• الصفحة الرئيسيةخريطة الموقعRSS
  • الصفحة الرئيسية
  • سجل الزوار
  • وثيقة الموقع
  • اتصل بنا
English Alukah شبكة الألوكة شبكة إسلامية وفكرية وثقافية شاملة تحت إشراف الدكتور سعد بن عبد الله الحميد
 
الدكتور سعد بن عبد الله الحميد  إشراف  الدكتور خالد بن عبد الرحمن الجريسي
  • الصفحة الرئيسية
  • موقع آفاق الشريعة
  • موقع ثقافة ومعرفة
  • موقع مجتمع وإصلاح
  • موقع حضارة الكلمة
  • موقع الاستشارات
  • موقع المسلمون في العالم
  • موقع المواقع الشخصية
  • موقع مكتبة الألوكة
  • موقع المكتبة الناطقة
  • موقع الإصدارات والمسابقات
  • موقع المترجمات
 كل الأقسام | أسرة   تربية   روافد   من ثمرات المواقع  
اضغط على زر آخر الإضافات لغلق أو فتح النافذة اضغط على زر آخر الإضافات لغلق أو فتح النافذة
  •  
    حقوق الأولاد (1)
    د. أمير بن محمد المدري
  •  
    المحطة الحادية عشرة: المبادرة
    أسامة سيد محمد زكي
  •  
    تحليل محتوى المواقع الإلكترونية لحوادث انتشار ...
    عباس سبتي
  •  
    طلب طلاق وشكوى عجيبة
    الداعية عبدالعزيز بن صالح الكنهل
  •  
    المحطة العاشرة: مقومات الإيجابية
    أسامة سيد محمد زكي
  •  
    أنماط التعليم الإلكتروني من حيث التدرج في ...
    أبو مالك هيثم بن عبدالمنعم الغريب
  •  
    وصية امرأة لابنتها في زفافها
    الشيخ محمد جميل زينو
  •  
    المحطة التاسعة: العادات
    أسامة سيد محمد زكي
  •  
    الشباب بين الطموح والواقع: كيف يواجه الجيل الجديد ...
    محمود مصطفى الحاج
  •  
    هبة فيها النجاة!
    أ. رضا الجنيدي
  •  
    بركة الزوج الصالح على الزوجة في رفع درجتها في ...
    فهد عبدالله محمد السعيدي
  •  
    تربية الأطفال في ضوء توجيهات سورة الحجرات
    محمد عباس محمد عرابي
  •  
    السلاسل الحقيقية لا ترى!
    أمين محمد عبدالرحمن
  •  
    تطوير العلاقات الإنسانية في الإسلام
    يوسف بن طه السعيد
  •  
    المحطة الثامنة: القرارات
    أسامة سيد محمد زكي
  •  
    التربية بالقدوة: النبي صلى الله عليه السلام
    محمد أبو عطية
شبكة الألوكة / حضارة الكلمة / أدبنا / دراسات ومقالات نقدية وحوارات أدبية
علامة باركود

ابن المقفع والثالوث القديم

د. أسعد بن أحمد السعود

مقالات متعلقة

تاريخ الإضافة: 9/9/2015 ميلادي - 25/11/1436 هجري

الزيارات: 11974

 حفظ بصيغة PDFنسخة ملائمة للطباعة أرسل إلى صديق تعليقات الزوارأضف تعليقكمتابعة التعليقات
النص الكامل  تكبير الخط الحجم الأصلي تصغير الخط
شارك وانشر

ابن المقفع والثالوث القديم


توطئة:

جاءت الآيات الكريمات في مطلع سورة الروم قول الله تبارك وتعالى: ﴿ الم * غُلِبَتِ الرُّومُ * فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ * فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ * بِنَصْرِ اللَّهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ ﴾ [الروم: 1- 5].

 

سورةُ الرومِ المباركةُ هذه نزَلَت على النبيِّ العربي في مكَّة قبل الهجرة، وزمَنَ نزولها كان مغمورًا بأحداثٍ عظيمة، آنَذاك تواترَت أنباؤها سِراعًا وتِباعًا، مُترافقة بشدٍّ عنيفٍ للأعصاب تارة، وبارتخائها وهدوئها تارة أخرى، تتخلَّلها فرحةٌ من هنا، وشماتة من هناك؛ على شاكلة الحدث ذاتِه وبقوَّته، سيَّما وأن طرَف النَّبأ الأهمِّ الذي افتَتَحَت به السورةُ المباركة خبَرَها: ﴿ غُلِبَتِ الرُّومُ ﴾ كانت هي أمَّة الروم المعروفة آنذاك من قِبَل كل العرب في الجزيرة عامة، وقريشٍ خاصة.

 

لَم تذكر السُّورة حينَها مَن هو الطرف الآخر (صاحب الغَلبة)، وحين تستمرُّ السورة في تلاوة نبَأِها تُخبر بالسياق ذاته أن الغلبة سوف تكون للروم في جولة قادمة؛ ﴿ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ ﴾، كذلك لم تخبر السورة هنا من هو الطرف الآخر الذي سيُغلَب.

 

ومن خلال معرفتنا بحياة أولئك الذين عاشوا أيام تلك الأحداث، وهم الذين نزلَت هذه الآيات عليهم وبين ظهرانَيهم (النبيُّ العربي والذين آمَنوا به وصدَّقوه) نجد أنَّهم أخبَرونا أن الطرف الآخر الغائبَ عن الذِّكر كانت الفُرْس، التي كانت تقتسم العربَ أغلبَ شؤونهم، وهي معروفة لديهم أشدَّ المعرفة.

 

مما سبق ندوِّن المعلومات التالية:

1- كان هناك طرَفَا احترابٍ أو صراع؛ هما الروم والفرس.

 

2- كان هناك طرَفَا غلَبةٍ مُتبادَلة، مصدرها قوَّة إحداهما في كلِّ جولةِ احتراب.

 

3- هناك طرَف متنازَعٌ عليه أو به، ذكَرَته الآياتُ للإشارة إليه، ولتوثيق وُجوده مِن قِبَل المؤمنين، ولم يَعلم به أيٌّ من طرَفي الاحتراب آنَذاك؛ الروم، أو الفرس، وهو ما أعلمَتْنا به العبارة من الآية: ﴿ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ ﴾.

 

4- في غياب العلم بأنَّ الأمر مِن قبلُ ومن بعدُ لله، فإذًا على ماذا كان يعتمد طرَفَا الاحتراب في تدبير شؤون الاحتراب والإعداد له، وغيره من الشُّؤون الحياتية الأخرى، خلال أيام الحرب وأيام السلم؟ فالاستعداد يعمُّ الدولة بكل مؤلفاتها ومكونات تشكيلاتها العمودية والأفقية الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والأخلاقية، سيَّما وأنهما كانتا تشكِّلان في ذلك الزمان إمبراطوريَّتَين توسُّعيتَين قاهرتَين لشعوب أخرى، مختلفةٍ معهما في العِرْق والاعتقاد والاجتماع.

 

إنَّ مصادر الميثلوجيا لكلا الأمَّتين تقول: إنهما كانا يعتمدان على (العقل) في ذلك اعتمادا اعتقاديًّا مقدَّسًا، وإن كان هذا الاعتقاد يأتي في غالب العصور السَّابقة واللاحقة بأسماءٍ متعددةٍ لا تختلف في مدلولاتِها الجوهرية أبدًا.

 

5- إن أبسط الاصطلاحات التي نستخدمها في تفسير معنى ﴿ غُلِبَتْ ﴾ و﴿ سَيَغْلِبُونَ ﴾ هو المصطلَح الملائم والمتوافق للاحتراب والصِّراع في استخدام القوَّة أولاً، و(الخدعة) أو (الحيلة) أو (الدهاء) أو (التدبير) ثانيًا، وهذه جلُّها من منظومة نشاطات العقل بكل مستوياتها.

 

6- كلمة ﴿ مِنْ قَبْلُ ﴾ و﴿ مِنْ بَعْدُ ﴾ التي ذكرَتها الآيةُ تدلُّ على الزمن الغيبي؛ أي: في مفهوم الاعتقاد تتحوَّل مع تَنامي درجة التفكير بها، واقترانها مع نشاطات العقل إلى (دينٍ)؛ أي: نهج واعتقاد.

