• الصفحة الرئيسيةخريطة الموقعRSS
  • الصفحة الرئيسية
  • سجل الزوار
  • وثيقة الموقع
  • اتصل بنا
English Alukah شبكة الألوكة شبكة إسلامية وفكرية وثقافية شاملة تحت إشراف الدكتور سعد بن عبد الله الحميد
 
الدكتور سعد بن عبد الله الحميد  إشراف  الدكتور خالد بن عبد الرحمن الجريسي
  • الصفحة الرئيسية
  • موقع آفاق الشريعة
  • موقع ثقافة ومعرفة
  • موقع مجتمع وإصلاح
  • موقع حضارة الكلمة
  • موقع الاستشارات
  • موقع المسلمون في العالم
  • موقع المواقع الشخصية
  • موقع مكتبة الألوكة
  • موقع المكتبة الناطقة
  • موقع الإصدارات والمسابقات
  • موقع المترجمات
 كل الأقسام | أسرة   تربية   روافد   من ثمرات المواقع  
اضغط على زر آخر الإضافات لغلق أو فتح النافذة اضغط على زر آخر الإضافات لغلق أو فتح النافذة
  •  
    المحطة العاشرة: مقومات الإيجابية
    أسامة سيد محمد زكي
  •  
    أنماط التعليم الإلكتروني من حيث التدرج في ...
    أبو مالك هيثم بن عبدالمنعم الغريب
  •  
    وصية امرأة لابنتها في زفافها
    الشيخ محمد جميل زينو
  •  
    المحطة التاسعة: العادات
    أسامة سيد محمد زكي
  •  
    الشباب بين الطموح والواقع: كيف يواجه الجيل الجديد ...
    محمود مصطفى الحاج
  •  
    هبة فيها النجاة!
    أ. رضا الجنيدي
  •  
    بركة الزوج الصالح على الزوجة في رفع درجتها في ...
    فهد عبدالله محمد السعيدي
  •  
    تربية الأطفال في ضوء توجيهات سورة الحجرات
    محمد عباس محمد عرابي
  •  
    السلاسل الحقيقية لا ترى!
    أمين محمد عبدالرحمن
  •  
    تطوير العلاقات الإنسانية في الإسلام
    يوسف بن طه السعيد
  •  
    المحطة الثامنة: القرارات
    أسامة سيد محمد زكي
  •  
    التربية بالقدوة: النبي صلى الله عليه السلام
    محمد أبو عطية
  •  
    مهن في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم
    نجاح عبدالقادر سرور
  •  
    تزكية النفس: مفهومها ووسائلها في ضوء الكتاب ...
    عاقب أمين آهنغر (أبو يحيى)
  •  
    الإنذار المبكر من التقاعد المبكر
    هشام محمد سعيد قربان
  •  
    دور الذكاء الاصطناعي في تعزيز كفاءة العملية ...
    أبو مالك هيثم بن عبدالمنعم الغريب
شبكة الألوكة / المواقع الشخصية / مواقع المشايخ والعلماء / أنور الداود النبراوي / مقالات
علامة باركود

وداعًا زياني

أنور الداود النبراوي


تاريخ الإضافة: 15/10/2009 ميلادي - 25/10/1430 هجري

الزيارات: 14202

 حفظ بصيغة PDFنسخة ملائمة للطباعة أرسل إلى صديق تعليقات الزوارأضف تعليقكمتابعة التعليقات
النص الكامل  تكبير الخط الحجم الأصلي تصغير الخط
شارك وانشر

وداعًا زيَّاني
من ظلمات الغناء إلى نور الدعوة

تعرَّض الشيخ الداعية سعيدٌ الزياني مساء الخميس 19شوال 1430هـ لحادثٍ أليم على مشارِف "أبو ظبي"، بعدما كان عائدًا من السعودية، وصُلِّيتْ عليه صلاة الجنازة يومَ السبت بمسجد الصحابة في الشارقة بعدَ صلاة العصر، واستُقبِل العزاء بمنزله في منطقة الرمثاء بالشارقة قبل مدرسة الكمال الخاصَّة، بجانب حديقة الرمثاء، والعزاء للرِّجال والنِّساء.
والشيخ الزياني من أصل مغربي، ومقيم بالشارقة، وُلِد - رحمه الله - بمدينة الرِّباط فجرَ يوم الاثنين 12ربيع الأول من عام 1372هـ الموافق 1/12/1952م.
تلقَّى الشيخ سعيد الزياني تعليمَه بجميع مراحله بالمغرب، وعمل بميدان الصحافة والإعلام، وعُيِّن واعظًا وخطيبًا بدولة قطر التي استقرَّ بها منذ بداية عام 1993م.
ويعتبر الشيخ الزيانيُّ أحدَ أبرز دعاة العالَم الإسلامي، وممَّن له مواقفُ مشرِّفة في خدمة الإسلام والدِّفاع عنه، وهو بحقٍّ الشيخ الداعية اللطيف، والمحبوب لكلِّ مَن عَرَفه وعايشه، أو استمعَ لكلماته ومحاضراته ودروسه، والتي تميَّزت بالصِّدق والتواضع، والبساطة واليسر، والأسلوب الممتع، مَكَث في الدعوة إلى الله 25 عامًا متميِّزًا باللِّين والحكمة، والموعظة الحسنة، وبأسلوبه السلس الأخَّاذ، داعيًا وواعظًا ومربيًّا في أرجاء المعمورة، وعلى الإذاعات والمحطَّات التلفزيونية كافة، التي فرَّغ لها جزءًا كبيرًا من وقته لإعدادِ وتقديم المئات من برامجها، والمشاركة في حواراتها، وكان له حضورٌ كبير في عدد كبير من القنوات الفضائيَّة على رأسها قناة الشارقة.

• تميزه الدعوي:

كان الشيخ داعية فذًّا بمعنى الكلمة؛ بل من أعلام الدعوة، له الحضور الواضح في الدعوة، والبذْل، والعطاء لدين الله، نحسبه والله حسيبه من المخلصين، كان كلامه يصل إلى قلوب مستمعيه قبل آذانهم بطريقته المعهودة في الإلقاء والوعظ، وهو من الرجال الذين سخَّرهم الله ليكون مفتاحًا للخير، مغلاقًا للشر، هاديًا للناس إلى سبيل الرشاد.

وكان الشيخ - رحمه الله تعالى - مقبولاً لدى كلِّ من يسمعه، وقد قدَّم العديد من المحاضرات والدروس خلال رمضان 1430هـ في جميع أنحاء قطر؛ فمن جامع فرهود بالسيلية، إلى جامع الإمام مالك في مدينة الشمال، مرورًا بمساجد وجوامع كبار بالدوحة؛ كجامع عمر بن الخطاب، وجامع حصة السويدي بمنطقة العزيزية، والعديد العديد من المساجد، كان يطير من محاضرة لينتقل إلى درس، ومن درس إلى ندوة، داعيًا إلى ربِّه، ومهما أطال كانت المساجد تمتلئ عن بكرة أبيها، جالسة معه حتى ينتهي.

وكان الشيخ علمًا من أعلام الدعوة، والذب عن العقيدة السليمة والصحيحة على منهج أهل السنة والجماعة، وكان كثيرًا ما يؤكِّد في تربيته على قاعدة: "التخلية قبل التحلية"؛ تخلية القلب من المشاغل التي تَحُول بينه وبين القرب من ربِّه - سبحانه وتعالى.

هذا بالإضافة إلى معايشة واقع المسلمين شرقًا وغربًا، والتألُّم لآلامهم، والحزن على مصابهم، وما يهتم به المسلمون ويمس حاجتهم.

إن موت الدعاة المخلصين مصيبةٌ عظيمة، وخسارة جسيمة تحلُّ بالأمة؛ فهم هداة الحيارى، ومصابيح الظلام، وبمواعظهم تصلح القلوب، وتنيب إلى علام الغيوب، وهم للأرض كحال النجوم في السماء.

• حرصه الدعوي:

ألقى الشيخ الزياني - رحمه الله - يومًا ما محاضرةً بمجمع حياة بلازا، والتي دعا في بدايتها الحضور إلى ربح ثلاثة ملايين، وذلك بذكر دعاء السوق: "لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، يحيي ويميت، بيده الخير، وهو على كل شيء قدير"، محفزًا من استطاع ترديده بجوائز من مؤسسة ركاز، وبشَّر الداعية المغربي مردِّد هذا الدعاء بأن الله - تعالى - قد كتب له ألف ألف حسنة، وحطَّ عنه ألف ألف خطيئة، ورفعه ألف ألف درجة؛ ليكون بذلك قد ربح ثلاثة الملايين. 

وأضاف أن ذاكر الله بهذا الدعاء استحقَّ كلَّ هذه الحسنات؛ لأنه نجح في ذِكر الله في موطن تكثر فيه الغفلةُ عن الله، وتابع الشيخ الزياني قوله: "إن علينا أن نفرح بفضل الله علينا في أيام الرحمة هذه، وأن نتعرض لها"، مؤكدًا أنه "لا يسعد في هذه الدنيا إلا المقبِلُ على الله؛ لأن الحياة الطيبة في الإقبال على الله، أما المدبِر عن الله، فنصيبه المعيشة الضنك"، وقال: إنه لا يمكن أن يسعد إلا من بُدِّلتْ سيئاتُه حسناتٍ، وأن وسيلة ذلك هي: التوبة، والإيمان، والعمل الصالح، مستشهدًا بقول الله - تعالى -: {وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا * يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا * إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} [الفرقان: 68 - 70]. 

وأضاف الشيخ سعيد الزياني: أن المؤمن بحاجة دائمة إلى التوبة، معززًا ذلك بقوله - تعالى -: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا} [التحريم: 8]، مضيفًا أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - كان يستغفر الله في اليوم مائة مرة، داعيًا إلى تجديد التوبة؛ ليبدل الله السيئاتِ حسناتٍ.

وقبل انتهاء المحاضرة، التي تجاوب معها الجمهور، وتخلَّلها نشيد طلع البدر علينا بصوت الشيخ الشجي العفاسي، شوَّق الداعيةُ الإسلامي سعيد الزياني الحضورَ إلى دعاءٍ سمَّاه دعاء الأوقات الصعبة، جربه لمدة 23 سنة، وبشَّر به كلَّ من عنده مشكلة مالية، أو عائلية، أو صحية، أو وظيفية، قائلاً: إن من دعا به تحل مشكلته - بإذن الله - وهو دعاء أقرَّه الرسول - صلى الله عليه وسلم - وهو:
"اللهم إني أسألك بأني أشهد أنك أنت الله، لا إله إلا أنت، الأحد الفرد الصمد، الذي لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفوًا أحد"، ثم يدعو الإنسان بما شاء من أمور الدنيا والآخرة.

وحكى الشيخُ مواقفَ طريفةً حدثتْ معه منذ أكثر من عشرين سنة، فقال: إنه كان حين يجد مواقف السيارات ممتلئة، ولا مكان لسيارته، يدعو بهذا الدعاء، فإذا بأحدهم يركض لسيارته من أجل إخراجها؛ ليفسح المجال لسيارة الشيخ. 

