• الصفحة الرئيسيةخريطة الموقعRSS
  • الصفحة الرئيسية
  • سجل الزوار
  • وثيقة الموقع
  • اتصل بنا
English Alukah شبكة الألوكة شبكة إسلامية وفكرية وثقافية شاملة تحت إشراف الدكتور سعد بن عبد الله الحميد
 
الدكتور سعد بن عبد الله الحميد  إشراف  الدكتور خالد بن عبد الرحمن الجريسي
  • الصفحة الرئيسية
  • موقع آفاق الشريعة
  • موقع ثقافة ومعرفة
  • موقع مجتمع وإصلاح
  • موقع حضارة الكلمة
  • موقع الاستشارات
  • موقع المسلمون في العالم
  • موقع المواقع الشخصية
  • موقع مكتبة الألوكة
  • موقع المكتبة الناطقة
  • موقع الإصدارات والمسابقات
  • موقع المترجمات
 كل الأقسام | أسرة   تربية   روافد   من ثمرات المواقع  
اضغط على زر آخر الإضافات لغلق أو فتح النافذة اضغط على زر آخر الإضافات لغلق أو فتح النافذة
  •  
    المحطة العاشرة: مقومات الإيجابية
    أسامة سيد محمد زكي
  •  
    أنماط التعليم الإلكتروني من حيث التدرج في ...
    أبو مالك هيثم بن عبدالمنعم الغريب
  •  
    وصية امرأة لابنتها في زفافها
    الشيخ محمد جميل زينو
  •  
    المحطة التاسعة: العادات
    أسامة سيد محمد زكي
  •  
    الشباب بين الطموح والواقع: كيف يواجه الجيل الجديد ...
    محمود مصطفى الحاج
  •  
    هبة فيها النجاة!
    أ. رضا الجنيدي
  •  
    بركة الزوج الصالح على الزوجة في رفع درجتها في ...
    فهد عبدالله محمد السعيدي
  •  
    تربية الأطفال في ضوء توجيهات سورة الحجرات
    محمد عباس محمد عرابي
  •  
    السلاسل الحقيقية لا ترى!
    أمين محمد عبدالرحمن
  •  
    تطوير العلاقات الإنسانية في الإسلام
    يوسف بن طه السعيد
  •  
    المحطة الثامنة: القرارات
    أسامة سيد محمد زكي
  •  
    التربية بالقدوة: النبي صلى الله عليه السلام
    محمد أبو عطية
  •  
    مهن في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم
    نجاح عبدالقادر سرور
  •  
    تزكية النفس: مفهومها ووسائلها في ضوء الكتاب ...
    عاقب أمين آهنغر (أبو يحيى)
  •  
    الإنذار المبكر من التقاعد المبكر
    هشام محمد سعيد قربان
  •  
    دور الذكاء الاصطناعي في تعزيز كفاءة العملية ...
    أبو مالك هيثم بن عبدالمنعم الغريب
شبكة الألوكة / حضارة الكلمة / من روائع الماضي
علامة باركود

أمس واليوم

أمس واليوم
مصطفى لطفي المنفلوطي

مقالات متعلقة

تاريخ الإضافة: 24/2/2014 ميلادي - 23/4/1435 هجري

الزيارات: 6427

 حفظ بصيغة PDFنسخة ملائمة للطباعة أرسل إلى صديق تعليقات الزوارأضف تعليقكمتابعة التعليقات
النص الكامل  تكبير الخط الحجم الأصلي تصغير الخط
شارك وانشر

أمس واليوم

 

• اختيار: شبكة الألوكة.

• الكتاب: النظرات.

• المؤلف: مصطفى لطفي المَنْفَلُوطي (المتوفى: 1343هـ).

• الناشر: دار الآفاق الجديدة.

• الطبعة: الطبعة الأولى 1402هـ - 1982م.

• عدد الأجزاء: 3.

 

مَثَلُنا ومَثَل آبائنا الأولين من قبلِ طلوعِ شمسِ هذا التمدينِ الحديث ومن بعدِه كمَثَل رجل ضلَّ به طريقه في ليلةٍ ليلاءَ غُدَافية الإهاب، حالكة الجِلباب، قد تجسَّد ظلامُها حتى كاد يلمِس بالراح، فانقلب جوهرًا بعد إذ هو عَرَضٌ، فأصبح كأنما هو فحمٌ سائل، أو مِداد جامد، فأنشأ هذا الضالُّ المسكين يخبِطُ في ذلك الدَّيجور ترفَعُه النِّجاد، وتخفِضُه الوِهاد، لا يرى عَلَمًا فيهتدي به، ولا يتنوَّر نجمًا فيعتمد في سَرَاه عليه.

