• الصفحة الرئيسيةخريطة الموقعRSS
  • الصفحة الرئيسية
  • سجل الزوار
  • وثيقة الموقع
  • اتصل بنا
English Alukah شبكة الألوكة شبكة إسلامية وفكرية وثقافية شاملة تحت إشراف الدكتور سعد بن عبد الله الحميد
 
الدكتور سعد بن عبد الله الحميد  إشراف  الدكتور خالد بن عبد الرحمن الجريسي
  • الصفحة الرئيسية
  • موقع آفاق الشريعة
  • موقع ثقافة ومعرفة
  • موقع مجتمع وإصلاح
  • موقع حضارة الكلمة
  • موقع الاستشارات
  • موقع المسلمون في العالم
  • موقع المواقع الشخصية
  • موقع مكتبة الألوكة
  • موقع المكتبة الناطقة
  • موقع الإصدارات والمسابقات
  • موقع المترجمات
 كل الأقسام | أسرة   تربية   روافد   من ثمرات المواقع  
اضغط على زر آخر الإضافات لغلق أو فتح النافذة اضغط على زر آخر الإضافات لغلق أو فتح النافذة
  •  
    المحطة العاشرة: مقومات الإيجابية
    أسامة سيد محمد زكي
  •  
    أنماط التعليم الإلكتروني من حيث التدرج في ...
    أبو مالك هيثم بن عبدالمنعم الغريب
  •  
    وصية امرأة لابنتها في زفافها
    الشيخ محمد جميل زينو
  •  
    المحطة التاسعة: العادات
    أسامة سيد محمد زكي
  •  
    الشباب بين الطموح والواقع: كيف يواجه الجيل الجديد ...
    محمود مصطفى الحاج
  •  
    هبة فيها النجاة!
    أ. رضا الجنيدي
  •  
    بركة الزوج الصالح على الزوجة في رفع درجتها في ...
    فهد عبدالله محمد السعيدي
  •  
    تربية الأطفال في ضوء توجيهات سورة الحجرات
    محمد عباس محمد عرابي
  •  
    السلاسل الحقيقية لا ترى!
    أمين محمد عبدالرحمن
  •  
    تطوير العلاقات الإنسانية في الإسلام
    يوسف بن طه السعيد
  •  
    المحطة الثامنة: القرارات
    أسامة سيد محمد زكي
  •  
    التربية بالقدوة: النبي صلى الله عليه السلام
    محمد أبو عطية
  •  
    مهن في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم
    نجاح عبدالقادر سرور
  •  
    تزكية النفس: مفهومها ووسائلها في ضوء الكتاب ...
    عاقب أمين آهنغر (أبو يحيى)
  •  
    الإنذار المبكر من التقاعد المبكر
    هشام محمد سعيد قربان
  •  
    دور الذكاء الاصطناعي في تعزيز كفاءة العملية ...
    أبو مالك هيثم بن عبدالمنعم الغريب
شبكة الألوكة / حضارة الكلمة / أدبنا / المرأة الأديبة / كاتبات الألوكة
علامة باركود

الموت جامعتي (قصة قصيرة)

الموت جامعتي
إكرام عبدالله شريف أحمد

مقالات متعلقة

تاريخ الإضافة: 5/1/2012 ميلادي - 10/2/1433 هجري

الزيارات: 9896

 حفظ بصيغة PDFنسخة ملائمة للطباعة أرسل إلى صديق تعليقات الزوارأضف تعليقكمتابعة التعليقات
النص الكامل  تكبير الخط الحجم الأصلي تصغير الخط
شارك وانشر

بسم الله الرحمن الرحيم

المـوتُ جامـعتي

(مادة مرشحة للفوز بمسابقة كاتب الألوكة الثانية)

 

المشـهد [1]

جلستُ على طرفِ السرير الوثير، وعينِي مثبتةٌ على ذلك اللوحِ الخشبيِّ المثبتِ على الجدار؛ ليُظهر ملامحَ الصورة التي تتوسَّطهُ في أبهى حلةٍ ممكنة!

 

أشحتُ بنظري بعيدًا عنها، ثُم أخذتُ نفَسًا عميقًا حينَ رأيتُ والدتي تبكي بِحُرقة هناك على الجانبِ الآخر من السرير ذاته، وشقيقاتي يُحاصرنَ الألَم حتَّى لا ينفلتَ منهنَّ زمامُ الصبرِ فقط هذه المرَّة؛ فالصبرُ عندَ الصدمةِ الأولى أصدَقُ وأكثر جمالاً، لَم أشعر بشيءٍ وأنا أُراقبهنَّ بهدوءٍ لَم أفهم كُنهَهُ لفترةٍ من الزمن، بقيتُ واجمةً أراقبُ الوفودَ القادمة للعزاء، لكنْ بدا لي أنَّ ثمةَ مشكلة، وعليَّ العثور على خيطها سريعًا!