 

7- كل عقل في (نشاطه) يغور في الزمن الأول ﴿ مِنْ قَبْلُ ﴾؛ (الذَّاكرة، ومِن ثَم يصبح تاريخًا)، ويغور أيضًا في الزمن الثاني ﴿ مِنْ بَعْدُ ﴾، وهو يشمل عِلم الغيب، فمَن يستلب الضرورات في الاحتراب مثلاً (الخدعة- الحيلة- الدهاء- التدبير) بالإضافة إلى القوة، ومن دون أن يعرف ماهية الميل إن كان حقًّا له أم لا، دائمًا أم راهنًا؛ فإن كفَّة الغلَبة تميل إليه.

 

8- بإيجاز: سورة الروم المباركةُ ذكرَت كلمة الروم بالاسم خاصَّة للنبيِّ العربي والذين آمنوا به حينها؛ وذلك للسبب المباشر: أنها كانت أمَّة ذاتَ دين إلهي، ولها زمن ﴿ مِنْ قَبْلُ ﴾ (دين النبيِّ عيسى عليه السلام) وقد غيَّبت وبدَّلت نشاطات اعتقادها عنه في كل مستويات حياتها اليوميَّة، واستبدلت به نَشاط العقل؛ بالاعتماد على القوة الماديَّة فقط، فأولت الزَّمن ﴿ مِنْ بَعْدُ ﴾ إليها، وكان أمر الله هذا هو لله بعِلمه الغيبيِّ من دون أن تُدرك الروم ذلك، وأن الأمر معنيٌّ مباشرة باقترانه (فعلاً وعملاً) بالحياة اليومية بكل شؤونها ومَرافقها.

 

وأما الأمة الأخرى (الفُرس) فلم تكن ذات دين إلهي، ولم يكن لها نبي مرسَل مِن قبل، ولكن الأمر لله من قبل حين تدبَّرَت الفرس أسباب الغلبة؛ باعتمادها على (النيروز)؛ النار التي يعبدونها، وكانت لهم دينًا واعتقادًا يستمدُّون منها التفكير بالزمن الماضي، فأوهمت بالنَّصر الراهن وكان ظلمًا وليس حقًّا، وهذا أمر الله ﴿ مِنْ بَعْدُ ﴾؛ ليكون استلهامًا لنشاطات عقل الأمة، الذاكرة والتاريخ ذات الدين الإلهي (الروم) القائم على الحق الدائم، وليس الراهن، وإعداد القوَّة للجولة القادمة، ﴿ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ * بِنَصْرِ اللَّهِ ﴾ [الروم: 4، 5].

 

9- مما سبق نجد المؤشرات التالية:

أوَّلاً- أمَّة الفُرس: اتخذت عناصرَ غلبتها على الروم عناوينَ دائمة، وأصبحَت لها نهجًا، وظنَّت أنها قد امتلكت أسباب نصر دائم هو حق لها في التوسُّع والظلم في كل اتجاه، وبالتالي أبقَتْها، وأعدتها أركان قيامها واستمرار وجودها، وهي:

• العقل (النيروز)- القوة- العِرْق (الفرس).

وقد أطلَقت على هذه الأركان في الميثولوجيا الفارسية (الثالوث) الفارسي.

 

ثانيًا- أمة الروم: اتخذَت عناصر غلَبِها على الفرس عناوينَ دائمة، وأصبحَت لها نهجًا، وظنَّت أنها أسباب نصر دائم، وظنَّته حقًّا لها في التوسع والظلم في كل اتجاه، وبالتالي أبقتها، وأعدتها أركان قيامها واستمرار وجودها، وهي:

• العقل (الوثني بعد إنكارِها نبوَّةَ محمد)، واتخاذها دين الثالوث (الأب والابن والروح)- القوة- والعِرق (الرومي).

 

ثالثًا: لقد عُمِّم نهج الثالوث هذا فيما بعد، واتخذَته الأمم دستورًا لها؛ كإطار للتفوُّق والاستعلاء والاستمرار.

ونُلخِّصه في شكل مثلَّث أو هرم، رأسه العقل أو المعتقد المقدَّس، وقاعدته رُكنا القوَّة والعِرق.

 

رابعًا: في عصرنا الراهن يتلخص الثالوث في الأركان الثلاثة التالية:

العَلمانيَّة رأس المثلث- والقوة- والعولَمة بدل العِرق.

 

خامسًا: بعد كل هذه الدلائل: ما علاقة ابن المقفَّع وكتابِه (كليلة ودمنة) بالثالوث القديم؟

يقول ابن المقفع على لسان (بيدبا) الفيلسوف الذي ادَّعى أنه صاحب كتاب كليلة ودمنة الأصلي، مخاطِبًا وواعظًا عظيمَ زمانه (دبشليم) ملك أمة الهند:

"إني وجدتُ الأمور التي يختص بها الإنسانُ من بين سائر الحيوان أربعة: الحكمة- والعفة- والعقل- والعدل؛ فالعلم والأدب والرَّوِية في باب الحكمة، والحلم والصبر والوقار في باب العقل، والحياء والكرم والصيانة والأنَفة في باب العفَّة، والصدق والإحسان والمراقبة وحسن الخلق في باب العدل".

 

ويتابع: "متى كملت هذه في واحد، لم يُخرِجه النقصُ في نعمته إلى سوء، ولا إلى نَقصٍ في عُقباه، ولم يتأسَّف على ما لم يُعنَ التوفيق ببقائه، ولم يحزنه ما تَجري به المقادير في ملكه، ولم يدهش عند مكروه؛ فالحكمة كنزٌ لا يفنى على الإنفاق، وذخيرة لا يُضرب بها بالإملاق، وحلَّة لا تخلَق جِدَّتها، ولذة لا تصرم مدتها".

 

وقال ابن المقفَّع أيضًا في موضع تقديمه وتعريفه لكتابه هذا: (كتاب الجِدِّ والهزل واللهو والحكمة والفلسفة)، وله فيه أغراض:

الأول: ما قصد فيه إلى وضعه (على ألسنة البهائم غير الناطقة!).

الثاني: إظهار خيالات الحيوانات بصنوف الأصباغ والألوان.

الثالث: على هذه الصفة (كتاب للتداول في البيع والشراء ليس إلاَّ).

الرابع: هو الأقصى، مخصوص بالفيلسوف خاصة.

 

وقال ابن المقفع في موضع على لسان (بهنود بن سحوان) ويعرف بـ(علي بن الشاه الفارسي)

كاتب مقدمة الكتاب للفارسيَّة بعدما أنفذ كسرى أنو شروان بن قباذ بن فيروز ملكُ الفُرس

(برزويه) رأسَ أطباء فارس إلى بلاد الهند؛ لأجل استحضار كتاب كليلة ودمنة بطريقة الحيلة والسرقة إلى بلاده؛ قال الآتي:

ذكر السبب الذي من أجله عمل بيدبا الفيلسوف الهندي رأس البراهمة لدبشليم ملك الهند كتابه الذي سماه كليلة ودمنة، وجعله على ألسنة البهائم والطير؛ (صيانة لغرَضه) فيه من العوام، وضنًّا بما ضمَّنه عن (الطَّغام)، ويُعنِّي الأرذال الأدنياء، وتنزيهًا للحكمة وفنونها ومحاسنها وعيونها؛ إذ هي (أي: الحكمة) للفيلسوف مندوحة، ولخاطره مفتوحة، ولمحبِّيها تثقيف، ولطالبيها تشريف، وأضاف: وخص كسرى برزويه ما يلزم مطالعه من إتقان قراءته، والقيام بدراسته، والنظر إلى باطن كلامه، وأنه إن لم يكن كذلك، لم يحصل على الغاية منه.

 

كيف لنا (نحن العوامَّ) فهمُ ما اختص به (الفيلسوف) من الحكمة، بعد أن شَبِعنا من اللهو واكتفينا من الهزل، من جرَّاء تكرار القراءة- من قبل أجيال- لأحداثِ شُخوص الكتاب، على مدى عشَرات ومئات السنين، ولا يَغيب عن الذِّكر أنه كذلك أدرج لسنوات عديدة في المناهج التعليميَّة الإلزامية الأساسية لكثيرٍ من الدول العربية والإسلامية، وكان يعتبر مصدرًا ملهمًا في دروس اللغة العربية، في قسم الإنشاء والتعبير، والذي يحزُّ في النفس أنه كان مُحاطًا بهالةٍ منفردة ذات مرجعيَّة سُلطوية، لا تَسمح بالتعرُّض له أبدًا، سواء كان نقدًا أدبيًّا ظاهرًا أم باطنًا، وتَرفض أي تهمةٍ تلقى عليه، وتدَّعي أنه كتاب جادٌّ كلَّ الجِد، ليس فيه هزلٌ ولا تعريضٌ بأيٍّ من القيم الخالدة لديننا الإسلاميِّ الحنيف.