وأضاف الشيخ: أنه علَّم هذا الدعاء للعديد من الناس، وجربوه وأكَّدوا فعاليته، حتى أطلق عليه بعضهم: "دعاء الباركينغ"!


• أسلوبه الدعوي:

وهذه القصة سمعتها من الشيخ مباشرة في حديث جمعني به عن الدعوة وأهمية الحكمة والصبر فيها، حيث قال - رحمه الله -:
كنتُ مرة في مكة، فجاءني أحد الشباب، شاب ملتزم بدين الله - تعالى - وقال لي: أخي دائمًا يغتنم المناسبات، ويأتي بفرقة موسيقية، ويغنون إلى الصباح، وعندما ينتهون من السهرة مع آذان الفجر، الناس في الحرم وهم يذهبون إلى بيوتهم ليناموا، ولا يصلُّون، فقال لي: أريدك أن تساعدني، ففكرت ماذا أفعل؟ ماذا أفعل؟ قال لي: أخي الآن عنده ترقية، وبمناسبة الترقية أتى بفرقة موسيقية ومعهم أبواق يغنون بالسطح، وكنا مدعوِّين عند أحد الإخوة في زواجه، فقال لي: إن أصحاب الفرقة الموسيقية يتناولون العشاء قبل منتصف الليل، وبعد منتصف الليل يبدؤون في الغناء، وأغنية وراء أغنية إلى الصباح.

فقلت له: نحن مدعوّون في عُرس، وسآتيكم بعد العرس أنا وبعض الإخوة معي، ولكن أنت أخبر أخاك وقل له: أنا سآتي لك بواحد فنان - وإن شاء الله يكونون فنانين في الدعوة.

وصلنا بعد منتصف الليل بقليل، وإذا هم في الأغنية الأولى، ثم صعد هذا الولد ليخبر أخاه أنه جاء الفنان الذي أتى به، بعض الناس أخبروه وقالوا: ترى الذي أتى به أخوك ليس بفنان، هذا مطوع (أبو لحية)، فقال: "اسمع، لا تطلع لي المطوع يخرِّب سهرتي (حفلتي)".

نزل عندنا الأخ المسكين حزينًا يبكي، وقال: أخي رفض، وقال كذا وكذا، وكان معنا دكتور في جامعة أم القرى، فقال هذا الدكتور: قل لأخيك: نحن فقط نريد أن نُسلِّم عليه، فذهب وقال له: ترى الجماعة تحت يريدون أن يسلِّموا عليك فقط ويذهبون، فقال: لا يسلِّمون عليَّ ولا أُسلِّم عليهم - هذا الولاء والبراء - وكان له أخ آخر أكبر من الذي جاء بنا، وأصغر من صاحب الحفل، سمع الكلام هذا وقال له: "عيب عليك، الناس يحبون أن يسلِّموا عليك، فتطردهم بالكيفية هذه!".

فقال: سأنزل أُسلِّم عليهم، فنزل حتى يُسلِّم علينا، فقال: السلام عليكم، سامحونا يا مشايخ، تفضلوا – قال: تفضلوا تأدبًا وأخوه مانع - قلنا: حسنًا تفضلنا، دخلنا ونحن صاعدون و"الأغنية شغالة"، فقال لي أحد الإخوة: شيخ سعيد، هل هذا يجوز؟ قلت: ماذا؟ قال: ندخل مكانًا فيه موسيقا، قلت له: اسمع، هل يمكن أن تنقذ شخصًا من الغرق دون أن تبتل بالماء؟

قال لي:
لا.

قلت:
هل تريد أن تكون رجل إطفاء، وتنقذ الناس من النار، دون أن تشُم رائحة الدخان؟ قال لي: لا.

قلت:
هل تستطيع إنقاذ الناس من الحريق بالريموت كنترول من بيتك؟

قال لي:
لا، لا بد أن تدخل الميدان، فقلت له: نتحمَّل.

دخلنا فإذا الأخ يصوِّر بالفيديو، لما وصلنا وضعنا أيديَنا على رؤوسنا؛ حتى لا يصورنا، قلتُ لهذا الأخ الشاب: بمجرد أن ينتهوا خذ المايكروفون، وقل: معنا الفنان سعيد الزياني، ودعْني أنا أتصرف، فأخذ المايكروفون وقال: معنا الفنان سعيد الزياني، فصاروا يصفقون، ثم أخذت المايكروفون، بماذا أبدأ؟ الطُّعمة: طلع البدر علينا، فلما انتهيتُ قلت: إخواني، لا شك أنكم تتساءلون: كيف أن هذا المطوع يغني؟ قالوا: نعم، صح صح! فقلت: هذا المتحدث إليكم كان كذا، وأحكي لهم قصة توبتي، وأثَّرت فيهم، وتابوا إلى الله وبكوا، وخرجوا من ذلك المكان، ورأيت بعضهم في بيت الله الحرام متوجهين إلى الله - تعالى.

• توبة الزياني:

قال عن نفسه: كَكُلِّ الناس كنتُ أبحث عن الحياة الطيِّبة، وكنت أظنُّها فيما يعتقده الكثير، أنها في الحصول على أشياءَ معيَّنة، كالمال والشُّهرة وغيرهما، مما يطمح إليه غالبيةُ البشر، فسعيتُ للحصول على ذلك، فوجدتُ نفسي وأنا صغير السِّنِّ في بيئة المشاهير من خلال الإذاعة والتلفزيون، حيث بدأتُ أشارك في برامج الأطفال، وكان بيتُنا في مدينة الرباط بالمغرب قريبًا جدًّا من مبنى الإذاعة والتلفزيون، فبرزتُ في برامج الأطفال من خلال مشاركاتي في التمثيليات وأناشيد الأطفال، التي كانت تتسِم بالبراءة والفِطرة، وتشتمل على حِكَمٍ ومواعظ.
كان ذلك في بداية الستينيات، ثم بدأت تدريجيًّا الابتعاد عن البراءة والفِطرة، عندما استخدمونا ونحن أطفالٌ صِغار لمشاركة الكِبار سنًّا في تسجيل الأغاني بالإذاعة والتلفزيون وعلى المسارح، وبحكم تأثير البيئة، بدأتُ أهتمُّ بهذا الميدان الذي وجدتُ نفسي فيه، إلى أنْ شاركتُ في مسابقة تلفزيونية للأصوات الناشئة (كما يقولون)، وكان ذلك من خلال برنامج كان يُذاعُ على الهواء مباشرةً اسمه (خميس الحظ)، فبدأتِ الجرائد تكتب عنِّي مشجعةً كي أستمرَّ في ميدان الغناء، وكان عمري آنذاك لم يتجاوز الخامسةَ عشرة، ثم كانت لي مشاركاتٌ من خلال برامج أخرى تلفزيونية.
هذا وأنا طالب أُتابع دراستي، إلى أنِ التحقتُ كمحترف بالفِرقة الوطنيَّة في المغرب، وأصبحتُ أشارك أشهر المغنيين مثل عبدالوهاب الدكالي، وعبدالحليم حافظ اللذَيْنِ أصبحَا فيما بعد من أكبرِ أصدقائي، وفي الوقت نفسِه كنت أشارك فرقةَ التمثيل الوطنية بالإذاعة، حتى برزتُ في ميدان التمثيل، وأصبحتُ أتقمصُ أدوارًا رئيسة، ثم بدأتُ أُعِدُّ وأقدِّم برامج إذاعية وتلفزيونية، والتي أصبحَتْ من أشهر البرامج وأنجحها عند الجمهور، بالإضافةِ إلى أني كنتُ أقدم النشرات الإخباريَّة في الإذاعة والتلفزيون، مع أنشطة أخرى في مَيْدان الإعلام، كالكتابة والتلحين، والإخراج الإذاعي وغيرها.
كلُّ هذا كان بحثًا عن السَّعادة التي لم أجِدْها في ذلك الميدان المليءِ بالهموم والمشاكل والأحقاد، رغمَ أنَّ علاقاتي كانت جيِّدة مع الجميع، بل كنتُ أحب جميعَ زملائي ويحبونني، إلاَّ من كانوا يحسدونني على ما كنتُ ألاقي من نجاح (في نظرهم)، ومما كان يُميِّزني في المجتمع الذي كنت أعيش فيه: أنَّه كانت لي صداقاتٌ وعَلاقات وطيدة مع كبار المسؤولين في الحكومة المغربيَّة، حيث كان من جملة أصدقائي رئيس وزراء المغرب آنذاك المعطي بو عبيد - رحمه الله - الذي كنَّا نتبادل الزياراتِ تقريبًا يوميًّا، ويسمُّونه في المغرب (وزير أول)، ممَّا جعلني أتعرَّف عن قُرْب على حياة كِبار المسؤولين وأشهر الفنَّانين، الذين كان أغلبهم قد حُرِمَ السعادةَ التي كنتُ أبحث عنها.
فبدأتُ أتساءل، ما هي السعادة؟ ومَن هم السعداء؟ في الوقت الذي كان يَعتقِد فيه الكثيرُ من الناس أنَّنا نعيش في سعادة نُحسَد عليها، وكانتِ الجرائد والمجلاَّت تكتب عنِّي، وعن أنشطتي باستمرار، وتُجرِي معي مقابلاتٍ صحفية بين الفَينة والأخرى، إلى أن طُرِح عليَّ سؤال ذات يوم في إحدى المقابلات من طَرَف صحافي كان يتتبع أخباري باهتمام بالِغ واسمُه (بو شعيب الضبَّار)، وكان السؤال هو: هل يُطابِق الاسمُ المسمَّى؟ أي: هل أنت سعيد في حياتك الفنية والخاصَّة؟ وكان جوابي: أنا س ع ي (سعيـ)، ولازال ينقصني (د)، وأنا في بحث عنه، وعندما أجدُه سأخبرك.
كان ذلك في سنة 1974م، وبما أنِّي لم أجدِ السعادة في ميدان الفنِّ والإعلام الذي كنتُ أعيش فيه، قلتُ في نفسي: بما أنَّ لفظ السعادة موجود، لا بدَّ أن يكون الإحساسُ بها موجودًا، فقررتُ أن أستغلَّ برامجي الإذاعية التي كانت ناجحة، للبحث عن السعادة المفقودة، فخصصتُ لذلك حلقاتٍ، جمعتُ فيها نظرياتِ وآراءَ الكثير من المفكِّرين والأدباء والفلاسفة حولَ السعادة، كما أنِّي أدرجتُ في البرنامج آراءَ الكثير من المستمعين من مختلف شرائح المجتمع حولَ هذا الموضوع، وقلت في نهاية البرنامج معلِّقًا على هذه الآراء: لقد طلبتُ آراءً في السعادة، فحدَّثوني عن كل شيءٍ إلاَّ عن السعادة، حدَّثوني عن أحاسيس تنتاب الإنسانَ لفترة معيَّنة، ثم تزول، ويبقى السؤال مطروحًا، ما هي السعادة؟ وأين هم السُّعداء؟
بعد هذا قلت في نفسي: ربَّما لم يقع اختياري إلاَّ على الأشقياء الذين اطَّلعت على آرائهم ونظرياتهم، فقررتُ أن أفسح المجالَ لكلِّ المستمعين في برنامج إذاعي على الهواء مباشرة، لكي يُعبِّروا عن آرائهم حولَ السعادة، مع العلم أنَّ الاستماع إلى الإذاعة كان في ذلك الوقت أكثرَ من مشاهدة التلفزيون، بالإضافةِ إلى أنَّه لم تكن هناك قنوات فضائيَّة، وكانت المحطات المحليَّة تبثُّ برامجها في ساعات معيَّنة، فتلقيت آراءَ المستمعين حولَ السعادة، فوجدتها آراءً متشابهة، بألفاظ مختلفة، وقلتُ في آخِر البرنامج المباشر ما سَبَق أن قلتُه في الحلقات الماضية: لقد طلبت آراءً في السعادة، فحدَّثوني عن كلِّ شيءٍ إلاَّ عن السعادة، حدَّثوني عن أحاسيسَ تنتاب الإنسانَ لفترة معيَّنة ثم تزول، ويبقى السؤال مطروحًا، ما هي السعادة؟ وأين هم السعداء؟
بعد ذلك قلت في نفسي: لقد بحثتُ عن السعادة في كلِّ مكان، ودخلتُ جميع البيوت دون استئذان (من خلال الإذاعة والتلفزيون)، فلم أجد مَن يدلُّني على السعادة، إذًا السعادة ليست موجودةً في المغرب. (ذلك ما كنتُ أعتقد في ذلك الوقت، وإلاَّ فالمغرب مليء بالسعداء الذين عرفتُهم فيما بعد).
فقررتُ أن أبحثَ عن السعادة خارجَ المغرب، وكانت أوروبا أقربَ (سَرَاب) إلى المغرب، سافرتُ إليها في سنة 1977م باحثًا عن السعادة، فازداد شقائي هناك؛ لأنَّني لم أغيِّر البيئة؛ أي: من بيئة شرٍّ إلى بيئة خير، بل غيَّرتُ فقط الموقع الجغرافي.
رجعتُ في السَّنة نفسها إلى المغرب، وإلى ميدان الإذاعة والتلفزيون والفن، وأنا غيرُ راضٍ عن نفسي، ولكنِّي كنت مضطرًا؛ لأنَّه لم يكن لديَّ بديل، ولم أجد آنذاك طريقَ السعادة.
وفي تلك السنة تُوفِّي عبدالحليم حافظ الذي كان لي صديقًا حميمًا، فتأثَّرتُ بوفاته، وخصوصًا وأنه كان يحكي لي في جلسات خاصَّة همومَه ومشاكله ومعاناته، فكنتُ أخاطب نفسي قائلاً: يا سعيد، لو تستمرُّ في ميدان الغناء، أقصى ما يمكن أن تصلَ إليه أن تكون مثلَ عبدالحليم، أتتمنى أن تكون مثله في التعاسةِ والشقاء؟! وكنت أتساءل مع نفسي، لو جمعتُ الأموال الكثيرة وترقيت في أعلى المناصب، أقصى ما يمكن أن أصِلُ إليه أن أكونَ مثلَ فلان أو فلان الذين كانوا أصدقائي، وكنت أعرفُ حياتَهم الخاصَّة، وأعرف همومَهم ومشاكلَهم ومعاناتهم، لقد كنت شقيًّا وكانوا أشقياء، ولكنِّي كنتُ أقلَّ شقاءً منهم؛ لأنَّ بعضهم كان لا يستطيع أن يأكل، وكنتُ أستطيع أن آكل، وكان لا يستطيع أن يتزوَّج النِّساء، وأنا أستطيع ذلك.