 

- اصبري يا "فاطمة" إنَّها مشيئة الله!

 

أخذَتْني أصواتُ النحيبِ لجِهةٍ مختلفة تمامًا، وجدتُ نفسي فجأةً في غرفة الجلوس، وجمهرةٌ من صديقاتِ تَحلَّقنَ حولَ المكانِ في صمتٍ مخيف، وعلى مُحيَّاهنَّ بكاءٌ وألَم وندمٌ لا تفسيرَ له.

 

- لا أصدقُ أنَّها ماتت، لقد كانت تُحدِّثني بالأمس!

 

قالَتْها صديقتي "فاطمة"، ورحلَ صوتها في رحلةٍ لبكاءٍ لَم أفهمهُ أبدًا, مضى أكثرُ من ساعة وهنَّ جاثماتٌ، والحزنُ يَغشى كلَّ شيء في المكان، كدتُ أبكي لكنَّني لم أجدِ القدرة على ذلك، وددتُ أن أتحرَّكَ نحوهنَّ، لكن ثمةَ مشكلة تواجهني تحديدًا!

 

أعرف الكثير عن نفسي؛ انطوائيَّةٌ، ولا أجدُ الرَّغبة في الكلامِ إلاَّ نادرًا، لكنني لا أصمتُ حينما أستنشقُ رائحةَ اليأس، لكن هذه المرَّة مختلفة تمامًا، إنَّني عاجزة حتَّى عن الإحساس بذاتي.

 

- عظمَ الله أجركم، كانت فتاةً مميزة!

 

وجدتُ نفسي فجأة بجوار والدي الذي تلثمَّ، والدموعُ تترقرقُ على خدَّيه كالسَّيل، وكذلك الكثيرُ من الرجال، وسحابة الحزنِ ذاتها، مضت الدقائقُ تترى وأنا أراقبُ الوجوهَ أجمع، فلا أرى إلاَّ حزنًا مقيتًا، وألَمًا قاسيًا، بدأت الأصواتُ تخبو شيئًا فشيئًا حتَّى شككتُ في سلامةِ سمعي، جثوتُ على ركبِي وأنا أحاولُ الخلاصَ من الشعور بالضياع، أمسكتُ بحلقي لكن لا صوت، حاولتُ البكاء لكن لا جَدْوى.

 

- الله يرحمك يا "سماء" الله يغفر لك!

 

سكنَتْ جوارحي لِوَهْلة، بات العالَمُ كلُّهُ كالحًا، اختفتِ الأصوات تمامًا، وربَّما أنا من أوقفَ عملية التنصُّت، فتلك الجملة أيقظَتْ سكوني، خارت قوَّتي، وانتصبتُ واقفة أحدِّقُ في الفراغ بلا شعور، حدَّقتُ في الناس، بحثتُ عن "سماء" لكنني لَم أجدها بينهم!

 

- يا للهول يا للهول.. ماذا يحدث؟!

 

مضت الثواني ببطءٍ بغيض، وأنا مُتسمِّرةٌ لا أحركُ ساكنًا، بقيتُ وحيدةً طوال الوقت، لكنَّني لم أستشعر الوحدة إلاَّ الآن، شعرتُ أنَّ العالَمَ كلهُ توقَّفَ عن النبض، وأنني أسبحُ نحو نهايةٍ لا نهايةَ لها.

 

المشـهد [2]

كانَ الجوُّ جميلاً ذلك اليوم، خرجتُ بخطواتٍ هادئة من ذلك المتجرِ الصغير على جانبِ الطريق، استدرتُ أراقبُها وهي تقفُ أمام صاحبِ المتجرِ تناشدهُ تخفيضَ السعر، فابتسمتُ وقرعتُ بابَ المتجرِ الزُجاجيّ أحُثها على الخروج، نظرَتْ نحوي بحنقٍ، ثم دفعَت المبلغ، وركضَتْ نحوي.

 

- غبية! لقد خسرتُ ثلاثةَ ريالاتٍ بسببك!

 

قالتها وهي تتأفَّفُ من صُحبتي، لكنني لم أتجرَّأ على الرد، فنظرتُ لها مبتسمةً كعادتي، لكنها استوقفتني قائلة:

- "سماء" ماذا أخذتِ أنتِ؟!

 

تابعَت بتأفُّف شديد والعبوسُ على وجهها:

- دائمًا تخرجينَ بسرعة حين نشتري!

 

ضحكتُ وصفقتُ بيدي بحماسة وقلتُ بلا تحفُّظ مني:

- وأخيرًا فهمتِني صديقتي "أمل" هذا رائع.

