• الصفحة الرئيسيةخريطة الموقعRSS
  • الصفحة الرئيسية
  • سجل الزوار
  • وثيقة الموقع
  • اتصل بنا
English Alukah شبكة الألوكة شبكة إسلامية وفكرية وثقافية شاملة تحت إشراف الدكتور سعد بن عبد الله الحميد
 
الدكتور سعد بن عبد الله الحميد  إشراف  الدكتور خالد بن عبد الرحمن الجريسي
  • الصفحة الرئيسية
  • موقع آفاق الشريعة
  • موقع ثقافة ومعرفة
  • موقع مجتمع وإصلاح
  • موقع حضارة الكلمة
  • موقع الاستشارات
  • موقع المسلمون في العالم
  • موقع المواقع الشخصية
  • موقع مكتبة الألوكة
  • موقع المكتبة الناطقة
  • موقع الإصدارات والمسابقات
  • موقع المترجمات
 كل الأقسام | أسرة   تربية   روافد   من ثمرات المواقع  
اضغط على زر آخر الإضافات لغلق أو فتح النافذة اضغط على زر آخر الإضافات لغلق أو فتح النافذة
  •  
    تحليل محتوى المواقع الإلكترونية لحوادث انتشار ...
    عباس سبتي
  •  
    طلب طلاق وشكوى عجيبة
    الداعية عبدالعزيز بن صالح الكنهل
  •  
    المحطة العاشرة: مقومات الإيجابية
    أسامة سيد محمد زكي
  •  
    أنماط التعليم الإلكتروني من حيث التدرج في ...
    أبو مالك هيثم بن عبدالمنعم الغريب
  •  
    وصية امرأة لابنتها في زفافها
    الشيخ محمد جميل زينو
  •  
    المحطة التاسعة: العادات
    أسامة سيد محمد زكي
  •  
    الشباب بين الطموح والواقع: كيف يواجه الجيل الجديد ...
    محمود مصطفى الحاج
  •  
    هبة فيها النجاة!
    أ. رضا الجنيدي
  •  
    بركة الزوج الصالح على الزوجة في رفع درجتها في ...
    فهد عبدالله محمد السعيدي
  •  
    تربية الأطفال في ضوء توجيهات سورة الحجرات
    محمد عباس محمد عرابي
  •  
    السلاسل الحقيقية لا ترى!
    أمين محمد عبدالرحمن
  •  
    تطوير العلاقات الإنسانية في الإسلام
    يوسف بن طه السعيد
  •  
    المحطة الثامنة: القرارات
    أسامة سيد محمد زكي
  •  
    التربية بالقدوة: النبي صلى الله عليه السلام
    محمد أبو عطية
  •  
    مهن في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم
    نجاح عبدالقادر سرور
  •  
    تزكية النفس: مفهومها ووسائلها في ضوء الكتاب ...
    عاقب أمين آهنغر (أبو يحيى)
شبكة الألوكة / حضارة الكلمة / أدبنا / دراسات ومقالات نقدية وحوارات أدبية
علامة باركود

أزمة الثقافة في قصيدة هذيان بائع الدموع

شريف محمد جابر

مقالات متعلقة

تاريخ الإضافة: 9/3/2014 ميلادي - 7/5/1435 هجري

الزيارات: 20767

 حفظ بصيغة PDFنسخة ملائمة للطباعة أرسل إلى صديق تعليقات الزوارأضف تعليقكمتابعة التعليقات
النص الكامل  تكبير الخط الحجم الأصلي تصغير الخط
شارك وانشر

أزمة الثقافة في قصيدة هذيان بائع الدموع


مقدمة البحث

قضية هذا البحث هي تحليلُ الحالة الثقافية التي تعيش في أجوائها قصيدة "هذيان بائع الدموع" للشاعر المصري علي فريد، ورصدُ أبعاد الظاهرة الثقافية المسيطرة في قراءة موازية مع "رسالة في الطريق إلى ثقافتنا" لمحمود شاكر، والتي تعيش في نفس الجو الثقافي "المسيطر" الذي تقع فيه ثقافة الشاعر علي فريد والأديب محمود شاكر في منطقة "الهامش".

 

وتأسيًّا بتساؤلات الدكتور الغذامي حول سبب إغفال المؤسسة النقدية "للعيوب الثقافية" فإن هذا البحث يتساءل: كيف غفلت المؤسسة النقدية العربية عن خطورة هذا الخطاب النقدي الثقافي الذي تنكّر كثيرًا لمعطيات تراثه الثقافي الكبير وتوجّه إلى الغرب ليعبّ من معطيات ثقافة كان أساس تواجدها في العالم العربي هو "الاستشراق" الذي مهّد الطريق للاستعمار؟ وهو تساؤل موضوعي تفرضه طبيعة الخطاب الذي اخترناه للبحث؛ خطاب محمود شاكر "في الطريق إلى ثقافتنا" وخطاب الشاعر علي فريد في "هذيان بائع الدموع".

 

سأحاول أن أقرأ الأنساق الثقافية المختبئة وراء خطاب الدكتور الغذامي في "النقد الثقافي" من خلال المنظور الذي يطرحه محمود شاكر في رسالته، وعلي فريد في قصيدته.

 

سأعرض في الفصل الأول منهج محمود شاكر النقدي في "التذوق" كمنهج عربي أصيل، ورؤيته لمفهوم "الثقافة" كما يظهر في "رسالة في الطريق إلى ثقافتنا" ونظرته للحياة الأدبية المعاصرة الفاسدة.

 

في الفصل الثاني سأتحدث عن "النقد الثقافي" كمنهج نقدي حداثي غربي في الأصل يستعمله الغذامي، وسأسقط رؤية منهج محمود شاكر على خطاب الغذامي.

 

في الفصل الثالث سأشرع في قراءة ثقافية تحليلية للقصيدة بناءً على ما قدّمتُ في الفصل الأول والثاني، وسوف أرصد "الملامح المشتركة" التي يوقّع عليها كِلا الأديبين: محمود شاكر وعلي فريد، وسأطبّق على محتوى القصيدة الثقافي معطيات نظرية "المتن والهامش" لعبد الله الغذامي؛ للكشف عن الأنساق الثقافية التي تختبئ وراء أبياتها.

 

منهج محمود شاكر

محمود محمد شاكر كاتب وأديب مصريّ معروف، وقد اخترته واخترتُ رسالته "في الطريق إلى ثقافتنا" للبحث؛ لما تحملُ من رؤية مشتركة مع رؤية الشاعر علي فريد، بل أكاد أقول: إنه يمكننا اعتبار هذه الرسالة عرضًا للحالة الثقافية ذاتها التي يتحدث عنها الشاعر في قصيدته "هذيان بائع الدموع"، ولا بدّ لنا قبل الولوج في دراسة القصيدة "ثقافيًا" أن نتعرّض للأساس الفكري والنظري الذي نشأت في جوّه، وذلك حتى نستطيع فَهم المنطلق الثقافي الذي ينطلق منه الشاعر ويملأ جوانب قصيدته، والمقولات الرئيسية التي سوف أستلّها من رسالة محمود شاكر هي:

1) منهجه في التذوق.

2) الخط التاريخي لسيطرة الثقافة الدخيلة على عقول المثقفين العرب.

3) مفهوم الثقافة.

4) الحياة الأدبية الفاسدة.

 

ولست أريدُ التفصيل في كلّ واحدة من تلك المقولات، إنما المقولتان الجوهريتان اللتان تتمحور حولهما الرسالة هما قضية "الثقافة" و"فساد الحياة الأدبيّة"، وهو يقصد الحياة الأدبية المعاصرة، وهي نفس القضية التي سننتقل معها لنعالج بشيء من العمق الحالة الثقافية في قصيدة "هذيان بائع الدموع". وقبل ذلك فلنستعرض تلك المقولات بشيء من الإيجاز، عدا قضية "الثقافة" و"الحياة الأدبية الفاسدة" فهما تحتاجان لبيان وافٍ.

 

منهج التذوق عند محمود شاكر:

في بداية رسالته يحدّثنا محمود شاكر عن نفسه، ومسيرته في الأدب، والبدايات التي أدّت عنده إلى "الاهتداء إلى المنهج" فيقول:

"فمنذ كنت في السابعة عشرة من عمري سنة 1926، إلى أن بلغتُ السابعة والعشرين سنة 1936، كنتُ منغمسًا في غمار حياة أدبية بدأتُ أحس إحساسًا مبهمًا متصاعدًا أنها حياة فاسدة من كل وجه. فلم أجد لنفسي خلاصًا إلا أن أرفض متخوّفًا حذرًا، شيئًا فشيئًا، أكثر المناهج الأدبية والسياسية والاجتماعية والدينية التي كانت يومئذٍ تطغى كالسيل الجارف، يهدم السدود، ويقوّض كل قائم في نفسي وفي فطرتي.

 

"ويومئذٍ طويتُ كلّ نفسي على عزيمة حذّاء ماضية: أن أبدأ، وحيدًا منفردًا، رحلة طويلة، وبعيدة جدًا، وشاقة جدًا، ومثيرة جدًا. بدأتُ بإعادة قراءة الشعر العربي كلّه، أو ما وقع تحت يدي منه يومئذٍ على الأصح، قراءة متأنّية طويلة الأناة عند كل لفظٍ ومعنىً، كأنّي أقلّبهما بعقلي، وأروزهما (أي: أزنهما مختبرًا) بقلبي، وأجسّهما جسًّا ببصري وبصيرتي، وكأنّي أريد أن أتحسّسهما بيدي، وأستنشيَ (أي: أشمّ) ما يفوح منهما بأنفي، وأسّمّع دبيب الحياة الخفيّ فيهما بأذنَيَّ، ثمّ أتذوّقهما تذوّقًا بعقلي وقلبي وبصيرتي وأناملي وأنفي وسمعي ولساني، كأنّي أطلب فيهما خبيئًا قد أخفاهُ الشاعر الماكر بفنّه وبراعته، وأتدسّسُ إلى دفين قد سقط من الشاعر عفوًا أو سهوًا تحت نظم كلماته ومعانيه، دون قصد منه أو تعمّدٍ أو إرادة"[1].

 

ثمّ يتحدّث محمود شاكر عن الباب الذي انفتح له بعد الشعر في أن يقرأ كلّ ما يقع تحت يديه من التراث المكتوب بالعربية، ويُجري عليه منهج التذوق هذا الذي وصفه، بعد أن اقتنع أنّ كلّ كلام صادر عن إنسان مبينٍ عن نفسه خليقٌ أن يجري عليه ما أجراه على "الشعر"[2].

 

وأمدّته هذه القراءات والتجارب في التراث العربي بخبرة واسعة، أتاحت له أن يجعل ذلك منهجًا جامعًا، منهج "التذوّق". وهو لا يزعم أنّ ذلك شيء أفادَ به منفردًا، إنما كان مستفادًا من أسلافه النقاد العرب القدامى، فاستشفّ الخفيّ، واستنبطَ الدفين، وجمع المتشتّت، ولاءم بين أوصال المفكّك، فاتضح له الطريق الفكري وصار له منهج يلتزم فيه فيما يقرأ ويكتب[3].