إذًا؛ معنى هذا: أنَّ الترقِّي في هذه المجالات هو تَرَقٍّ في الشقاء!! ولكن كان عليَّ أن أستمرَّ في البحث إلى أن أَجِدَ السعادة المنشودة، وأن أبقى في ميدان الفن والإذاعة والتلفزيون إلى أن أجد البديل، واصلت نشاطي في هذا الميدان أُعِدُّ وأقدِّم البرامج، أُلحِّن وأغني، وأكتب وأُقدِّم السهرات الفنية بالتلفزيون، إلى سنة 1981م حيث زاد الشقاءُ، وأحسستُ بضِيق جعلني أُغادر المغرب مرَّة أخرى للبحث عن السعادة، ولكن إلى أين؟ نحو نفس السراب الذي توجهتُ إليه سابقًا: أوروبا!
وهناك زاد الشقاءُ مرَّة أخرى، فرجعتُ إلى المغرب، ومِن أجل التغيير فقط، الْتحقتُ بإذاعة دولية في مدينة طنجة شمالَ المغرب، اسمها: "إذاعة البحر الأبيض المتوسِّط الدولية (ميدي1)"، التي أصبحْتُ من (نجومها)، وكنت في الوقت نفسه أُغنِّي وأشارك في الحفلات والسهرات، فزادتْ الشهرة، وزاد المال، وزاد الشقاء! فبدأتُ أتساءل مع نفسي: لماذا أعيش في هذه الدنيا؟ هل لآكلَ وأشربَ، وأنام وأشتغل، حتى أموت؟! إذا كانت حياة كهذه ونهايتها موت، فلا معنَى لها ولا مُبِّرر!
وإذا كنتُ في انتظار الموت الذي سيضع حدًّا لهذا الشقاء، فلماذا أبقى في انتظارِه؟ لماذا لا أُعجِّل به وأموت الآن؟ (كانت هذه وساوس من الشيطان للدعوة إلى الانتحار، وهذا الذي يحصل للكثيرِ من المشاهير)، ولم أكن أعلم أنَّ موت الذين يعيشون على هذا الحال ليس نهايةً للشقاء، بل هو بدايةُ الشقاء الحقيقي، والعذاب الأليم في نار جهنَّم - والعياذ بالله.
وأنا في صراعٍ مع النفس والشيطان، كانت والدتي - رحمها الله - حريصةً على هدايتي، ولكنَّها لم تجد الأذنَ الصاغية، والقلبَ السليم، الذي يتقبَّل دعوة الحق، وبالأحرى ما كنتُ أراه من تصرُّفات بعضِ المسلمين كان يُبعدني عن الدِّين؛ لأنَّ لسان حالهم كان يُعطِي صورةً مشوَّهة عن الإسلام، كما هو حالُ الكثير من المنتسبين للإسلام في هذا الزمان، ويا للأسف!!
فكنتُ أرى المسلمين بين تفريطٍ وإفراط، بالإضافة إلى أنَّ بعض المنتسبين للعِلم كانوا يُقصِّرون في دعوتنا إلى الله، فكنتُ ألْتقي مع بعضهم في مناسبات عديدة، فكانوا يُنوِّهون بي وبأعمالي الإذاعية والتلفزيونية، ولا يسألون عن حالي، هل أُصلِّي أو لا؟ بل كانوا يُشجِّعونني على ما كنتُ عليه!!
فانتابني اليأسُ والقنوط، وبدأتُ أفكِّر في الوسيلة التي تُريحني من هذا العَناء، وتضع حدًّا لهذا الشقاء، وأنا على هذا الحال، وقَعَ بين يدي كتاب باللُّغة الفرنسيَّة عنوانه الانتحار: (le suicide) لكاتبٍ فرنسي، فقرأتُه، فإذا به جداول لإحصائيات للمنتحرين في الدول الأوروبية، مبينة تزايد هذه الانتحارات سَنةً بعد سَنَة، وذَكر أنَّ أكثر بلد يشهد الانتحاراتِ هو السويد، الذي يوفِّر لمواطنيه كلَّ ما يحتاجونه، ورغمَ ذلك فإنَّ عددَ الانتحارات في تزايُد عندهم، حتى أصبح عندهم جِسرٌ سُمِّي (جسر الانتحارات)؛ لكثرة الذين كانوا يُلقون بأنفسِهم من ذلك الجسر!!
عندما قرأتُ عن حياة هؤلاء المنتحرين، وجدتُ أنَّ حياتي شبيهةٌ بحياتهم، مع الفارق بيننا، أني كنتُ أومِنُ أنَّ هناك ربًّا في هذا الوجود، هو الخالق والمستحقُّ للعبودية، ولكنِّي لم أكن أعلم أنَّ هذه العبودية لله هي التي تُحقِّق سعادتي في هذه الدنيا، ناهيك عن الغَفْلة عن الآخرة وما ينتظرنا فيها.
في الوقت نفسه قرأتُ عن بعض المشاهير من الغَرْب الذين أسلموا، وتغيَّرت حياتُهم رأسًا على عقب، وتركوا ما كانوا عليه قَبلَ إسلامهم، حيث وجدوا سعادتَهم المنشودة في توحيد الله - عزَّ وجلَّ - وإفراده بالعبودية، ومن جملة هؤلاء: المغنِّي البريطاني الشهير (كات ستيفنس)، الذي أصبح اسمه "يوسف إسلام"، اندهشتُ عندما رأيتُ صورتَه في إحدى المجلاَّت وقد تغيَّر شكلُه تمامًا، مع العلم أنَّ الناس ينظرون إلى التغيير الظاهري، ولا يستطيعون أن يعرفوا التغيير الباطنيَّ والمشاعر التي يحسُّها الذي شَرَح اللهُ صدرَه للإسلام.
عندما سافرتُ آخرَ مرَّة إلى أوروبا، كان قد رافقني أخٌ لي يكبرني بسَنةٍ وأربعة أشهر، والذي بقي في هولندا بعدَ رجوعي إلى المغرب، فالْتقى هناك بدُعاةٍ إلى الله كانوا يجوبون الشوارعَ والمقاهي، والمحلاَّت العموميَّة، يبحثون عن المسلمين الغافلين، ليُذكِّروهم بدينهم، ويدعوهم إلى الله – تعالى - فتأثَّر بكلامهم، وصاحَبَهم إلى المسجد، حيث كانت تُقام الدروس وحلقاتُ العلم، وبقي بصحبتهم إلى أن تغيَّرت حياتُه، وبلغني أنَّ أخي جُنَّ وأطلق لحيتَه، وأصبح ينتمي إلى منظَّمة خطيرة، نفس الإشاعات التي تُطلَق على كلِّ مَن الْتزم بدين الله، بل هي سُنَّة الله في الكون، أن يُؤذَى كلُّ مَن أراد الدخول في زمرة المؤمنين؛ {الم * أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آَمَنَّا وَهُمْ لاَ يُفْتَنُونَ} [العنكبوت: 1 - 2].
عاد أخي بعدَ مدة بغير الوجه الذي ذَهَب به من المغرب، وقد حَسُنَ دِينُه وخُلُقه.
وبعد جهد جهيد من طَرَف أخي والدُّعاة إلى الله الذين كانتْ هداية أخي على أيديهم، وجهد ودعاء والدتي -رحمها الله- شَرَح الله صدري وعزمتُ على الإقلاع عمَّا كنتُ عليه، وندمت على ما فرطتُ في جَنْب الله، وعزمتُ ألاَّ أعودَ إلى ذلك، فوجدت نفسي أعرفُ الكثيرَ من المعلومات والثقافات، إلاَّ عن الشيء الذي خُلِقتُ من أجله، والذي يحقِّق لي سعادةَ الدنيا والآخرة، وهو دِين الله – تعالى - فقررتُ أن أترك كلَّ شيء لكي أتعلمَ دِيني.
فتفَرَّغتُ لطلب العِلم والدعوة إلى الله، فوجدتُ سعادتي المنشودة بفضل الله ومَنِّهِ، وأنا الآن سعيدٌ - والحمد لله - منذُ أن سلكتُ هذا الطريق، وأسأل الله - تعالى - أن يُثبِّتني عليه حتى ألقاه.
غبتُ عن المغرب سَنَةً وثلاثة أشهر لتعلُّم الدين والدعوة إلى الله في مجالِس العلماء الربانيِّين، فخرجتُ بوجه، ورجعتُ بغير الوجه الذي خرجت به، وبعد رجوعي تصفَّحت قصاصات الجرائد والمجلاَّت التي كانت تكتب عنِّي، فوجدت السؤال الذي كان قد طُرِح عليَّ، وكان قد مرت عليه 12 سَنَة، وهو: هل يطابق الاسم المسمَّى؟ أي: هل أنت سعيدٌ في حياتك الفنية والخاصة؟ وكان جوابي: أنا س ع ي (سعيـ) وما زال ينقصني (د)، وأنا في بحث عنه، وعندما أجده سأُخبِرك، كان ذلك في سنة 1974م، فبعثتُ برسالة إلى الصحافي الذي كان قد طَرَح عليَّ السؤال أقول فيها: سألْتَني في حوار بجريدة الكواليس بتاريخ كذا السؤال التالي: وذكَّرته بالسؤال، وكان جوابي هو التالي: وذكَّرته بالجواب، ثم قلت له: وبما أنِّي وعدتُك بأن أخبرك بمجرَّد ما أجد (د) فقد وجدته، وأنا الآن سعيد، وجدتُه في الدِّين والدَّعوة.