 

وإنه لكذلك وقد استوَتْ في نظره الجهاتُ السِّت؛ فسماؤه أرض، وأرضُه سماء، ووراءه أمامٌ، وأمامه وراء، وإذا بقَرْن الشمس قد نجَم في جبهة الأُفق، وأفرَغ في ناظره المملوءِ بالظُّلمة قطَرات ملتهبةً من ذائب أشعته المتلألئة، فعَشِي بعد أن كان بصيرًا، فما أغنى عنه ذلك الضياء شيئًا، وما زال في ضلالِه القديم، إلا أن ذلك ضلالُ الظلام، وهذا ضلالُ الضِّياء، وهو شرُّ الضلالين، وأقتَلُ الداءين؛ فإن ضلالَ الظلام يتخلَّلُه بَريقُ الأمل في الضياء، فأمَا وقد أصبح الدواءُ داءً، فلا أملَ في الشفاء:

لو بغيرِ الماءِ حَلْقِي شَرِق
كنتُ كالغصانِ بالماءِ اعتصاري

 

ذلك مَثَلنا ومَثَل آبائنا من قبلِنا بين يدَيْ هذه المدنيةِ الجديدة التي هَمَى سيلُها على هذا العالَم الإنساني، فرأى الغربَ تربةً طيبة صالحة، فسقاها، فاهتزَّت، وربَتْ، وأنبتت من كلِّ زوج بهيج، ورأى الشرق تربة صامتةً متحجرة، قد نجم فيها كثيرٌ من الأعشاب الضعيفة، والجذور الفاسدة، فأما ما تحجَّر منها فلم تُغنِ عنه السُّقيا شيئًا، وأما ما اخضرَّ وترعرع، فقد نما فاسدًا كأصله، وكان خيرًا له لو ذهَب ذلك الفيضانُ به وبجذوره.

 

أي: إن المدنيَّةَ الحديثة تمشَّت في صدرِ الغرب بقدمٍ متثاقلة، فما خفَق لها قلبُه ولا اضطرب، ثم وضَعت يدَها في أيدي الغربيِّين فصعِدت بهم إلى سمائِها خطوة خطوة كما يعوَّد الطفلُ الصغير على المشي، وما أعجَلَتْهم عن أمرِهم كما أعجلتنا، فبلغوا ما أرادوا، وهوَيْنا إلى أعمقَ مما كنا، كالحجرِ الثقيل يُرمَى به في الجو، فإذا ارتدَّ ارتدَّ إلى حفرةٍ يدفِنُ نفسَه فيها.

 

أي: إن الغربيِّين أحسوا، فنهَضوا، فجدُّوا، فأثْرَوا، فتمتعوا بثمراتِ أعمالهم، ونحن أغفَلْنا جميعَ هذه المقدماتِ ووثَبْنا إلى الغابةِ وثبًا فسقَطْنا.

 

فمهما كان نصيبُ آبائنا من الجهل، وانفراجِ المسافة بينهم وبين هذه المدنيَّة الحاضرة، فقد كانوا على علاَّتِهم أسعدَ منا حالاً، وأروَحَ بالاً، وأهنأ عيشًا، وأسدَّ خطواتٍ في سُبل الحياة، وكانت المعيشةُ فيهم اجتماعيةً أكثرَ منها فرديَّة؛ فكانت الأسرةُ الواحدة أشبهَ شيءٍ بالمملكة الدستورية المنظمة، يدبِّرُها عقل واحدٌ في جسومٍ كثيرة متَّفِقة في الرأيِ والدِّين والمذهبِ، والأخلاق والعادات، تجتمع حول المائدة كما تجتمعُ في نادي المسامرة، وتتلاقى في قاعةِ الصَّلاةِ، كما تتلاقى في ساحة المتنزَّه، يحبون اللهَ ولا يختلفون إلا في الطريقِ إلى رضاه، ويحبون الوطنَ ولا يختلفون إلا في الطريق إلى خدمتِه، ويحترمون عاداتِهم وأخلاقَهم ولغاتِهم المكونةَ لهيئتهم الاجتماعية، ويفرُّون من العاداتِ والمشارِبِ الغريبة عنهم، فرارَهم من الأسدِ؛ مخافةَ أن يرقَّ هذا الحاجز القائمُ بينهم وبين الأمم الأخرى، فتنحلَّ جامعتهم، فتهدأَ حميتُهم، فتموتَ نفوسهم، فإذا هم ميِّتون ثم لا يُبعَثون.