 

وجدتُها توقَّفت عن المسير، وعيناها تُنذرانِ بالشرِّ، لكنني تابعتُ كلامي وأنا أنظرُ للسماء:

- أكرهُ الأسواق كثيرًا، هذا صحيح!

 

ابتسمتُ مجددًا، أمسكتُ بيدها الدافئة، ومضيتُ أسرع الخطى نحوَ المنْزل، تناسَتْ قليلاً حنقها نحوي، ومضينا طول الطريق نضحكُ سويًّا، وقفَتْ فجأة عند ذلك المنعطفِ الضيق، ثم سحبَت يدها بسرعةٍ، وابتسمت في وجهي، وصاحت وهي تبتعدُ عن نظري راكضة:

- أراكِ لاحقًا، "سماء" سأغيرُ رأيكَ ذات يوم، كوني واثقة!

 

كنتُ واجمةً لا أحركُ ساكنًا؛ فتلك صديقتي المُقربة حتى اللحظة، لكن شعورَ الفراقِ والوحدة يلازمانني كالظِّل، ولا أعرفُ لماذا في تلك اللحظة بالذات شعرتُ أنني خسرتُ صديقتي للأبد.

 

بقيتُ أحدقُ في الفضاء، ثم تحركتُ نحوَ المنزل بخطواتٍ متسارعة؛ فالوقت كان قد تأخرَ بالفعل، والمثيرُ للشفقة أنَّ ذلك اليوم كانَ آخر يومٍ ألتقي فيه "أمل" لقد رحلت كالبقية تاركةً ذلك الفراغَ المقزز في أعماقي مجددًا، لا أعرفُ لماذا يسعى الآخرونَ دائمًا لأنْ أكونَ نسخةً مطابقة لهم، ألاَ يمكنني أن أكونَ صديقة لهم ومختلفة عنهم؟!

 

لماذا يحاولون بجهدٍ مُضْنٍ تغييرَ كلِّ شيء في "سماء"؟ لقد باتَ الأمر في الآونة الأخيرة مزعجًا للغاية، ورغم ذلك فخسارتي لصداقةٍ أخرى كانَ لا يؤثرُ عليَّ إطلاقًا، حتى ظننتُ أنني بلا قلب!

 

فمبدأ تركِ الآخَر يفعلُ ما يحلو له كان ولا يزال مسيطرًا على حياتي، لطالما أنَّنيلا أتدخَّل في شؤونهم فكلُّ شيء سيكون بخير، هذا كانَ اعتقادي طوال الوقت، فما دمتُ أقابلُ وأودِّع بابتسامة لا تحملُ أيَّ معنى في نفسي، فذلك يعني كلَّ شيء، كلُّ ما يهمني ألاَّ أسبِّبَ الأذى لأحدٍ من الناس.

 

أتذكَّرُ بوضوح كيفَ كانت صديقتي "فاطمة" قبلَ أن تخرجَ من حياتي بِلُطفها الكبير وحنانها الجميل، أتذكرُ كيفَ كانت تمسحُ على رأسي حينَ أكون في حاجةٍ إلى مَن يُشعرني بالقوة، لقد توغَّلت لأعماقِ روحي، فأحببتُها كما لم أحبَّ أحدًا من قبل، ورغم ذلك لم أسمح لنفسي بأن أكونَ صريحة، فكتمتُ أحزاني عميقًا بصورةٍ حيَّرتْها، فلطالما شعرت بأن ثمة مشكلة تواجهني، لكنني لم أسمح لها بالاقترابِ من مواطنِ ضعفي على الإطلاق، حتى حانت ساعةٌ طالبت فيها أن أتغيَّر؛ فحياتي لم تعد ممتعةً كما يجبُ أن تكون!

 

أتذكرُ جيدًا تلكَ الابتسامة الحزينة التي صافحتُ بها ملامحها المُشفقة عليَّ، ولا يمكنني أن أنسى تَمْتمتي الغريبة حين قلتُ لها وأنا أصافحُ يدها الباردة:

- سأفعل!

 

استدرتُ نحوَ المجهول الذي يحتضنُني منذ ولادتي، وبقيتُ أصارعهُ وحدي مجددًا، تيقَّنتُ أنه ما من أحدٍ قد يفهمُ معنى أن يُصادقَ "سماء"!

 

لا صعوبة في الأمر، لكنه يبدو بالنِّسبة للبشر مُعادلةً مستحيلة الحلِّ في تركِ الرَّغبة في تغيير الآخرين، يعلمون أنَّه مستحيلٌ تمامًا، ورغم ذلك يتكبَّدونَ عناءَ ذلك بصورةٍ مُستفزةٍ للغاية، لا أعرفُ حتَّى متى ستستمرُّ محاولاتهم في تغيير ذاتي!