 

فكيف يكون؟! ومن أيِّ مدخل ندخل عليه من دون أن نُتَّهم بتلك التهم الجاهزة سلفًا والتي ذكَرها مؤلف الكتاب؛ سواء كان الفارسي (ابن المقفع) الذي كتَبه بالعربية، أو الهندي (بيدبا) الذي كتبه بلغته الميتة المندثِرة التي لا نَعرفها، وإن كانت الفارسية هي التي ادَّعى ابن المقفع أنه ترجمها إلى العربية؟!

 

إنَّ أول الغيث يكون بذِكْر الله عز وجل ومَنِّه وبه نتوكَّل عليه، والحمد لله رب العالمين:

كلمة (عقل): هي أول مدخل ندخل بواسطتها على ابن المقفَّع في كتابه.

سوف نجد أن كلمة (عقل) هي التي قصد بها في مقدمته أنَّها تشكل (مندوحةً) للفيلسوف الذي اشتهر عادة وعُرف- بنِتاج فلسفته- بأنه استَعمل عقله، فخرجَت منه حكمته، وهي الباطن المعنيُّ مِن فهم الكتاب وأبعادِه ومراميه البعيدة، وهي الحاجز الذي عبَّر عنه بعبارة (صيانة لغرضه) مِن العوامِّ والطَّغام؛ ذلك لأدنى وصفٍ يعم هؤلاء، أو يعرفون بأن لا عقل لهم، أو لا يَستخدمون عقولهم في تدبير شؤون حياتهم اليومية في أقلِّ تقدير؛ فلذلك اقتضى منه التنبيه والتحذير منهم مقدمًا.

 

بدايةً نتناول أسماء لأشخاصٍ تَقابل أيٌّ منهم مع الآخر في حدثٍ ما، في زمن واحد، وفي مكان واحد، كان العقل بينهما شاهدًا ومؤرِّخًا ومصوِّرًا، جمع التضادَّ والتناقض، فنتج عنه جزءٌ مهمٌّ من كتاب كليلة ودمنة:

أولاً: الإسكندر المقدوني وملوك الهند، ومن وراء كل منهما شعوبهما.

ثانيًا: بيدبا الفيلسوف رأس البراهمة الهنود، وتلامذته من البراهميين.

ثالثًا: بيدبا الفيلسوف وملك أمة الهنود.

رابعًا: كسرى أنو شروان ملك الفرس، ورأس أطبائهم برزويه.

خامسًا: الخليفة العباسي أبو جعفر المنصور وابن المقفع.

سادسًا: ابن المقفع والعرب قاطبة.

سابعًا: العرب قاطبة والدين الاسلامي.

 

هذه الأولويات السبع وما يُضادُّها كما قلنا من السُّهولة فَهمُ كلِّ رابط يربطهم بالبُعدَين الزَّماني والمكاني، إذا حلَلْنا لغز مفهوم (العقل) الذي استهدفَه ابن المقفع بلسان فيلسوفه بيدبا الهندي، والذي وقع في فخِّه فيما بعدُ ابن المقفع نفسُه!

 

مفهوم العقل في الفلسفة الوجودية:

لنرَ ما كتب ابن المقفع في الباب الثاني على لسان (بُزُرْجُمِهرَ) عن العقل:

"أمَّا بعدُ، فإنَّ الله تبارك وتعالى خلَق خلقه أطوارًا برحمته، ومنَّ على عباده بفضله ورزَقَهم ما يَقدرون به على إصلاح مَعايشهم في الدنيا، وما يُدركون به استنقاذَ أرواحهم من أليمِ العذاب؛ فأفضل ما رزقهم ومنَّ عليهم به العقل الذي هو قوَّةٌ لجميع الأحياء، فما يَقدر أحدٌ منهم على إصلاح معيشة، ولا إحراز منفعة ولا دفع ضر إلاَّ به، وكذلك طالب الآخرة المجتهد على استنقاذَ روحه من الهلَكة.

 

فالعقل هو سببُ كلِّ خير، ومِفتاحُ كلِّ رغبة، وليس لأحد غنًى عنه، وهو مكتسَبٌ بالتَّجارِب والآداب، وغريزةٌ مكنونة في الإنسان، كامنة ككُمون النَّار في الحجر والعود، لا تُرى حتى يَقدَحها قادحٌ مِن غيرها، فإذا قدَحَها ظهرت بضوئها وحريقها! كذلك العقلُ كامنٌ في الانسان، لا يَظهر حتى يُظهِرَه الأدبُ، وتقوِّيَه التجارِب، فإذا استحكم كان هو السابقَ إلى الخير والممتنِع عن الضر، فلا شيءَ أفضل من العقل والأدب، فمَن منَّ عليه خالقُه بالعقل وأعان هو على نفسه بالمثابرة على الأدب، والحرص عليه سعد جدُّه، وأدرك أملَه في الدنيا والآخرة"...

 

ويتابع:

"وقد رزَق الله ملِكَنا هذا السعيدَ الجَدِّ (الحظِّ والطَّالع) أنوشروان من العقل أفضلَ الرِّزق، ومن النصيب أجزله، وأعانه على ما رُزق من ذلك بحُسن الأدب والبحث عن العلم، وطلب التفسير لجميع علوم الفلسفة، والاستنباط عما غاب، والتخيُّر للصواب مما ظهر، فبلغ في ذلك ما لم يبلغه ملِكٌ قطُّ ممن كان قبله من الملوك".

 

استدراك:

من الجدير بالذِّكر والمهم جدًّا، في مقارنة الأحداث التاريخيَّة ووقائعها أن كسرى أنوشروان هذا بعدَما حصل على الكتاب (كليلة ودمنة)، واستعمل عقله وأدبه على أوسع قدراته، سار به (عقلُه) هذا لِمُقارعة هرقل قيصر الروم؛ باستلهام أنه أصبح يمتلك كتابًا مثلَ كتاب أهل الروم (الكتاب المقدَّس)، وأنَّ فيه من الآداب والحكمة والعفَّةِ مثلَ ما في كتاب أهل الروم واليمَن، وأن له آلهة (النَّيروز) مثلَ ما لهم كذلك، وأعدَّ جنده بأفضل قوة، وسار له إلى أرض الشام (أدنى الأرض) غور الأردن، و(تغلَّب عليهم).

 

ثم إن كسرى هذا لما جاءته أنباء من جزيرة العرب أنه قد ظهَر فيهم مَن لديه (كتاب) فيه من الحكمة والأدب والأخلاق والعلوم ما يَفوق كتابَه ويتغلَّب عليه، وأنه منزل من السماء، ويقول عن نفسه: إنه نبي مرسَل من الإله الأوحد، استثار واستشاط وهدَّد وقال ما قال في ذلك العربي، ثم بعَث إلى عامله في اليمن (بادان)، وأمره بأن يَستقصيَ الخبر، وأن يأتيَه بذلك النبي، ويُحضره إليه في المدائن، والقصة إلى آخرها معروفة في السيرة النبويَّة الصادقة العَطِرة؛ على صاحبها أزكى الصلاة وأتمُّ التسليم.

 

وقبل أن نعود ونستطرِد في الحديث عن العقل في الفلسفة الوجودية، لا بد من ذِكْر بعض ما دلَّس به ابنُ المقفع في ترجمته لمقدمة بزرجمهر تلك لِمَلِكه كِسرى، وإن كان هذا الكلام من تأليف ابن المقفَّع كما أثبتَ كثيرٌ من النقَّاد والمفكرين والمعجَبين والمؤيِّدين له، فالمآل واحدٌ باتِّجاه الكذب والافتراء البائن، وهذا- بحمد الله ومَنِّه- يُساعدنا في تيسير مهمة حديثنا؛ لنقول:

إن أول التَّدليس كان قولَه: "أما بعد، فإن الله تبارك وتعالى" فهذا قولٌ يقوله عامَّة المسلمين من أمَّة محمد، ومنهم المؤمنون خاصَّة من الدُّعاة والوُلاة والقرَّاء.. إلى آخره، ولا يتلفَّظ بهذه العبارة القوية الصادقة إلاَّ رجلٌ مؤمن بكتاب النبيِّ محمد صلى الله عليه وسلم (القرآن الكريم)، فكيف – فجأةً- نقرؤها وقد جاءت على لسان فيلسوفِ كسرى بزرجمهر، وهو يُلقيها وجهًا لوجه وهم جميعًا في ذاك الزمان والمكان لا يعرفون مَن هو الله؟ ومن هو تبارك؟ ومن هو تعالى؟!

