• الصفحة الرئيسيةخريطة الموقعRSS
  • الصفحة الرئيسية
  • سجل الزوار
  • وثيقة الموقع
  • اتصل بنا
English Alukah شبكة الألوكة شبكة إسلامية وفكرية وثقافية شاملة تحت إشراف الدكتور سعد بن عبد الله الحميد
 
الدكتور سعد بن عبد الله الحميد  إشراف  الدكتور خالد بن عبد الرحمن الجريسي
  • الصفحة الرئيسية
  • موقع آفاق الشريعة
  • موقع ثقافة ومعرفة
  • موقع مجتمع وإصلاح
  • موقع حضارة الكلمة
  • موقع الاستشارات
  • موقع المسلمون في العالم
  • موقع المواقع الشخصية
  • موقع مكتبة الألوكة
  • موقع المكتبة الناطقة
  • موقع الإصدارات والمسابقات
  • موقع المترجمات
 كل الأقسام | أسرة   تربية   روافد   من ثمرات المواقع  
اضغط على زر آخر الإضافات لغلق أو فتح النافذة اضغط على زر آخر الإضافات لغلق أو فتح النافذة
  •  
    المحطة العاشرة: مقومات الإيجابية
    أسامة سيد محمد زكي
  •  
    أنماط التعليم الإلكتروني من حيث التدرج في ...
    أبو مالك هيثم بن عبدالمنعم الغريب
  •  
    وصية امرأة لابنتها في زفافها
    الشيخ محمد جميل زينو
  •  
    المحطة التاسعة: العادات
    أسامة سيد محمد زكي
  •  
    الشباب بين الطموح والواقع: كيف يواجه الجيل الجديد ...
    محمود مصطفى الحاج
  •  
    هبة فيها النجاة!
    أ. رضا الجنيدي
  •  
    بركة الزوج الصالح على الزوجة في رفع درجتها في ...
    فهد عبدالله محمد السعيدي
  •  
    تربية الأطفال في ضوء توجيهات سورة الحجرات
    محمد عباس محمد عرابي
  •  
    السلاسل الحقيقية لا ترى!
    أمين محمد عبدالرحمن
  •  
    تطوير العلاقات الإنسانية في الإسلام
    يوسف بن طه السعيد
  •  
    المحطة الثامنة: القرارات
    أسامة سيد محمد زكي
  •  
    التربية بالقدوة: النبي صلى الله عليه السلام
    محمد أبو عطية
  •  
    مهن في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم
    نجاح عبدالقادر سرور
  •  
    تزكية النفس: مفهومها ووسائلها في ضوء الكتاب ...
    عاقب أمين آهنغر (أبو يحيى)
  •  
    الإنذار المبكر من التقاعد المبكر
    هشام محمد سعيد قربان
  •  
    دور الذكاء الاصطناعي في تعزيز كفاءة العملية ...
    أبو مالك هيثم بن عبدالمنعم الغريب
شبكة الألوكة / حضارة الكلمة / أدبنا / دراسات ومقالات نقدية وحوارات أدبية
علامة باركود

خط سير جديد في تدوين تاريخ الأدب العربي (2)

العلامة محمد بهجه الأثري

مقالات متعلقة

تاريخ الإضافة: 22/1/2014 ميلادي - 20/3/1435 هجري

الزيارات: 11200

 حفظ بصيغة PDFنسخة ملائمة للطباعة أرسل إلى صديق تعليقات الزوارأضف تعليقكمتابعة التعليقات
النص الكامل  تكبير الخط الحجم الأصلي تصغير الخط
شارك وانشر

خط سير جديد في تدوين تاريخ الأدب العربي (2)


اللغة العربية - وهي وعاءُ العقل العربي ومبدعاته - تتميَّز بخصائص نشأت فيها من روح الأمة العربية وتجاربها خلال الآماد التي اجتازتها من لَدُنْ وُلِدَت مع العرب إلى أن بلغت بهم كمال نضجها، واستَوَت في أروع صورِها البلاغية التي مثلت الإعجاز في القرآن الكريم، فَعَلَتْ بذلك على مجرد "التعبير عن المقاصد"، كما يقال في تعريف اللغات، وانتهت بهذه الخصائص إلى تحمُّل معاني الوجود ومبدعات العقول.