 

لكنني سلَّمتُ نفسي للهِ في محاولةٍ أخيرة منِّي في الحصول على الحريَّة من عبوديَّةِ التقليدِ والبقاء خلفَ الأسوار، نشَرْتُ سجَّادة أخي المتوفَّى ذلك المساء، وصليتُ لأجلِ أن أبقى أقوى وأكثرَ تماسكًا, لقد مللتُ من يتظاهرونَ بأنَّهم أصدقائي لأجلِ مصالحهم التافهة، مللت كذلك من وجودِ أصدقاءَ أحبهم، ولكنهم لا يملكون أدنى فكرةٍ عمَّا أواجههُ وحدي كلَّ يوم ألتقيهم فيه، مللتُ من محاولاتِ تغييرهم لي، وسئمتُ انشغالاتهم التي لا تطرأ إلاَّ حينَ أحتاجُ إلى البَوْحِ بأحزاني لهم؛ لذلك صليتُ حتَّى أبقى وحدي فقط، ولا أعرف لماذا شعرتُ بعدَ تلك الليلة بأن دعوتي قد استُجِيبت على الفور، فقد باتَ الجميعُ سواسية بالنسبة لي، لم أعد أحزنُ لفراقِ أحد، ولا لتخلي أحدٍ عني، لم أعد أكترثُ حينَ تَخذلني أو تخونني صديقةٌ لي، ولا حتى حينَ يتناهشُ الحاضرونَ لحمي في غيبتي، لم يعد يؤثرُ عليَّ ذلك، لا حزنَ ولا ألَم، فقط سكونٌ كسكونِ الأموات في قبورهم، والابتسامة هي سيدةُ كلِّ المواقف، أتبسمُ في حضورهم وفي غيابهم، ولا تحضرني كلمةٌ يمكنني أن أعبِّرَ بها عن شعوري تجاههم إلا الدعاء بأن يكونوا بخير من دوني، لا حاجة لهم إلى "سماء"، وتلك هي الحقيقة التي ربما تُحزنُ الكثيرين منكم لكنها تُسعدني كثيرًا بحق، فحاجتي إليهم قد تمَّ تفويضها للسماء منذ تلك الليلة، لكنني لن أقلق بشأنهم.. هذا ما قلتهُ لنفسي:

- حينَ أرحل سيكونونَ بخير.. هذا مؤكَّد!

 

أغمضتُ عيني، ودمعها يسيلُ على وسادتي البيضاء التي باتت تسمعُ نحيبَ أعماقي كلَّ ليلةٍ حينَ أضع رأسي فوقها، لقد بات لديَّ صديقٌ يمكنهُ أن يسمعني حينَ أود البكاء، لقد أحببتُ وسادتي.. هذا ما حدث وقتها.

 

المشـهد [3]

مضَتْ ثلاثة أيَّام وأمِّي تُعاني من ألَمٍ غريبٍ في رأسها، اعتادَتْ أن تصحو باكرًا وتؤنِّبَ إخوتي حينَ يتأخَّرُ أحدهم في أداء الصلاة، ربَّما هي لا تعلم أنَّني كنتُ أصحو قبل الفجرِ بساعتين أبثُّ فيها شعورًا غايةً في السريَّة؛ لذلك كنتُ أجدها غاضبةً طوال الوقت منِّي بالتحديد، كنتُ أكتمُ الرغبة في البكاء دائمًا؛ فأنا أعرف عنها ما لا يعرفه غيري، وهذا ما جعلني أحبُّها بجنون، أفتخرُ لأنِّي ابنتها الكبرى، وتلك كانت مشاعرَ سريَّة أيضًا، لا أظنُّ أن أمي تعرفُ عنها شيئًا!

 

- لا أحدَ يهتمُّ لأمري في هذا المَنْزل على الإطلاق!

 

كانت تلك جملة أمِّي المفضلة التي لطالَما دفعتني للجنون، كنتُ أراقبها عن كثب وددتُ البكاء في حضرتها، لكنني لَم أستطع، تمضي الدقائق بطيئةً للغاية حينَ تبدأ في كلامها المعتاد، لا أتمنَّى شيئًا وقتها أكثر من أن أكون صمَّاءَ لا تسمع، فكلماتها كانت تمتصُّ كلَّ ما لديَّ من عزيمةٍ لإسعادها، لقد كانت تقتلُ رغبتي الجادَّة في أن أجعلها أكثر الأمهات فخرًا بي، وهذا كان مؤلِمًا جدًّا بالنسبة لي.

 

أترك المكانَ حينَ أسمعُ تأنيبها ذاك، وأستمرُّ أتجاهلُ كل ما حولي، فتظنُّني أعاندُ وأكابر!