 

يقول محمود شاكر عن جوهر هذا المنهج إنه "كان نابعًا من صميم المناهج الخفيّة التي سنّ لنا آباؤنا وأسلافنا طرقها، وأنّ كلّ جهدي فيه، هو معاناةٌ كانت منّي لتبيّن دروبها ومسالكها، ثمّ إزالة الغبار الذي طمس معالمها، ثمّ أن أجمع ما تشتّت أو تفرّق من أساليبها، معتمدًا على دلالات اللسان العربيّ، لأنّ كلّ ذلك مخبوءٌ تحت ألفاظ هذا اللسان العربيّ، ومستكنٌّ في نظم هذا اللسان العربيّ، وهذا يكادُ يكون أمرًا مسلّمًا ببديهة النّظر في شأن كلّ لغةٍ وتراثها. والذي لا يملك القدرة على استيعاب هذه الدلالات وعلى استشفاف خفاياها، غير قادر البتَّةَ على أن ينشئ منهجًا أدبيًّا لدراسة إرث هذه اللغة، في أيّ فرع من فروع هذا الإرث، إلا أن يكون الأمر كلّه تبجّحًا وغطرسة وزهوًا وغرورًا وتغريرًا، كما هو الحال في حياتنا الأدبية هذه الفاسدة"[4].

 

وغيرُ خاف على القارئ ذلك التلميح إلى المناهج المستحدثة التي لم تملك - بنظره - الأدوات اللازمة حتى تستطيع أن تنشئ منهجًا لقراءة هذا التراث العربي الزاخر، ومن هنا نشأت تلك القطيعة بين محمود شاكر وبين الحياة الأدبية المعاصرة "الفاسدة" في نظره، ثم هي تنشأ من عوامل أخرى سنأتي على ذكرها حين نتحدّث عن "الثقافة" وعن "الاستشراق".

 

وببيان حاسم لحقيقة منهجه وإثبات أصالته يقول محمود شاكر:

"ولكي لا تقع في الوهم والضلال، ولكي لا يغرّر بك أحد من المتشدّقين من أهل زماننا هذا بالثرثرة، فاعلم أنّ حديثي هنا هو عن الذي يسمّى "المنهج الأدبي" على وجه التحديد، أي: عن المنهج الذي يتناول الشعر والأدب بجميع أنواعه، والتاريخ، وعلم الدين بفروعه المختلفة، والفلسفة بمذاهبها المتضاربة، وكلّ ما هو صادر عن الإنسان إبانةً عن نفسه وعن جماعته = أي يتناول ثقافته المتكاملة المتحدّرة إليه في تيّار القرون المتطاولة والأجيال المتعاقبة. ووعاء ذلك كلّه ومستقرّه هو اللغة واللسان لا غير. فإيّاكَ إيّاكَ أن تنسى ذلك، واجعله منكَ على ذكر أبدًا. واذكر أيضًا أنّ هذا الذي أقوله لك عن "المنهج"، إنما هو أصلٌ أصيلٌ في كلّ أمّة، وفي كلّ لسانٍ، وفي كلّ ثقافةٍ حازها البشر على اختلاف ألسنتهم وألوانهم ومللهم ومواطنهم"[5].

 

ورغم كونه يتحدّث عن "المنهج الأدبي" في تسميته، إلا أننا ندرك من هذا البيان عمق البعد "الثقافي" الذي يتصدى له محمود شاكر في رسالته، وهو مما نريد الحديث عنه في بحثنا هذا. ونحن نرى أنّه لا يجعل "الأدب" أو "الشعر" الراقي بمفرده هو الذي يجري عليه منهجه، على عادة مناهج النقد الأدبي العربية القديمة، التي تنظر لكلّ ما هو جمالي وتستبعد غيره[6]، بل يتجاوز ذلك إلى المساواة بين كلّ ما هو صادر عن الإنسان إبانةً عن نفسه وعن جماعته، أي يتناول ثقافته المتكاملة المتحدّرة إليه في تيّار القرون المتطاولة والأجيال المتعاقبة.

 

الخطّ التاريخي لسيطرة الثقافة الدخيلة على عقول المثقفين العرب:

يقول محمود شاكر:

"كيف نشأ الخلاف، ولِمَ، بيني وبين هذه "المناهج الأدبية" السائدة؟ ولا يأتيك الجواب صريحًا، بيّنًا أمينًا، إلا بعد أن أقصّ عليك قصة تاريخ طويل سوف أختصره لك اختصارًا موجزًا أشدّ الإيجاز ما استطعتُ. وذلك لأنّ هذا الفساد لم يدخل على ثقافتنا دخولاً يوشك أن يطمس معالمها ويطفئ أنوارها، إلا بعد التصادم الصامت المخيف الذي حدث بيننا وبين الثقافة الأوروبيّة الحاضرة. وإذا نحن أغفلنا هذا التاريخ ولم نتبيّنه تبيّنًا واضحًا، فكأنّنا أغفلنا القضيّة كلّها، وأسقطناها إسقاطًا من عقولنا، وخالفنا سنّة العقلاء المميّزين في التبصّر والتبيّن وترك التساهل عند مواطن الخطر، وصار كلامنا في "الثقافة" سدًى كلّه وهَدَرًا، ثمّ عبثًا وثرثرة وتغريرًا، كما هو حادث الآن في حياتنا الأدبيّة هذه الفاسدة، وصار الأمر كلّه جبنًا عن طلب الحقّ، واستنامةً لخداع الباطل وتسويله الخفيّ، واستدراجه إيّانا إلى سرابٍ مهلك"[7].

 

ثم يطفق يسرد لنا حكاية "الصراع" التاريخي وأسبابه بين الحضارتين "المسيحيّة الشمالية" (الأوروبيّة) و"الإسلامية"، فهو صراع له مراحله: الأولى: تتمثّل بالفتوح الإسلامية وسقوط أراض كثيرة وسكانها من النصارى في الحضارة الإسلامية، ومن ثمّ دخول غالبية تلك الشعوب في الإسلام. والثانية: تتمثّل بالحروب التي اجتاحت بيزنطة من أوروبا، والحروب الصليبيّة التي أجّجت حدّة ذلك الصراع. والثالثة: صراعُ الغضب العارم، الذي حلّ في أوروبا على إثر اندحار الصليبيّين من بلاد المشرق، واتجاهها لإصلاح خلل الحياة المسيحيّة في أوروبا، بالاتكاء على علوم دار الإسلام. ثم تأتي المرحلة الرابعة الحاسمة في نظر محمود شاكر وهي: مرحلة صراع الغضب المشتعل بعد فتح القسطنطينيّة على يد الترك (المسلمين)، وهذا الصراع هو وحده الذي صنع لأوروبا كلّ شيء إلى يومنا هذا كما يقول محمود شاكر. فقد أدّى بهم إلى يقظة شاملة قامت على الإصرار والمثابرة وبذل الجهد في إصلاح الخلل القائم في حياتهم بالاعتماد على علوم المسلمين[8].

 

ويحدّثنا محمود شاكر عن الأهداف والوسائل التي كانت لديهم في تلك الفترة، فقد أرسلوا إلى المشرق الإسلامي بعثات كبيرة ممن تعلّموا العربية وأجادوها، يجمعون الكتب شراء أو سرقة، ويلاقون العلماء والمثقفين والعامّة من أمّة الإسلام؛ عسى أن يفهموا هذا العالم الذي يتقدّمهم ويستعلي عليهم. ويمدّون علماء اليقظة في أوروبا بما يحتاجونه من الكتب، ويُطلعون الكنيسة والملوك على كلّ ما علموا من أحوال دار الإسلام. ولاحظوا في أثناء ذلك تلك الغفلة المطبقة على العالم الإسلامي، فقد استنام المسلمون للنصر القديم على النصرانية وفتح القسطنطينيّة.

 

وقد لاحظوا أيضًا سماحة أهل الإسلام مع من يخالف دينهم وبخاصة أهل الكتاب. تلك الطبقة من البعثات هي التي عرفت بعد ذلك باسم "المستشرقين". وهو يصفهم بأنّهم أهمّ وأعظم طبقة تمخّضت عنها اليقظة الأوروبية، لما بذلوه من جهدٍ جهيدٍ وكدٍّ في نهلهم من علوم المسلمين ومعرفة أحوال دار الإسلام، وما أمدّوا به أوروبّا من ذلك كلّه، ثم نشوء طبقة "الساسة" بفضلهم، والتي عملت وأعدّت لردّ غائلة الإسلام، وهم الذين عرفوا فيما بعد باسم رجال "الاستعمار"، وبفضل هؤلاء ثارت طائفة الرهبان ممن نذروا أنفسهم للجهاد في سبيل المسيحية، وتحويل العالم الإسلاميّ إلى النصرانيّة. وهم الذين عرفوا فيما بعد باسم رجال "التبشير". وهمُّ محمود شاكر في رسالته تلك مصروف إلى "الاستشراق"؛ لعلاقته الحميمة - كما يقول - بفساد حياتنا الأدبيّة والاجتماعيّة، ولأنّ حاجة "التبشير" و "الاستعمار" إليه، كانت حاجة ملحّة، وهي إلى اليوم حاجة دائمة[9].

 

ثم يحدّثنا محمود شاكر عن عمل "الاستشراق" في دار الإسلام، وكيف أن أوروبا اقتنعت أن اختراق دار الإسلام هذه المرّة لا يكون بقوّة السلاح مرة واحدة؛ كي يأمنوا استثارة العالم الإسلامي وهو بعد لا يزال قويًّا، إنما بالعمل الدائب البصير الصامت الذي يتيح لهم إضعاف العالم الإسلامي، ثمّ ممارسة الدّهاء والمكر والسياسة والصبر المتمادي، ومحاولة تطويق العالم الإسلامي، وتحسّس مواطن الضعف، حتى استطاعوا في النهاية الاستيلاء على مراكز القوّة في العالم الإسلامي بعد الحملة الفرنسية والاستعمار الإنجليزيّ[10].

 

مفهوم الثقافة عند محمود شاكر:

"يبدو أن لفظ (الثقافة) يعدّ من أعقد الكلمات في اللغات، نظرًا لطبيعة الظروف التاريخيّة لنموّها، وكذا لاستعمالاتها غير المتكافئة في الإنثروبولوجيّة الثقافيّة، التي أبدعتها كمبدأ أساسيّ ضمن حقول مختلفة"[11].

 

عن فهمه للثقافة يقول محمود شاكر: "ومن طريق "الثقافة"، فإنّ "الثقافة"، فاعلم، تكاد تكون سرًّا من الأسرار الملثّمة في كلّ أمة من الأمم وفي كلّ جيل من البشر. وهي في أصلها الراسخ البعيد الغور، معارف كثيرة لا تحصى، متنوّعة أبلغ التنوّع لا يكاد يحاط بها، مطلوبة في كلّ مجتمع إنسانيّ للإيمان بها أولا عن طريق العقل والقلب = ثمّ للعمل بها حتى تذوب في بنيان الإنسان وتجري منه مجرى الدم لا يكاد يحسّ به = ثمّ للانتماء إليها بعقله وقلبه وخياله انتماءً يحفظه ويحفظها من التفكّك والانهيار، وتحوطه ويحوطها حتى لا يفضي إلى مفاوز الضياع والهلاك"[12].

 

ونراه يُدخل مفهوم "الثقافة" في "الدين" بمعناه العام؛ حيث يقول: "ورأسُ كلّ "ثقافة" هو "الدين" بمعناه العامّ، والذي هو فطرة الإنسان، أيّ دين كان = أو ما كان في معنى "الدين""[13].