• مع الأم الحنون:

كانت أم سعيد امرأةً متميِّزة في مجتمعها، قبل أن تكون أمَّ فنَّان وإعلامي مشْهور، ثمَّ أم داعية بعد توبته؛ فقد كانت امرأةً مثقَّفة، منهومة بقراءة الكتُب ولها مكتبة كبيرة في بيتها، كانت تقرأُ مثلاً لـ: سلامة موسى، برناردشو، ونجيب محفوظ وغيرهم، وكانتْ من المداومين على قراءة مجلة (العربي) الكويتيَّة، التي كان رئيس تحريرها آنذاك: أحمد زكي، ومجلة (اللسان العربي) التي كانت تصدر شهريًّا في شكل كتاب عن مكتب التعريب في المغرب، لدرجة أنَّها كانت تجمع الأعداد وتضعُها في الرفوف حسب الترتيب، ثمَّ تجلِّدها مجموعات لكي تثري بها مكتبتها.
وعلى ذكر (اللسان العربي) فقد كان ابناها الصَّغيران محمد وسعيد يلعبان أحيانًا بهذه الكتب والمجلات، فتجد بعض الأعداد ناقصةً وليستْ في مكانها، فتأتي إلى محمَّد قائلة بغضب: أين اللسان العربي؟ فلا يجد جوابًا يَحتجُّ به فتضربه، ثمَّ تذهب إلى سعيد فتسألُه نفس السؤال وبنفس الغضب: أين اللسان العربي؟ فيُخرِج لسانَه ثمَّ يقول لها: هذا هو، فتقول له بغضب غَلَبَ عليه الضحِك: ليس عن هذا أسألك، فيردُّ عليْها قائلاً: والله إنَّه لعربي وليس بأعجمي، فتضحك من قوله ولا تضربُه، فيحتج محمد: لماذا ضربتِني ولم تضربيه؟ فتقول: هو يعرف كيف يرد ويُضحكني ويُذهب غضبي، وأنت لا تعرف كيف تردّ.
كذلك ممَّا كان يميِّز أم سعيد: أنَّها كانت تُجيد رياضة (الكاراتيه) حتَّى وصلتْ إلى الحزام البُنِّي، والذي بعده مباشرة الحزام الأسود.
ومرَّت الأيام والسنون، وأصبح ابنها سعيد من مشاهير الإعلام، ثم استقام ابنُها محمَّد وتاب إلى الله وأثَّر على والدته التي التزمتْ بدين الله، وحوَّلت اهتمامها بالقراءة إلى دراسة الكتب الإسلاميَّة والتفقُّه في دين الله تعالى، فحفظت نصيبًا من كتاب الله تعالى، لدرجة أنَّها كانت أحيانًا تقرأ في قيام الليل بسورة البقرة في ركعة واحدة عن ظهر قلب، ثمَّ أصبحت داعية إلى الله، فهدى الله على يديْها العشراتِ من النساء - إذا لم أقُل: المئات - فكانت لها حلقة أسبوعية في بيْتِها تحدِّث فيها النساء وتعلِّمُهنَّ ممَّا علَّمها الله، وكان دائمًا لديْها في بيتها الفائض من لباس الحشْمة (الجلباب الفضفاض والحجاب) فكلَّما دخلت بيتَها امرأة (متبرِّجة) خرجت متحجِّبة تائبة إلى الله.
ولكن الهمَّ الذي لازمها وجعَلَها متواصلةَ الأحزان لا تفتُر عن الدعاء والبكاء: هو ابنُها سعيد، الذي لم يكن قد تاب بعدُ إلى الله، فبعد محاولات منها لإقناعِه بالتَّوبة دون جدوى، سافرت هي وابنُها محمَّد مع رفقة صالحة إلى البقاع المقدَّسة؛ لتأْدية فريضة الحجِّ، فكانت في جَميع المواطن في الذَّهاب والعودة وأثناء تأْدية المناسك - وبالأخصِّ في عرفات - تدْعو بحُرقة وحزن وبكاء: يا رب، ابني سعيد، يا رب، ابني سعيد، اللَّهُمَّ اهْدِه واجعله داعيًا إلى دينك.
كانت تدعو بإلحاح وباستمرار، حتى تأثَّر النساء اللواتي كُنَّ معها في الرفْقة.
انتبِهوا هنا إلى عِبْرَةٍ مهمة: كانت تسأل الله أن يكون ابنُها داعيًا إلى الله في الوقْت الذي كان فيه متهاونًا في الصَّلاة بل تاركًا لها، والعِبرة هنا أنَّه على الآباء والأمَّهات أن يسألوا الله لأبنائِهم أعْلى الدَّرجات والتوفيقَ لصالح الأعمالِ والأقوالِ وأحسنِها؛ {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [فصلت: 33].
مباشرة بعد عودة أمِّ سعيد من الحج، بدأت تتغيَّر أحوال ابنها سعيد، إلى أن تاب إلى الله، وتفرَّغ لطلب العلم والدَّعوة إلى الله؛ استجابةً لدعوة والدته، بعد أن كان تاركًا للصَّلاة، ولم يكن يَحفظ شيئًا من كتاب الله، ففتح الله عليْه بحفظ نصيبٍ من القرآن والتفقُّه في دين الله تعالى، وجعل الله الأثر في دعوته.
وبعد أن أقرَّ الله عين أمِّ سعيد بهداية أبنائِها، واستجاب لدعائها، ابتلاها بمرض السرطان في الثدي، فامتنعتْ أن تذهب إلى الطبيب، بحجَّة أنَّها لا تقبل أن يكشِف عليْها رجل، إلى أن تفاحل المرض وأُدخلت المستشفى، وأُجريَت لها عمليَّةُ بَتْرِ الثَّدي، جاء ابنها سعيد ليعودها في المستشفى، فوجد أخاه محمَّدًا الَّذي كان برفقة والدتِه إبان دخولها المستشفى، وجده متأثرًا، وبمجرَّد ما التقى بأخيه قال له باكيًا: أخي سعيد، لقد قطعوا لها الثَّدي الذي رضعناه، وحملتُه بِيَدَيَّ هاتين بعد أن قطعوه.
بعدما عَادَ سعيد والدتَه الصابرةَ المُحتسبة، والتي أثَّرت بِصبْرِها واحتسابها في الكثير من الأطباء والممرضات، وكذلك بدعوتها إلى الله حيث تحجَّبت الكثير من الممرِّضات اللواتي قُمْنَ بتمْريضها، التقى سعيد بالطَّبيب الَّذي أجرى لوالدته العملية، وكان طبيبًا ملتزمًا بدين الله وصديقًا لسعيد، فسأله عن حال أمِّه، فقال له الطبيب: لقد تأخَّرت والدتك كثيرًا قبل أن تأتينا، ممَّا جعل الدَّاء يتسرَّب إلى الجسم كلِّه، ونحن فعلنا ما نستطيع، لقد تتبعت الدَّاء عند تقطيع الثَّدي إلى أن وصلت إلى ظهرها، هذا الَّذي استطعت فعله، والباقي على الله.
فسأله سعيد عن نسبة الأمل في أن تعيش، فقال له الطبيب: لا أُخفيك - وأنت مؤمنٌ بقضاء الله وقدره - أنَّ الأمل قليل جدًّا وهو بنسبة اثنين في المائة، ولكنَّ الأمل في الله كبير.
أم سعيد التي كانت تحمَد الله على كل حال، راضية بقضاء الله، كان لها أمل في الشِّفاء، فقالت لابنها سعيد: خذْني إلى مكَّة حتَّى أسأل الله هناك الشفاء، وأشرَبَ من زمزم وأدعوَ ربي وأسألَه الشِّفاء؛ فإنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلَّم - قال: ((زمزم لِمَا شُرِبَ لَهُ)).
أخذ سعيد أمَّه إلى مكَّة مع زوجته وابنتِه سميَّة (3 سنوات)، وابنه سلمان (سنتان)، وكانت زوجته حاملاً بسفيان، وَصَلُوا إلى مكَّة المكرَّمة في أواخر شهر شعبان، قضَوا رمضان كاملاً في مكَّة، يشهدون صلاة التَّراويح في الحرم، وسعيد يدفع العربة التي كانت تركبُها والدته، حيث إنَّها كانت لا تستطيع أن تقوم على رجلَيها، وزوجته تتعَب من الحمل الَّذي أثَّر على صحَّتها، مما كان يُذَكِّرُ سعيد بين الفيْنة والأخرى - وبالأخصِّ عندما كان يشعر بالتَّعب - بأمِّه الَّتي حملتْه وَهْنًا على وَهْنٍ، ممَّا كان يزيده قوَّة ونشاطًا في خدمة والدته، الَّتي مهما فعل فلن يستطيع أن يرد لها الجميل.
خلال المدَّة كلِّها كانت أم سعيد تدعو بالبكاء الشَّديد والتضرُّع والافتقار والانكسار بأن يشفيها الله من هذا المرَض الذي عجز عنه البشر، وكانت تدعو موقنةً بالاستجابة، وبعد انقضاء شهر رمضان بدأ يظهر تحسُّن على صحَّة أم سعيد، فَجِيءَ بها إلى مكَّة وهي تركب العربة، ورجعت تَمشي على رجليها وقد شفاها الله، لدرجة أنَّه لم يبقَ أثر للمرض، وكأنَّه لم يكن بها شيء، وما ذلك على الله بعزيز؛ {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} [غافر: 60].
استمرَّت على هذا الحال وهي في صحَّة جيِّدة قرابة إحدى عشرة سنة، وقد نذرتْ ما تبقَّى لها من عمرها في طاعة الله تعالى والدَّعوة إلى دينه.
وبما أنَّها رأتِ استجابة دعائها في هداية ابنِها ثمَّ في شفائِها؛ بدأت تطمع في أعلى درجات الجنَّة، فأصبح دعاؤها: "اللهُمَّ إني أسألك شهادة في سبيلك وميتة في بلد رسولك".
وفي صيف سنة 2001 م، كان الحرُّ شديدًا في المغرب على غير عادتِه، فقال لها ابنُها سعيد الَّذي كان في زيارتِها: إن شاء الله في الصَّيف القادم سأركبُ لك مكيفات للتَّبريد في البيت؛ حيث إنَّ الطقس في المغرب عادةً لا يتطلَّب تركيب مكيِّفات نظرًا لاعتدال الجو هناك، فقالت له: الصيف القادم؟! وهل سأعيش يا بني إلى أن يصِل الصيف القادم؟ لا، لا، أحسُّ يا بني أنَّ الأجل قد اقترب، وأسأل الله أن يقبض روحي في مكَّة ويختم لي بخير، وبدأت تبكي.
سبحان الله العظيم! كانت تقول هذا الكلامَ وهي في مدينة الرباط بالمغرب، وتبعد عن مكَّة بحوالي سبعة آلاف كيلومتر! ولكنَّ الله على كل شيء قدير، وهو القائِل في الحديث القدسي الَّذي يرويه عنْه النَّبي - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((أنا عند ظن عبدي بي))، وبعد مرور شهور قليلة يأْتي الخبر إلى سعيد وهو في قطر، بأنَّ والدته مريضة وستدخُل إلى المستشفى كي تُجرى لها عملية جراحية، سافر إليها بمجرد سماعه للخبر، فوجدها في المستشفى وهي على فراشِها تدعو إلى الله وتذكِّر كلَّ مَن يعودها أو يشرف على تمريضها، تذكِّرهم بالله، مما جعل الكثير من الممرِّضات والمريضات يلبَسن الحجاب ويَتُبْنَ إلى الله.
وخلال مقامِها في المستشفى عادها برفقة ابنِها الفنانُ المغربي المعروف عبدالهادي بلخياط، الذي كان قد تاب على يدِ ابنها سعيد، ثمَّ رجع إلى الغناء، مع محافظتِه على الصَّلوات وترك الكثير من المنكرات، فقالت له وهي على فراشِها وتتحجَّب منه: لقد رأيتُك في المنام وأنا أقول لك: يا عبدالهادي، {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الحَقِّ} [الحديد: 16]، كيف تعود إلى الموسيقى والغناء بعد أن ذُقْتَ حلاوة الإيمان ولذَّة مناجاة الله، فبكت وبكى عبدالهادي بلخياط الَّذي تأثَّر من كلامها.
بعد ذلك قالتْ لابنها: يا بني، إنِّي أرى أنَّ الأجل قد اقترب، خُذني إلى مكَّة حتَّى أموت فيها، فقال لها ابنُها: يا والدتي، مكَّة ليس فيها فقط الموت، بل فيها زمزم وفيها الشِّفاء واستجابة الدعاء، فقالتْ له: نعم، فيها استجابة الدُّعاء، وقد دعوتُ ربِّي كي أموت وأدفن فيها، فخذني إلى مكَّة.