 

- أمي لقد حصلتُ على علامةٍ كاملة في الكيمياء.. تخيَّلي!!

 

أقولها في الصباح التالي، فأجدها تبتسمُ بسعادة وكأنَّ شيئًا لَم يكن، ثم تلتفتُ نحوي بفرحٍ غامر قائلة:

- حقًّا يا ابنتي؟!

 

تبتسمُ بسعادةٍ كبيرة، ثم ترفعُ رأسها باعتزازٍ وإباء وفخر، وتملأُ الجوَّ بصوتها النديّ:

- هذا ما يجبُ أن يحدث.. أنتِ رائعة.

 

لطالما أشعرَتْنِي بالسعادة، أمِّي مصدرُ إلهامٍ كبير لي، هي لا تعلمُ قدر محبتي لها أبدًا، ولا أظنُّها ستعلمُ كذلك، لكنني بالفعل أتفهمُ كل ما تقومُ به وإن أساءَ إليّ بشدة.

 

إنَّها إنسانةٌ مثخنةٌ بالهمومِ لأجلنا وحَسْب، إنسانةٌ ذكيَّة قادرةٌ على فعل الكثير، تعشقُ الإنجازات بشدة، وغضبها ما هو إلا لحظيٌّ يَزولُ بمرور الوقت كأنه لم يكن!

 

أحبُّ كلَّ شيءٍ فيها، وأثق فيها كثيرًا، ورأيها بالنسبة لي كالماء الزُّلال، أحبُّها لكنني أكرهُ ما تقوله حينَ تكون غاضبة، وحزني لم يكن يومًا بسببها؛ فأنا على علمٍ كامل بالسبب الذي يدفعها لذلك، أفتخرُ بأمي كثيرًا لدرجة أنني أرغبُ في البكاءِ حينَ أسمعُ كلمة "أمي" أو حين يَتناهى لمسامعي صوتُها الصارم الذي يُخفي الكثير من الحنان، ربما لا تَمْدحني؛ لعلَّها لا تعرف كيفَ تبتسمُ في وجهي، ومن المحتمل أنَّها لا تعرفُ كيفَ تحتضنني، لكنها بالتأكيد تعرفُ كيفَ تُعلّمني، وذات يوم ستكونُ "سماء" في عِدادِ الناجحينَ النّادرينَ الأوائل، وأظنُّني أعرف أنني سأرى دمعَ عينها؛ لأنها بالتأكيد تحبُّني كما أحبها.

 

لا أودُّ أن أموت قبل أن تَعْلم ذلك، من المؤلِم كثيرًا أن تفهمَ شخصًا لا يفهمكُ تحديدًا، ثم لا يُمكنكُ أن تفعل شيئًا، ذلك عجزٌ أمقُتهُ بشدَّة، وهو ما كان يتسبَّبُ في بكائي الدائم حينَ ألمحُ في وجهها العبوسَ والكراهية، لطالما بقيتُ بجوارها بصمتٍ أراقبُ مزاجها حتَّى يصلَ لمعدَّله الطبيعيِّ فأُبادر بالحديث معها في أيِّ موضوعٍ أجدهُ مسليًا لها، قد لا تفهم يومًا تصرُّفي بسعادة بعد كلِّ نوبة غضبٍ تجتاحها نحوي، لكني لا أملكُ الكثير من الوقت الآن، فشُعوري بأنِّي سأرحل باتَ لهُ أزيزٌ، ولا أعرفُ لماذا كنتُ أتمنَّى الموت قبلها، ربما هي أنانية منِّي في ألا أبكي مجددًا، لكنني بالتأكيد سيُحزنني حتَّى لو فعلت، وددتُ دومًا أن أحتضنها بقوَّة، وأخبرها كم هي غاليةٌ عليَّ، وكم هي بالنسبة لي كلّ شيء في الوجود! لكني الآن في مكانٍ لا يمكنني فعلُ شيءٍ لها، يُشعرني هذا العجزُ بالأسى حقًّا.

 

المشـهد [4]

- أينَ أنا؟!

 

هذا خرجَ من أعماقي حينَ عُدتُ من استعراضِ الذكريات، وقفتُ وقدماي لا تحملانِ أيَّةَ استطاعة!

 

لَم أفهم شيئًا مما يدور حولي، أعدتُ توجيه نظري نحوَ غرفتي التي احتضنَتْ أمي وشقيقاتي اللاَّتي كنَّ يبكينَ بحرقةٍ مكتومة، أحسستُ بها في قلبي، نظرتُ مجددًا لنفسي، حاولت أن أنصت لما يقال فتناهى لسمعي جملةٌ أوضحَتْ كلَّ شيء:

- لقد ماتت "سماء" صباح اليوم.. ماتت وهي نائمة!