 

وهو بهذا المفهوم يتوافق بشكل كبير مع ما يقوله المفكّر إدوارد سعيد في كتابه Representations of the Intellectual بأنّ الإسلام دينٌ وثقافة متمازجان ومركّبان بحيث لا يمكن فصلهما في شكل أحادي.[14]

 

يقول محمود شاكر بعد ذلك:

"وهذا الذي حدّثتك عنه، ليس خاصًّا بأمّة، بل هو شأن كلّ جيل من الناس وكل أمّة من الأمم، كان لها "لغة" وكان لها "ثقافة"، وكان لها بعد تمام ذلك "حضارة" مؤسّسة على لغتها وثقافتها. فهذا "الأصل الأخلاقيّ" هو العامل الحاسم الذي يمكّن لثقافة الأمة بمعناها الشامل، أن تبقى متماسكة مترابطة تزداد على الأيّام تماسكًا وترابطًا، بقدر ما يكون في هذا "الأصل الأخلاقيّ" من الوضوح والشمول والتغلغل والسيطرة على نفوس أهلها جميعًا"[15].

 

فهو يربط الثقافة، بل حتى الحضارة في "الأصل الأخلاقي" لها الذي هو في نطاق "الدين" بمعناه العامّ، وبذلك فهو يمهّد للبتّ في بيان "فساد الحياة الأدبية" المعاصرة.

 

وضروريٌّ جدًّا أن ندرك بعمق أهميّة مفهوم "الثقافة" لدى محمود شاكر، فهو يعود للحديث عنه بالتفصيل حينما يتحدّث عن "الاستشراق"؛ كي يبرهن لنا أنّ الآراء والتصورات والتاريخ الذي سطّره الاستشراق حول عالمنا الإسلاميّ وقضاياه وتراثه لم يكن صحيحًا؛ لافتقاره إلى التمكّن من عنصر "اللغة" أوّلا، كما كان العلماء المسلمون يتقنونها، وافتقاره أيضًا إلى عنصر "الثقافة"، الذي من دونه لا يمكن فهم هذا التراث العربي الإسلامي. ولا يمكن بناء على ذلك فهم هذا التراث إلا بأدوات نابعة منه، ومتأصلة في بيئته التي نشأ بها، يقول محمود شاكر في نصّ هامّ يجعلنا ننتقل بعد إثباته إلى جوهر بحثنا هذا:

• "فباطل كل البطلان أن يكون في هذه الدنيا على ما هي عليه، "ثقافة" يمكن أن تكون "ثقافة عالمية"، أي ثقافة واحدة يشترك فيها البشر جميعًا ويمتزجون على اختلاف لغاتهم ومللهم ونحلهم وأجناسهم وأوطانهم. فهذا تدليس كبير، وإنما يراد بشيوع هذه المقولة بين الناس والأمم، هدف آخر يتعلق بفرض سيطرة أمّة غالبة على أممٍ مغلوبة، لتبقى تبعًا لها. فالثقافات متعدّدة بتعدّد الملل، ومتميّزة بتميّز الملل، ولكلّ ثقافة أسلوب في التفكير والنظر والاستدلال منتزع من "الدين" الذي تدين به لا محالة. فالثقافات المتباينة تتحاور وتتناظر وتتناقش، ولكن لا تتداخل تداخلاً يفضي إلى الامتزاج البتة، ولا يأخذ بعضها عن بعض شيئًا، إلا بعد عرضه على أسلوبها في التفكير والنظر والاستدلال، فإن استجاب للأسلوب أخذته وعدّلته وخلّته من الشوائب، وإن استعصى نبذته واطّرحته"[16].

 

وهذا النصّ على غاية من الأهميّة؛ لأنّه يوصلنا إلى موقف هذا المنهج من نظريات النقد الحديث، سواء التي شاعت في عصر المؤلف وفترات معاركه الأدبية في الثلاثينيات والأربعينيات، وسواء تلك النظريات الحديثة المعاصرة التي تأثّر بها طارحوها من النقاد العرب بالنظريات الغربية الأوروبية أو الأمريكية، ومن منظورنا في هذا البحث نجد أنّ ذلك ينطبق على معظم معطيات نظرية "النقد الثقافي" لعبد الله الغذامي، كونها لا تستجيب لمعطيات النقد "التذوّقي" الذي يطرحه محمود شاكر، ويقول بأنّه هو منهج العرب في النقد من القدم. فمن أهم معطيات هذا المنهج أنه يعتمد على التذوّق، وعلى أن ""الثقافة" و"اللغة" متداخلتان تداخلا لا انفكاك له، ويترادفان ويتلاقحان بأسلوب غامض خفيّ كثير المداخل والمخارج والمسارب، ويمتزجان امتزاجًا واحدًا غير قابل للفصل، في كلّ جيل من البشر وفي كل أمة من الأمم"[17]. فلا يمكن بحسب هذا المنهج أن يُقرأ الأدب العربي أو التراث العربي الأصيل وفق منهج لا يعطي "الجمالية" وزنًا في فهم المحتوى الثقافي، ذلك أنّ اللغة وطرائق التعبير وتذوّق الألفاظ أمور أساسيّة لا يمكن فصلها عن الثقافة بحال من الأحوال، حتى لو كانت هناك اعتباراتٌ تقول بأن "الجمالي" هو أحد إفرازات النسق الثقافي[18]، لإعطائه قيمة سلبيّة، ومن ثمّ فصل تذوّق هذا "الجمالي" عن حقل البحث النقدي. فمن خصائص هذا المنهج أنه يعطي قيمة للذوق، وهذا يعني الجمالية والبلاغة والرقيّ في التعبير، وبناء عليه لا يمكن تغيير وِجهة الفعل النقدي من "التعبير الفصيح الراقي" إلى "الأغنية الشبابية والنكتة والإشاعات واللغة الرياضية كما يطرح الغذامي في منهجه[19]. من هذا المنطلق سنحاول إسقاط رؤية محمود شاكر ومحتوى القصيدة الثقافي على منهج الغذامي في "النقد الثقافي"، ولكن ثمة تفصيل يسير حول الحياة الأدبية الفاسدة قبل الدخول في الحديث عن طبيعة النقد الثقافي.

 

الحياة الأدبية الفاسدة:

يكرّر محمود شاكر كثيرًا جملة: "الحياة الأدبية الفاسدة"، حتى لتكاد تكون الوِجهة التي يسير فيها البحث، فهو يقول في أول رسالته: "كنتُ منغمسًا في غمار حياة أدبيّة بدأتُ أحسّ إحساسًا مبهمًا متصاعدًا أنها حياة فاسدة من كلّ وجه"[20]. ثم بعد حديثه عن منهج الأسلاف الذي استنبطه وسماه "منهج التذوّق" يقول: "والذي لا يملك القدرة على استيعاب الدلالات وعلى استشفاف خفاياها، غير قادر البتة على أن ينشئ منهجا أدبيًّا لدراسة إرث هذه اللغة، في أي فرع من فروع هذا الإرث، إلا أن يكون الأمر كلّه تبجّحًا وغطرسة وزهوًا وتغريرًا، كما هو الحال في حياتنا الأدبية هذه الفاسدة"[21]. وهذه الحياة الأدبية الفاسدة قد "سنّ للناس سننها شيوخنا الأدباء الكبار، والتي نعيش فيها إلى هذا اليوم، وآفات أخرى كانوا يتعايشون بها، وبثّوها في تلاميذهم وأشياعهم، كل ذلك لم يكن يتيح لأحد، إلا من عصم الله، أن يجد من وقته ساعات للتأمّل والأناة والصبر، للبحث عن هذا المنهج الغريب غير المألوف الذي وجده أمامه مطبّقًا في كتاب كامل، وأحسّ به كلٌّ منهم إحساسًا خفيًّا دعاه إلى المعارضة أو الثناء"[22]. وهو يتحدث هنا عن كتابه "المتنبي".

 

وأسباب هذه الحياة الأدبية الفاسدة الرئيسية كما في استعراضنا للخط التاريخي هي الاستشراق ومن بعده الاستعمار. وقد تجلّت في أدباء كبار سيطروا بشكل بارز على الساحة الثقافية والأدبية في مصر في النصف الأول من القرن العشرين، واستمرت في عصر كتابة الرسالة في السبعينيّات، حينما كان الأديبُ يخوض معاركه مع هؤلاء الأدباء، ويمثّل هو بذلك "ثقافة الهامش"، بينما تمثّل الحياة الأدبيّة الفاسدة "ثقافة المتن" السائدة في المجتمع الثقافي[23].

 

وهي حياة أدبية تسير "في طريق الغموض، لا في طريق الوضوح. وقد استشرى خطر هذه السيرة بما شاع في هذه الحياة من الثرثرة والادّعاء والتحكّم والعجرفيّة وقلّة المبالاة والزهو الفارغ، فأدّى بنا ذلك كلّه إلى أن نألف استعمال ألفاظ موهمة غامضة الدّلالة، فضفاضة المعاني، بجرأة وبلا أناة وبلا ضبط وبلا تعمّق"[24].

 

وفي نهاية الرسالة، بعد حديثه عن الاحتلال الإنجليزي ودوره، ومنهج "دنلوب" التعليمي الذي وضعه للمدارس المصرية، يقول محمود شاكر عن تفريغ الطلاب المصريين من ثقافتهم المتكاملة: "وأيضًا فإنّ هذا "التفريغ" سوف ينشئ أجيالاً من "تلاميذ المدارس" تتهتّك علائقها التي تربطها بثقافتها العربية الإسلامية اجتماعيًّا وثقافيّا ولغويًّا، حتى يتمّ تفريغها تفريغًا كاملاً من ماضيهم كلّه، ثمّ يَملأُ هذا الفراغ علومٌ وآداب وفنونٌ لا علاقة لها بماضيهم، وإنما هي علوم الغزاة، وفنون الغزاة، وآداب الغزاة، وتاريخ الغزاة، ولغات الغزاة"[25].

 

هكذا ينظر محمود شاكر إلى المشهد الثقافي المعاصر المسيطر على الساحة الأدبية، وهكذا انتهى حال هذه الحياة الأدبيّة بعد جميع مراحل الاستشراق والاستعمار المادي والفكري التي سردها بتأنٍّ في رسالته.

 

وبهذه الرؤية نستطيع قراءة "الغذامي"، الذي يعتبر - وفق هذا المنهج - متأثّرًا بشكل سلبيّ بمعطيات الثقافة الغربية، متجلّيًا ذلك في استيعابه لنظرية النقد الثقافي ومحاولة تطبيقها - بمعطياتها الغربية ونشأتها الغربية - على المحتوى الثقافي للتراث الأدبي العربي، وبخاصة الشعريّ. ومن هنا سوف نطّلع على طبيعة النقد الثقافي في الفصل التالي، ونرجئ تحليل القصيدة ثقافيًّا إلى الفصل الثالث والأخير.

 

النقد الثقافي والغذامي

ظهر النقد الثقافي كامتداد لحشد من التغييرات في ساحة النقد الغربي، بدأت بتوجيه الاهتمام إلى الخطاب بدلاً من مجرّد النص[26]، بعد ظهور ما يسمّى بالدراسات الثقافيّة التي هي عبارة عن "دراسة الثقافة"، أو، على وجه أخص، دراسة الثقافة المعاصرة[27]. وقد سردَ الدكتور الغذامي قصة تولّد هذا النوع من النقد والتغيرات التي سبقته في فصل كامل من كتابه "النقد الثقافي" بعنوان "ذاكرة المصطلح"[28].