 

وكان بين الصغارِ في العائلة والكبارِ فيها مُعاهدةُ رحمةٍ واحترام، يحترم الصغيرُ الكبير، فيُكبِر عملَه وإرادته ومذهبه، فإذا أنزَل نفسَه منه هذه المنزلة، أصبح بحُكم الطبيعة مِرآةً له تنطبع فيها تلك الأعمال والإرادات والمشارب، حتى إذا أصبَح الصغير كبيرًا، وجَد من صغيره ما وجَد منه كبيرُه، فلا تزال سلسلةُ التوارث في العائلة متصلةً اتصالاً تعيا به الحوادثُ، وتكبو دونه عادياتُ الليالي.

 

ويرحَمُ الكبيرُ الصغيرَ، فلا يألوه نصحًا في حاضره ومستقبَلِه، ولا يفتأ يطلب عنده ما عند نفسِه، حتى يتم بينهما التناسخ، فإذا هو هو، حتى إذا قضى اللهُ فيه قضاءَه، لا تفقد الأسرةُ بفَقْده شيئًا.

 

فمن لنا اليوم بتلك السعادةِ التي أثكَلَتْنا إياها المدنيَّةُ الغربية يوم أظلَّتْنا بعلومِها ومعارفها ومخترعاتها الحالية، وزخارفها اللامعة الباطلة؛ فانقلبت المعيشةُ البيتية الاجتماعيَّة فرديَّةً محضة؛ فالأخوانِ متناكرانِ، والزوجان متنافران، والولد شقيٌّ بأبيه، والأبُ شقيٌّ بولَده، وكأن ساحةَ المنزل ساحة الحرب، لا ترى فيها غيرَ وجوهٍ مقطَّبة، ونفوس منقبضة، وأشلاءٍ فوق أشلاء، ودماء إِثْر دماء، وشقاء ليس يعدِلُه شقاء.

 

ومَن كان في شكٍّ من هذه الحقائق، فإني أكِلُه إلى جداولِ القضايا في المحاكم، فإن لم يرَ أن أكثر المُخاصَمات فيها - خصوصًا المدنيَّةَ منها - واقعةٌ بين الأقارب وذوي الرَّحِم، فله حُكمه ما شاء.

 

وإن أبيتَ إلا أن تتمثلَ لك الحقيقةُ بأكملِ وجوهها، فاسمَعْ قصةَ رجل مصري كان ذا ثروة متوسِّطة، عاشرت آباءه أجيالاً متعددة، فما كانت تضيقُ بهم، وما كانوا يضيقون بها، وكان له ثلاثةُ أولاد، و"امرأة جديدة" متعلِّمة، تعرف كلَّ شيء إلا واجباتِها وواجباتِ منزلها، وزوجِها وأولادها، وليتها جهِلت كل شيء غير هذا فتكون قد علِمَت كلَّ شيء، وتحب مطالعةَ الروايات الغرامية حبًّا ملَك عليها مشاعرَها وخوالجها، فربما عرَض لها المهمُّ من الأمر، فلا تخِفُّ له قبل فراغِها من الفصل الذي تطالِعُه، وتحب التمثيل، فتقضي ليلَها في مشاهدته، ونهارَها في سرد وقائعه ومشاهدِه على أخدانِها وأترابها، وربما كانت تهمس في آذانِهن أنْ ليتها ترى "روميو"، فتكون له "جوليت"[1]، وتُبغِض الحجابَ بُغْضَ الحرائرِ للسُّفور، فيومُها نصفان: نصف للخروج، ونصف للتهيؤِ له؛ فهي خارج المنزل من مطلَعِ الشمس إلى مغربها، بنى بها زوجُها بعد وفاة زوجِه الأولى، فلم يغتبط بها غيرَ عام واحد، ثم ضرب الدهرُ ضرباته، فإذا بينهما عِيشةٌ لا أظن أن الجحيمَ أشدُّ نكالاً منها.

