّته العامَّة، وبالتالي استقراره وحياته.

ومن الملاحَظ أنَّ كثيرًا من الدول تقيم سلطات، وحتى وزارات للسياحة والثقافة والرياضة والشباب والفنون، كما تُعْنَى بوسائل مختلفة بالمعوقين وكبار السن، وتحاول توفير أماكن اللهو البريء والمتاحف والحدائق... إلخ، وكل هذه وسائل للمساعدة على قضاء وقت الفراغ، ولكنها في كل هذا تعمل بدون تخطيط متكامل ودون وضوح هدف، ومن الممكن جمع كثير من هذه المجالات في وزارة أو سلطة لتنظيم وقت الفراغ، ورعاية متطلبات الناس خلاله على أن تؤخذ الحيطة الكافية لعدم المساس كثيرًا بحرية الفرد، وللتخطيط المبنيِّ على مَسْحٍ علميٍّ دقيق لحاجات الناس المختلفة، ومحاولة توفير ما يشبعها، ما لا شك فيه أن مردود مثل هذا سيكون كبيرًا، وسيتَّضح في اتِّزان الناس نفسيًّا، وشُعورهم بالرضاء عن أنفسهم وزيادة إنتاجهم في عملهم، وقلة الانحراف، والإجرام فيما بينهم، ولو تحقَّقَ جزء من هذا لكان ذلك تبريرًا كافيًا لما سيُصرَف في سبيله.




 حفظ بصيغة PDFنسخة ملائمة للطباعة أرسل إلى صديق تعليقات الزوارأضف تعليقكمتابعة التعليقات
شارك وانشر

مقالات ذات صلة

  • إدارة واستثمار الوقت
  • لا تكن مضياعا لوقتك
  • أيهما أغلى: الوقت أم الذهب؟
  • إدارة الوقت أم إدارة الذات؟
  • تنظيم الوقت
  • الفراغ والإجازة
  • أوقات فراغ
  • الفراغ وما ينبغي فيه
  • التربية بشغل الفراغ وإفراغ الطاقات
  • لا تعط المشاكل أكبر من حجمها (1)
  • الاستغلال النموذجي لوقت الفراغ
  • الصحة والفراغ
  • هلك العبد وباغ في نعمة الفراغ !
  • عن مصطلح وقت الفراغ
  • وقت الفراغ من القيام زمن التابعين

مختارات من الشبكة

  • مشكلة الفراغ (الحلقة الخامسة)(مادة مرئية - مكتبة الألوكة)
  • مشكلة الفراغ(مقالة - مجتمع وإصلاح)
  • خطبة: التوازن وسد وقت الفراغ(مقالة - آفاق الشريعة)
  • وقت الفراغ من القيام في خلافة عثمان وعلي رضي الله عنه(مقالة - موقع الشيخ أحمد بن عبدالرحمن الزومان)
  • وقت الفراغ من القيام زمن النبي صلى الله عليه وسلم وخلافة عمر رضي الله عنه(مقالة - موقع الشيخ أحمد بن عبدالرحمن الزومان)
  • أهمية الوقت وخطورة الفراغ(محاضرة - مكتبة الألوكة)
  • التخطيط وملء أوقات الفراغ(مقالة - مجتمع وإصلاح)
  • استغلال أوقات الفراغ في رمضان(مقالة - ملفات خاصة)
  • استغلال أوقات الفراغ في العمل(استشارة - موقع الشيخ خالد بن عبدالمنعم الرفاعي)
  • أعراض نفسية تنتابني وقت الفراغ(استشارة - الاستشارات)

 


تعليقات الزوار
8- مشكوره
مهاووي بنت الصومال لاند - السعوديه 24-11-2011 09:42 PM

شكرا على البحث وأتمنى ان "اصبح بااحثه مثلكم"

7- شكراااا
عهد العجمي 22-12-2010 04:17 PM

بكل صراحة تقرير جميل كل طالبة عندي تأخذه وتقرأه والله

6- الوقت
mohamed - المملكة المغربية 17-12-2010 09:16 PM

السلام عليكم
في الحقيقة كل ما أشرثم اليه مفعم بالفائدة ...
أما أنا أقول//
الوقت كنز من لزم علئ استغلاله
استوعب المعنئ..
لأن القوت منحه لك الله عز وجل ..لاتخف عليه لصا ولا يمكن لأحد أن يسغله ((الا بموافقتك ))
من فهم الدرس نجح في الحياة الفاتنة

5- شكر
متابع - من أنحاء العالم 09-05-2009 01:33 PM

شكرا جزيلا لكم

4- وفقكم الله
نصر الاسلام - جمهورية مصر العربية 25-02-2009 04:28 PM
ان مشكلة الفراغ الذي يعاني منه الشباب في المجتمعات الحديثة مشكلة لها أثارها السلبية على الفرد والمجتمع ويظهر هذا الفراغ بشكل واضح في فصل الصيف وخاصة لدى طلاب المدارس بعد نهاية كل عام دارسي ..., ويجب إعادة توجيه هؤلاء الشباب إلى المسار الصحيح لاستغلال وقت الفراغ
3- رأي
Medo - المملكة العربية السعودية 17-01-2009 08:23 PM
والله من جد وجد


يسلموا ها اليدين إلي كتبت وفننت في الإبداع سلا مي لبنت الكــــويـــــت
2- شكرااااااااااااااااااااااا
بنت الكويت - الكويت 17-05-2008 05:49 PM
شكراااا لهذا الموقع المفيد والموضوع الذي انقذني من الحفرة الكبيرة والف شكراااااا
1- اكيد
بنت بنوت - الكويت 13-05-2008 07:11 PM
الفايدة من الموضوع تغلب اي شئ في الدنيا لان بكل صراحة شكري كبير جدا و لا يسعة كلام
1 

أضف تعليقك:
الاسم  
البريد الإلكتروني (لن يتم عرضه للزوار)
الدولة
عنوان التعليق
نص التعليق

رجاء، اكتب كلمة : تعليق في المربع التالي

مرحباً بالضيف
الألوكة تقترب منك أكثر!
سجل الآن في شبكة الألوكة للتمتع بخدمات مميزة.
*

*

نسيت كلمة المرور؟
 
تعرّف أكثر على مزايا العضوية وتذكر أن جميع خدماتنا المميزة مجانية! سجل الآن.
شارك معنا
في نشر مشاركتك
في نشر الألوكة
سجل بريدك
  • بنر
  • بنر
كُتَّاب الألوكة
  • مشروع مركز إسلامي في مونكتون يقترب من الانطلاق في 2025
  • مدينة روكفورد تحتضن يوما للمسجد المفتوح لنشر المعرفة الإسلامية
  • يوم مفتوح للمسجد يعرف سكان هارتلبول بالإسلام والمسلمين
  • بمشاركة 75 متسابقة.. اختتام الدورة السادسة لمسابقة القرآن في يوتازينسكي
  • مسجد يطلق مبادرة تنظيف شهرية بمدينة برادفورد
  • الدورة الخامسة من برنامج "القيادة الشبابية" لتأهيل مستقبل الغد في البوسنة
  • "نور العلم" تجمع شباب تتارستان في مسابقة للمعرفة الإسلامية
  • أكثر من 60 مسجدا يشاركون في حملة خيرية وإنسانية في مقاطعة يوركشاير

  • بنر
  • بنر

تابعونا على
 
حقوق النشر محفوظة © 1446هـ / 2025م لموقع الألوكة
آخر تحديث للشبكة بتاريخ : 17/11/1446هـ - الساعة: 9:44
أضف محرك بحث الألوكة إلى متصفح الويب