 

ويهمّنا في هذا البحث أن نعرض للنقد الثقافي الذي يقدمه الدكتور عبدالله الغذامي كبديل عن النقد الأدبي، فليس لدينا مجال في بحثٍ مجمل كهذا لبيان كل مذاهب النقد الثقافي الغربية، إنما فقط أثبتنا كون ذلك النقد لم ينبع من لا شيء أو من فراغ، إنما هو بمثابة منظومة أدوات إجرائية مستوردة من النقد الغربي ومطوّرة من قبل الدكتور الغذامي لتلائم المشكلات التي أراد الكشف عنها. غير أنّنا لن نلتزم في بعض ما يقوله الغذامي في شأن النقد الثقافي، كقوله: "ويشترط في النص أن يكون جماليًّا، وأن يكون جماهيريًّا"[29]. فسنحاول إسقاط رؤية الشاعر علي فريد في قصيدته على خطاب الغذامي، رغم كون خطاب الغذامي النقدي ليس جماليًّا بالمعايير المعروفة، وليس جماهيريًّا إنما نخبويّ. ولكنّنا ننطلق من منظور يرى في النقد الثقافي سعةً تسمح بالتصدّي لأي خطاب، حتى لو كان هذا الخطاب هو من النقد "النخبوي" غير "الجماهيري". وكذلك فالبحث يعالج قضية تصدّي منهج محمود شاكر وغيره للثقافة السائدة في الجوّ الأكاديمي، وأنها الثقافة التي تعتمد على أدوات ومناهج غربية غريبة على الحسّ العربي الأصيل، هذا المنظور هو الذي سيحاول الكشف عن عيوب الخطاب الثقافي الحالي ومنه خطاب الغذامي وليس كلّه. وخلاصة الكلام هنا أنّنا بعدم التزامنا بكلّ ما يقوله الغذامي بشأن النقد الثقافي لا نكون قد خرجنا عن قواعده ما دام في الأمر سعة، على اعتبار أنّ النقد الثقافي يستطيع معالجة أيّ خطاب مهما كان.

 

النقد الثقافي "معنيّ بكشف لا الجمالي، كما هو شأن النقد الأدبي، وإنما همّه كشف المخبوء من تحت أقنعة البلاغي/ الجمالي"[30]. يحاول الغذامي البحث عما هو غير الأدبية في الأدب[31]، وبهذا التساؤل يبرر لنا شيئًا فشيئًا اقتراحه في إحلال النقد الثقافي مكان الأدبي. فبدايةً الأدبيّ لن يكون هو الذي وضعت شروطه المؤسسة الثقافية حسب ما توارثته من مواصفات بلاغيّة وجماليّة[32]، وكلّ ما لا يرقى إلى ذوق المؤسّسة النقدية لاعتبارات مختلفة كشعبيّته أو امتلائه بحكايات الصبيان والنساء وضعاف النفوس فهو يصنّف في خانة الأدنى، وغيره مما امتلأ بالحِكم أو بالعقلانية وأخبار الملوك فهو الأرقى في نظر المؤسسة[33]. الجمالية المتعالية أصبحت هي معيار التقييم في النقد الأدبي[34]، ولم يتطور ذلك في الوعي النقدي، وبقيَ هذا الوعيُ حبيس الشرط الجمالي المؤسساتي. ومن ثمّ ظلَّ الفعل النقدي يدور حول دوائره النسقيّة ولم يتجه إلى كشف عيوب الخطاب، بما في ذلك عيوب المؤسّسة النقديّة ذاتها ودورها في تنميط أفعال الاستقبال والتذوّق والتأويل، وإخضاع فعل القراءة لشروط المؤسّسة وأحكامها[35]. ومن هنا اتجه الغذامي إلى محاولة تحرير مصطلح الأدبي والأدبيّة من قيد التصور الرسمي المؤسّساتي، بحيث يعاد النّظر في أسئلة الجمالي وشروطه وأنواع الخطابات التي تمثّله، هذا من جهة، ومن جهة أخرى لا بدّ من الاتجاه إلى كشف عيوب الجمالي، والإفصاح عمّا هو قبحيّ في الخطاب، وكما أنّ لدينا نظريّات في الجماليّات فإنّه لا بدّ أن نوجد نظريات في (القبحيات) أي في عيوب الجمالي وعلله، وهي نوع من علم العلل - كما في مصطلح الحديث، الذي يبحث عن علل المتن أو في السند أو فيهما معًا، وفي ذلك جهود ضخمة نحتاجها كمثال نقدي حيّ ومجرّب[36]. وهكذا تتبيّن لنا وظيفة هذا النقد الثقافي الذي يريده الغذامي، فهو كعلم العلل، أي مختص بعيوب الخطاب كما اختص علم العلل بعيوب المتن والسند.

 

والغذامي في ذلك المشروع يريد أن يحرّر المصطلح، فتحرير المصطلح من قيده المؤسساتي هو الشرط الأول لتحرير الأداة النقديّة، مذ كان الارتباط بين الاثنين أزليًّا[37]. وإعمال المصطلح النقديّ الأدبي إعمالاً لا يتسمّى بالأدبيّ، ويتّخذ له صفة أخرى هي الثقافي، يستلزم إجراء تحويرات وتعديلات في المصطلح لكي يؤدّي المهمة الجديدة على ذاكرة هذا المصطلح، وهي ذاكرة مكتنزة بالتجارب ومتلبّسة بها، ولن تتخلّص هي، ولن نتخلّص نحن معها من هيمنة الاصطلاح إلا عبر هذا التحويل الذي هو عمليّة تحرير فعليّ لنا وللأداة[38].

 

ولنا هنا وقفة مع هذا الكلام، سنحاول أن ندخل في العمق الذي عرضناه في الفصل السابق، وهو عمق الثقافة وخصوصية الأدب العربي، مما يجعل من غير المستساغ تفعيل أدوات نقدية غريبة عليه من دون أن تكون خاضعة لأسلوب هذه الثقافة وهذا التراث في النقد. ونستحضر مرة أخرى ما قلناه في الفصل السابق حول منهج محمود شاكر:

"فلا يمكن بحسب هذا المنهج أن يقرأ الأدب العربي أو التراث العربي الأصيل وفق منهج لا يعطي "الجمالية" وزنًا في فهم المحتوى الثقافي، ذلك أن اللغة وطرائق التعبير وتذوق الألفاظ شيءٌ أساسيٌّ لا يمكن فصله عن الثقافة بحال من الأحوال لاعتبارات تقول بأن "الجمالي" هو أحد إفرازات النسق الثقافي[39]. ومن خصائص هذا المنهج أنه يعطي قيمة للذوق، وهذا يعني الجمالية والبلاغة والرقي في التعبير، فبناء عليه لا يمكن أن يتمّ تغيير وجهة الفعل النقدي من "التعبير الفصيح الراقي" إلى "الأغنية الشبابية والنكتة والإشاعات واللغة الرياضية كما يطرح الغذامي في منهجه[40]".

 

لا يمكن بحسب هذه الرؤية أن نستبدل تراثًا نقديًا طويلا نما مع الأدب العربي والثقافة الإسلامية بمنهج غربيّ في لحظات! وهذا ما يصرّح بفعله الغذاميّ فيما نقلناه عنه إذ يقول: "وإعمال المصطلح النقديّ الأدبيّ إعمالاً لا يتسمّى بالأدبيّ، ويتّخذ له صفة أخرى هي الثقافيّ، يستلزم إجراء تحويرات وتعديلات في المصطلح لكي يؤدّي المهمة الجديدة على ذاكرة هذا المصطلح وهي ذاكرة مكتنزة بالتجارب ومتلبّسة بها، ولن تتخلّص هي ولن نتخلّص نحن معها من هيمنة الاصطلاح إلا عبر هذا التحويل الذي هو عمليّة تحرير فعليّ لنا وللأداة"[41].

 

ويمكننا هنا الاستعانة بما قاله الدكتور عبدالنبي اصطيف في كتاب "نقد ثقافي أم نقد أدبي" وبما قاله ناقد مصري في فترة الأربعينيات وهو سيّد قطب في كتابه "النقد الأدبي: أصوله ومناهجه".

 

يقول الدكتور عبدالنبي اصطيف:

"وحقيقة الأمر أنّ دعاة النقد الثقافي في المجتمعات العربيّة الحديثة والمعاصرة إنّما هم قوم فتنوا بما حققه "النقد الثقافي" في الغرب، بوصفه جزءًا ممّا بات يشار إليه في الأوساط الجامعية الغربية والأمريكية بـ "الدراسات الثقافية" cultural studies، فرأوا فيه الحل السحري لجميع مشكلات النقد الأدبي العربي الحديث، غافلين عن أنّ هذا النقد الثقافي - على أهميّة ما حقّقه من إنجازات - لم يلغ دور النقد الأدبي في المجتمعات الغربيّة وغير الغربيّة التي ازدهر فيها، بل إنّ النقد الأدبي قد شهد في هذه المجتمعات ازدهارًا مماثلاً، وهو لا يزال يقوم بالكثير من الوظائف التي يودّ دعاة النقد الثقافي في الوطن العربي أن يُسنِدوها إلى النقد الثقافي[42].

 

ويقول سيّد قطب:

"هذا ولم أرد أن أحمّل "النقد العربي" على مناهج أجنبيّة عنه، لها ظروف تاريخيّة وطبيعيّة غير ظروفه، بل آثرتُ أن أتحدّث عن هذه المناهج في محيط النقد العربي في القديم والحديث. فإذا اضطررت إلى الاقتباس من مناهج النقد الأوروبي كان ذلك في الحدود التي تقبلها طبيعة النقد في الأدب العربي، وتنتفع بها وتنمو بها نموًّا طبيعيًّا، بعيدًا عن التكلّف والافتعال"[43].

 

هذا الخطاب هو ذاته خطاب محمود شاكر فيما سبق، وهو يطرح التساؤل: كيف جاز للنقد الحديث أن يتّخذ له بسرعة خاطفة مناهج نقد غربيّة نمت وتطورت في وعاءٍ من الزمان طويل ووعاءٍ من المكان والملابسات والظروف مختلفٍ ليطبّقها على الأدب العربي؟ إنّ هذا الخطاب (خطاب شاكر واصطيف وقطب) يرى في ذلك "عيبًا"، أو مظهرًا "قبحيًّا"[44] يختبئ وراء ستار "التجديد"، فهو يكشف عن أنساق ثقافيّة من وراء الجوّ الثقافي المسيطر، هذه الأنساق توصف بأنها "معيبة"، كونها تحمل صفات مرفوضة على الحسّ العربيّ، لأنها نابعة من تأثير الثقافة الاستعماريّة الغالبة التي كافحت الشعوب لإزالة أسبابها الماديّة، ولكنّها ابتليت بتظاهر هذه الثقافة في المحافل الثقافية والأكاديميّة.

 

في هذا الجوّ الخانق من سيطرة الثقافة "المغايرة" ولدت قصيدة "هذيان بائع الدموع"، كما ولدت قبلها رسالة محمود شاكر التي عالجناها في الفصل الأول. وقبل أن ننتقل إلى الفصل الأخير وتحليل القصيدة ثقافيًّا نحتاج أن نثبت بعض ما قاله الشاعر في رسالة خاصة أرسلها للباحث، تظهر لنا الرؤية التي ينظر من خلالها للنقد وللغذامي.