 

أما أولادُه فأدخلهم مدارسَ مختلفة، تعلَّموا فيها لغات مختلفة؛ الإنجليزية والفرنسية والألمانية، ثم تخرَّجوا، هذا إنجليزيٌّ بفظاظتِه وخشونته، وهذا فرنسيٌّ بخلاعتِه واستهتاره، وذلك ألماني بخُيَلائه وكِبريائه، وجميعهم مُتفَرْنجون مَشرَبًا ومَذهَبًا، ومَطعمًا ومَلبَسًا ومَسكَنًا، وما فيهم مَن تفَرْنَجَ همَّةً وعملاً.

 

خرَجوا من المدارس بلا دينٍ ولا وطن، أما الدِّين فلأن أكثرَ مدارسنا - حتى الأهلية منها - ماديَّة مَحْضة، لا تعلُّق للدِّين بشأن من شؤونها، والدِّين خُلق شأنُه كبقية الأخلاق، لا يرسخُ في النفس إلا بتكرُّرِ الصورِ الدِّينية وتداولِها عليه عهدًا طويلاً، فإن بعُد عهدُها به أغفَلَتْه وأنكرته، وكذلك كان شأن هؤلاء الأولاد المساكين؛ فقَسَتْ قلوبُهم، وجمدت نفوسُهم، وفقَدوا - بفَقْد دِينهم - أطيبَ عزاءٍ يستروحه الإنسانُ في هذه الحياةِ المملوءة بالمصائب الحافلة بالكوارث والهموم.

 

والإنسان مهما طال حَوْلُه، وكثُر طَوْلُه، واتسعت مذاهب قوَّتِه، فليس ببالغٍ من هذه الدنيا ما يريد، لولا زهرة الأمل التي يتعهَّدُها الدِّينُ بالسُّقيا في قلب المؤمن، فيستروح منها ما يروِّح عن قلبِه، ويُسرِّي عن نفسه، ويقينه أن هناك حَوْلاً أكبرَ من حَوْلِه، وطَوْلاً أعظَمَ من طَوْلِه، وإلهًا قادرًا، يُقرِّب إليه ما يريد مما ضاق به ذَرعُه، وقصُرت عنه قوتُه.

 

وأما الوطن، فلأن المدارسَ عندنا تديرها من وراء ستارٍ أيدٍ أجنبيةٌ تربِّي التلاميذ لها، لا لأوطانهم.

 

فكنت ترى منزلَ الرجل كأنما هو مَجمَع من مجامع السفراء: عثماني متمسِّك بعُثمانيته، وإنجليزي يهتف ليله ونهارَه بأن دولة الإنجليز سيِّدة البحار، وأن الشمسَ لا تغيب عن أملاكِها، وفرنسي يعبُد فرنسا، ويُسبِّح بحمدها، ويصِفُها بأنها أمَّةُ العدل والرحمة، وأن أسعدَ المستعمرات مستعمراتُها، وألماني يستظهر خُطَب الإمبراطور غليوم، ويُنجِّم أن المستقبل لألمانيا يومَ يُمحى اسمُ إنجلترا وفرنسا من مصوَّرات الجغرافيا، وكثيرًا ما يقع بين المُتَفَرْنِسِ والمُتَأَلْمِنِ النزاعُ الطويل في شأن الألزاس واللورين، وبين المُتَأَلْمِنِ والمُتَجَلْنِزِ الشِّقاقُ العظيم في واقعة واترلو، وأي القائدين كان له الغَلَبُ والفضل في كسر نابليون بلوخر أو والنجتون، ولا يتفقون إلا في الساعةِ التي يذكرون فيها أمتهم؛ فإنهم يمثِّلونها لأنفسهم وللناسِ أقبحَ تمثيل، ويُلبِسونها ورجالَها - قديمًا وحديثًا - أثوابَ المراقعِ المضحكة، غير مُستَحْيين من أنفسهم، ولا من الناس، ولا مبالين بالأدمعِ المنهلة من عينَيْ والدِهم الجالس ناحيةً يندُبُهم، ويندُبُ نفسَه معهم، فبئس الاختلافُ حين يختلفون، ولا حبذا الاتفاقُ يوم يتفقون.


وهكذا انحلت الجامعةُ في هذا المنزل، وتفرَّق أفراد تلك العائلة أيما تفرُّق، وانقسموا على أنفسهم كلَّ الانقسام، فلا يصطحبون في متنزَّه، ولا يجتمعون لصلاة، ولا يتصافون في سَمَر، ولا يتفقون في شأن من شؤونهم البيتيةِ، حتى أصبح لكلٍّ منهم من المأكل والمشرب والملبس وجميعِ مرافق الحياة ما يطالبُه به خُلُقه المباينُ خُلُقَ أخيه أو أبيه.