وبتوفيق الله تعالى أخذ سعيد والدتَه إلى مكَّة برفقة أختِه التي كانت طول الوقت في خدمة أمِّها، وبمجرَّد وصولهم مع بداية شهر ذي القعدة، اعتمروا، وبدأت تتردَّد على المسجد الحرام وهي على عربة تدفعُها بها ابنتُها، إلى أن وصل موسم الحج، فقالت لابنها الذي كان يسافر ثم يرجع إليها: يا بُنَيَّ، أريد أن يَختم الله عليَّ بحجَّة، فحاول ابنها إقناعَها بأنَّها مريضة ولا تستطيع القيام بالمناسك، وأنَّ الله سيأجُرها على نيَّتها، وبالأخصِّ أنَّها حجَّت مرارًا، فأصرَّت على أن تحجَّ، فيسَّر الله لها الحجَّ، ولم يبْق عليها من المناسك إلاَّ طواف الإفاضة، وكانت تقول: أنا ليس عليَّ طواف وداع؛ لأنِّي لن أخرج من مكَّة وسأموت فيها بإذن الله، فحقَّق الله لها رغبتَها وأعطاها سُؤْلَهَا، وبعد مرور حوالي شهر على موسِم الحج، اتَّصلتْ (غيثة) أخت سعيد بأخيها الذي كان موجودًا بدولة الإمارات، فقالت له: أَسْرِعْ بالمجيء فإنَّ أمِّي تُحْتَضَر، فكانت تدخل في غيبوبة ثمَّ تعود، وبمجرَّد ما تعود من الغيبوبة كانت تقول لابنتِها: أعطِيني حجر التيمُّم، وأعطيني المسواك؛ كي أصلِّي قبل أن يخرج علي وقت الصَّلاة.
وقبل ثلاثة أيَّام من وفاتها، كانت في تمام وعيها، فجلستْ وغسلت لها ابنتها وألبستها (عباءة) جديدة تلبَسُها لأوَّل مرة، عندما رآها ابنُها وقد تحسَّن حالُها، قال لها: ما رأيُك يا والدتي أن تطوفي طواف الإفاضة حتَّى تُكملي حجَّك؟ فأخذها هو وأخته بالعربة، فطافت طواف الإفاضة وهي تدعو الله بالبكاء، وتدْعو لأبنائِها بالصلاح، ولم تنسَ كلَّ مَن وصَّاها بالدعاء، بل كانت تدعو حتَّى للذين لم يطلبوا منها الدُّعاء، وبمجرَّد ما أتمَّت الطواف وصلَّت ركعتين خلف المقام وهي جالسة على العربة، أُغمي عليها، فأخذها ابنها وأخته إلى السَّكن الذي كان في برج قريب جدًّا من الحرم، وقبل خروجهم من المسجِد الحرام وأثناء المرور أمام الكعبة ما بين الحجر الأسود والركن اليماني أفاقت، ثم قالت لابنها وابنتها: أوقِفاني هنا، فأوْقفاها، فتوجَّهتْ بوجهها إلى الكعبة ورفعتْ يديْها وبدأت تدعو بالبكاء، ثم قالت: الحمدُ لله الذي بنعمته تتمُّ الصالحات، سألتُ الله أن أموت في مكَّة فاستجاب لي، ما أحلاها من موتة.
ولم تكن تعلم عندما طلبت الوقوف في ذلك المكان أنَّه بعد ثلاثة أيَّام سيوضع جثمانُها لكي يُصَلَّى عليها، بالضبط في نفس المكان الذي وقفت فيه، كان ذلك اليوم يوم خميس، صلَّت صلاة صبح الجمعة على فراشها بالإيماء، ثمَّ دخلت في غيبوبة، وكلَّما أفاقت طلبت كي تتيمَّم للصَّلاة وتلحُّ على المسواك، وبمجرَّد ما تُكبر تكبيرة الإحرام تغيب مرة أخرى، وهكذا إلى مساء يوم الأحد، وعند وصول ابنِها محمد، كانت ابنتها تقول لها: أمي، أمي، هذا أخي محمَّد قد وصل، ففتحتْ عينيْها لآخر مرَّة كي ترى ابنها، فدمعت عيناها عند رؤيته ثم أغمضتْهما إلى الأبد.
بقيت تلك الليلة في غيبوبة تامَّة، إلى منتصف اللَّيل، وكان أحد أصدقاء ابنِها سعيد في زيارة له في غرفة مجاورة وكان طبيبًا، وقبل أن ينصرف، طلب منه ابنُها أن يطَّلع على وضع والدتِه، وبمجرَّد ما رآها الدكتور وهي ترمش عينيها بسرعة مفرطة قال لابنها: لا نوم الليلة، لقد بدأها النَّزْعُ، فتوضَّأ وجلس عند رأسِها وبدأ يقرأ سورة (يس)، فتوقَّف عن القراءة عندما رآها تحرِّك شفتيْها، فبدأت تقول بصوت خافت: "اللهمَّ هوِّن عليَّ سكرات الموت، اللهُمَّ هوِّن عليَّ سكرات الموت"، تقولُها مرارًا، ثمَّ هتف لها ابنُها في أذُنِها قائلاً: لا إله إلا الله، لا إله إلا الله، يكرِّرها إلى أن حرَّكت شفتيها مرَّة أخرى قائلة: بتقطع: لا..إله..إلاَّ..الله، بقيتْ تُكررها حوالي أربع ساعات وابنُها يقرأ سورة يس إلى آخرِها ثم يبدؤها من أوَّلها، فكان عندما يختم السورة ويريد أن يبدأها من أوَّلها، كانت تقول: {أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَن يَخْلُقَ مِثْلَهُم} [يس: 81]، وكأنَّها تطلب منه أن يُعيد القراءة من هنا، فكان يفعل كلَّما أعادت قراءة الآية.
لاحظ ابنُها سعيد أنَّها تحرِّك رجلها اليمنى بسرعة مفرطة، علم أنَّ الروح بدأت تَخرج من الجسم ابتداءً من القدم، فبقيت تردِّد قول: لا إله إلا الله، إلى أن أذَّن الأذان الأوَّل في المسجد الحرام في الرَّابعة صباحًا والدقيقة الخامسة، وقد هدأتْ رجلُها، وبلغت الروح إلى صدرها، أيْقظ سعيد أخاه محمَّدًا الذي كان يظهر عليه التَّعب، وأيقظ أختَه التي كانت متَّكئة برأسها على فراش والدتِها، حتَّى أخذها النَّوم من كثرة التَّعب، أيقظهما وأخبرهما أنَّ والدتَهم تتلفَّظ أنفاسَها الأخيرة، وليقضي الله أمرًا كان مفعولاً، ويستجيبُ الله لأم سعيد دعوة قديمة كانت منسيَّة، تَذَكَّرَها محمَّد فيما بعد، وهي أنَّها سألت الله مرَّة قائلة: اللهُمَّ اقبض روحي في مكَّة وأبنائي ساجدون لك في بيتِك الحرام، ليقضي الله هذا الأمر، قال سعيد لأخيه محمد: اسبِقْني إلى الحرم، وسأبقى بجانب الوالدة إلى أن تُقام الصَّلاة، بقيت تُردد: لا إله إلاَّ الله، دون توقُّف، إلى أن أقيمت الصَّلاة في الخامِسة والدَّقيقة الخامسة، فجمع سعيدٌ لوالدتِه ساقَيْهَا اللَّذين كانا متفرِّقين بعد خروج الروح منهما، وقَبَّلَ رِجْلَها لآخر مرَّة، وتركها في الغرغرة وبلغتِ الروح إلى الترْقوتين، وأوْصى أخته أن تذكِّرها بـ: لا إله إلا الله، إذا سكتت عن ترديدها، وقال لها: إذا فاضتْ روحها فقولي: إنَّا لله وإنَّا إليه راجعون، وادْعي بخير؛ فإنَّ الملائكة تُؤَمِّنُ على دعائِك، وسآتي مباشرة بعد الصَّلاة، فخرج سعيد لتأدِية صلاة الصبح في المسجد الحرام.
هنا، اتَّصل بي الشيخ سعيد وقال لي: دعواتُكم يا شيخ، والدتي الآن تُحْتَضر، وبعد الصلاة اتَّصلتُ به فإذا روحُها قد فاضت إلى بارئها، فقصَّ عليَّ أن شقيقتَه بقيت مع والدتِه تلقِّنُها الشهادة، والعجيب أنَّه دخل الحرم فإذا بإمام الحرَم الشيخ سعود الشريم يقرأ: {كَلاَّ إِذَا بَلَغَتِ التَّرَاقِيَ * وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ * وَظَنَّ أَنَّهُ الفِرَاقُ * وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ * إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ المَسَاقُ} [القيامة: 26 - 30]، فذرفت عيْناه بالدموع، أدرك الرَّكعة الأولى مع الجماعة، وفي آخِر سجدة في الصَّلاة، رفعتْ أمُّ سعيد صوتَها قائلة: لا إله إلاَّ الله، ثمَّ شخص بصرُها إلى السَّماء وفاضت روحُها، وإنَّا لله وإنَّا إليه راجعون.
ماتت الأمُّ الحنون الَّتي كانت حزينةً على أبنائها، بل كان حزنُها على كل المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها، وكانت تدعو لكلِّ المسلمين، ماتت الَّتي كانت تقوم اللَّيل وتدْعو لأبنائها، وكان سعيد الدَّاعية كلَّما كانت خطبته ستُنْقَل على أمواج قناة الشَّارقة الفضائيَّة، يتَّصل بوالدته ويسألُها الدعاء بأن يسدِّده الله في دعوته، ويَجعل الأثر في كلامه، ويجعل كلامه حجَّة له لا عليه.
وقد حدَّثني الشَّيخ عن أخته (غيثة)، وأنَّها رفضت الأزْواج من أجل خدمة والدتِها وتمريضها والبرِّ بها، وقد بقِيت على ذلك حتَّى توفِّيت والدتُها وهي راضية عنها.
وأوَّل خطبة خطبها الشيخ سعيد بعد وفاة والدته، كانت في افتتاح مسجد جديد بالشارقة، وهو مسجد (المغفرة) في شهر محرم 1423هـ، أبريل/ نيسان 2002 م، وقبل أن يرتقي المنبر للخطبة استحضر أنَّه أول مرة سيخطب الجمعة ووالدته ميتة، فقال في نفسه: ماتت التي كانت تدعو لي ثم فاضت عيناه، ثم تذكر أن الذي كان يستجيب لدُعائها حيٌّ لا يَموت، وتذكر قول أبي بكر - رضي الله عنه - عند وفاة رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: "من كان يعبد محمدًا، فإنَّ محمدًا قد مات، ومن كان يعبد الله، فإنَّ الله حيٌّ لا يَموت".
فدعا الله قائلاً: اللهم إنِّي أتوسل إليك بِبِرِّي لوالدتي أنْ تفتح عليَّ ما يُرضيك عني، فكانت أول خطبة يبكي فيها الشيخ سعيد من بدايتها، بل أبكى المشاهدين الذين تابعوا الخطبة عن طريق القنوات الفضائيَّة؛ حيث نُقلت مباشرة على قناة الشارقة، وأعادت بثَّها قنوات أخرى، وكذلك أبكى كلَّ الحاضرين في المسجد بما فيهم حاكم الشارقة الشيخ الدكتور سلطان القاسمي، الذي عُرف بِرِقَّةِ القلب، والذي قال ذات مرة للشيخ صالح بن حميد إمام وخطيب المسجد الحرام، وحاليًّا رئيس مجلس الشورى بالمملكة العربية السعودية، عندما كان في زيارة للشارقة - قال له الشيخ سلطان: الشيخ سعيد، كلما دعا أبكاني.
وعلى ذِكْر الشيخ صالح بن حميد، فإنَّه كان يتابع باهتمام بالغ أخبارَ أم سعيد خلال فترة مرضها، وكذلك الشيخ عبدالرحمن السديس إمام وخطيب المسجد الحرام، إضافةً إلى أن أول من عزَّى الشيخ سعيد في والدته هو الشيخ سعود الشريم؛ حيث كان ذلك مباشرة بعد صلاة الصبح التي توفيت أم سعيد في آخرها، عندما خرجت أم سعيد من بيتها قاصدةً مكة المكرمة؛ كي تموت فيها، كان خروجها لله وفي الله، وربنا - عزَّ وجلَّ - هو القائل: {وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ} [النساء: 100]، اللهم إنا نسألك شهادة في سبيلك، وميتة في بلد رسولك.