 

تمتمَتْ بها أختي "بهجة" وهي تُحادثُ صديقتها بالهاتف بصوتٍ مُتقطِّع يكادُ لا يُسمَع، فتذكرت على الفور ما حدث البارحة، كنتُ قبلها أجلسُ أفكرُ في فلسفةٍ، وددتُ أن أجدَ من يُناقشني فيها، فقبيل صلاة العشاء تلك الليلة توجَّهت نحوَ غرفة الجلوس حيثُ تجلسُ "بهجة" عادةً، وجدتها مُنكبَّة على الرسمِ في لوحتها الجديدة، فاقتربتُ منها بهدوء، نظرَتْ نحوي بصمت، وقبل أن تتفوَّه بشيء قلتُ لها:

- أنا أحبكِ كثيرًا!

 

ضربتني بعصا كانت على مقربةٍ منها، وأخذتُ أضحكُ مُبتعدة، ربَّما ظنَّت أنني لا أعرف سبب كرهها الشديد للطف والمحبَّة، لكنني كنتُ أحبها كثيرًا جدًّا وفوقَ ما تُحبني، ولو كنتُ أمتلكُ روحًا أخرى لكنتُ آمنتها على كلِّ أحلامي وطموحاتي.

 

أراقبُ عينيها الباكية، أتذكرُ بصورةٍ واضحة ما قالتهُ لي قبل أن تنام:

- اكتبي لي مقالاً يا "سماء"!

 

أتذكرُ كيفَ كانت تنبعثُ منها رائحةُ الثِّقة بأنني سأفعل، تلك الثقة التي كنتُ أحبُّها فيها، ولطالما حاولتُ أن أكون دومًا عندَ حُسنِ ظنِّها، لكنني تلك الليلة تحديدًا لم أقدر على كتابة ذلك المقال، لقد توسدتُ فراشي بعدَ أن كتبتُ عنوانًا عريضًا في تلك الصَّفحة البيضاء بخطٍّ واضح: "مقالٌ لأختي"، ومضيتُ في رحلةٍ للمجهول، وهذه المرَّة لمجهولٍ لَم أتوقَّع أن أزوره بهذه السُّرعة!

 

لقد مُتُّ أخيرًا، لقد سكنَتْ جوارحي في سُباتها الحقيقيّ، هذا يعني أنَّني لن أفِيَ بوعدٍ آخر بعدَ الآن، هذا يُحزنني جدًّا، لا يمكنني بعد الآن أن أكونَ عند حُسنِ ظنِّها بي، لقد خذلتُ شقيقتي وللأبد.

 

المشـهد [5]

تركتُ لبصري حريَّة التجول في الأرجاء بحيرةٍ بالغة، فوجدتُ أختي "ريم" تغرقُ في صمتها المهيب كالعادة، تحدقُ في الفراغ وتتحركُ بشكلٍ آليّ؛ لتقفَ للمُعزَّينَ في هدوء وتماسكٍ أعرفُ أنه مزيف!

 

- "ريم" هذا كلُّ ما أملكهُ، خذي ما تشائين.. اتفقنا؟!

 

قلتُ ذلك وأنا أمدُّ محفظتي نحوها، لقد كانت أختي "ريم" فتاةً لا تعترفُ أن للكلامِ أيَّ فائدةٍ تُذكر، لقد أحببتُ صمتها رغم أنه كان يُقلقني ذلك أحيانًا، فصَمْتُها كان بمثابةِ مُنافسةٍ حقيقة لي، ورغم ذلك كنتُ أحاول دومًا اختراقَ حُجبِ سمائها، ولطالما وصلتُ للكثير دونَ أن تعلم، لا أنسى كيف ابتسمت على مضضٍ وهي تتناولُ المحفظة من يدي قائلة:

- ريالان.

 

ردودها المُقتضبة كانت مَحلَّ اعتزازي دائمًا، ابتسمت وأعدتُ كلامي بوضوح:

- خُذي ما تشائينَ يا "ريم"، قلتُ: ما تشائين.

 

استدرتُ نحوَ كتابي، وأخذتُ أقرأ وفي رأسي يدور شيءٌ واحد خرجَ لا شعوريًّا منِّي، فهمستُ لنفسي:

- ما أحلاكِ!

 

في لحظةٍ ما استرجعتُ مشاهدَ سريعة لأعودَ بنظري لأختي الصُغرى "لمار" راقبتُها، فهالني المنظر، لقد كانت تبكي بصورةٍ مُحزنة، أتذكرُ مُعانداتها الدائمة، لا يمكنني نسيانُ قُربها الجميل مني حينَ أخشى الذهاب وحدي لأيّ مكان، لطالما كانت بمثابة الحارسِ الحنون، لا تهابُ شيئًا، أحبُّ فيها طفولتها الجميلة, ولطالما كانت بالنسبة لي رجلاً بألفِ رجل!