 

وثاني التدليس: جاء بذِكر عبارة "خلَق خلقه أطوارًا برحمته"؛ إن بزرجمهر بمقولته هذه وأمام كِسرى أنوشروان يدلُّ على كونِهما كانا سابِقَين للنبيِّ محمد بالإيمان بالله إله الإنسان، وإله كلِّ من يدبُّ على وجه الأرض، وكلمة "أطوارًا" اقتبَسها من سورة نوح التي نزلَت بعد زمَن هذه الحادثة بسِنين! فكيف لابن المقفَّع أن يحمل هذه، ويدخلها في هذه؟! إنها الحنكة والدهاء.

 

وثالث التدليس: كان في قوله: "وأدرك أمَله في الدنيا والآخرة"! وتركها عبارة مطلَقة؛ ليمرِّرها بسهولة على قارئها من العوامِّ كما قال، وتكون خاصة للفيلسوف مندوحة يفسِّرها على هواه ومِن باطن تفكير عقلِه الغامض! ونعلَم أن (الأمل)- بكلِّ اشتقاقات مَعانيه- فيه لبسٌ في القصد، ولا يجتمع في الدنيا والآخرة إلاَّ لمؤمنٍ إيمانُه لا لبسَ فيه، بالله وملائكته وكتبه ورسلِه، والقضاء والقدَرِ، بمفهومه الكامل؛ كما جاء في دينِ محمَّد، وهذا كله في الدنيا، ثم يأتي الإيمان بالآخرة بما وُعِدنا فيها؛ مِن بعثٍ ونشور للموتى، وحسابٍ وجنةٍ ونار.

 

فأين بزرجمهر وأين كسرى معًا من هذا؟! وأين مَآلهم جميعًا بعد ظُهور دين محمد صلى الله عليه وسلم؟! وأين ابنُ المقفَّع بعد كتابة كليلة ودمنة؟!

 

تحديد طبيعة أو ماهية العقل:

في كلِّ ما بُحث واستجدَّ في مسألة العقل في الفلسفة الوجودية وعلى مرِّ الأزمنة والدهور- قيل فيها: إنها جزءٌ لا يتجزَّأ من علم الفلسفة، واعتُبِرت فرعًا من فروعها الرئيسة، وهي تَنحو مَنحَيَين اثنين:

الأول:

1- علاقة العقل بالأشياء الماديَّة من حوله؛ مثل الجسم والمحيط بهما.

2- مكونات العقل وأنشطته.

 

الثاني:

يَبحث في المفاهيم العقلية؛ مثل: المعرفة والإدراك، والتفكير والاعتقاد، والقرارات والإرادة، والرغبات والانفعالات، والأحاسيس والدوافع والأحلام... إلخ.

 

وكثيرٌ هم الفلاسفة الذين تكلَّموا ووضَعوا نظرياتهم الفلسفيةَ بتفسير العقل، ولو ذكرنا بعض هؤلاء أو أشهَرهم؛ فإننا ننتهي إلى ضرورة ذِكر النظريات أيضًا؛ لأن النظرية إمَّا أن تُذكَر باسم قائلِها أو العكس؛ يُذكَر اسم الفيلسوف وأنه قائلُ النظرية.

 

ولكن الذي يُهمُّنا هنا هو الاعتقاد أو تطبيق النَّظرية والأخذُ بها، ولا يَعني الاعتقادُ أو التطبيقُ أنَّ شخصًا ما آمَن بفكرةٍ وأخذ يكرِّر مفرداتها هنا وهناك، على غير هُدًى، ولكن الاعتقاد كما تَداولَته الأمم على امتداد التاريخ البشري هو الأخذ الصارم بالأفكار ونجاعة مَراميها، سيَّما وأن من يقوم بتطبيقها هم أهل الحُكْم وساسَتُه؛ ذلك لأنها تسهِّل لهم قيادةَ وتنظيمَ رعيَّتِهم، وتوجيهَهم بدقة بالغة.

 

ولا يَغيب عن البال والذِّكر هنا أن مسألة تفسير العقل والجسد مسألةٌ وجودية مصيرية، تدخل في جدل حادٍّ مع الاعتقاد بالأديان والعبادات والإله، والمادة والروح؛ ولهذا كان حديثُنا أساسًا عن ذلك.

 

وأهم آراء هذه النظريات هي الآتي:

• الثنائية والأحادية:

الأحادية: تؤمن بأنَّ العقل والجسد كيانٌ واحد، غير منفصل؛ أي: إنهما كيان وجوديٌّ واحد.

الثنائية: تؤمن بأن العقل جوهر مستقلٌّ عن الجسد.

 

وما بين الثنائية والأحادية كَثُرَت ألوانُ وأشكال التطبيقات المنهجية، ولكنَّ واحدةً منها فقط- أيًّا ما كان اسمُها- يستطيع أيُّ إنسان سواء كان عاميًّا أو متعلمًا من العوامِّ أو من الخاصة أن يستدلَّ على وجودها إن كانت مطبَّقة مشاهَدةً في منهجيَّات حياته، أم غائبة وغير مطبَّقة؛ وذلك إذا استطاع الانفرادَ مع فطرته الإنسانية بهدوءٍ تام، ومن دون رقيب سُلطَوي، تلك حالةٌ يَسهُل الوصول إليها، وغير غامضة أبدًا.

 

وهذه المحاولة تسمَّى رغبة، والرغبة نابعةٌ من التفكير، والتفكير إحدى سِمات العقل، والعقل في الجسد، والجسد كائن ماديٌّ لإنسانٍ يعود له (يمتلك) كل ما في الجسد وكل ما في العقل، وهذا الإنسانُ مجموع، والمجموع يتَداولون الحياة، والحياة كيف؟ ومِن أين؟ وإلى أين؟

 

وهنا يتوقَّفنا عُمرٌ ينتهي، وعمرٌ يبدأ، والتفكير والعقل لا يزالان كما هما، ولكنَّ الحاملَ الحاويَ لهما مرَّة يذهب، وأخرى يأتي، ومن حولهما وكلُّ ما في الحياة لا استقرار له ولا بقاء.

 

• فهل العقل كُتلة ماديَّة؛ باعتباره جزءًا من الجسد، أو هو منفصلٌ مستقلٌّ عنه؟

 

• أم أن العقل شيءٌ معنوي غبر مادي، وبالتالي لا رابط له بالمادة؟

 

• ثم مَن يَخلق مَن؟ مَن الذي يُوجِد الآخَر؟ هل العقل يخلق الجسدَ (المادة)، أو الجسد (المادة) هو الذي يَخلق العقل؟

 

• القائل بأن الجسدَ المادَّةَ هو الذي يَخلق العقل، والعقل كما ذُكر في البداية (الحكمة والعفة والعدل)، وكل منها تشكل مندوحة لا حصر لها من الصفات والرغبات، يعني بكل بساطة أن الكون أو الأرض وما فيها، أو ما يحيط بالجسم من أشياء واحتياجات حسِّية مادية، هي التي تُنشئ أو تَخلق الحكمة والعفة والعدل في مَراحل التطور والتقدم؛ وبالتالي العقل! وهذه باختصار النظرية الفلسفية الماديَّة في نُشوء هذا الكون!

 

• والقائل بأن العقل بالحكمة والعفة والعدل- بما يضم كل منهم من صفات ورغبات- هو الذي خلَق وأوجد المادَّة وتطوُّرَها وتقدمها (الكون والجسد والأرض، وما يحتاجه الإنسان من وسائل)، فالنظرية هنا تُسمَّى أو يطلق عليها: النظريَّة الروحية في نُشوء الكون!