 

أرسل لي مرة رسالة تحدّث فيها عن مناهج النقد الغربيّة وعن العذامي وكتابه "النقد الثقافي" فقال:

"لا أدري لماذا أتخوف دائماً من هذه النظريات الغربية الحديثة التي يوضع الشعر العربي تحت مبضعها كل عقد من السنوات، وكلما خرجت نظرية ألغت سابقتها، كأهل النار كلما دخلت أمة لعنت أختها.. أنا رجل لا أستطيع فهم الشعر العربي إلا من خلال منهج التذوق العربي.. ولا أمانع في الاستعانة بأدوات إجرائية مستوردة من وراء البحار ما دامت ستخدم النص وتعين على التذوق رغم يقيني الكامل أن هذه الأدوات الإجرائية التي يظنها أصحابها جديدة وغير مسبوقة، لها تاريخ كبير وواسع في الأدب العربي.. فأنا من المؤمنين حد التعصب أنه ليس هناك شئ جديد في النقد لم يقله العرب الأقدمون أو يشيروا إليه أو يلمحوا إلى بعضه.. ولكني لا أتعصب برفض الاستفادة من أدوات الآخرين وتزيّداتهم في نقدهم..

 

"غاية ما هنالك أني أرى أنه من الحمق أن نزرع نخلة في القطب الشمالي... لأنها ببساطة.. لن تنمو..

 

"لا أحب أن ألبس (شورت) في المسجد، أو ألبس (بيجامة) نومي في الأوبرا..

 

"لكل شيء شيء..

 

"والأدب العربي لا يصلح له إلا نقد نابع منه.. من طبيعته.. من خصوصيته.. ولا مشاحة بعد ذلك في إجراءات نقدية لا تجور في التطبيق على خصوصية الأدب..

 

"قرأت كتاب النقد الثقافي للغذامي.. ورأيي الشخصي فيه سيّء (في الكتاب وليس في الرجل).. ولا أعرف ما الذي يريده الكتاب بالضبط، وليس ثمة مجال لشرح رأيي الذي يطول شرحه"[45].

 

فعلي فريد وإن كان لا يرفض - على الإطلاق - استخدام أية أداة إجرائيّة نقديّة مستوردة من الغرب، فإنّه لا يرى في ذلك أيّ جدوى من حيث الهدف المبتغى من وراء استخدام هذه الأدوات والنظريات، وهذا يفسّر نفيَهُ وجودَ الهدف الواضح عن كتاب الغذامي وطرحِه في "النقد الثقافي"، فهو لا يعرف ما الذي يريده الكتاب بالضبط. ومع ذلك سنحاول أن نطبّق أداة إجرائيّة من نقد الغذامي الثقافي على محتوى القصيدة الثقافي، وهي أداة "الفرز الثقافي" (المتن والهامش) بحيث لا يشكّل هذا التطبيق أي إجحاف بطبيعة النصّ العربية، استنادًا إلى مقولة علي فريد في قبول الاستعانة بأدوات النقد الغربي الإجرائيّة.

 

بعد هذا البيان الموجز حول ماهية "النقد الثقافي" من جهة وحول موقف محمود شاكر والشاعر علي فريد من هذا المنهج المستورد لا بدّ لنا أن نبدأ بتحليل القصيدة، فقد حددنا الجوّ الثقافيّ الذي تعيش فيه. والفصل القادم تحليلٌ ثقافي للقصيدة اعتمادًا على نظرية "المتن والهامش" للغذامي بشكل أساسي.

 

التحليل الثقافي لهذيان بائع الدموع

كانت (هذيان) وليدة الجو الثقافي الخانق الذي تحدث عنه محمود شاكر في رسالته تلك.. وتحدث عنه غيره.. ولمسه الشاعر في المحيط الذي كان يعيش فيه[46]، ويحدّثنا الشاعر عن مناسبة القصيدة فيقول:

"جاءت في سنة 1996م.. وكنت وقتها في الرياض بالمملكة العربية السعودية.. غريب الروح والجسد.. وحيداً بعيداً عن الأهل.. تؤرقني الأحداث التي تأتيني أخبارها تباعاً عما يحدث في بلدي ومدينتي من قتل وقتال شبه يومي بين من سُموا بالإرهابيين وبين النظام المصري.. وقد ارتكبت في هذه الأحداث بشاعات لا أظنها ارتكبت مؤخراً في فلسطين.. بل إنني سمعت بعد ذلك أن شارون قد استقى فكرة هدم بيوت الاستشهاديين في فلسطين من ضباط النظام المصري الذين كانوا يهدمون البيوت بعد أن ينهبوا كل ما فيها... ثم أضف إلى هذا أن التسعينات كانت فترة كالحة لاشتداد عود الحداثة في السعودية وفي مصر بمذاهبها ومناهجها المختلفة.. وكنت على احتكاك مباشر بما يحدث في الأندية الثقافية والصالونات الأدبية في الرياض، فشبهت هذه الفترة بفترة الثلاثينات والأربعينات من القرن العشرين في مصر.. إبان اشتداد الغزو الفكري والثقافي والتغريب الذي بلغ أشده وقتها وطال كل شيء..

 

"وكان الجو خانقاً.. والشباب متلهفاً على الحداثة ليقال مثقف.. والأنماط السائدة كلها أو أغلبها لا بد أن تتلبس بشيء من التغريب أو الأمركة أو الأوربة حتى ينظر إليها باحترام وتقدير..."[47].

 

في هذا الجوّ الخانق ولدت قصيدة "هذيان بائع الدموع". إنّها تواجه ثقافة "الأنا المتضخّمة الفحوليّة التي لا تقوم إلا عبر التفرّد المطلق بإلغاء الآخر وبتعاليها الكوني، وبكونها هي الأصحّ والأصدق حكمًا ورأيًا، وبكون الظلم عندها علامة قوة وسؤدد"[48]. ثقافة النسق المسيطر حيث "لا مكان للمعارضة أو مخالفة الرأي، والآخر دائمًا قيمة ملغيّة"[49].

 

سنحاول أن نقرأ القصيدة من منظور نقدي ثقافي يعتمد تقنية "الفرز الثقافي" التي سخّر لها الغذامي في كتابه "النقد الثقافي" فصلاً كاملاً، عالج فيه قصة غنيّة في كتاب العصا للجاحظ[50]. غير أننا لن نلتزم بنفس معطيات ذلك الفرز الذي يتعامل مع الثقافة السائدة في العصر العباسي، إنما نريد فرز الثقافة المعاصرة لقصيدة "هذيان بائع الدموع" إلى "ثقافة هامش" و "ثقافة متن". ثقافة الهامش هي - كما أسلفنا - الثقافة التي ينتمي إليها الشاعر كما يبدو من قصيدته، وثقافة المتن هي ثقافة المؤسسة الأدبية التي عاش الشاعر في صراع معها. ولا بدّ لنا أن نبدأ بتحليل القصيدة بحسب الترتيب الطبيعيّ لأبياتها[51]:

عِمْ مساءً يا بائعَ الليلِ دمعه
كلّ رأس يثبِّتُ الآن وضعهْ
عِمْ مساءً، أراكَ تصنعُ شيئًا
غيرَ ذاكَ الذي تمنّيتَ صنعهْ
كلُّ يومٍ لكَ انهيارٌ جديدٌ
فيهِ تنهدُّ قطعةً بعدَ قطعةْ
تمتطي أعنف القضايا وتأتي
لابسًا من صراخكَ المرّ خِلعةْ
أخصبت فيكَ غائلاتُ المآسي
والمآسي لحامل الهمّ شِرعةْ
تحتسي كوخك القلاعُ وتغضي
أترى الكوخُ سوفَ يصبحُ قلعةْ؟
أنتَ مثلَ الرّدى، حنينُكَ نارٌ
تتلظّى، ولمحُ عينيْكَ فزعةْ
أنتَ كالريح، حشرجاتُكَ طبلٌ
بلديٌّ، وقبضُ كفّيْكَ صرعةْ
جئتَ من أينَ؟ أو إلى أينَ تمضي؟
كلُّ دربٍ يرى الخطا منكَ بدعةْ

 

نحن مع علي فريد في مقطع القصيدة الأول، يصف لنا حالته النفسيّة الصعبة وهو يخاطب ذاته، ولعله الحزن الذي سببته له الأخبار التي أتته تباعًا من بلاده "مصر" إلى حيثُ يقيم، فيفزع لما يجري من قتل وتدمير، فيجد في نفسه مخاطبًا يفرز لنا تلك التجربة الشعوريّة شعرًا يحمل طابع الحزن الممزوج بالسخرية اللاذعة.

"كلّ رأسٍ يُثبِّتُ الآن وضعهْ"

 

تلك هي الحالة التي تسود مصر، حالة التدمير وسببها أن الرأس (السلطة) يسعى إلى تثبيت وضعه (السيطرة). إن هذا المقطع الأول من القصيدة يرسم لنا بواعث القصيدة الرئيسيّة، ويحدّد لنا معالمها، ثم يمضي بعد ذلك في المقاطع القادمة يخوض في تلك المعركة بين "الهامش" و"المتن". معركة تنبعث صورها من "الانهيارات" المتعدّدة للشاعر، وامتطائه لـ "أعنف القضايا"، و"المآسي" التي غدت شريعته ومنهجه كونه "حامل همّ".

تحتسي كوخك القلاعُ وتغضي

أترى الكوخُ سوفَ يصبحُ قلعةْ؟

 

هذا البيت يجسّدُ العلاقة بين الشاعر (المهمّش) وبين (السيطرة). هذه السيطرة تتجلى في القصيدة ببعدين اثنين:

1) سيطرة "القوة" المتمثّلة بالسلطة في مصر.

2) سيطرة "المؤسّسة الثقافية" في مكان إقامته في السعوديّة.

 

بهذين البعدين يمكننا أن نمضي في قراءة للنسق الثقافي المختبئ وراء "الجماليّة" الطاغية للقصيدة، متجاوزين أيضًا مجرد قراءة المضمون ببعده التاريخي إلى محاولة رصد "الصراع" الثقافي الذي يدور من وراء الأبيات بعد تمهيدنا له في الفصلين السابقين بما يكفي لنلتقط صورة واضحة عن ماهيته وأبعاده. بالإضافة إلى بيان كشف الشاعر عن النسق الثقافي "المعيب" في نظره والذي تختبئ من ورائه "ثقافة المؤسسة" الطاغية. ولا نريد أن نتعرّض لكل أبيات القصيدة بالشرح والتأويل واستشفاف المعاني لاعتقادنا بأنّ ذلك لا يفيدنا في الغاية التي نتصدّى لها والمحصورة في نطاق النقد الثقافي.