 

المشـهد [6]

حاولتُ أن أبتسمَ قليلاً، لكنني لم أستطع، كان يبدو بشكلٍ واضحٍ أنَّ دائرة مشاعري متوقفة تمامًا، ولسببٍ لَم أفهَمْهُ على الإطلاق؛ كان يبدو لي بشكلٍ ما أنني لا أدركُ ذاتي، خبتِ الأصواتُ مجددًا وما عدتُ أرى أحدًا من الناس، وقفتُ بسرعةٍ أجاهدُ عيني؛ لتُبصرَ ذلك الضوء الراحل، لكن دون جدوى!

 

مرَّتْ دقائقُ قليلة حتى عادت حواسِّي كلُّها على نحوٍ غامض، ثم سمعتُ إحداهنَّ تقول:

- ليتني أخبرتُها أنَّني أحبُّها كما هي! ليتني استمعتُ لما قالته لي!

 

كانَ واضحًا أنهُ صوتها، صوتُ صديقةٍ ارتحلَتْ عن عالمي بمحضِ إرادتها، لم أفهم لماذا كان عليها الاعترافُ في تلك اللحظة، هل الفراقُ الحقيقي يفعلُ كلَّ هذا؟!

 

توالَت الكلمات على مسامعي؛ تلكَ نادمة بسببِ تصرفها، وتلك ودَّتْ لو أنَّها اعتذرت مسبقًا، وأخرى حزينة لأنَّها لم تخبرني بشعورها تجاهي، ألتفتُ لمصادرِ الأصواتِ في صورةٍ مذهلة، أحاولُ أن أتخيَّل دوافعهم!

 

هل موتي سببُ كلِّ هذا الصفاء؟!

 

هل ينبغي أن أموت ليدركَ الآخرونَ أنني أستحقُّ بعضَ الأشياء؟! لماذا يبدو أن الموتَ هو السببُ الوحيد الذي يُقربنا من الآخرين؟!

 

في تلكَ اللحظة بقيتُ واجمةً أسألُ نفسي ألفَ سؤالٍ لا أجدُ له جوابًا، أخذَتْ مشاعرُ الاستياء تُسيطرُ عليّ، وأدركتُ وقتها كم كنتُ أنانية وظالمةً!

 

بدا العالَمُ كله في قبضتي ذات مرَّة، لكنني سمحتُ لهُ أن يغادر دونَ أن أفعل ما يجب، شعرتُ بتقصيري الشديد ناحيةَ كل شيءٍ يُظله الأفق الأزرق، أحسستُ كما لو أنني تخليتُ عن الكونِ بأسره، حاولتُ أن أصرخَ من فرطِ الألم الذي اجتاحني، لكنَّني لم أكن قادرة على فعل ذلك، لقد تعلَّمتُ الآن أنَّ المَيت لا يحقُّ له حتَّى أن يشعرَ بالندم، نظرت ناحية المشهد الأخير الذي لا بدَّ لي من متابعتهِ، فرأيتُ أمي مُنكسةَ الرأسِ تستغفرُ الله في خشوعٍ حزين، حاولتُ أن أتمنى، لكنَّ بكاء أخي الكبير هزَّ أركانَ المكانَ فجأة، ولمحتُ أبي يقفُ في انكسارٍ مُتعب وهو يخرجُ لتجهيزِ جنازتي، وددتُ وقتها أن يعودَ لي يومٌ واحدٌ وحسب؛ ليس لأكونَ شخصًا جيِّدًا، ولا لأكونَ فتاةً مميزة، لكنني تمنيتُ حينها أمنيةً لم أتوقع أنني سأتمناها أبدًا.

 

حينها فقط رجوتُ الله أن يعيدَ لي يومًا واحدًا فقط؛ لأسلمهُ وأستودعهُ كلَّ شيء حتَّى نفسي، وأنطلق كالطيرِ في عملٍ ما، كانَ يجبُ عليَّ عمَلُهُ منذ البداية، هذا كان سيُشعرني على الأقل بأنني كنتُ مسلمةً ذات يوم، لم أكن أعلمُ قبلَ هذا أن الحياة ما هي إلا قاعةٌ كبيرة يجري فيها اختبارٌ واحد، وجامعةٌ واحدة لا بدَّ أن تتخرجَ منها حتى تنتقلَ للمرحلةِ الأخرى حيثُ الحقيقة، فهل كانَ يا ترى تخرُّجي من جامعة "الموت" تخرجًا حازَ الشرف؟!