 

فأنَّى لهم التعاضُدُ الذي كان لآبائهم من قبلُ في خوض غَمرات الحياة؟ وأنى لوطنِهم أن يسعَدَ بهم بعد عجزِهم عن إسعادِ أنفسهم، والمنزلُ قِوام الأمَّة، تسعَدُ بسعادته، وتشقى بشقائه؟ وأي شأن لهذه المعلومات المتكثرة التي حشروها إلى أذهانهم؟ وهل أفادوا[2] بها إلا هذرًا في المنطق، وثرثرة في اللسان، وشغلاً للأذهان، لا يُغني عن سعادةِ الحياة وهنائِها فتيلاً؟

 

ولو عقَلوا لعلِموا أن المخترعات الحديثةَ، والمكتشفاتِ الجديدةَ، والعلوم العصرية، إنما هي خَدَم وحاشية بين يدي السعادة، والسعادة هي اللَّذَّة الباطنية التي يُحسُّ بها الإنسانُ عند أداء الواجب عليه لنفسِه وعشيرته، ووطنِه ودِينه، فما لم تكُنْ مقدمةً لهذه النتيجة، كان وجودُها أشبهَ شيءٍ بالعدمِ.


ولو عقَلوا لعلموا أن الغربيين إنما يحفِلون بجميعِ العلوم العصرية، حتى علوم الأخلاق والآداب والدِّين، باعتبار أنها وسائلُ مادية يتوصَّل بها إلى تحصيل مرافقِ الحياة المحصلة لرفاهيةِ العيش وسعادةِ الحال، ولا اعتبار عندهم لذواتِها وأعيانها؛ فهم يعلَمون للعملِ، ويخترعون للمتاجرة، ويكتشفون للرِّبح، ومن ظنَّ غير ذلك فقد ضلَّ ضلالاً مبينًا.

 

ولو عقَلوا لعلموا أن ذلك العِلمَ القليل الذي كان يعلَمُه آباؤنا ونُسمِّيه نحن جهلاً وهمجيةً هو خيرٌ من عِلمنا الكثير المستفيض الذي نساجلهم به، وننعَى عليهم تاريخَهم من أجله؛ لأنهم كانوا بقليلِهم هذا يعمَلون ما نعجِزُ عنه نحن بكثيرِنا.

 

أجَلْ، إنهم كانوا يجهَلون عدد أقسام الأرض، وأن مصر في إفريقيا، وسوريا في آسيا، ولكنهم كانوا يعلَمون أن وطنَهم حيثما حلَّ من أقسام الأرض محبوبٌ لديهم، وأن أبناءَ وطنهم إخوةٌ لهم، يسعدون معًا، ويشقَوْنَ معًا، وأن سعادتَهم في استقلالِهم، وشقاءَهم في امتدادِ اليدِ الأجنبية إليهم، وكانوا يجهَلون الفَرْق بين المملكة والإمبراطورية والجمهورية، ولكنهم كانوا يعلَمون أن صاحبَ الأمر فيهم - كيفما كان لقَبُه - يجبُ طاعتُه، والالتفافُ حوله للذَّود عنه وعن سُلطته التي هي سلطتُهم وقوتهم.

 

ولقد كان آباؤنا على علاَّتهم يعتمدون في أكثرِ عقودهم من بيع وشراء، وهبةٍ وقرض ورهن، على صدقِ ألسنتهم، ووفاء قلوبهم، فكان الرجل يأمَنُ أن يُقرِض صاحبه الآلافَ المؤلَّفة من الذهبِ بلا كتابةِ صكٍّ، ولا شهادة شاهد، فأصبحنا نكتُبُ الصكوك، ونستشهد الشهود على الدانق والسحتوت، والويل ثم الويل لصاحبِ الحقِّ إذا ضاع صكُّه، أو أنكر شهوده، وكثيرًا ما يفعلون.