 

ولن يختلف عالمانِ في أنها تميزت من هذه الخصائص أولاً بهيئاتِها وموازينِها وقوانين اشتقاقِها، وتميَّزت بكمال مخارج حروفها من مهموسة أو مجهورة، وبروعة موسيقاها، وحلاوةِ نغمِها، ورقَّة جرسها، وتميَّزت ثالثًا بهذا الفيض الغزير من مادَّتِها وفرط غناها من الألفاظ الموضوعة بإزاء مختلف المعاني وأدقِّ الفروق، وهي بكل أولئك تُسلِسُ - في طواعية تامَّة - قيادَ التعبير عن التشكيلات التي تعرض للنفس الإنسانية في المنشط والمكرَه وشتى الأحوال، وتساوق أغراضها، وتتلوَّن بألوانها جميعًا، فتلين وتعذب حتى لكأنَّها لا تعرف غير اللِّين والعذوبة في مثل الغَزَل والحنين والمواجد والأشواق، وتشتد وتصلُب في مواطن العنف والقوة، فتبدو وكأن ألفاظها وجُمَلها قد قبست من لهب النار، أو قُدَّتْ من معادن الحديد، وهي في هذا وغيره تجري دائمًا على توافقٍ تامٍّ مع روح الموضوع، واندماج كامل في صميمه، وهكذا تتشكل بأشكال الأشياء، وتبرز مع كل حالة موقعة بإيقاعها وحركة روحها توافقًا وانسجامًا.

 

وأخرى أن اللغة العربية - إلى هذه الخاصية الرائعة بكل أوصافها وسماتها - تمتاز بشيء أكبر من هذا.

 

تمتازُ بالشِّحنات النفسية، وطاقات الحياة النامية، التي تعمل في باطنها دائمًا، فتغذِّيها وتقوِّيها وتمنحها القدرة البالغة في التأثير والإبداع.

 

ذلك بما أفرغته الأمَّة العربية فيها، في آمادِها الطويلة، من قوَّة روحها، ورهافة حسِّها، ووقدة شعورها، وحركة خيالها، وعمق تصوُّرها، وسَعَة حريتها المكتسبة من طبيعة الصحراء ولا نهاية الفضاء، وما إلى ذلك وغيره من أخلاق ومعانٍ وتجارب، ومن مثل إنسانية رفيعة ونبيلة أفرغها كتاب الدعوة الإسلامية المعجزُ، وأدب النبوة الحي - وهما المثلان الأعليان لأدب العرب - في جملة ألفاظها وتراكيبها، ومعانيها، ومدلولاتها، فكانت منها كالجِبلة "Protoplasm" في خلايا الأجسام العضوية من نبات وحيوان، هذه ثانية.

 

وأستطيع أن أقولَ في جزمٍ ووثوق:

إنها القانون الحي الذي يحكم هذه اللغة العظيمة، ويعمل في ضميرها دائمًا، ويجدد في شرايينها وعروقها دمَها النقي الحار ما اختلف عليها الجديدان، وما التزم أهلها قوانين الحياة والبقاء، وأدركوا مدى ارتباط حياتهم بحياة لغتهم، وهو قانون - كما قلت - قد أبدعه روح الأمة، ومنه اشتق، ومن معطياته - وهي باب من البحث يستغرق الأعمار ويستنفدها قبل أن تبلغ تمثُّلَه أو تلم به - هذا الأدب الحي ما تجدد على تقلب الشمس طلوعًا ومغيبًا، وهذه العلوم اللسانية وغيرها من علوم إسلامية وأخرى دخيلة صيغت بهذه اللغة، مما تعاونت الأمم التي دانت بالإسلام على مشاركة العرب مشاركةً صادقة أصيلة في إنتاجه وإبداعه، على امتداد الوطن الإسلامي الكبير، وفي مختلف الأزمنة، وتمثلت فيه عبقرياتها في أروع الصور.