 

ذلك هو السؤال الذي سأجدُ جوابهُ حينَ أتخرَّج، ويبدو لي أخيرًا أنني استيقظتُ من حُلمٍ طويل بنكهةٍ دَسمةٍ أشعرَتْنِي بأنني كنتُ ميتةً بالفعل!

 

- إلى متى ستَظلِّينَ نائمةً يا آنسة؟!

 

كان ذلك صوتُ أمي الحبيبة، ابتسمتُ وأنا أقفزُ من سريري هاربةً؛ لئلا أعودَ لذلك المكان، وفي قلبي نبضٌ شعرتُ به لأول مرَّة، فتحتُ البابَ بسرعةٍ، ورحتُ أجري نحوَ المطبخ، خطفتُ يدَ أمي وقبَّلتُها، ثم ركضتُ رافعةً يدي للأعلى وصرَخْتُ أخيرًا بصوتٍ أخفاهُ بكائي، وهمستُ لنفسي فقط:

- سأنجحُ لأتخرجَ من جامعتي، سأفعل ذلك حتمًا.

 

مسحتُ دمعةً أبَتْ إلاَّ التسللَ خارجًا، ثم ابتسمتُ بسرور، وقلتُ لنفسي قبل أن أدخلَ غرفتي مجددًا:

- شكرًا يا ألله، لقد منحتني فرصةً أخرى لا تعوَّض!

 

رفعتُ بصري للسَّماء، وتابعتُ هامسة:

- راقبني وأنا أحسنُ كما أحسنتَ إليَّ.

 

تـمت بحمدِ الله





 حفظ بصيغة PDFنسخة ملائمة للطباعة أرسل إلى صديق تعليقات الزوارأضف تعليقكمتابعة التعليقات
شارك وانشر

مقالات ذات صلة

  • طقس الحياة في الموت ( قصيدة )

مختارات من الشبكة

  • كلمات موجعة(مقالة - حضارة الكلمة)
  • ذكر الموت وتمنيه(مقالة - موقع الشيخ عبدالله بن حمود الفريح)
  • وردة حمراء في ميدان الموت (قصة قصيرة)(مقالة - حضارة الكلمة)
  • عرائس الموت.. قصة قصيرة(مقالة - حضارة الكلمة)
  • الموت في ديوان "تسألني ليلى" للشاعر الدكتور عبدالرحمن العشماوي(مقالة - حضارة الكلمة)
  • الموت بوصلة(مقالة - ثقافة ومعرفة)
  • قلق الموت(مقالة - آفاق الشريعة)
  • خلع المريض مرض الموت(مقالة - آفاق الشريعة)
  • موتوا تعيشوا(مقالة - موقع د. حيدر الغدير)
  • حوار بين الموت والمؤمن(مقالة - موقع الشيخ عبدالرحمن بن حماد آل عمر)

 


تعليقات الزوار
1- جميل
ولاء أنور - الأردن 10-01-2012 10:59 PM

جميل...

1 

أضف تعليقك:
الاسم  
البريد الإلكتروني (لن يتم عرضه للزوار)
الدولة
عنوان التعليق
نص التعليق

رجاء، اكتب كلمة : تعليق في المربع التالي

مرحباً بالضيف
الألوكة تقترب منك أكثر!
سجل الآن في شبكة الألوكة للتمتع بخدمات مميزة.
*

*

نسيت كلمة المرور؟
 
تعرّف أكثر على مزايا العضوية وتذكر أن جميع خدماتنا المميزة مجانية! سجل الآن.
شارك معنا
في نشر مشاركتك
في نشر الألوكة
سجل بريدك
  • بنر
  • بنر
كُتَّاب الألوكة
  • الدورة الخامسة من برنامج "القيادة الشبابية" لتأهيل مستقبل الغد في البوسنة
  • "نور العلم" تجمع شباب تتارستان في مسابقة للمعرفة الإسلامية
  • أكثر من 60 مسجدا يشاركون في حملة خيرية وإنسانية في مقاطعة يوركشاير
  • مؤتمرا طبيا إسلاميا بارزا يرسخ رسالة الإيمان والعطاء في أستراليا
  • تكريم أوائل المسابقة الثانية عشرة للتربية الإسلامية في البوسنة والهرسك
  • ماليزيا تطلق المسابقة الوطنية للقرآن بمشاركة 109 متسابقين في كانجار
  • تكريم 500 مسلم أكملوا دراسة علوم القرآن عن بعد في قازان
  • مدينة موستار تحتفي بإعادة افتتاح رمز إسلامي عريق بمنطقة برانكوفاتش

  • بنر
  • بنر

تابعونا على
 
حقوق النشر محفوظة © 1446هـ / 2025م لموقع الألوكة
آخر تحديث للشبكة بتاريخ : 11/11/1446هـ - الساعة: 0:55
أضف محرك بحث الألوكة إلى متصفح الويب