 

وجملة الحال أنهم كانوا يجهلون أكثرَ ما نعلم، ولكن لم يجنِ عليهم جهلُهم أكثرَ مما جنى علينا عِلمُنا، وكانوا محرومين أكثرَ ما نَنعَم به اليوم؛ من مساكنَ زاخرة، ومراكبَ فاخرة، وملابسَ زاهية، ومناظرَ زاهرة، وفُرُش وثيرة، وآنية صقيلة، وأدوات للمأكل والمشرب ثمينة، ولكنهم لم يكونوا محرومينَ في أنفسهم وفي خطراتِ عقولهم شيئًا مِن هذا كله؛ لأنهم ألِفوا معيشتَهم البسيطة، كما ألِفْنا نحن هذه المعيشةَ المركبة، فنحن وهم سواءٌ في الرِّضا بحالتينا، إلا أن معيشتَنا يكدرُها الفقر والإفلاس الآجلُ أو العاجل، ومعيشتهم لم يكن يُكدِّرها من ذلك شيءٌ، وها هي دفاتر الصَّرف وبيوت الأموال مكتظةٌ بديون الفلاحين التي كانوا في غنًى عنها لولا المدنيَّةُ الحاضرة التي قلبت الكماليات في نظرِهم إلى حاجيات، فبنَوُا القصور، وشادُوا الدور، وما شادوا لو يعلَمون إلا قبورًا دفَنوا فيها راحتَهم وهناءَهم، ومستقبَلَهم ومستقبل ذريتهم من بعدهم؛ فإن هؤلاء الأولادَ المساكين بعد أن خرَجوا من المدارس بلا دِينٍ ولا وطن، أرادوا ألا يُبقُوا في قوس الحرية منزعًا، فأطلقوا لأنفسِهم العِنان في سبيل الشهوات واللذائذ، فكانوا يسهَرون الليل بين رنين الكاسات، وغزل الغانيات، ثم ينامون النهار بين التمطِّي والثوباء، حتى نبَتْ بهم وظائفهم التي هي كلُّ ما حصلوا عليه من علومِهم ومعارفهم، فأبعدتهم عنها، فأصبحوا كَلاًّ على أبيهم وعلى الناس، لم ينفَعْهم عِلمهم، ولم تُغنِ عنهم شهاداتهم بعد أن نفخَتِ الكبرياءُ في صدورِهم، فأبَوْا أن يتنزلوا للاحتراف بما يقوم معاشهم، كما يفعل أولئك القوم الذين أنضوا ركائبَ حياتهم في طريقِ تقليدهم، وباعوا في سوقِ التشبه بهم كلَّ ما تملِكُ أيمانُهم وقلوبهم، وبعد أن ملَكَتِ الشهوات قيادَهم فما وجدوا في أنفسهم متسعًا لسواها، فأغروا بثروة أبيهم، يأخذون منها بالحق تارة، وبالباطل تارات، وقد كانوا قلصوا ظلالَها أولاً بنفقات دراستهم، وثانيًا بابتياعِ ما حسُن لفظُه، وقبُح معناه من السِّلَع الإفرنجية التي تفني خزائن روكفلر وروتشيلد، قبل الوصول إلى إشباعِ بطون تجَّارها، فنضب معينُها ولم يَبْقَ منها حتى الذِّماء[3]، فتبدل ذلك النعيمُ شقاءً، وتلك السعادة والرفاهية فقرًا وعدَمًا، أما الوالد فقضى شهيدَ العلوم والمعارف، والمخترعات والمستحدثات، وأما الأولاد فاغتالت أحدَهم يدُ الزهري، وكانت لأمثاله من المغتالين، واحتوى الآخرَ فراشُ السِّلِّ؛ حيث لا زائرَ ولا طبيب، وافترش الثالث تراب السجن على أثَر جنايةٍ دفَعه إليها العَوَزُ والحاجة، وفرَّتِ المرأةُ الجديدة إلى معرِضِ الأعراض حيث يبتاعها الشقاءُ بثمنٍ بَخْسٍ، وهو فيها من الزاهدين.