 

ومن فعلِ هذا القانون في حياة اللغة العربية، وامتدادها إلى ما وراء وطنها الأول، أنها قد أصبحت به على وجهِ الزمان مناطَ احترامِ الأمم التي دانت بالإسلام؛ لأنها لسان الدين، فرعَوْها أعظم رعايةٍ لشيء عرف في التاريخ، وهي أمم ذوات لغات وأديان وعقائد شتى، منذ أحسن العربُ لقاءهم أيامَ حمَلوا وحيَ السَّماءِ إلى الأبيض والأحمر والأسود على أديمِ المعمورةِ، من غير تمييزٍ عنصري من هذا التمييز الذي تمارسُه سياسةُ الطغاة في هذا العصر، عصرِ الكهرباء والذرة والفضاء، وبلَّغوهم رسالته فأحسنوا التبليغ، وهَدَوْهم بمثلها، وربما كان هؤلاء يحسُّون في أعماقهم هذه المُثُل مُبْهَمة، فلا يكادون يتصوَّرونها، أو يطلبون التعبير عنها فلا يجدونه، فعبَّرت لهم عنها هذه اللغة العربية تعبيرًا وجدوا فيه زاد الأرواح، وريَّ الأكباد، وغذاء العقول، وأحسُّوا أعمق الإحساس أنهم أعطوا منها جزيلاً جليلاً، فشغفوا به حبًّا، وتعلَّقوا باللغة التي أقلت إليهم أمانته، فاطَّرحوا أديانهم وعقائدهم لدين الله، وتركوا لغاتهم (أو كادوا) للغة العرب، ووجدوا لها في مذاقهم حلاوة، وفي أسماعهم جرسًا لا عهدَ لهم بمثلِهما في لغاتهم، فأقبَلوا عليها إقبالاً منقطع النظير!

 

وقد اشتهر فيه كيف انجذب شباب (إسبانية) إليها، فتعلَّقوا بها تعلُّق الحب بل الهيام، حتى رفع الآباءُ - الذين لم ترتفع عن بصائرهم الغشاوات - عقائرَهم بالشكوى من هجر أبنائهم لغتهم[1] إليها، وكيف سارَعَت أممٌ في الشرق والغرب لتدارسها، وكيف تمثلها أصحاب العبقريات خاصة، فملكوا من ناصيتها ما كان يمتلكه أهلها الأصلاء منها، وتناغوا بها، وأبدعوا فيها روائع الآثار في الشعر والنثر والفلسفة والحكمة، وفي كل علم أصَّلوه وفن مارَسوه.

 

وقد عاش ما كتبوه بلغة القرآن، وسيعيش إلى ما شاء الله، مصادرَ حيَّة قوية تثوب إلى الانتفاع بها الأجيال بعد الأجيال، ولقد أوحت كثرةُ هؤلاءِ العباقرة من الأعاجم في الإسلام إلى ابن خلدون قولتَه المشهورة في "المقدمة": "أكثر حملة العلم في الإسلام كانوا من الأعاجم"، أو كما قال، ولم يزغ قلمُه بها عن جادَّة الصواب، وإن خاله مَن غابت عنهم دلالتها جائرًا، ولست أتهم منهم مخاطبًا حين أدلُّه على ما تشير إليه عبارته في حق عظمة العرب والعربية، ومن هذه العظمة أنها تمتصُّ العبقريات من كلِّ أمَّةٍ تتصلُ بها وتتذوَّقها لتبدعَ إبداعها للغة العربية دون لغاتها! وما انفكَّ هؤلاء العظماء - إلى جانبِ إبداعِهم هذا لها على تراخي الأيام - يتناغَوْن بها دون لغتِهم، وهو أمر لا يعرف نظيره في تاريخ العالم، ومن هذا التناغي عبارات عجيبة صدرت عنهم، وركبت إلينا أعناق الدهور، تصفُ عظمة العربية في نفوسهم، ولا تغفل تقديسَ العربِ، ومن روائع ذلك قولُ إمام العربية في عصره جار الله محمود الزمخشري التركي وهو يفتتح كتابه (المفصل في صناعة الإعراب): "اللهَ أحمدُ على أن جعَلني من علماء العربية، وجبَلني على الغضب للعرب والعصبية، وأبى لي أن أنفردَ عن صميم أنصارهم وأمتاز، وأنضوي إلى لفيف الشعوبية وأنحاز، وعصمني من مذهبهم الذي لم يجد عليهم إلا الرشق بألسنة اللاعنين، والمشق بأسنَّة الطاعنين...".