 

ونلاحظ أن هذه النَّظرية في عصرنا وأيامنا يطلق عليها: النظرية العَلمانية اللِّيبرالية؟

• إن النظرية العَلمانية، أو العلمانيَّة بشكلها العامِّ هي المكوِّن الأكبر والأساسي للفكر الفلسفيِّ للِّيبرالية، والتي بدَورها احتوَت وبلورَت جميعَ النظريات الفلسفية الوجودية في تفسير العقل والوجود، على مرِّ التاريخ، ومنها: (الهندية والفارسية والبوذية والرومانية القديمة)، وأيَّدَها في العصر الحديث مع بداية الثورة (التنوير) الصِّناعية أكثرُ آراء ومقولات فلاسفة العصر التنويري الحديث في أوربَّا والعالم، وكان مهندسُ قواعدها عالِمَ الرِّياضيات الفيلسوف (ديكارت) بمقولته المختصرة: (أنا أفكر، إذًا أنا موجود).

 

• إن جوهر العلمانية في حكمِ وقيادة الدُّول والشعوب بنظامها الليبرالي هو إقصاءُ شريعة الدِّين نهائيًّا عن السُّلطة وحكمِ الناس، وجعلُه ممارسةً معزولة في حُدود حرِّية الفرد، غيرَ ذاتِ تأثير على حرية وحياة الآخرين، ومن هنا ومن هذا المفهوم أُلبِسَت الليبرالية في فكرها العلمانيِّ ثوبَ الديمقراطية بحرية الرأي والاعتقاد.

 

ونتساءل عن ابن المقفَّع وكتابه: كيف كانت علاقته بما ذكرناه؟

من أجل ذلك يَجدر بنا أن نعود إلى الكتاب، ونبدأ بتتبُّع قول ابن المقفَّع:

• فكَّر بيدبا الفيلسوف لما رأى الملك دبشليم ما هو عليه من السطوة والتجبُّر والتكبر وظلم الرَّعية؛ حيث استصغَر أمرَهم وأساء السِّيرة فيهم- فكر في (وجه الحيلة) في صَرفِه عما هو عليه، وردِّه إلى العدل والإنصاف.

 

• ثم إن بيدبا دخل على الملك دبشليم، ووقَف بين يديه، (وكفَّر وسجد له)، واستوى قائمًا.

 

• فقال بيدبا: (إني أسأل الله تعالى بقاءَ الملك على الأبد)، ودوامَ مُلكه على الأمد.

 

• ويقول بيدبا للملك دبشليم:

" كان الأولى بك أن تسلك سبيلَ أسلافك، وتتَّبِع آثار الملوك قبلك، وتقفوَ مَحاسن ما أبقَوْه لك، وتُقلِع عما عارُه لازمٌ لك، وشَينُه واقعٌ بك، وتُحسِن النظر برعيتك، وتَسُنُّ لهم سُنن الخير، الذي يَبقى بعدَك ذكرُه، ويُعقِبك الجميلَ فخرُه، ويكون ذلك أبقى على السلامة، وأدومَ على الاستقامة".

 

ويتبع ابن المقفع (بيدبا) نصيحته للملك (دبشليم) في نفس المقام:

"فإن الجاهل المغترَّ مَن استَعمل في أموره (البطَر والأمنية)، والحازم اللَّبيب مَن ساس الْمُلك بالمُداراة والرِّفق".

 

وقبل أن ننتقل إلى توضيح السؤال السابق بالعلاقة، نتوقَّف عند (سلوك الملِك) التي هي (الدَّاء) ونصيحة الفيلسوف التي هي (الدَّواء).

 

أولاً: سلوك الملك (الداء): وبيَّنها ابنُ المقفع بالتالي: السطوة، التجبُّر، ظلم الرعيَّة، وهذه الأمور تؤدِّي إلى غياب العدل والإنصاف.

 

ثانيًا: النَّصيحة التي هي (الدواء): وبيَّنها ابن المقفع بالتالي: سلوك سبيل أسلافك، تتبُّع آثار الملوك قبلك، تقفوا محاسن ما أبقَوه لك، تقلع عمَّا عاره لازمٌ لك، وشَينه واقعٌ عليك.

 

كل هذه مرحلةٌ أولى من الدواء، أما المرحلة الثانية، فهي: تُحسن النَّظر برعيتك، تَسنُّ لهم سنن الخير.

 

وإن مرحَلَتَي تناول الدواء مُلخَّصها: بقاء السلامة، ودوام الاستقامة.

إذًا هو الظلم وغياب العدل، ورفعُه يتم باتِّباع ضده؛ الإحسان والعفَّة، إذًا هي المساوئ وأضدادها المحاسن، وكلُّ هذه الأمور من نشاطات العقل، والعقل عند ابن المقفع (بيدبا) هو الدواء؛ لتحسين ظروف الرعية، ونشر العدل والمساواة؛ وذلك باتباع الملوك سننَ وآثارَ الملوك السابقين، ولا حاجة أبدًا إلى البَطر والأمنية (التعلُّل بالآمال).

 

نلاحظ أنَّ ابن المقفع استخدم هذه ككلمةٍ فضفاضة (البطر والأمنية)، وتعليقنا عليها: أنه يَعتمد على ما يُملي عليه عقلُه- من خُططٍ وحيلٍ وأفكار فقط- لتغيير وتطوير الواقع، بدلاً من الاعتماد على المعتقَد الدينيِّ؛ ما هو مقدَّر بالغيب.

 

فكَّر دبشليم الملكُ الظالم المتجبر مليًّا في حلِّ الفيلسوف، (وإلى هذه الساعة لم يتبيَّن الخبرَ اليقين؛ ماذا كان دين دبشليم؟ وما كانت آلهته التي يَعبدها؟ وماذا كان دينُ رعيَّته؟ وما الآلهة التي كانوا يعبدونها؟ وهل كان لكل طرَفٍ آلهةٌ تختلف عمَّا لدى الآخَر؟ وهل كان دبشليم يَجبر رعيته على عبادة آلهته التي كان يُفضِّلها، ويحرمهم من عبادة آلهتهم الخاصة بهم؟ إن هذا كان مبهَمًا تمامًا لنا).

 

وإنَّ ما ساقه ابن المقفَّع في مطلع ذِكر مقابَلة الفيلسوف للملك عندما دخَل لمقابلته في المرَّة الأولى: الوصف التالي: "وكفَّر"؛ أي: انحنَى له، وكذلك: "وسجَد لهُ"، والسجود كان واضحًا بيِّنًا، وهاتان الحركتان كانَتا تقليدَيْن مشهورَين مُعتادَين عند الأقوام التي لا تَعرف عن الأديان السماويَّة شيئًا، وغالبًا ما يكون الملك عُرفًا هو الإلهَ أو نائبًا عنه، الذي تسجد له رعيته.

 

ثم إن ابن المقفع أردَف بنفس المقابلة العتيدة للملك قائلاً: أول ما أقول: إني أسأل الله تعالى بقاء الملك على الأبد؟!

فكيف جمَع الضِّدَّين معًا (الحركة- السجود) و(سؤال الله تعالى)؟! (أين الله هنا)؟!

ونسأل هنا مرَّة أخرى سؤالاً؛ لعلَّ ابن المقفع يجيب عليه، ولكنه لم يتطرَّق إليه في الكتاب (كليلة ودمنة) أبدًا: إنَّ مِن أشكال الظلم البائن والقاهر للرعية أن يَسجدوا للحاكم الظالم المتجبِّر، فهل تخلَّى الملك دبشليم عن هذ العار اللازم له؟ أي: تخلَّى عن ادعائه الألوهية، وطلبَ مِن رعيته ألاَّ تسجد له عند مقابلته؟ إنَّ هذا كان مبهمًا غائبًا من الكتاب كلِّه.

 

وما أرى هنا إلاَّ أن آتي بمثالٍ للمقارنة في هذا الموقف:

لما دخل نبيُّ الله موسى عليه السلام على فرعون مصر، وقال له: إنَّك ظالم للرعيَّة ومتجبِّر وغير عادل، فبماذا أجاب فرعونُ موسى؟

أجاب بـ: نعَم، وماذا في ذلك؟!

 

قال موسى: عبَّدتَ بني اسرائيل، وقتَّلتَ أبناءهم، واستحييتَ نساءهم!