 

"أترى الكوخُ سوفَ يصبحُ قلعةْ؟"

 

هذا السؤال هو "الحلم" الذي يعرضه الشاعر مفصّلاً بشكل أكبر في المقطع التالي، حيث يعبّر عن رفضه المطلق للوضع الثقافي الراهن الذي يعيشه ويشكّل له جوًّا خانقًا:

ما الذي تبتغيه؟ أبغي زمانًا
غيرَ هذا الذي تثيرون نقعهْ
عصركم رائد التوجّس والحزنِ
وأسماؤه رياءٌ وسمعةْ
الأماني بهِ بقايا هباءٍ
والأغاني بهِ بكاءٌ ولوعةْ
الخطايا تغوص فيهِ وتطفو
والمنايا تُشيرُ من كلِّ رقعةْ
عصركم سيّد الأكاذيبِ، يُلقي
للذي قنّن الأكاذيبَ سمعهْ

 

إنّه يحلم بحالة ثقافيّة غير تلك التي خنقت شعورَه وفكرهُ وحسّه الأدبيّ، وهو يصفها بأقسى ما يمكن من وصف، والتعبير عن سيادة تلك الثقافة بكلمة "عصركم" يدلّ دلالة عميقة على "السيطرة" و "الطغيان"، فنحن نسمي العصور وننسبها للشيء البارز فيها، وعادة ما يكون هذا البارز هو "المسيطر" الذي يقف على هرم التوجيه في هذا العصر أو ذاك. وفي نهاية المقطع يشير الشاعر إلى ميزة هذا العصر، فهو "سيّد الأكاذيب" لأنه يتلقى هذه "الأكاذيب" من "الآخر". ومن هو هذا الآخر؟ إنه "الثقافة الغازية" الغربية التي استقى منها "الشيوخ" الكبار (كما يصفهم محمود شاكر) ثقافتهم ونهلوا منها باعتبارها الثقافة المثلى. وقبل أن نذهب إلى تحليل المقطع التالي لا بد لنا من وقفة مع الدكتور عبدالحميد إبراهيم في كتابه "الوسطيّة العربيّة: مذهبٌ وتطبيقٌ" حيثُ يقول بعد أن عرض لحالة التأثر بالحضارة الغربية واستيراد المصطلحات الأجنبية لعناصر ثقافتنا:

"وربّما كان هذا نتيجة طبيعيّة للتفوّق الأوروبيّ، الذي أضاع الثقة وجعل المغلوب يولع بتقليد الغالب، أعرف الكثيرين - وأنا واحد منهم - قد يصل إلى فكرة ما عند الغزالي أو ابن تيمية أو ابن الجوزيّة فيجد تحرّجًا من إظهارها، ويحذر ألف مرّة من تهمة الرجعيّة والتخلّف والجمود وضيق الأفق والسلفيّة والتقليديّة وغير ذلك من عبارات تتوالى وتقف عقبة أمام استيحاء الذات، ولكنّه حين يجد هذه الفكرة عند سارتر أو نيتشه أو جيته، فإنّه يسرع لإظهارها، لأنّه يعرف أنّ الآخرين سينظرون إليها نظرة الإعجاب والتقدير، بل الأدهى أن الفكرة قد يقولها العربيّ نقلاً عن الغزاليّ أو ابن تيمية فلا تجد من يلتفت إليها، حتى إذا ما نقلها مستشرق تجد الترحيب والاهتمام"[52].

هل سمعتَ المثقفينَ؟ هراءٌ
ما يقولونهُ وزيفٌ وخُدعةْ
القديمُ الذي يريدون خاوٍ
والجديدُ الذي يسمّونَ "صرعهْ"
هم أجادوا تأليفَ فكرٍ جديدٍ
قل: أجادوا مع الصفاقةِ جمعهْ
عادَ "دنلوب" فيهم رافعَ الرأ
سِ يمنّيهم خلودًا ومنعةْ
أبشعُ العهرِ أن تحولَ الخيانا
تُ تنويرًا ويصبحَ الفكرُ سلعةْ

 

نحن في هذا المقطع مع مجموعة من الأفكار التي تتحدّث عن "النسق الثقافي المعيب" المختبئ وراء "البهرج" و"المظهريّة" اللذين تختبئ وراءهما الثقافة المسيطرة، فكل ما يقوله هؤلاء المثقفون "المهيمنون" هو "زيف" و "خدعة"، وقضية "القديم والجديد" تجعلنا نعود إلى رسالة محمود شاكر، فالتجديد عند شاكر هو: "حركةٌ دائبة في داخل ثقافة متكاملة، يتولاها الذين يتحرّكون في داخلها كاملةً حركةً دائبةً، عمادها الخبرةُ والتذوّق والإحساس المرهف بالخطر، عند الإقدام على القطع والوصل، وعند التهجّم على الحلّ والربط. فإذا فقدَ هذا كلّه، كان القطع والحلّ سلاحًا قاتلاً مدمّرًا للأمة ولثقافتها، وينتهي الأمر بأجيالها إلى الحيرة والتفكّك والضياع، إذ يورِّثُ كلُّ جيل منها جيلاً بعده، ما يكون به أشدّ منه حيرة وتفكّكًا وضياعًا"[53].

 

تلك هي "العاقبة" كما يسميها محمود شاكر[54]، فما ظنّنا بالعاقبة إن "لم تكن الأفكار "المجدّدة" إلا ترديدًا لصياغة غريبة، صاغها غريب عن الثقافة، منتسبٌ إلى ثقافة غازية مباينة، وهو مع ذلك ناقص الأداة، لا خبرة له بتشابكها وعقدها، ثمّ هو في نفسه لا يضمر لها إلا التدمير والاستهانة، لغرض راسخ في قرارة النفس؟ ثمّ ما ظنّك أيضًا بالعاقبة، إذا صار "التجديد" عند أصحاب الثقافة أنفسهم، لا يزيدُ على أن يكون "سطوًا" مجرّدًا على هذه الصيغ الغريبة، ثمّ إقحامها إقحامًا على ثقافتهم، لا لحاجة أدّى إليها النّظر والفكر والتدبّر، بل الهوى وحبّ الظهور من مفرَّغٍ، أو من شبيهٍ بالمفرَّغِ، من ثقافته المتكاملة المتماسكة؟ ما أبشع العواقب عندئذٍ، وأبشعها التدهوُرُ المستمرُّ!"[55].

 

وقبل أن نمضي مع بيان محمود شاكر حول قضيّة "القديم والجديد" لا بدّ لنا أن نلاحظ أن ناقدًا كالغذامي مثلا لا تنطبق عليهِ كل الصفات التي تحدّث عنها شاكر في الفقرة السابقة، وليس ذلك مجال بحثنا، أعني: إن كان الرجل متغرّبًا أم غير ذلك، بل المهم هو أن نثبت الصفات التي تعبّر عن النسق الثقافي "المعيب"، والتي اتصفت بها ثقافة عصر شاكر وعصر الشاعر علي فريد، أما الغذامي فنظنّه وفق ما يقدّم أنه ليس "ساطيًا" بمعنى أن ينسب النظريّة له، إنما هو يثبت نُقوله من الثقافة الغربيّة ولديه تصوّر حول ضرورة استعمال تلك الأدوات المستوردة، وهذا ما قد يعارضه موقف الشاعر وموقف محمود شاكر دون أن يصل إلى الحدّ الذي يتحدّث عنه شاكر في الفقرة السابقة بكامل عمقه.

 

هناك "ميلٌ ظاهر إلى رفض "القديم" والاستهانة به، دون أن يكون الرفض ملمًّا إلمامًا ما بحقيقة هذا "القديم" وميلٌ سافر إلى الغلوّ في شأن "الجديد"، دون أن يكون صاحبه متميّزًا في نفسه تميّزًا صحيحًا بأنّه "جدّد" تجديدًا نابعًا من نفسه، وصادرًا عن ثقافة متكاملة متماسكة، بل كان ما يميّزه أنّ الله قد يسّر له الاطلاع على آداب وفنون وأفكار تعب أصحابها في الوصول إليها من خلال ثقافتهم المتماسكة المتكاملة!! وكفى الله المؤمنين القتال!"[56]

 

ويتحدّث شاكر عن ظاهرة "السطو"، وهو يعني بها أناسًا لا يربطهم في أنفسهم بهذا الماضي إلا اللسان العربيّ وحده، أما ضمائرهم فمرتبطة بشيء آخر[57]. وكان هؤلاء "الساطون" يأخذون آراء المستشرقين ومناهجهم في النظر، وقد يُسّرَ لهم السبيل لجعل "السطو المباشر أمرًا مألوفًا لا غبار عليه، بل زاد فقرّب إلى الأذهان سبيل الاقتناع بأنّه ضربٌ من "التجديد"، ومن متابعة "ثقافة العصر" ومناهج تفكيره في الدراسات الأدبية والتاريخيّة الخاصة بلغة العرب وتاريخهم وعلومهم وفنونهم ودينهم أيضًا!![58]" وقد "صار الآن ممكنًا أن يصبح من الممكن ومن السهل اليسير، أن يكون معنى "الجديد" و "التجديد" في دراسة آداب أمّة ما وفي دراسة تاريخها: أن يعمد "المجدّد" إلى اقتباس آراء وأفكار قد تولّى صياغتها من هوَ لصيقٌ دخيلٌ عليها وعلى لسانها، لم ينشأ فيه، وإنّما تعلّمه على كبر، فهو لا يعلم منه إلا أقلّ القليل، ومن هو نابتٌ في لسان آخر بآدابه وعلومه وفنونه وعقائده، ومن هو محرومٌ بطبيعته من القدرة على تذوّق آدابها تذوّقًا شاملاً، والتذوّق وحده عقدة العقد، ومن هو مسلوبٌ كلّ إحساسٍ بتاريخها كلّه"[59].

 

وبعد هذه النقول الكثيرة من محمود شاكر تتضح لنا القضية؛ قضيّة "النسق الثقافي" المعيب الذي يختبئ من وراء هذا المنهج "المجدّد". قضية "القبحيّات" التي تلخّصها أبياتُ الشاعر علي فريد، وتكشف عنها:

القديم الذي يريدونَ خاوٍ
والجديد الذي يسمّون "صرعهْ"
هم أجادوا تأليف فكرٍ جديدٍ
قل: أجادوا مع الصفاقةِ جمعهْ
عادَ "دنلوبُ" فيهم رافع الرأ
سِ يمنّيهم خلودًا ومنعةْ
أبشعُ العهر أن تحولَ الخيانا
تُ تنويرًا ويصبح الفكرُ سلعةْ

 

وقد تحدّت محمود شاكر عن "دنلوب" هذا، الذي جاء "في (17 مارس 1897)، ليضع للأمّة نظام التعليم المدمّر الذي لا نزال نسير عليه، مع الأسف، إلى يومنا هذا"[60].