 

ولست واجدًا في كلامٍ كلمةً أحرَّ وأحلى وأزكى من كلمة الفيلسوف الرياضي المؤرِّخ محمد بن أحمد أبي الريحان البيروني الخوارزمي، وهو يتمطَّق بحلاوة العربية، ويقول في جملة كلامٍ في كتاب الصَّيْدَنَة: "الهجو بالعربية أحب إليَّ من المدح بالفارسية"[2].

 

ذلك فعل هذا القانون الذي يحكم اللغة العربية والأدب العربي في حياتهما وانتشارهما، وقد دلَّ عمله الدائب في باطنهما أنه قد أدى وظائفه بقوَّة ويقظة في مختلف الأحوال، أدَّاها كما ينبغي أن يكون أداءُ شيء حين كان السلطان السياسي إلى العرب، وكانوا القوَّامين على الحياة العامة في الوطن الإسلامي كله من مشرقه إلى مغربه.

 

وأدَّاها كذلك حين انبعَثَت في الأوطان الإسلامية الحركاتُ الداخلية الهدامة، وحين داهمها الغزو من شرق ومن غرب، فمضى باللغة العربية إلى غايتها غير قاعدٍ بها عن عمل، في أدب أو علم أو فكر.

 

وأدَّاها على هذا النحو وذاك حين انتهى السلطان إلى غير العرب، لعصور طويلةٍ خَلَت، امتدَّت من سقوطِ (بغداد) في يد "المغول"، وزوال الدولة العباسية بذلك في سنة 656هـ، إلى عهدنا هذا الذي ما برح الصراع مشتدًّا فيه بين الأمة العربية والحلف الاستعماري اليهودي في عنفٍ بالغ الخطورة، على امتداد أديمِ الوطن العربي ما بين المحيط الأطلنطي والخليج العربي.

 

أقولُ: أدَّى هذا القانون وظائفَه خيرَ ما يكون الأداءُ في هذه الحقبة الطويلة، كما أدَّاها في الحقب التي سبقته، وأحسب أن أداءه هذه الوظائف حين صار السلطان إلى غير العرب أو حين عرَض له الشرُّ والغزو والعدوان، لم يُصَب بعجز، ولم يُخامِره فتورٌ أو ضعف؛ لأن القوة الدافعة التي تعمل في باطنه لا تغالب، ولا تنال منها المؤثرات أو تهزمها؛ لأنها تقبس أقباسها ودفعها من مصادر نفسية تتَّقد جَذواتها أبدًا ولا يخبو لها أُوار، وربَّما بدت لنا في هذه العصور - إذا لاحظنا الأعاصير التي تناوحت حوله من داخل ومن خارج فتثبت لها راسخة شامخةً - أشدَّ وقدًا، وأعلى سَنًا وسناءً ممَّا كانت عليه في دهرها القديم، وشأنُها هذا هو شأن النارِ حين تنكس، فيرتفع لهبها ويشتد وقده وضرامه، وما أكبر شبهها في هذا بما شبه به أسامة بن منقذ - الأمير الشاعر المجاهد - قوَّة عزيمته، وتأبِّيه أن يلينَ للأيام التي تحاول أن تنال منه، حين قال:

كم تَغُضُّ الأيامُ مني، وتأبى
همَّتي أن تنال مني مُنَاهَا
أنا في كفِّها كجَذْوةِ نارٍ
كلما نُكِّسَت تعالى سَنَاهَا

 

وكأنه إياها عنَى بهذا، ولم يعنِ نفسه؛ لأن القوة التي كان يستشعرها في نفسه، ويغالب بها عوادي البُغاة على الوطن العربي إبَّان حروب المائتين بين الشرق والغرب - هي قبسٌ من روح الأمة، وروح الأمة هذا هو روح أدبِها الحي الخالد، أفرغته فيه إفراغًا، وامتزجت به، فأصبحا متلازمَين بالضرورة، لا ينقصهم شيء منهما عن شيء.

 

والصورة التي أريد إبرازها لهذا القانون، تتوضَّح معانيه بتعزيزِها بالتمثيل لها، فهي بدونه تبقى صورةً غامضة مبهمة، غير أن هذا التمثيل يستغرق كتابًا ضخمًا، وموقفُنا يستدعي الاقتضاب و"الاستقطاب"، لو أمكن أن "تستقطب" سبعمائة سنةٍ في دقائق.

 

ومع هذا أراني مضطرًّا أن أقول في هذا شيئًا، وسأقف عند هذه السبعمائة سنة التي تلت العصر العباسي وقفةً قصيرة لا معدى لي عنها.

 

وننظر الآن كيف صوَّرت أقلام المؤرِّخين أدبَها الذي أجرت عليه هذا القانون الأوروبي عند كتابة تاريخه.

 

الصورة السياسية العامة لهذا العصر والأحداث العظمى التي حدثت فيه وتناوشته من شرق وغرب، كانت هي الإطار الذي وضع الأدب العربي في داخله.

 

وهي صورة - كما نعلم جميعًا - تتوثب فيها أشباح ذئاب بشرية يقال لها "مغول" و"تتار"، انثالت على الوطن الإسلامي والعربي من أواسط آسية شرِهةً نهمةً، تتحرَّق من جهل وخرق وغباوة ظمأ إلى الدم والتخريب والتدمير، وأشباح ذئابٍ بشرية أخرى يقال لهم "الصليبيون"، تتفصَّد عروقهم عصبية، وتتنزى نفوسهم حقدًا وطيشًا، بعضهم يغزون الوطن من أطرافه كما كان من الإسبان في الأندلس، فيطاردون أهله ويقتلونهم، ويفرضون على مَن استبقوا منهم الردَّة عن دينهم أو الجلاء، وآخرون منهم يغزون قلبه ويقيمون على ثراه سوق القتال قرنًا بعد قرن، وهم ينثالون عليه موجة إثر موجةٍ من البر ومن البحر، ليجروا دماء أهليه على ثراه أنهارًا، وليبيدوهم ويرِثوا ديارهم.

 

سيطرت أخيلة هذه الصورة الراعبة على أذهان المؤرِّخين الذين أرخوا الأدب العربي، فذهلوا عن سواها، ولم يكادوا يبصرون إلا سوادها القاتم وظلال أشباحها على الحياة، وكان أوَّلُ شيءٍ فعلوه أن سمَّوا هذا العصر كله - وفيه أجزاء مهمة اختلفت صورتها عن هذه الصورة - "العصر المظلم"، وهي تسمية أحسبهم نقلوها إلى تاريخنا عن المؤرخين الأوربيين الذين أطلقوا تعبير (Dark ages)، على حِقبة من تاريخ أوربة بين انهيار الإمبراطورية الرومانية في المائة الخامسة الميلادية وبداية عهد "الرينصانص" "Renaissance" في المائة الخامسة عشرة، ولكنَّ هذا العصر - آماده الطويلة التي تخالفت أحداثها وأحوالها وصورها السياسية - لم يكن كلُّه ظلامًا كما تخيَّلوه، وتحدثوا عن دوله المتابعة، وهي دول تركية في الغالب، حديثًا مجملاً متشابهًا أو يكاد يكون متشابهًا، ولم يحاولوا أن يميِّزوا بين صفاتها، ويتبيَّنوا مواقف الملوك والسلاطين من العرب والإسلام واللغة العربية ومن العلوم النقلية والعقلية والدخيلة.