أجاب فرعون بـ: نعَم، وماذا في ذلك؟

قال موسى: لديَّ حلٌّ (نصيحةٌ) لك! أن تتوقَّف عن ادِّعائك أنَّك إله، فلا يَسجدوا لك مطلقًا، وأن تَرفع الظلم فلا تَقتل أحدًا إلاَّ بالحق، وأن تَعدِل بين الناس في حياتهم، وتُنصِف الرعيَّة في الطعام والشراب والمسكن، وأن تؤمِّنَهم من الخوف.

 

قال فرعون: وماذا عنِّي أنا؟ كيف أكون إلهًا في يوم، وفي يومٍ آخَر لا أكون أبدًا؟! فمَن يكون غيري إلهًا؟!

 

قال له موسى: الله إله، وهو إلهي وإلهك وإلهُ الناس والعالمين.

وبعد مجادلةٍ طويلة طلب فرعونُ (دليلاً أو آية) يُثبت بها موسى صحَّةَ نصيحته ومقولته، وجرَت الأمورُ بعدها مُتلاحِقةً متتابعة، وقد عرَفْنا تفاصيلها الدقيقةَ في آيات الله تبارك وتعالى في القرآن الكريم.

 

وأمَّا ما جاء به ابنُ المقفَّع في وقائع أحداثِ كتابه فقد أسقَطَه بتوريةٍ وتقيَّةٍ ذكية، ولم يَذكُر الجانب المحرِجَ للفيلسوف وللملِك: (الدين والعبادة والإله)؛ وذلك لتمرير ما أبطَن له، وقد نجَح للوهلة الأولى (قاصدًا قُرَّاء لغة الضَّاد)، ولكنه سقَط سقطته النهائيَّة عندما عرَض الكتاب على الخليفة العباسيِّ (أبي جعفرٍ المنصور).

 

وبشهادة بعض فقهاء الدِّين واللغة والحكم والسياسة يومَها- وكان أشهَرُهم: الخليل بن أحمد الفراهيدي- كان السؤال: (أين الله) في تدبير شؤون الحكم؟ لقد انعدَم التوكُّل عليه في تدبير حياة الدنيا للناس، وأصبح مَصيرهم خيرًا وسعادةً في الآخرة في حساب تقدير عقل وحكمة الفيلسوف فقط.

 

وقد سُئل ابن المقفع: وقيل له: هذا تدبير العقل، فأين خالق العقل؟ أين الله في الكتاب؟ قد غيَّبتَه من مُجرَيات أحداث الكتاب كُلِّيةً! فهل أحلَلتَ العقل محلَّ الله في تدبير شؤون الملك والرعيَّة؟! وهل تنصح الخليفة أمير المسلمين بأن يتخذ من العقل مندوحةً ومصدرًا لتسييس حياة المسلمين؛ لرفع الظُّلم والتجبُّر، ويأخذ بأمثال كتابك، ويترك أمثال كتاب الله وسُنَّة نبيه؟!

 

لقد ضمَّنت منهجك هذا غرَضَين باطِنيَّين اثنين:

الأول: استنبطتَ الحيلَ والألغاز والألاعيب وغيرَها التي تجري في حياة النَّاس اليومية، وهي من الصفات الخاصة المخلوقة أساسًا في النفس البشرية العاقلة، ونقَلتَها إلى البهائم غيرِ العاقلة وغيرِ الناطقة مثلما هي بلسانِ البشر.

 

الثاني: عندما تَجري تفاعلات هذه الحيل والألاعيب بكلِّ استخداماتها وعلى وجهها غيرِ المحدود في مجتمعَات البهائم غير العاقلة؛ فإنها تُحدِث الاندهاشَ ويَحدُث اللَّهو والتسلية، وهذا هو المراد المباشر منها، ولكن المراد الباطنيَّ هو القَبولُ البديهيُّ بأمورٍ لو كانت في حياة البشر العاقلة، لما تُقبِّل منها شيءٌ على الإطلاق، ولرُفِضَت رفضًا قاطعًا، وخاصة عندما يتعلَّق الأمر بالعقيدة والإيمان، والخالقِ والتوكُّل عليه، ومفهوم العقل وماهيته ووظيفته في الدِّين الإسلامي.

 

مقارنة ورصد الأحداث في كتاب كليلة ودمنة:

في الباب الخامس: الأسد والثَّور

قال دبشليم الملك لبيدبا الفيلسوف: اضرب لي مثلاً لمتحابَّين يقطع بينهما الكَذوب المحتال، حتى يَحمِلَهما على العداوة والبغضاء.

 

وفي هذا الباب يَظهر الأخَوان كليلة ودمنة، وهما ابنا آوى، وكانا ذوَيْ دَهاء وعلمٍ وأدب، وقد قرَّر أحدُهما- وهو دمنة- أن يكون قريبًا من الأسد مَلك السِّباع، مُستشارَه وناصِحَه، وقد فعَل ونال ما يُريد بعد أن أثبَت للأسد بدهائه أنه أهلٌ لذلك، ومِن ثَم تتابع الأحداث ويتوصَّل دمنةُ بالأسد إلى بُغض الثور (شتربة) صديقِه، فيَنشب بينهما قتال، ينتهي بمقتل الثَّور، ويكتشف الأسدُ أن الثور كان بريئًا، وأنه كان ذا عقلٍ ورأي وخلُقٍ كريم، وكان مَكذوبًا عليه، فحزن الأسد عليه وندم، ثم عَلم بكذب دمنة وفجوره، فقتله شرَّ قتلة.

 

وعلى المنوال ذاتِه؛ عندما تضرب الأمثلة لتأكيد حيثيَّات الموضوع، وهي سِلسلة لا تَنتهي تلفُّ حول الفكرة الأخلاقية، أو الصِّفة السيئة بفِعلها كيف يتعلَّم المرء خَباياها وبَواطنها، وكيف تُرسَم وتُحاك خيوطها، وينفذ بِحَذاقةٍ فائقةٍ وقائعَها، وبتجرُّدٍ بالغ من دون وجود أي وازع أخلاقي مضادٍّ حسَن، يفكِّر العقل في الصفة السيئة، ويُنفِّذها بتدبيره وحيلته، ويضَع لها النِّهايات العاقبة كما يَراها هو أيضًا مقدَّمًا، مهما كانت سيئة أو حسنة، وعلى ذات التخطيط العقلي؛ أي: إنَّ (القدر) و(الغيب)- وهما عَمودان مهمَّان في أركان الإيمان في الدين الإسلامي- مُغيَّبان تمامًا، ولم يَدخلا بتاتًا سواء في المقدمة أو في حبكة الأحداث أو في العاقبة، والمعنى الأدنى والسَّهل والمختصَر (للغيب وللقدَر) في الفقه يَعني وجودَ الله، عالِمِ الغيب والشهادة، مقدِّر الأقدار.

 

أمثلة متكرِّرة (العناوين): الواشي الماهر المحتال- المتحابَّين كيف قطع بينهما الكَذوبُ- العدوُّ الذي لا ينبغي أن يُغترَّ به- الرجل الذي يطلب الحاجة فإذا ظَفِر بها أضاعَها- الرجل العَجْلان في أمره- رجل كَثُر أعداؤه وأحدَقوا به من كلِّ جانب- من يدَع ضرَّ غيره إذا قدر عليه بما يصيبه من الضرر- أهل الترات (الثَّارات) الذين لا بدَّ لبعضهم من اتقاء بعض- الملك الذي يُراجع مَن أصابته منه عقوبةٌ من غير جُرمٍ أو جفوةٌ من غير ذنب... إلخ؛ حتى خمسةَ عشَر مثالاً، تدور كلُّها حول ذات الخصال... وكان آخرها في الباب التاسعَ عشَر: مثَل الرجل الذي يرى الرأيَ لغيره ولا يَراه لنفسِه.

 

والملاحَظ المهمُّ أنَّ ابن المقفع قد ابتعَد أو أُبعِد عن منهجه؛ موضوع السِّحر والسَّحَرة في ضرب أيِّ مثَل؛ كما ضرَب الله المثل: ﴿ وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ ﴾ [البقرة: 102]، وكذلك ما كانت ﴿ مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ ﴾ [البقرة: 102]، والذي كان شائعًا ومُتداوَلاً في ذلك الزَّمان في بلاد الهند خاصَّة، حيث كان السِّحر والسَّحرة ينشطون كثيرًا بالتدخُّل في حياة الناس بكل مراتبها وألوانها، وفي الحكم بكلِّ أساليبه وغاياته، وقد كان ذكيًّا في استبعاده وعدَمِ ذِكره، ولو أنَّه فعل ذلك لتَحطَّمَت غاياته الظاهرةُ والباطنة منذ البداية.