• ليس الحادث الأول:

يَروي الشيخ سعيد الزياني عن حادثة السير الخطيرة التي تعرض لها يومَ جنازة الشيخ عبدالعزيز بن باز - رحمه الله - ثم كيف كانت هذه الحادثة سببًا لهداية طبيبين عَلمانيِّين كانا يشرفان على علاجه بمستشفى الملك فيصل بالطائف، فلنستمع إلى القصة يحكيها لنا الشيخ سعيد: كنت راجعًا ذات مرة من مكة إلى قطر بالسيارة، بعدما حضرت جنازة سماحة الشيخ عبدالعزيز بن باز - رحمه الله - وكنت أقوم بين الفينة والأخرى برحلة إلى مكَّة المكرمة بالسيارة؛ حتى أحمل معي بعد أداء العمرة كَمِّية من ماء زمزم تكفيني أنا وأسرتي لشهرين أو أكثر، ثم أعود كلما نفدت الكمية، وكان الشيخ عبدالرحمن السديس يُسمي رحلاتي هذه: "الرحلات الزمزمية".
إلى أنْ قدَّر الله أن أكونَ موجودًا في مكَّة عند الإعلان عن وفاة الشيخ ابن باز - رحمه الله تعالى – "وقد كنت موجودًا في مكة قدرًا كذلك عند وفاة الشيخ محمد صالح بن عثيمين - رحمه الله تعالى - الذي حضرت كذلك جنازته"، وبعد صلاة مغرب ذلك اليوم الذي توفي فيه سماحة الشيخ ابن باز التقيت بالشيخ عبدالرحمن السديس، وأنا لا علمَ لي بخبر وفاة الشيخ، فسلمت عليه وسألني عن حالي وسألته عن حاله وحال الأولاد، ثم ودعته وأنا لا أدري شيئًا عن وفاة الشيخ عبدالعزيز.
إلى أن دخلت إلى سكني فسمعت الخبر من وسائل الإعلام، وعلمت أنَّه سيُصلَّى عليه بعد خطبة وصلاة الجمعة في الحرم المكي، بعد الصلاة عليه ودفنه، توجَّهت إلى بيت الشيخ - رحمه الله - الكائن بالعزيزية، فقدمت العزاء لأبنائه وبعض أصدقائي من طلبة العلم، الذين التقيت بهم في بيت سماحة الشيخ، وأصرَّ عليَّ الشيخ محمد بن إبراهيم التويجري أنْ أصاحبهم إلى القصيم، وأقضي معهم بعضَ الوقت إلاَّ أنِّي اعتذرت له، وقلت له: إنِّي مستعجل جدًّا، ولا بُدَّ أن أسافر.
سبحان الله! لقد كنت مستعجلاً؛ ليقضي الله أمرًا كان مفعولاً، مررت قبل الخروج من مكة على (بنشري) لضبط هواء عجلات السيارة المحملة بـ(جوالين) زمزم، فلم أجد الشخص الذي تعودت أن أراه في ذلك المحل، وجدت شخصًا آخر كنت أراه للمرة الثانية، فقال لي: غيرت السيارة؟ - وقد سبق له أن رآني بسيارة أخرى - فقلت له: لا، ولكن هذه السيارة عندي من مدة، فقال: آه... هذه سيارة قوية، وسار يطوف حولها ويقول: آه... آه... سيارة قوية، هذه (تفضل) معك - أي: تبقى عندك - عشرات السنين، ولم يقل: ما شاء الله.
وكانت السيارة من الحجم الكبير من نوع الدَّفع الرباعي، استنكرت في نفسي أسلوبَ كلامه في مدح السيارة دونَ أن يقول: ما شاء الله، ولكن لم تكن لديَّ الجرأة أنْ أقول له: قل: ما شاء الله، إلاَّ أنِّي اكتسبتها الآن، فكلما سمعت شخصًا يمدح شيئًا أو شخصًا أعجب به ولم يقل: ما شاء الله، أذكِّره بها قائلاً: قل: ما شاء الله.
تحرَّكت بالسيارة نحو الطائف في اتِّجاه الرياض ثم إلى قطر، انطلقت بدُعاء السفر والأذكار المسنونة، وكانت زوجتي تتصل بي بين الفينة والأخرى تسألني عن حالي، وتوصيني أن لا أُسرع، فكررتِ الاتِّصال مرارًا على غير عادتِها، فبينما أنا في طريقي إلى الطائف بعد أن توقفت وصليت صلاةَ العصر في المسجد، سمعت صوت انفجار قوي، فبدأت تميل بي السيارة يَمينًا وشمالاً، وأن أقول بأعلى صوتي: الله أكبر، الله أكبر، بدأت أردِّدها إلى أن توقفت السيارة، فقلت في نفسي: الحمد لله (جاءت سليمة)، لقد انفجرت إحدى عجلات السيارة، والحمد لله على كل حال.
استعنت بعامل بمحطة كانت قريبة منِّي، فغيرت العجلة ثم انطلقت، واتَّصلت بزوجتي وأخبرتها بما حصل، فقالت: الحمدُ لله الذي خفَّفها هكذا، أنا كنت خائفة عليك؛ لأنِّي رأيت في المنام أنه حصلت لك حادثة سير، وانقلبت بك السيارة والدِّماء تنزل من رأسك، فالحمد لله (جاءت سليمة)، فقلت لها: إنَّا لله وإنا إليه راجعون، لماذا قلتِها؟ ألم تعلمي أن هذا حلم، ويَجب ألاّ تقوليه، فقالت: لقد انتهى الأمر وتحقَّقت، ولم أكن أريد أن أحكيها لك قبل أن تتحقق؛ لهذا كنت خائفة عليك، واصلت طريقي وأنا ذاكرٌ لله.
أحيانًا يغلب عليَّ الخوف، وأبدأ في الاستغفار والتضرُّع إلى الله؛ حتى ألقى اللهَ وهو راضٍ عني، ثم أُغَلِّبُ الرجاءَ، فأقول في نفسي: أنا راجع من عمرة، وحضرت جنازةَ الشيخ بن باز - رحمه الله - وليس في رحلتي رائحةُ الدُّنيا، ولا أحمل بضاعة ولا شيئًا أبتغي به الدُّنيا، فإن لقيت الله على هذا الحال، فهو أكرم الأكرمين وأرحم الراحمين.
وهكذا وأنا بين الخوف والرَّجاء، فإذا بي أسمع صوتًا كأنَّه انفجار، ثم انقلبت بي السيارة التي كانت مملوءة بـ(جوالين) زمزم، وأنا أقول بأعلى صوتي: لا إله إلا الله، لا إله إلا الله، لا إله إلا الله، وفي كل مرة تُقلب أقول في نفسي: هذه الضربة القاضية، ولساني لم يتوقف عن قول: لا إلهَ إلا الله، وبقيت السيارة تنقلب بي مساحة حوالي 65 مترًا، وأنا أُقلب ظهرًا لبطن وبطنًا لظهر، كالثَّوب وسط الغسالة، وأنتظر الضربة القاتلة، إلى أنْ توقفت وهي عبارة عن رُكام حديد، من رآها لا يصدق أنَّ الذي كان راكبَها لا زال حيًّا يرزق، فخرجت من السيارة والدِّماء تتصبَّب من رأسي ومن جسدي.
ثم سقطت على الأرض مغمًى عليَّ من شدة الحادث، فكانت ورائي سيارات كثيرة جلُّ راكبيها من شباب أهل الرِّياض الذين حضروا جنازة الشيخ، وكانوا عائدين إلى الرِّياض، فالتفُّوا حولي، وكنت كأنِّي بين نوم ويَقَظة أسمع أصواتَهم، فقال أحدُهم: قبِّلوه؛ أي: وجِّهوه نحو القبلة، وقال آخر: لقنوه الشَّهادة، فعندما سمعت كلامَهم بدأت أكرِّر كلمة التوحيد بصوتٍ خافت، ثم قلت: من كان آخر كلامِه لا إله إلا الله دخل الجنة.
يا إخواني، اشهدوا أنِّي أقول: لا إله إلا الله عند الموت، ثم قلت: ولا تجعل مصيبتنا في ديننا، وأضفت قائلاً: كان عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - يقول: ما أصابتني من مُصيبة إلاَّ وجدت فيها ثلاثَ نِعَمٍ: الأولى: أنَّها لم تكن في ديني، والثانية: أنَّها لم تكن أعظم مما كانت، والثالثة: أنَّ الله يُعطي عليها الثَّواب الجزيل، ثم تلا قولَ الله - تعالى -: {أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ} [البقرة: 157]، وواصلت كلامي والدَّم يتصبَّب من رأسي وكأنِّي أُلقِي موعظةً أو درسًا، فتأثَّر الحاضرون الذين كانوا حَولي من هذه الموعظة، فقال أحدُهم: (هذا لا تخاف عليه، خَلِّيهْ يموت).
وعندما نقلتني سيارة الإسعاف إلى مستشفى الملك فيصل بالطائف - الذي يبعد عن المكان الذي حصل لي فيه الحادث بأكثر من مائتي كيلو متر - كان يُعالجني طبيبان متخصصان في العظام: أحدهما سوري، والثَّاني مِصري، والظَّاهر أنَّهما كانا صديقَين، فعندما كانا مَشغولين في علاجي؛ حيث أُصِبْتُ بكسور في الترقوة وفي لوحة الكتف، كنت أحدثهما حديثًا إيمانيًّا، وتكرر ذلك مرارًا، وقبل خروجي من المستشفى الذي قضيت فيه أربعة أيام؛ حيث نقلوني إلى مستشفى النُّور بمكة المكرمة، وكان أوَّل من عادني فيه الشيخ صالح بن حميد - حفظه الله - إمام وخطيب المسجد الحرام، أقول: قبل خروجي من مُستشفى الملك فيصل جاءني الطبيبان، فأخبراني أنَّهما كانا عَلْمانِيَّيْنِ، وبعد سماعهما لِمَا كنت أحدثهم به قلَّب الله قَلْبَيْهِمَا، وقرَّرا التوبة إلى الله، والمحافظة على الصلاة، فشاع الخبر في المستشفى أنَّ الطبيبين العَلمانيَّيْن أصبحا يُصليان، فجاءني طبيبٌ مُلتزم وعليه هيئة السُّنة، جاءني أولاً ليشكرني ثم سألني مستغربًا: أريد أن أعرف ماذا قلت لهما حتى اهتديا، أنا أكلمهما من سنوات ولم يستجيبا فقاطعتهما.
أقول: ربَّما كان هذا الأخ من الذين يعتقدون أنَّ الابتسامة تُذهب الهيبة عن الدَّاعية، فكان يدعوهما بشيء من الجفوة والغِلْظة والشِّدة، بل هناك من يتعامل مع الناس وكأنَّ أسنانَه عورة لا يُبْديها للنَّاس في حين أنَّ الرسول - صلَّى الله عليه وسلَّم - قال: ((ابتسامتك في وجه أخيك صدقة))، وقال - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((لا تحقرن من المعروف شيئًا، ولو أنْ تلقى أخاك بوجه طلق))، فقلت لهذا الأخ جوابًا على سؤاله واستغرابه: لم أقل لهما شيئًا جديدًا، إلاَّ أنه كما كانا يعالجاني برحمة ورفق، فكنت أدعوهما إلى الله برحمة ورِفْق، وما كان الرِّفق في شيء إلا زانه، وما نُزِع من شيء إلاَّ شانه، والحمدُ لله الذي بنعمته تتمُّ الصالحات.

• لمحات من حياته:

- عُرف منذ صغره بأنشطته المختلفة في الميدان الإذاعي؛ حيثُ كانت البداية في برامج الأطفال وعمره آنذاك لم يتجاوز العاشرة.

- عمل بميدان الصَّحافة والإعلام من إذاعة وتلفزيون مذيعًا ومقدمًا، ومعدًّا لبرامج إذاعية وتلفزيونيَّة ما يقارب العشرين سنة، كما عُرف بميدان الفنِّ مطربًا ومؤلفًا وملحنًا وممثلاً خلال هذه الفترة، حتى اعتزل، وأََعلن توبته في أواخر سنة 1984م؛ حيث:

- عُيِّن واعظًا وخطيبًا بدولة قطر التي استقر بها منذ بداية عام 1993م، وهي مركز أنشطته وحركته الدَّعوية إلى الكثير من بلاد العالم، كما أنَّ له أنشطة كثيرة بإمارة الشارقة، وغيرها من إمارات الدولة. 
ألقى محاضراتٍ ودروسًا ومواعظَ وخُطَبًا في الكثير من بلاد أسيا وإفريقيا وأوروبا.

- له أحاديث دينيَّة وبرامج بقناة الشَّارقة الفضائيَّة، التي تنقل له مُباشرةً على الهواء خطبَ الجمعة التي يلقيها بمختلف مساجد إمارة الشارقة، كما تبث هذه المحطة الكثير من مُحاضراته التي يلقيها بمساجد الشارقة. 

- له مشاركات في العديد من الفضائيَّات في برامج مُختلفة في قطر ودولة الإمارات، وفي قناة المجد أيضًا، وأعدَّ وقدَّم برنامجًا تلفزيونيًّا على قناة الشارقة الفضائيَّة، تحت عنوان: (قضايانا).

• اللقاء الأول:

كان أوَّل لقاء لي مع الشيخ الزياني حج عام 1421هـ، كان اللِّقاء في منى؛ حيثُ كنت أدير البرامجَ الثَّقافية للحملة، فجاءني أحدُ الحجاج قائلاً: يوجد مخيم بالقُرب منَّا، وعندهم شيخ عجيب جدًّا لا يملُّ حديثه، فلماذا لا تدعونه في مخيمنا هذا؟ فقلت: دلَّني على المخيم، فكان اللقاء الأول مع الشيخ سعيد، وكان بصحبته المغني المغربي عبدالهادي بلخياط، تم اللقاء ثم التعارف بسرعة عجيبة؛ حيث كان سهلاً متواضعًا تحبه حين تراه، وكان ذلك ضحى اليوم الثامن.
فقدمت له دعوةً بحيث تكون مُحاضرته بعد صلاة الظهر مُباشرة، فاستجاب بكلِّ سرور، ولما حضر أدهش الحضور، وكان موضع إعجاب الجميع، لدرجة أنَّ اللقاء استمر طويلاً، وعيون الحجيج في لهفة وارتياح لم يعكر صفوها إلاَّ موعد الغداء، والعجيب في الأمر جلست مع الشيخ على مائدة الغداء، ومعنا مجموعة من الحجاج، وكان لا يأكل إلاَّ قليلاً؛ بسبب استمراره في الكلام والدَّعوة والحوار؛ مما جعل بقية الحجاج يتقاربون، ويستمعون إلى حديثه الشائق، ولم يغسلوا أيديهم بعد، وبدأ العدد يزداد ثم يزداد والشيخ لم ينتبه؛ لأنهم كانوا خلفه.
فلما كثر العدد قال أحد الحجاج - وكان بعيدًا جدًّا -: لماذا لا تحضرون كرسيًّا للشيخ؟ فقلت للشيخ سعيد: يا شيخ، التفت وراءك، فذهل الشيخ وابتسم، وجيء بالكُرسي، وقام الشيخ مبتسمًا مستبشرًا، وجلس ولم يغسل يديه، وأكمل ما كان يقوله على مائدة الطَّعام وسط فرحة الجميع وابتسامتهم، والعجيب في الأمر أن الشيخ وجميع المخيم لم يغسلوا أيديَهم بعد الطعام، والكل منصت لحديثه الشائق، حتَّى أذَّن المؤذن لصلاة العصر، وبعد الصَّلاة جلست معه في خيمته ومعه المرافقون من المغاربة، وكان من بينهم كما أسلفت المغني: عبدالهادي بلخياط، والذي أمتع الحجاج بصوته الجميل في الأذان.
فلما رأى الشيخ سعيد التآلفَ الذي حصل بيني وبينه، ثم بيني وبين عبدالهادي بلخياط، قال لي بحرص وصدق: ادعُ لأخينا عبدالهادي أن يخلصه الله من الغناء، وأخذ يُثني عليه، ويقول: فهو طيب يُحب أهل الخير، ولديه رغبة في التوبة، لكن أنت تعرف أجواءَ الفن والشهرة، ولكن الله قادرٌ على أن يرزقه التوبة.
وفعلاً لما ودعته كان عبدالهادي بلخياط يقول لي: ادعُ لي يا شيخ، ادعُ لي، وأخذني في أحضانه، والعبرات في عينيه، فشعرت برغبةٍ في الكلام، فقلت له: لا بُدَّ أن تغيِّر حياتك، والشيخ سعيد يحبك كثيرًا، وهو حريص عليك، فقال لي: أعرف أعرف، لا تنسني من دعائك.