 

وعرَضوا للأدب في الوطن العربي، دون الأوطان الإسلامية التي لم تتخلَّ عن الإسلام وعن لغته، بل خصُّوا بحديثهم أجزاءً منه، وأغفلوا أجزاءً أُخَر مهمَّة كانت مباءاتٍ له غنيةً كل الغنى بثرائها منه، وكانت النفوس فيها ريَّا من العربية.

 

فماذا نشأ من هذا؟ وما الأحكام التي انتهوا إلى استنتاجها ووسموا بها أدب هذا العصر؟

نشأ من هذا أخطاء جمَّة خطيرة، من أوضحها هذه الصفات المتشابهة المتماثلة التي أجرَوْها عليه، ما عرَفوه منه وما لم يعرِفوه، وهذا الطابع الشاحب الذي طبعوه به، وهو يصف ركودَه وركود اللغة ركود الموت، ويغفلُ الإشارة إلى قوَّته ومصادر هذه القوة إغفالاً يكاد يكون تامًّا.

 

وجملة الصورة التي رسموها له، أراها تمثِّل صورة إنسان خَدِيج دَمِيم مشوَّه، جامد النظرات، منطمِس القسمات، متغضِّن الأسرَّة، منكمش متقبض كـ: "أحدب نوتردام"، أو "أحدب بغداد"، عَنَيْتُ الأحدب الذي أدَّى صورته إلينا شاعر التصوير الابتداعي أبو الحسن بن الرومي في بيتيه المشهورين:

قَصُرَتْ أخادعُه وطال قَذَالُه
فكأنَّه متربصٌ أن يُصفَعا
وكأنما صُفِعَت قَفَاه مرةً
وأحَسَّ ثانيةً لها فتجمعَا

 

وهو إلى ذلك قابعٌ في قبوٍ بارد رطب مظلم، لا يلتمع فيه من بارق إلا مثل ما يكون من نار الحَباحِب تحت الحِندِس البهيم.

 

ذلك ما يرسمه هذا القانون الأوربي الذي ارتضاه مؤرِّخونا المحدَثون من صورةٍ لأدب هذا العصر وحياة اللغة العربية فيه، كما أتخيَّلها كلما أقرأ ما كتبوه في إيجازه أو تفصيله.

 

فهل هو كذلك حقًّا وصدقًا؟

القانون النفسي الحي الذي يحكم اللغة العربية ويقوم الأدب العربي به كما أسلفت، تنفي إجابته عن هذا التساؤل صدق هذه الصورة القاتمة على أدب هذا العصر وحياة اللغة العربية فيه، وتكاد ترسم له صورة أخرى مغايرةً لهذه الصورة في كثير من قسماتها وأوصافها، ولا أقول في كل قسماتها وأوصافها.

 

وهي تتسق ويتهيَّأ لها الاستقرار في نصابها التام كلما تناولت هذه الإجابة التاريخ من مختلف جوانبه، وجرت وراءه تتقصَّى كليات حوادثه وجزئياتها، والتمست الرغبات في الطبائع والميول فتدارستها، وفاءَت إلى القوانين النفسية التي تعمل عملها الدائب في روح الأمة وعقلها ولغتها وأدبها جميعًا، فجعلتها المحورَ والأساس لكل ذلك.