 

ويا سبحان الله! إن العين لتَدْمع، وإن القلب ليَحزن على فراق خِصال كان يُقال عن صاحبها: إنه جَوَاد كريم، يُؤثِر على نفسه، جابرٌ شهمٌ مطيع، وفيٌّ صادق متوكِّل...

 

وجاء القرآن الكريم فأضاف: صَوَّام قوَّام مجاهدٌ، بارٌّ رحيم أمين، حفيظ زاهد...

 

وقال الله تبارك وتعالى في سورة الحج: ﴿ أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ ﴾ [الحج: 46].

 

وفي سورة البقرة قال الله تبارك وتعالى: ﴿ أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ ﴾ [البقرة: 75].

 

هاتان الآيتان: كلامُ الله، ويقول: إن نشاط العقل بكلِّ ما يحتاجه الإنسانُ على الإطلاق مركزُه القلب، ومكانُ القلب في الصدر، وعندما يعقل الإنسان فإن معنى ذلك فَهْم كلام الله وتصديقه، أي: أن يُؤمن ويعتقد أنَّ العقل مكانه القلب الذي في الصَّدر، وليس الدماغ الذي هو في الرَّأس كما تقول الفلاسفة، ومن يقول هذا القولَ فهو تصريحٌ بائن بتحريفِ كلام الله وعدم الإيمان به.

 

ومن الطَّرَف الآخر من الحياة الدنيا؛ يقول الله تبارك وتعالى في سورة لقمان: ﴿ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ * هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ ﴾ [لقمان: 10، 11].

 

ومِن كلام الله الذي اتَّقاه وتَدارى عنه ابن المقفَّع قولُه تبارك وتعالى في سورة الزمر: ﴿ فَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَانَا ثُمَّ إِذَا خَوَّلْنَاهُ نِعْمَةً مِنَّا قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ ﴾ [الزمر: 49].

 

هذه هي كلمة الحقِّ التي يتدارى منها أصحابُ منهج العقل والعلم بالمسبَّبات؛ يصيبه الضرُّ، والضر قد يكون قاسيًا ومبرحًا، مثلما ساق ابنُ المقفَّع أمثالَه وألوانَه وأحداثَه في كتابه "كليلة ودمنة"، وهنا تَنكشِف التقيَّة التي أخفاها؛ إذ كيف يكون للبَهيمة الواقعِ عليها الضرُّ- مهما كان جِنسُها في الحادثة؛ سواء كانت جارحة مفترسة أو أليفةً غيرَ ذات نابٍ أو مخلب- أن تتَضرَّع إلى الله القويِّ خالقِها؛ لِيُنقذها وليُعينها، ويَكشف السوءَ عنها؟! إنَّ هذا محالٌ في كل حال؛ (مثَلاً في حالة الثور شتربة وما عاناه من كيدِ وكذبِ دمنة، كيف يتَضرَّع ويقول: اللهم ربِّي أنت المعين، أعنِّي على دمنة الكذَّاب الأشِر وخَلِّصني من الأسد الظالم المتجبِّر)، ومِن هنا لجَأ ابنُ المقفع إلى طَمس هذه المقتَلَة، فأبدلها بالنِّهاية (العقليَّة المنطقية)، فتَبدو لمن يَقرؤُها من العوامِّ أنها عاديَّة في مجتمع البهائم، بينما لو وقَعَت ذاتُ الأحداث في مجتمع الإنسان؛ فإن المظلوم لا بدَّ وأن يلجأ إلى أيِّ قوة خفيَّة، يعتقد ويؤمن بها فيتضرَّع إليها، ومن ثَم تَجري العواقبُ بقدَرِها الغيبي، وبالتالي يكون الرِّضا عنها متنوِّعًا بحسب درجة إيمان مَن تضرَّع بها.

 

وفي الآية الكريمة السابقة (49 من الزمر): يقول مَن خَوَّل بالنِّعمة والفرَج إنما هي مِن عقله وتدبيره؛ (كما ساقها ابن المقفع في حكاياتِه)، والله تبارك وتعالى خالقُ وعالِمُ كلِّ شيء في الآية يقول الحقَّ: ﴿ بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ ﴾ [الزمر: 49].

 

ولعلَّ القصة الأخيرة من الكتاب والتي جاءت في الباب التاسعَ عشر: بعنوان: الحمامة والثَّعلب ومالك الحزين، سوف نَختُم بها حديثنا كذلك، وقد جاءت في المثل في شأن الرجل الذي يَرى الرأيَ لغيره ولا يَراه لنفسه.

 

مفردات المثَل:

• الحمامة: تشكِّل محور المثل أو مركزه.

• الثعلب: يشكل خطَّ المحيط حول المركز.

• مالك الحزين: يشكل الخطَّ المستقيم الذي يقطع خطَّ المحيط من الخارج، ويصل إلى المركز.

 

رموز المثل:

• الحمامة: وبيضها ومِن ثَم فِراخُها تمثِّل الثَّروة أو الخير، أو الأمَّة، أو مختصَرة في شخص الملك، وهي ضعيفة لا حيلةَ لها وهي ضالَّة.

 

• الثعلب: يمثِّل العدوَّ الصريح، أو المبذِّرين أو الذين يَحصُلون على الثروة من دون خَسارة أو بأساليبِ الإرهاب والتخويف.

 

• مالك الحزين: يمثِّل الناصح بالرأي الراجح، وكذلك يمثل التخطيط؛ للحِفاظ على الثروة.

 

رموز المثل كما جاء في سياق الكتاب من أوله إلى آخره:

إذا أرجَعنا رموزَ شُخوص المثل إلى وقائعِ تسمياتِ شخصياتِ الكتاب؛ بحسب ما ورَد في واقع تأليف ابن المقفَّع؛ فإننا نجد التطابق التالي:

الحمامة في تسمية شخوص الكتاب تمثِّل الملك دبشليم، وأما مالك الحزين فيمثِّل بيدبا الفيلسوف، وأمَّا الثعلب فيمثِّل كلَّ بطانة الملك المنتفعين مع المتعاونين المستفيدين، من فَسادٍ لثرواتِ وخيرات البلاد، وبقيَّة ترجمة التفاصيل هي المكمِّلات كما جاءت في الكتاب، ومن هذا التطابق الافتراضيِّ نجد الكاتب ابنَ المقفع يختمها بنهايةٍ مفترضة مسبَقة؛ حيث يقول: مع أنه ليس المنصوحُ (الملك دبشليم) بأولى بالنَّصيحة من الناصح (بيدبا الفيلسوف)، ولا الآمرُ بالخير بأسعدَ مِن المطيع له فيه، ولا المتعلِّمُ بأبعدَ عن العلم ممن يعلِّمه.

 

وقد استَند ابنُ المقفع إلى هذه (الحكمة) الواقعيَّة وعمَّمها بتورية ذكية؛ حتى لا يَستشعر المنصوحُ أو المتعلِّمُ أو المطيعُ (الملك دبشليم، الخليفة أبو جعفر المنصور، ومَن يأتي مِن السلسلة) بالخوف والرهبة واستِباق نتائج النهايات، فألقى ذلك عليه؛ هو (ابن المقفع) أو (الفيلسوف بيدبا) (أو من سيركب الدَّورَ ذاتَه فيما بعد).

 

رموز المثل بواقع تطابق التفسير الديني:

لا شك أنَّ ابن المقفع- مِن خلال الترجمة الشخصيَّة له، وأحداث الزمن الذي عاصرَه- ألقى بظلال ثقيلةٍ على مؤلَّفِه هذا: (كليلة ودمنة)؛ سيَّما وقد وضع النِّهاية والحكمة كما رأَيناها بخطِّ يده، وقد ختمَها بقوله: ومن تدبَّر هذا الكتابَ بعَقلِه وأعمَل فيه رأيَه بأصالةٍ مِن فكرته، كان قَمِنًا للمَراتب العِظام والأمور الجِسام، مع مساعدة القدَر، ووَقتِه إذا حضَر، فافهَمْ ذلك أيُّها الملك.