 

كأن لم يكُنْ بينَ الحُجونِ إلى الصَّفا
أنيسٌ ولَمْ يسمُرْ بمكَّةَ سامر

 

هذه قصةُ منزل من منازلنا، وكل المنازل بيننا ذلك المنزلُ إلا ما رحم الله، فلو أن باكيًا بكى على ما آلَتْ عليه حالةُ هذه الأسرة الشقية، فهو إنما يبكي أُسَرًا متعددة، وأُمَّة كاملة:

لقد لامَني عند القبورِ على البُكَا
رَفِيقي لِتَذْرافِ الدُّموعِ السَّوافكِ
فقُلْتُ له: إن الأسى يبعَثُ الأسى
دَعُوني؛ فهذا كلُّه قبرُ مالِكِ[4]

 

وجملة القول: إن للحاضر سيئاتٍ فوق سيئات الماضي، فلا خيرَ في العصرين، ولكنَّ ويلاً أخفُّ من ويلينِ، والأممُ لا تسعدُ بمعرفةِ الخيرِ والشر؛ فالخيرُ والشرُّ معروفانِ حتى لأُمَّةِ النمل، وإنما سعادتُها في معرفةِ خيرِ الخيرين، وشرِّ الشرين، ولئن دام هذا الحالُ واطَّرَد المقياسُ، فالغدُ شرٌّ من اليومِ، كما كان اليومُ شرًّا من الأمس.



[1] روميو وجوليت: اسمَا عاشقٍ ومعشوق في إحدى الرِّوايات الغراميَّة.

[2] أفادوا: كاستفادوا.

[3] الذماء: بقيَّة النَّفَس.

[4] الأبيات لمتمِّمِ بن نُوَيرة، يرثي أخاه مالكًا.





 حفظ بصيغة PDFنسخة ملائمة للطباعة أرسل إلى صديق تعليقات الزوارأضف تعليقكمتابعة التعليقات
شارك وانشر

مقالات ذات صلة

  • الكأس الأولى
  • الشرف
  • النبوغ

مختارات من الشبكة

  • حديث: أمسك عليك بعض مالك، فهو خير لك(مقالة - موقع الشيخ فيصل بن عبدالعزيز آل مبارك)
  • مهندسة الأجيال بين الأمس واليوم(مقالة - مجتمع وإصلاح)
  • غزوة الأحزاب بين الأمس واليوم(محاضرة - مكتبة الألوكة)
  • إلى فراعنة الأمس واليوم.. رحلة ليست ترفيهية(مقالة - آفاق الشريعة)
  • بين الأمس واليوم(مقالة - ثقافة ومعرفة)
  • الرثاء ما بين أندلس الأمس واليوم!(مقالة - المسلمون في العالم)
  • دعوة غير المسلمين إلى الإسلام بين الأمس واليوم(مقالة - آفاق الشريعة)
  • وعود الإسلام بين الأمس واليوم(مقالة - آفاق الشريعة)
  • الأخلاق الحميدة بين الأمس واليوم!(مقالة - مجتمع وإصلاح)
  • صور وأخلاق أمس واليوم(مقالة - حضارة الكلمة)

 



أضف تعليقك:
الاسم  
البريد الإلكتروني (لن يتم عرضه للزوار)
الدولة
عنوان التعليق
نص التعليق

رجاء، اكتب كلمة : تعليق في المربع التالي

مرحباً بالضيف
الألوكة تقترب منك أكثر!
سجل الآن في شبكة الألوكة للتمتع بخدمات مميزة.
*

*

نسيت كلمة المرور؟
 
تعرّف أكثر على مزايا العضوية وتذكر أن جميع خدماتنا المميزة مجانية! سجل الآن.
شارك معنا
في نشر مشاركتك
في نشر الألوكة
سجل بريدك
  • بنر
  • بنر
كُتَّاب الألوكة
  • الدورة الخامسة من برنامج "القيادة الشبابية" لتأهيل مستقبل الغد في البوسنة
  • "نور العلم" تجمع شباب تتارستان في مسابقة للمعرفة الإسلامية
  • أكثر من 60 مسجدا يشاركون في حملة خيرية وإنسانية في مقاطعة يوركشاير
  • مؤتمرا طبيا إسلاميا بارزا يرسخ رسالة الإيمان والعطاء في أستراليا
  • تكريم أوائل المسابقة الثانية عشرة للتربية الإسلامية في البوسنة والهرسك
  • ماليزيا تطلق المسابقة الوطنية للقرآن بمشاركة 109 متسابقين في كانجار
  • تكريم 500 مسلم أكملوا دراسة علوم القرآن عن بعد في قازان
  • مدينة موستار تحتفي بإعادة افتتاح رمز إسلامي عريق بمنطقة برانكوفاتش

  • بنر
  • بنر

تابعونا على
 
حقوق النشر محفوظة © 1446هـ / 2025م لموقع الألوكة
آخر تحديث للشبكة بتاريخ : 11/11/1446هـ - الساعة: 0:55
أضف محرك بحث الألوكة إلى متصفح الويب