 

وحسبي الآن - وقد طال بي نفس الكلام - أن أدلَّ على هذا في هذا الموقف، أما تفاصيل ملامح هذه الصورة التي ستتناولها هذه الإجابة، وهي تقتضينا متسعًا من الوقت لا نملكه في هذه اللحظات، فأدعُها إلى وقت آخر، وأكِلُ أمرَ ما قدمت إلى أنظاركم، ورأيكم الموفَّق.



[1] ومن جملتها شكوى الفارو: كاهن قرطبة في أواسط المائة التاسعة الميلادية 3/هـ من انكباب أبناء جنسه على قراءة أشعار العرب، وهيامهم بدراسة كتابات فقهاء المسلمين وفلاسفتهم، لا يقصد تفنيدها، بل رغبة في التعبير عن خوالجهم بأسلوب عربي وثيق وصحيح.

قال المستشرق الإنكليزي نيكلسون، وترجمه الأديب كامل كيلاني: "وكان الفارو يتساءل قائلاً: أنَّى يتاح لإنسان في هذه الأيام أن يقال واحد من أبناء جنسنا يقرأ التفاسير اللاتينية للكتب المقدسة؟ ومن ذا الذي يدرس منهم فصول الأناجيل وسير الأنبياء والحواريين؟ واحسرتاه! إن كل الشبان المسيحيين ذوي المواهب لا يعرفون إلا العربية وكتابات العرب؛ فهم يقرؤونها ويدرسونها بحماس بالغ منتهاه، كما أنهم ينفقون المبالغ الطائلة من النقود لاقتنائها في مكاتبهم، وتراهم - أنى وجدوا - يذيعون أن تلك الآداب جديرة بالإعجاب، فإذا تجاوزت عن ذلك، وأخذت تحدِّثهم عن الكتب المسيحية، ازورَّ جانبهم، وأجابوك باحتقار: "إنها أسفار لا تستحق الذكر!"، واحسرتاه عليهم! لقد نسي المسيحيون لغتهم، حتى ليندر العثور - بين آلاف منا - على فرد يستطيع أن يحرِّر إلى أصدقائه رسالة لاتينية بأسلوب لا بأس به، على حين ترى العدد الجم قادرًا على الإبانة عمَّا في نفسه بأسلوب عربي خلاَّب، وعلى حين ترى حذقهم في قرض الشعر العربي قد وصل إلى حد فاقوا معه العرب أنفسهم".

[2] وجملةُ كلامِ أبي الريحان البيروني في كتابه هذا، الذي ما يزال مخطوطًا لم يطبع، وفي بعض عباراته غموض: "فصل: ديننا والدولة عربيان، وتوأمان: يرفرف على أحدهما القوة الإلهية، وعلى الآخر اليد السماوية، وكم احتشد طوائف من التوابع، وخاصة منهم الجيل والديلم، في لباس الدولة جلابيب العجمة، فلم ينفق لهم في المراد سوق، وما دام الأذان يقرع آذانهم كل يوم خمسًا، وتقاوم الصلوات بالقرآن العربي المبين خلف الأئمة صفًّا صفًّا، ويخطب في الجوامع بالإصلاح كانوا لليدين وللفم، وحبل الإسلام غير منفصم، وحصنه غير متثلم، وإلى لسان العرب نقلت العلوم من أقطار العالم، فإن دانت وحلت في الأفئدة، سرت محاسن اللغة منها في الشرايين والأوردة، وإن كانت كل أمة تستحيي لغتها التي ألِفتها واعتادتها واستعملتها في مآربها مع أُلاَّفها وأشكالها، وأقيس هذا بنفسي، وهي مطبوعة على لغة، لو خلد بها علم لاستغرب استغراب البعير على الميزاب، والزرافة في الكراب! ثم منتقلة إلى العربية والفارسية، فأنا في كل واحدة دخيل، ولها متكلف، والهجو بالعربية أحب إليَّ من المدح بالفارسية، وسيعرف مصداق قولي مَن تأمَّل كتاب علم قد نقل إلى الفارسي كيف ذهب رونقه، وكسف باله، واسود وجهه، وزال الانتفاع به؛ إذ لا تصلح هذه اللغة إلا للأخبار الكسروية والأسمار الليلية".