 

ثم يرحل الشاعر علي فريد (إلى الرياض كما يبدو) آملاً في حياةٍ ثقافيّة أفضل من تلك التي عايشها في مصر، بلده الأصليّ. ولكنّه يخبرنا في رسالته التي اقتبسنا منها سابقًا أن الجوّ الثقافي هناك هو ذاته الجوّ "الموبوء" الذي سبّب له الاختناق. وهو يصفُ لنا ذلك "الاختناق" في مقطع "عنيف":

ولهذا رحلتَ؟ قلتُ لعلّي
ألتقي بعدَ ذلك الخفض رِفعةْ
قالتِ البقعة التي أنبتتني:
دعكَ منّي فإنّني شرّ بقعةْ
ثمّ ماذا؟ وعدتُ أحسو برفقٍ
آسنَ النفيِ جرعةً بعد جرعةْ
أتردّى وألف سيفٍ ورائي
وأغنّي وداخلي ألفُ فجعةْ
المآسي هويّتي وجوازي
والأمانيّ صفعةٌ إثر صفعةْ
الممرّاتُ أعينٌ تمتطيني
والكُوى مُخبرٌ وأشلاءُ رجعةْ
والأماسي التي أراها ملاذي
مثلُ أحزانِ شاعرٍ يومَ "جمعةْ"
لي مع "السوط" موعدٌ سوف يأتي
وأراني أحسُّ خلفيَ لسعهْ

 

إنّ الشاعر قد رحل مبتغيًا تلك الرفعة "المعنوية"، وهو تعبير عن التحويل الذي يتمنّاه وينشده، التحويل إلى الأفضل. ولكنّه كما يبدو لم يلقَ هذا الذي تمنّاه وحَلُمَ به، ويحسن بنا هنا أن نرصد بعض الأبيات من قصيدته "عدودة الخروج"[61]، التي "جاءت وليدة أحداث مأساوية وقعت في محافظتي المنيا وأسيوط بمصر حين ظهر ما كان وما يزال يسمى بالإرهاب.. وانتهكت باسم محاربته كل المقدسات الإنسانية والدينية.."[62]. حينها كان الشاعر "مؤرّقًا" مما يأتيه من أخبار تلك الأحداث في بلدته "قلندول". ولا بد كي نفهم طبيعة الحالة النفسيّة التي يعيشها الشاعر في المقطع أعلاه أن نعرض لبعض الأبيات من "عدودة الخروج":

من جنوب الجنوب جئتَ تغنّي
و(قلندولُ) في مآسيكَ شكوى
و(قلندولُ) وردةٌ قطفتها
كفّ من أشبع (الكنانة) سَطوَا
جنّحتْ ثمّ رفرفتْ ثمّ طارتْ
ثمّ خرّتْ على الحناجر شِلوا
هيَ مثواكَ هل تراها استراحتْ
ولها في مشانق القوم مثوى
أقبلتْ تستقي الحَيا لبنيها
وهل النيلُ يملأُ الآن دلوا
لا تقُلْ دنّس الغريبُ حماها
سلْ دويَّ الرصاص من أين دوّى
سلْ (قلندولَ) شمسها وهواها
كيفَ أضحت هواية القتلِ عدوى
سلْ أخي عن دمي وعن دمع أمّي
أوَ كان الذي جرى منه سهوا
ها هنا كانت الشتائم تشوي
وهنا كانت الكرابيجُ أشوى
كلُّ شبرٍ له حلوقٌ تنادي
أصبحَ القتلُ فوقنا خبطَ عشوا

 

هذه قصة "قلندول"، البلدة الآمنة التي أحالتها يد "السلطة" إلى دماء وقتل وتخريبٍ وسطو! وفي هذه الأبيات من "عدودة الخروج" تتجلى حقيقة الصراع التي تتبدى فيها القوة (السلطة) في أوج غطرستها وعجرفتها، ثم في أبيات المقطع الأخيرة من "عدودة الخروج" نجدُ ظلال تلك الأبيات من "هذيان بائع الدموع" حيث يقول الشاعر:

الممرّاتُ أعينٌ تمتطيني
والكُوى مُخبرٌ وأشلاءُ رجعةْ
والأماسي التي أراها ملاذي
مثلُ أحزانِ شاعرٍ يومَ "جمعةْ"
لي مع "السوط" موعدٌ سوف يأتي
وأراني أحسُّ خلفيَ لسعهْ

 

ونلمح من خلال تلك المقابلة بين أبيات القصيدتين "التوافق" أو "الوحدة" بين الشعور في بلدته حينما كان فيها، والشعور في "المنفى". في بلدته كان الصراع بين "المتن والهامش" على صعيده المادي، أما في المنفى فهو صراع على صعيد آخر، هو صعيد "الفكر" و"الثقافة" و"الاغتراب"، ولكن رغم هذا التباين فهما صراعان متداخلان لا يمكن فصل أولهما عن آخرهما، ذلك أنّ الآخر كان نتيجة للأول.

 

ويكمل الشاعر في "عدودة الخروج" في العزف على ذات الأوتار التي حدّدت معالمها قصيدة "هذيان بائع الدموع"، فكلامُهُ لغوٌ كلّه، والمحافل الثقافية الطاغية كلّها "غاوية" وضالة، ومعاركه الثقافية التي ربّما خاضها في منفاه قد تعرّضه للمتاعب الجسيمة فخفض الصوت قد يكون هو الذي يعصمه من تلك المتاعب، والمنفى هو الذل، والشعر هو البلوى:

يا صديق الدجى لمن أنت تشدو
كلُّ أذنٍ ترى كلامك لغوا
كلّ رأسٍ تراه حولكَ غاوٍ
والذي لا تراه يقبل أغوى
لا تُرَجّي من فاقد الحسّ حسًّا
الزنازينُ تحتسي الحسّ حسوا
والقيودُ التي تخافُ لظاها
تسمع الصرخة الجريحة شدوا
أخفض الصوت ذلك السوط يرنو
لا أنا صابر ولا أنت تقوى
أنت مثلي تُريد ما ليسَ يأتي
(من تعاوي وكلّهم منكَ أعوى)
المنافي تزيد عينيكَ ذلاًّ
والقوافي تزيد بلواكَ بلوى
يا ابن وهج الحروف ماذا تبقّى
أو هذا الركامُ تدعوهُ مأوى

 

ولكنّ لهجة "الثقة" بـ "التغيير"، و"التحوّل" لم تنعدم في هذيان بائع الدموع، فها هو الشاعر في المقطع التالي يعبّر عن "هذيانه" هذا بأنّه تجسيد للهموم، التي هي "متعة" في حسّ الشاعر! وتبدأ نغمة "التحدّي" التي يعزف عليها الشاعر في مواجهة "المتن"، فكونه "مهمّشًا" لم يجعله يلجأ إلى الانزواء الشعري، إنما تم تفعيل تلك الطاقة وانطلاقها في هيئة "الشعر"، لمواجهة المتن سواء كان هو "السلطة" الجائرة في مصر، أو "المؤسسة الثقافيّة" التي تسيطر على الجوّ الثقافي العربيّ:

أنتَ تهذي؟ نعم أحيلُ همومي
هذيانًا وأجعلُ الهمّ متعةْ
أبصقُ الخوف من فؤادي وآتي
خالعًا أصل مستبيحي وفرعهْ
كاتبًا أحرفي على كلّ وجهٍ
رافعًا رايتي على كلّ قلعةْ
عربدَ اللّيلُ في الربوع ولكن
ربّما تخنق الدياجيرَ شمعةْ
ما الذي تفعل السياطُ وصبري
في فؤادي ولا يطيقونَ نزعهْ
إنّني شاعرٌ أريدُ حياتي
مثل ومض السنا جمالاً وروعةْ
لا أقولُ الذي يريدون رأيي
ثابتٌ لا أرى من الحقِّ بيعهْ
علّمتْني مبادئي أنّ شعري
موقفٌ تتقي التقاريرُ وقعهْ

 

إنّ "الحرف" هو السلاح الذي يجده الشاعر السلاح المناسب الذي يمكن للهامش أن يتصدّى به للمتن الجائر:

كاتبًا أحرفي على كلِّ وجهٍ
رافعًا رايتي على كلّ قلعةْ

 

فرغم "عربدة" هذا الليل (الثقافة الطاغية أو السلطة) فربّما تستطيع "الشمعة" أن تخنق هذه الدياجير وتبطل مفعولها "المظلم"، وهنا نستطيع أن نلمح عمليّة "الكشف" عن الأنساق الثقافية "المعيبة" التي مارسها الشاعر "الفرد" تجاه هذه الثقافة "التغريبيّة والتي مارسها قبله سلفُه محمود شاكر وغيره كثيرون.

 

وفي سياق الحديث عن الفرد نذكر ما قاله جون ستيوارت ميل بأن الأغلبية يمكن أن تخطئ، ويمكن لفرد أن يصيب، وحتى لو أن البشرية كلّها اتفقت على رأي وخالف هذا الرأي شخص واحد، لما كان من حق البشرية أن تخمد صوته، كما أنه لا يحق للفرد أن يخمد صوت البشرية. وإنّ إخماد الصوت بذاته يضرّ بالجنس البشري، بحاضره ومستقبله. كما يضرّ بقامعي الرأي أكثر من إضراره بصاحب الرأي[63]. فهذه "العربدة" التي يذكرها علي فريد في قصيدته قد تكون مضرة بمن يعربد أكثر مما تضر بالفرد المقموع، ذلك أنّه "ربما تخنقُ الدياجيرَ شمعةْ".

 

ثم في المقطع الأخير في القصيدة يقول الشاعر:

يا صديقي أقلتُ ما تبتغيهِ؟
إنّ في مقلتيَّ مشروعُ دمعةْ
لا تقل لي أعد حديثكَ، قولي
من خبايا الرموز ينسج درعهْ
هاكَ تلخيصَ قصّتي يا صديقي:
لي لسانٌ ويشتهي القوم قطعهْ

 

ذلك هو "حسن التخلّص" الذي "يلخّص" لنا حقيقة هذا الصراع المزدوجة: بين "اللسان" (ثقافة الشاعر المهمّشة) وبين "القوم" (السلطة أو المؤسّسة الثقافيّة الطاغية)، حيث يندمج في حقيقة المتن طغيان ثقافي وطغيان مادي "دمويّ". والشاعر في بوحه هذا في قصيدته يتركنا أمام "رموز"، اجتهدنا في فكّها، حتى نخلص إلى هذا التصور الذي تصدّينا لرصده في بحث كامل من خلال أدوات إجرائية لم تؤثّر على تفعيل نقد "تذوّقي" وفق ما تقرّره مدرسة محمود شاكر. هذه "الرموز" التي "تدرّعَ" بها الشاعر في قصيدته تذكّرنا بالجاحظ وكتابه "البيان والتبيين" الذي ساد فيه أسلوب "الاستطراد"، والذي هو خروج (على) المتن، وليس مجرد خروج (عن) المتن[64].

 

الخاتمة

لقد عرض علي فريد في قصيدته مظاهر ثقافة طاغية، تشكل جوًّا فكريًا خانقًا دفع به إلى قرض أبياته. وكذلك فعل سلفه محمود شاكر في "رسالة في الطريق إلى ثقافتنا". ثقافة تعتمد في مكوناتها على معطيات الثقافة الغربية التي دلفت إلى العالم العربي منذ عهد الاحتلال الفرنسي، واستمرت في عهد الانتداب البريطاني، ثم بعد ذلك في عهود الاستقلال. يسرد حكاية وفودها محمود شاكر قبل الشاعر بثلاثة عقود، ويسرد نفس الحكاية الشاعر علي فريد، ولكنْ فيما يحتمله الشعر من التلميح والترميز والبعد عن التفصيل الطويل. وأسلوب النقد اللاذع الساخر المؤلم هو الذي يجمع بين العملين.

 

كشف هذا الخطاب عن أنساق ثقافية "معيبة" تتربّع على عرش "المؤسسة الثقافية" وتقيّم العمل الإبداعي العربي بحسب مكانه من معطيات "الثقافة الغربية"، فإذا كان متبنّيًا لإحدى المدارس الأدبية والثقافية "الطاغية" والمعروفة في الغرب كان صاحبه هو "الشاعر" و"الأديب" العالمي الذي سرعان ما تتصدى أجهزة النقد لتحليل خطابه! وإن لم يكن متأثّرًا بشيء من معطيات هذه الثقافة "الطاغية" بقيَ مهمّشًا مغمورًا لا تمسكُ بكِ "ملاقط" الإعلام!