• مواقف خاصة:

- تشرفت بدعوة من الشيخ الزياني بالمشاركة في برنامجه (قضايانا) على قناة الشارقة، وأتذكَّر أنَّ الموضوع كان عن الأخلاق، فلما علم بعدم استطاعتي السَّفر، طلب مني المشاركة بالمداخلة عبر الهاتف، وطَلَب مني إرسالَ صورة لي، فكانت المشاركة الأولى والوحيدة لي مع الشيخ عبر الفضائيَّات - رحمه الله.

- حدثته مرة عن شيخي الشيخ: عبدالله بن حسن القعود، وكيف أنَّه مدرسة للإيمان والتربية، فاستمع لي مُتأثرًا، ثم سألني: متى عرفت الشيخ القعود؟ قلت له: عام 1401هـ، فقال لي ببداهة: إذًا أنت سبقتني في الدَّعوة بخمس سنين، فقلت له: ولكنَّك أكثر انتشارًا وأفضل، فقال لي عبارة لا أنساها حيث قال بتواضع جمٍّ: أنت أستاذنا وشيخنا، فقاطعته: اتَّقِ الله يا شيخ، فرد علي: صدقًا، أنت أستاذنا، أتدري لماذا تأخَّر ظهورك؟ فأجاب: والله أعلم، لعل من الحكمة أن الله يُهيِّئ لك أن تتقوَّى أكثر وأكثر، فيصبح لديك خبرة في العلم والدَّعوة، ثم تخرج بعد ذلك للناس، أنا أقول ذلك والعلم عند الله، وهو بحق قد سبقني بمراحل، فرحمه الله رحمة واسعة.

• نهاية المطاف:

وبينما كان الشيخ منشغلاً مع ابنه سلمان في إجراءات التسجيل بجامعة الإمام محمد بن سعود بالرِّياض، وبعد أن اطمأنَّ على ابنه وما يلزمه من تهيئة السَّكن وغير ذلك، عاد إلى الإمارات، واتَّصل بزوجته؛ ليخبرها بأنه بإذن الله سيكون عندهم الساعة العاشرة، ولعله كما ذكر ابنه نتيجة الإرهاق والسَّفر الطويل غلبته عيناه فارتطم بنخلة، نتج عنه كسر في الجمجمة، ودخل في غيبوبة حتى فاضت رُوحه، وقد أناله الله ما كان يتمنى؛ حيث كان يدعو كثيرًا: اللهم اجعل آخر كلامي من الدُّنيا (لا إله إلا الله).
فقد أخبر رجال الإسعاف بأنه كان يردِّد قول: (لا إله إلا الله)، رغم أنه لم يفق بعد الحادث، بينما كان يردد عبارات التوحيد حتى فاضت روحه، وكان عند تغسيله مبتسمًا كأنه ينظر إلى أمر يعجبه مما كان له الأثر على ثبات أهله ومحبيه.
وكنت أتوقع أن يحضر أناس من بلجيكا وأوروبا التي طالما كان يُحدثني عنها وعن رحلاته إليها، وكنت كلما أهاتفه يقول: أنا في سفر إلى بلجيكا، وتارة يقول: أنا قادم من هولندا، وعندي سفر بعد أيام إلى بلجيكا.
وكثيرًا ما كان يُقدِّم لي دعوة للسَّفر إلى قطر وإلى بلجيكا، فتواعدنا أنْ نلتقي هذا العام في الحج، لكن كان الأجلُ المحتوم أسرع، وفعلاً حضر خلق كثير لتشييع جنازة الشيخ من بلجيكا وهولندا وقطر والبحرين والمغرب، وغيرها من البقاع التي طالما كان يُدوِّي فيها داعيًا إلى الله، معلمًا ومربيًا وواعظًا، تحفُّ دعوته الابتسامة التي لا تفارقه أبدًا حتى داخل أكفانه؛ ليلقى الله مبتسمًا مطمئنًا بإذن الله - تعالى - رحمك الله أيها الشيخ البسَّام، وجمعنا الله بك في أعلى الجنان.




 حفظ بصيغة PDFنسخة ملائمة للطباعة أرسل إلى صديق تعليقات الزوارأضف تعليقكمتابعة التعليقات
شارك وانشر


مختارات من الشبكة

  • وداعا رمضان(مقالة - ملفات خاصة)
  • وداعا رمضان(مقالة - ملفات خاصة)
  • شهر الخير والتغيير، وداعًا(مقالة - ملفات خاصة)
  • شاهد القرن وفقيهه.. وداعًا(مقالة - موقع الشيخ عبدالله بن عبدالعزيز بن عقيل العقيل)
  • وداعًا صديقة عمري(مقالة - حضارة الكلمة)
  • وداعا يا رمضان(مقالة - ملفات خاصة)
  • ثلاثون انقضت(مقالة - ملفات خاصة)
  • وداعا يا رمضان يا شهر البركات(مقالة - آفاق الشريعة)
  • رحلت صاحبة اليد السخية(مقالة - ثقافة ومعرفة)
  • وداعا أحبابي(مقالة - حضارة الكلمة)

 


تعليقات الزوار
10- شرفت المغرب شرفك الله
زينة المغربية - المغرب 23-10-2009 02:05 PM
إنا لله وإنا إليه راجعون

رحمك الله يا شيخنا ومعلمنا ووالدنا

شرفت المغرب يا شيخ... نسال الله أن يشرفك بالجنة ويغفرك لك ولنا ولجميع
المسلمين والمسلمات
أسال الله أن يجعل أعمالك في ميزان حسناتك...كما أسأله أن يلهم ذويك وأحباءك
الصبر والسلوان
9- يرحمك الله
فضيل الدرسى - ليبيا 21-10-2009 04:44 PM
رحمه الله و غفر له ....

وثبته ووسع مدخله وحشرنا معه برفقة سيد الخلق سيدنا محمد وآل بيته و صحابته وحسن أولئك رفيقا...
اللهم اغفر له وارحمه وعافه واعف عنه وأكرم نزله ووسع مدخله وأبدله دارا خيرا من داره وأهلا خيرا من أهله ونقه من الذنوب والخطايا كما ينقى الثوب الابيض من الدنس واغسله بالماء والبرد والثلج .اللهم لا تفتنا بعده ولا تحرمنا أجره وألحقنا به على الإسلام..آمين
8- رحمك الله
ابو محمد - المغرب 21-10-2009 12:25 AM
اللهم اكرم نزله ووسع مدخله واغفر لنا وله
7- دعاء للشيخ
ناصر - ليبيا 19-10-2009 03:33 PM
اللهم اغفر له وارحمه وعافه واعف عنه وأكرم نزله ووسع مدخله وأبدله دارا خيرا من داره وأهلا خيرا من أهله ونقه من الذنوب والخطايا كما ينقى الثوب الابيض من الدنس واغسله بالماء والبرد والثلج .اللهم لا تفتنا بعده ولا تحرمنا أجره وألحقنا به على الاسلام..آمين
6- رحمة الله
لامعة في الأفق - السعودية 18-10-2009 09:23 PM
رحمة الله رحمة واسعه واموات المسلمين اجمعين
بارك الله بكاتب الموضوع الحقيقه ان به من المواعظ والفائدة التي لم اشعر ابدا بطول الموضوع متفاجئة بسرعة انتهائي بارك الله بكم ونفع
5- شكرا
أنس - السغودية 18-10-2009 01:09 PM
شكرا
4- شكرا لكم
أروى - السعودية 16-10-2009 12:48 PM
رحمه الله و غفر له ....

وثبته ووسع مدخله وحشرنا معه برفقة سيد الخلق سيدنا محمد وأل بيته و صحابته وحسن أولئك رفيقا...

جزى لله الكاتب خير الجزاء و أوفره لهذه السطور الهامة
لم أكن أعرف عن الشيخ سعيد سوى اسمه ...
رحمه الله و عوضنا خيرا منه ...
3- رحمك الله شيخنا الحبيب
عبد الله - بلاد المسلمين 16-10-2009 12:31 AM
إنا لله وإنا إليه راجعون..
لقد أحزنني والله وآلمني هذا الخبر.

فاللهم ارحمه، واغفر له، وأكرم نزله، ووسع مدخله،
واغسله بالثلج والماء والبرد، ونقه من الخطايا
كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس،
وأبدله دارا خيرا من داره.. وارزق أهله الصبر؛ وآجرهم في مصيبتهم.

..........................

ننوه أنه قد تم إفتتاح موقع لفضيلة الشيخ الداعية رحمه الله

www.saidziani.net

هذا العمل المتواضع
وقفة مع أهل الفضل والإحسان
حفظا لحقوقهم
ونشرا لتراثهم
وإبلاغا لورثهم
رجاء ما عند الله
2- أولياء الله
ابو عبدالله - سورية 14-10-2009 07:28 PM
"أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ "

رحم الله الشيخ سعيد وأمه وشكرا جزيلا للكاتب
1- يرحمة الله
ابو عمار المدني 13-10-2009 04:05 PM
رحمه الله وأموات المسلمين أجمعين
والهم اهله الصبر والسلوان.
لا تقل وداعا...بل الى لقاء قريب في جنة الخلد إن شاء الله.
1 

أضف تعليقك:
الاسم  
البريد الإلكتروني (لن يتم عرضه للزوار)
الدولة
عنوان التعليق
نص التعليق

رجاء، اكتب كلمة : تعليق في المربع التالي

مرحباً بالضيف
الألوكة تقترب منك أكثر!
سجل الآن في شبكة الألوكة للتمتع بخدمات مميزة.
*

*

نسيت كلمة المرور؟
 
تعرّف أكثر على مزايا العضوية وتذكر أن جميع خدماتنا المميزة مجانية! سجل الآن.
شارك معنا
في نشر مشاركتك
في نشر الألوكة
سجل بريدك
  • بنر
  • بنر
كُتَّاب الألوكة
  • الدورة الخامسة من برنامج "القيادة الشبابية" لتأهيل مستقبل الغد في البوسنة
  • "نور العلم" تجمع شباب تتارستان في مسابقة للمعرفة الإسلامية
  • أكثر من 60 مسجدا يشاركون في حملة خيرية وإنسانية في مقاطعة يوركشاير
  • مؤتمرا طبيا إسلاميا بارزا يرسخ رسالة الإيمان والعطاء في أستراليا
  • تكريم أوائل المسابقة الثانية عشرة للتربية الإسلامية في البوسنة والهرسك
  • ماليزيا تطلق المسابقة الوطنية للقرآن بمشاركة 109 متسابقين في كانجار
  • تكريم 500 مسلم أكملوا دراسة علوم القرآن عن بعد في قازان
  • مدينة موستار تحتفي بإعادة افتتاح رمز إسلامي عريق بمنطقة برانكوفاتش

  • بنر
  • بنر

تابعونا على
 
حقوق النشر محفوظة © 1446هـ / 2025م لموقع الألوكة
آخر تحديث للشبكة بتاريخ : 11/11/1446هـ - الساعة: 16:33
أضف محرك بحث الألوكة إلى متصفح الويب