 حفظ بصيغة PDFنسخة ملائمة للطباعة أرسل إلى صديق تعليقات الزوارأضف تعليقكمتابعة التعليقات
شارك وانشر

مقالات ذات صلة

  • خط سير جديد في تدوين تاريخ الأدب العربي (1)
  • من عوامل بقاء الأدب العربي
  • العدوان على الأدب العربي وتشويهه (2)

مختارات من الشبكة

  • تسمية الهمزة وتاريخ الخط في التراث العربي(مقالة - حضارة الكلمة)
  • الخط: طريقة تدريسه وتصحيحه، وخطة درسية له(مقالة - حضارة الكلمة)
  • كشاف المخطوطات التي وصلتنا بخط العلامة السيوطي أو عليها خطه (1) (PDF)(كتاب - مكتبة الألوكة)
  • خطوط العرض وخطوط الطول(مقالة - ثقافة ومعرفة)
  • رسائل على الخط لبرنامج الخط (PDF)(كتاب - موقع الموسوعات الثقافية المدرسية)
  • عناية العلامة السيوطي بخطوط العلماء، والكتب التي وقف عليها بخطوط مصنفيها(مقالة - ثقافة ومعرفة)
  • تاريخ الخطوط العربية وأنواعها(مقالة - ثقافة ومعرفة)
  • هنا ساعتك صحيحة أينما اتجهت عقاربها(مقالة - ثقافة ومعرفة)
  • فن الخط المغربي لعمر أفا ومحمد المغراوي(مقالة - ثقافة ومعرفة)
  • أثر الخط في توريق المخطوط العربي(مقالة - ثقافة ومعرفة)

 



أضف تعليقك:
الاسم  
البريد الإلكتروني (لن يتم عرضه للزوار)
الدولة
عنوان التعليق
نص التعليق

رجاء، اكتب كلمة : تعليق في المربع التالي

مرحباً بالضيف
الألوكة تقترب منك أكثر!
سجل الآن في شبكة الألوكة للتمتع بخدمات مميزة.
*

*

نسيت كلمة المرور؟
 
تعرّف أكثر على مزايا العضوية وتذكر أن جميع خدماتنا المميزة مجانية! سجل الآن.
شارك معنا
في نشر مشاركتك
في نشر الألوكة
سجل بريدك
  • بنر
  • بنر
كُتَّاب الألوكة
  • الدورة الخامسة من برنامج "القيادة الشبابية" لتأهيل مستقبل الغد في البوسنة
  • "نور العلم" تجمع شباب تتارستان في مسابقة للمعرفة الإسلامية
  • أكثر من 60 مسجدا يشاركون في حملة خيرية وإنسانية في مقاطعة يوركشاير
  • مؤتمرا طبيا إسلاميا بارزا يرسخ رسالة الإيمان والعطاء في أستراليا
  • تكريم أوائل المسابقة الثانية عشرة للتربية الإسلامية في البوسنة والهرسك
  • ماليزيا تطلق المسابقة الوطنية للقرآن بمشاركة 109 متسابقين في كانجار
  • تكريم 500 مسلم أكملوا دراسة علوم القرآن عن بعد في قازان
  • مدينة موستار تحتفي بإعادة افتتاح رمز إسلامي عريق بمنطقة برانكوفاتش

  • بنر
  • بنر

تابعونا على
 
حقوق النشر محفوظة © 1446هـ / 2025م لموقع الألوكة
آخر تحديث للشبكة بتاريخ : 9/11/1446هـ - الساعة: 17:29
أضف محرك بحث الألوكة إلى متصفح الويب