 

إنها قضية "ثقافة الهامش" التي يمثلها الشاعر "المثقف" علي فريد كما مثلها قبله محمود شاكر، في مقابل "ثقافة المتن" المسيطرة التي يمثلها الجوّ الثقافي المؤسساتي السائد في المجتمع العربي بشكل عام، وهو ذاته الجوّ الذي يحلّق فيه "الغذامي" مع "إيستهوب" و"كولر" و"فوكو" و"ألتوسير" و"هوقارت" و"كلنر" و"بودريّار" و"فنسنت" و"ليتش" و"تودوروف" وغيرهم وغيرهم.

 

والنتيجة الهامّة التي توصّل إليها البحث هي: عدم صلاحية إعمال "النقد الثقافي" - كاملاً - على النصوص الأدبية العربية؛ لأنه نشأ في بيئة وملابسات مغايرة للبيئة والملابسات التي نشأ ونما فيها الأدب والتراث العربي، فكانت عملية إخضاع الأدب العربي - بشكل كامل - لهذا النوع من النقد الغريب عليه أشبه بعمليّة زرع نخلة في القطب الشمالي كما يقول الشاعر علي فريد كناية عن رفضه لأخذ مناهج النقد الغربية بشكل كامل. وإنما نستطيع الاستعانة بأدوات إجرائية جزئيّة تبصّرنا بجوانب ثقافيّة خفيّة تعيش في النصّ الأدبي العربي، كأداة "الفرز الثقافي" التي استعنّا بها لإظهار طبيعة العلاقة بين "المتن والهامش" ببعدّيهِ: الثقافي الفكري، والسلطوي المادي.

 

لقد أظهر لنا هذا البحث موقف خطاب محمود شاكر وعلي فريد من معطيات النقد الغربي الذي تمّ إعماله في التراث الأدبي العربي، وكشف هذا الخطاب عن "قبحيات" هذا النقد، وعدم صلاحيته للتفعيل - كاملا - في حقل الأدب العربي والثقافة الإسلامية؛ بسبب الخصوصيّة التي يتمتّع بها هذا الأدب وهذه الثقافة. واستخدامنا لتقنيّة "ثقافة المتن والهامش" أظهر البعد الأول من الصراع بين "ثقافة المؤسسة الطاغية" و "ثقافة الشاعر المهمّشة"، والبعد الآخر لهذا الصراع في النسق الثقافي للقصيدة، وهو العلاقة بين السلطة (المتن) و الشاعر (الهامش).

 

قائمة المراجع

المراجع العربيّة:

إبراهيم، عبدالحميد. الوسطية العربية: مذهب وتطبيق. القاهرة: دار المعارف، 1979.

شاكر، محمود محمد. رسالة في الطريق إلى ثقافتنا. القاهرة: الهيئة المصريّة العامة للكتاب، د.ت.

علوش، سعيد. نقد ثقافي أم حداثة سلفية. القاهرة: المجلس الأعلى للثقافة، 2010.

الغذامي، عبدالله محمد؛ اصطيف، عبدالنبي. نقد ثقافي أم نقد أدبي. بيروت: دار الفكر المعاصر، 2004.

الغذامي، عبدالله محمد. النقد الثقافي. الدار البيضاء: المركز الثقافي العربي، 2000.

قطب، سيّد. النقد الأدبي: أصوله ومناهجه. القاهرة: دار الشروق، 2003.

 

المراجع الأجنبيّة:

Amin, Husayn Ahmad. "The Crisis of the Individual in Egypt". The Predicament of the Individual in the Middle East. Hazim Saghie. London: Saqi Books, 2001, 60 - 80.

 

During, Simon. The cultural Studies Reader. London: Routledge, 2007.


Said, Edward. Representations of the Intellectual. New York: Pantheon Books, 1996.

 

المراجع على الشبكة العنكبوتية:

موقع "أدب":

http://www.adab.com/modules.php?name=Sh3er&doWhat=shqas&qid=82917&r=&rc=3



[1] محمود شاكر، رسالة في الطريق إلى ثقافتنا (القاهرة: الهيئة المصرية العامة للكتاب، د.ت)، 6.

[2] ن.م.، 7.

[3] ن.م.، 8.

[4] ن.م.، 15.

[5] ن.م.، 16.

[6] عبدالله الغذامي، النقد الثقافي (الدار البيضاء: المركز الثقافي العربي، 2000)، 58.

[7] شاكر، رسالة في الطريق إلى ثقافتنا، 34.

[8] ن.م.، 44 - 47.

[9] ن.م.، 47 - 50.

[10] ليس من هدفنا التفصيل في ذلك الخط التاريخي كله، إنما هو مفصل في الرسالة من صفحة 50 حتى نهاية الرسالة.

[11] سعيد علوش، نقد ثقافي أم حداثة سلفيّة (القاهرة: المجلس الأعلى للثقافة، 2010)، 16.

[12] شاكر، رسالة في الطريق إلى ثقافتنا، 28.

[13] ن.م.، 31.

[14] Edward W. said, Representations of the Intellectua l(Pantheon Books: New York, 1996), 39 - 40.

[15] ن.م.، 31.

[16] ن.م.، 74 - 75.

[17] ن.م.، 68 - 69.

[18] الغذامي، النقد الثقافي، 75.

[19] الغذامي، النقد الثقافي، 15.

[20] شاكر، رسالة في الطريق إلى ثقافتنا، 6.

[21] ن.م.، 15.

[22] ن.م.، 17.

[23] سيتضح شيئًا فشيئًا مفهوم "ثقافة المتن والهامش" في الصفحات القادمة حتى نهاية البحث.

[24] ن.م.، 71.

[25] ن.م.، 149.

[26] الغذامي، النقد الثقافي، 31.

[27] Simon During, The cultural Studies Reader (Routledge: London, 2007), 1.

[28] ن.م.، 15 - 54.

[29] ن.م.، 77.

[30] ن.م.، 84.

[31] ن.م.، 57.

[32] ن.م.، 57.

[33] ن.م.، 58.

[34] ن.م.، 58.

[35] ن.م.، 59.

[36] ن.م.، 59 - 60.

[37] ن.م.، 61.

[38] ن.م.، 62.

[39] ن.م.، 75.

[40] ن.م.، 15.

[41] ن.م.، 62.

[42] عبدالله العذامي؛ عبدالنبي اصطيف، نقد ثقافي أم نقد أدبي (بيروت: دار الفكر المعاصر، 2004)، 68 - 69.

[43] سيد قطب، النقد الأدبي: أصوله ومناهجه (القاهرة: دار الشروق، 2003)، 8.

[44] بتعبير الغذامي.

[45] من رسالة خاصة من الشاعر.

[46] من رسالة خاصة من الشاعر.

[47] من رسالة خاصة من الشاعر.

[48] الغذامي، النقد الثقافي، 192.

[49] ن.م.، 196.

[50] ن.م.، 223 - 242.

[51] القصيدة مأخوذة من موقع "أدب" الالكتروني: http://adab.com/modules.php?name=Sh3er&doWhat=shqas&qid=82917&r=&rc=3

[52] عبدالحميد إبراهيم، الوسطيّة العربيّة: مذهب وتطبيق (القاهرة: دار المعارف، 1979)، 13 - 14.

[53] شاكر، رسالة في الطريق إلى ثقافتنا، 158.

[54] ن. م.، 158.

[55] ن. م.، 158.

[56] ن. م.، 154 - 155.

[57] ن. م.، 156.

[58] ن. م.، 157.

[59] ن. م.، 157.

[60] ن. م.، 153. وانظر 148 - 149.

[61] القصيدة مأخوذة من موقع "أدب": http://adab.com/modules.php?name=Sh3er&doWhat=shqas&qid=82921&r=&rc=7

[62] من رسالة خاصة من الشاعر.

[63] Husayn Ahmad Amin. "The Crisis of the Individual in Egypt". The Predicament of the Individual in the Middle East. Hazim Saghie (Saqi Books: London, 2001), 80.

[64] الغذامي، النقد الثقافي، 225.





 حفظ بصيغة PDFنسخة ملائمة للطباعة أرسل إلى صديق تعليقات الزوارأضف تعليقكمتابعة التعليقات
شارك وانشر

مقالات ذات صلة

  • هذيان قلبي قف!
  • هذيان بيشوي وفساد استدلاله بالقرآن
  • هذيان الحمى (قصيدة)

مختارات من الشبكة

  • الوفاء للشيوخ والعلماء(مقالة - آفاق الشريعة)
  • أزمة قراءة ... أزمة نقد(مقالة - حضارة الكلمة)
  • عن ثقافة الأزمة وأزمة الثقافة(مقالة - آفاق الشريعة)
  • أزمة دعوة أم أزمة مجتمع؟(مقالة - ثقافة ومعرفة)
  • ماسبيرو: من أزمة العاملين إلى أزمة العمل(مقالة - ثقافة ومعرفة)
  • أزمة موارد أم أزمة ضمائر؟(مقالة - ثقافة ومعرفة)
  • بين فكر الأزمة وأزمة الفكر(مقالة - ثقافة ومعرفة)
  • أزمتنا أزمة أخلاق وقيم(مقالة - موقع أ. حنافي جواد)
  • أزمة وسائل أم أزمة أهداف؟!(مقالة - موقع الدكتور عبدالكريم بكار)
  • (أزمة تسليم لا أزمة فهم) حصة آل الشيخ (نموذجًا)(مقالة - ثقافة ومعرفة)

 



أضف تعليقك:
الاسم  
البريد الإلكتروني (لن يتم عرضه للزوار)
الدولة
عنوان التعليق
نص التعليق

رجاء، اكتب كلمة : تعليق في المربع التالي

مرحباً بالضيف
الألوكة تقترب منك أكثر!
سجل الآن في شبكة الألوكة للتمتع بخدمات مميزة.
*

*

نسيت كلمة المرور؟
 
تعرّف أكثر على مزايا العضوية وتذكر أن جميع خدماتنا المميزة مجانية! سجل الآن.
شارك معنا
في نشر مشاركتك
في نشر الألوكة
سجل بريدك
  • بنر
  • بنر
كُتَّاب الألوكة
  • مسجد يطلق مبادرة تنظيف شهرية بمدينة برادفورد
  • الدورة الخامسة من برنامج "القيادة الشبابية" لتأهيل مستقبل الغد في البوسنة
  • "نور العلم" تجمع شباب تتارستان في مسابقة للمعرفة الإسلامية
  • أكثر من 60 مسجدا يشاركون في حملة خيرية وإنسانية في مقاطعة يوركشاير
  • مؤتمرا طبيا إسلاميا بارزا يرسخ رسالة الإيمان والعطاء في أستراليا
  • تكريم أوائل المسابقة الثانية عشرة للتربية الإسلامية في البوسنة والهرسك
  • ماليزيا تطلق المسابقة الوطنية للقرآن بمشاركة 109 متسابقين في كانجار
  • تكريم 500 مسلم أكملوا دراسة علوم القرآن عن بعد في قازان

  • بنر
  • بنر

تابعونا على
 
حقوق النشر محفوظة © 1446هـ / 2025م لموقع الألوكة
آخر تحديث للشبكة بتاريخ : 12/11/1446هـ - الساعة: 18:29
أضف محرك بحث الألوكة إلى متصفح الويب