 

وكما فعَلنا سابقًا؛ فالحمامة تَعني أمَّة العرب، كما كانت في الجاهليَّة، وهذه نظرة ابن المقفَّع الفارسيِّ المجوسي، كانت تتمتَّع بكثيرٍ من المزايا والخيرات، وكان الثَّعلب يُحيط بها من كلِّ جانب: (الفُرس والرُّوم والأحباش)، وكلٌّ مِن هؤلاء موغِلٌ في العداء والاعتداء واقتسام أراضيها وخَيراتها، فيقَع عليها وفيها ظلمٌ شديد، وفجأةً يَظهر مالك الحزين، ويقدِّم النصيحة الثَّمينة (الدِّين الإسلامي؛ ممثَّلاً في الرسول محمد صلى الله عليه وسلم والقرآنِ الكريم)، سهم نور مستقيم يأتي من خارج حكر وحرص كل هؤلاء، ورغم القوَّة والدَّهاء فإنه يخترق حُدودهم وخُطوطهم، ويَصِل إلى مركز الصَّميم؛ إلى مكة حِصْنِ العربِ جميعًا.

 

ورغم ذلك أين المفارَقة؟ وأين يَكمُن الهدفُ الأسمى للثَّعلب؟

• أولاً: اقتنَع ابنُ المقفَّع بأن الحمامة لم تَعُد أبدًا كما كانت؛ فقد شَربت النَّصيحة وتعلَّمَت الدَّرس عندما أخبرَته قائلةً: لو وصلتَ إلى عُشِّي فسأطير وأنجو بنفسي، ولا يُهمُّ إن أكلتَ الفراخ فسوف آتي بغيرهم، المهمُّ هو انكشاف مكرِ الثعلب وأهدافه، والمحافظةُ على بقاء وجودها، وهذا جوهر النَّصيحة والدرس (بقاء الحمامة حرة طليقة يَعني بقاءَ قوتها).

 

• ثانيًا: تحوُّل تركيز مكرِ ودهاء الثعلب (الفُرس والرُّوم والأحباش) إلى (القرآن خاصة، والدين الإسلاميِّ عامة)، رمزُهم (مالك الحزين)، واتَّهمَه ابنُ المقفع صراحةً بأنه (عدوُّ نفسِه)؛ أي: يَنصح ويُقوِّم غيره ولا يَنصح نفسَه، فالمعنى الظَّاهر أنه شخَّصه وجعَله كائنًا ضعيفًا سهلاً الانقضاضُ عليه، وقد قدَّم الدليل الماديَّ المحسوس، فَظاهِره المتمثِّل في هذا المثل: (دق عنق مالك وأكَله)، وباطنُه هدَفُ الكتاب كلِّه، بأحداثه كلِّها، والمتمثل في إعلاء شأن العقل والفلسفة، ودَحضِ مبدأ العقيدة الإسلاميَّة بالتوكُّل على الله حقَّ التوكل في كل أمور الدنيا؛ صغيرها وكبيرها، دقها وجلُّها.

 

• ثالثًا: في هدفه المزدوَج ذي الوجهَين؛ فإنَّ ابن المقفع بمثاله (الحمامة والثَّعلب ومالك الحزين) يضَع ويُرسِّخ أركان العلمانيَّة منذ ذلك الزمان المتقدِّم بثالوثها القديم الجديد، وينصَح بوحدانيَّة الحل النَّاجع:

1- فصل الحمامة الدَّائم عن فراخها وعن ابن مالك، وإحداث كل وسيلة تبقيها في رهبةٍ وخوف وعدمِ استقرار؛ (فصل أمَّة العرب عن دينها).

 

2- الهجوم المباشر وغير المباشر الدَّائمَينِ بكل وسيلة؛ إمَّا بحيلة أو تشويش أو تحريف أو تشكيك أو القتل المتعمَّد لابن مالك؛ (القرآن والدِّين)، وهذا هو الهدَف الرَّئيس.

 

3- إحياء وإبقاء قوة وعِلم وحكمة الثَّعلب بشكلٍ دائم؛ وذلك لبَقاء توفُّر الطعام اللَّذيذ والمجَّاني بمواصفاته من دون تقديم أيِّ خسائر.

 

4- جعل المؤلِّف ابن المقفع قارئَ الكتاب يتقبَّل فكرة قتل مالكٍ الحزين كعُقوبة له؛ لأنَّه لم يَستطِع نُصح نفسه، وهذا هدفٌ باطنيٌّ أخذَت به العلمانية الحديثة؛ مَفادُه أنَّ (الدين الإسلامي يقدِّم النُّصح للفرد، ولا يستطيع أو يَفشل عندما يكون في مواجهةٍ فعليَّة مع العقل وخُططِه في المجموع)!





 حفظ بصيغة PDFنسخة ملائمة للطباعة أرسل إلى صديق تعليقات الزوارأضف تعليقكمتابعة التعليقات
شارك وانشر

مقالات ذات صلة

  • الجامع لأقوال ابن المقفع مما ليس في كتبه المطبوعة (1)
  • الصداقة بين تأصيل ابن المقفع وأزمتها المعاصرة

مختارات من الشبكة

  • تحقيق كتاب " الأدب الصغير " لابن المقفع (PDF)(كتاب - مكتبة الألوكة)
  • شيء من التفكير النقدي العربي القديم: ابن سلام الجمحي أنموذجا (1)(مقالة - حضارة الكلمة)
  • من سلسلة أحاديث رمضان حديث: يا معشر قريش، احفظوني في أصحابي وأبنائهم وأبناء أبنائهم(مقالة - ملفات خاصة)
  • ابن النجار وابنه تقي الدين ابن النجار(مقالة - ثقافة ومعرفة)
  • ابن بطة الأب وابن بطة الابن(مقالة - ثقافة ومعرفة)
  • من تراجم المنشئين: الخوارزمي - ابن العميد - ابن عبد ربه - ابن المعتز - الجاحظ - الحسن بن وهب(مقالة - ثقافة ومعرفة)
  • الأثبات في مخطوطات الأئمة: شيخ الإسلام ابن تيمية والعلامة ابن القيم والحافظ ابن رجب (PDF)(كتاب - موقع د. علي بن عبدالعزيز الشبل)
  • الأثبات في مخطوطات الأئمة: شيخ الإسلام ابن تيمية والعلامة ابن القيم والحافظ ابن رجب (WORD)(كتاب - موقع د. علي بن عبدالعزيز الشبل)
  • أثر العامل الفكري في فكر الإمام ابن مفلح(مقالة - ثقافة ومعرفة)
  • الأساس في الفقه القديم والمعاصر (PDF)(كتاب - مكتبة الألوكة)

 



أضف تعليقك:
الاسم  
البريد الإلكتروني (لن يتم عرضه للزوار)
الدولة
عنوان التعليق
نص التعليق

رجاء، اكتب كلمة : تعليق في المربع التالي

مرحباً بالضيف
الألوكة تقترب منك أكثر!
سجل الآن في شبكة الألوكة للتمتع بخدمات مميزة.
*

*

نسيت كلمة المرور؟
 
تعرّف أكثر على مزايا العضوية وتذكر أن جميع خدماتنا المميزة مجانية! سجل الآن.
شارك معنا
في نشر مشاركتك
في نشر الألوكة
سجل بريدك
  • بنر
  • بنر
كُتَّاب الألوكة
  • مشروع مركز إسلامي في مونكتون يقترب من الانطلاق في 2025
  • مدينة روكفورد تحتضن يوما للمسجد المفتوح لنشر المعرفة الإسلامية
  • يوم مفتوح للمسجد يعرف سكان هارتلبول بالإسلام والمسلمين
  • بمشاركة 75 متسابقة.. اختتام الدورة السادسة لمسابقة القرآن في يوتازينسكي
  • مسجد يطلق مبادرة تنظيف شهرية بمدينة برادفورد
  • الدورة الخامسة من برنامج "القيادة الشبابية" لتأهيل مستقبل الغد في البوسنة
  • "نور العلم" تجمع شباب تتارستان في مسابقة للمعرفة الإسلامية
  • أكثر من 60 مسجدا يشاركون في حملة خيرية وإنسانية في مقاطعة يوركشاير

  • بنر
  • بنر

تابعونا على
 
حقوق النشر محفوظة © 1446هـ / 2025م لموقع الألوكة
آخر تحديث للشبكة بتاريخ : 16/11/1446هـ - الساعة: 14:43
أضف محرك بحث الألوكة إلى متصفح الويب