محمد العناز والصورة السردية التراثية

محمد العناز والصورة السردية التراثية

توطئة:

يعد محمد العناز من أهم الباحثين المغاربة الذين اهتموا بالبلاغة النوعية إلى جانب مصطفى الورياغلي، وعبد الرحيم الإدريسي، والبشير البقالي، وشرف الدين ماجدولين، وجميل حمداوي.. ويعتبر كذلك من أهم طلبة حلقة تطوان الذين اهتموا بمعيار الصورة الروائية أو الصورة السردية الموسعة، كما يتضح ذلك جليا في كتابه (مفهوم الصورة في كتاب البيان والتبين عند الجاحظ)[1] الذي تبنى فيه صاحبه البلاغة النوعية، كما طرحها الدكتور محمد أنقار في أطروحته الجامعية (صورة المغرب في الرواية الإسبانية [2])، ووسعها مريده الدكتور محمد مشبال في عدة دراسات بلاغية ونقدية، خاصة في كتابه (الهوى المصري في المخيلة المغربية)[3]. ومن ثم، فقد تتبع محمد العناز الصورة والتصوير في النص التراثي القديم عند الجاحظ بالدرس والتحليل والفحص والتقويم.

إذاً، ما أهم القضايا النقدية والأدبية التي يطرحها الكتاب؟ وما تصوره المنهجي نظرية وتطبيقا؟ هذا ما سوف نتبينه في الأسطر التالية.

قضايا الكتاب:

يتناول محمد العناز الصورة السردية الموسعة في كتاب (البيان والتبيين) للجاحظ. ومن المعلوم، أن كتاب الجاحظ هو كتاب في اللغة والأدب والنقد والحكاية والبلاغة والفصاحة والدلالة. لذا، فقد حاول محمد العناز أن يرصد الصورة والتصوير في كتاب الجاحظ ذي الطابع التراثي. وإن كان كتاب الجاحظ قد درس دراسات عدة من وجهات نظر مختلفة. فهناك من درسه دراسة بلاغية كما عند محمد علي زكي صباغ في كتابه (البلاغة الشعرية في كتاب البيان و التبيين للجاحظ)[4]، أو دراسة تاريخية كما عند جميل جبر في كتابه (الجاحظ في حياته وأدبه وفكره)[5]، أو دراسة ميتانقدية كما عند أمجد الطرابلسي في كتابه (نقد الشعر عند العرب حتى القرن الخامس للهجرة)[6]، أو دراسة لسانية كما فعل محمد الصغير بناني في كتابه (النظريات اللسانية والبلاغية و الأدبية عند الجاحظ من خلال البيان والتبيين)[7]، أو دراسة بنيوية تكوينية كما هو شأن إدريس بلمليح في كتابه (الرؤية البيانية عند الجاحظ)[8]، أو دراسة فلسفية كما عند علي بوملحم في كتابه (المناحي الفلسفية عند الجاحظ)[9]، أو دراسة سيميائية كما عند هيثم سرحان في كتابه (الأنظمة السيميائية في السرد العربي القديم)[10]، أو دراسة مصطلحية كما فعل الشاهد البوشيخي في كتابه (مصطلحات نقدية وبلاغية في كتاب البيان والتبيين للجاحظ)[11]، أو دراسة جمالية كما عند ميشال عاصي في كتابه (مفاهيم الجمالية والنقد في أدب الجاحظ)[12]...

هذا، وينطلق محمد العناز، في دراسته القيمة حول (مفهوم الصورة في كتاب البيان والتبين عند الجاحظ)، من البلاغة الموسعة أو من مفهوم الصورة السردية، كما نظر لها الدكتور محمد أنقار في كتابه (صورة المغرب في الرواية الاستعمارية الإسبانية) [13]، في إطار رؤية بلاغية نوعية جديدة، تستبدل درس البلاغة بدرس الصورة الروائية التي تعتمد على دراسة الصورة في سياقها الكلي العام، وتحليلها في ضوء مكوناتها الثابتة وسماتها النوعية، مع إبراز الصورة الموضوع. ويعني هذا أن الكاتب يبحث عما هو فني وجمالي وإنساني في الصورة السردية الموسعة عبر كتاب (البيان والتبين) عند الجاحظ.

وينضاف إلى هذا أن محمد العناز يتتبع مفهومي الصورة والتصوير عند الجاحظ في سياقاتهما النصية والذهنية والنصية والمصطلحية، لمعرفة مدى وعي الجاحظ بمفهوم الصورة السردية، و التثبت من الكيفية التي كان يشتغل بها مع الصورة، وتبيان الطريقة التي كان يقرأ بها النصوص.

وبعد ذلك، فقد توقف محمد العناز عند الفعل اللغوي والبلاغي بغية دراسة البلاغة والفصاحة وشروط التصويت اللساني السليم، دون أن ينسى التصوير الخطي البصري وعلاقته بالدال اللفظي على مستوى التلفظ والمحاكاة ونوع هذه المحاكاة، مع استجلاء الآليات الخمسة للتدليل السيميائي التي تتمثل في اللفظ والخط والإشارة والعقد والنصبة. وتشكل هذه المفاهيم الخمسة الرؤية البيانية لدى الجاحظ كما عند الباحث المغربي إدريس بلمليح.

التصور المنهجي:

لا يتناول محمد العناز في كتابه (مفهوم الصورة في كتاب البيان والتبين عند الجاحظ) الصورة الشعرية أو الصورة البلاغية بالمفهوم الشعري التقليدي أو الكلاسيكي، بل يتمثل معيار الصورة الروائية أو ينطلق من البلاغة النوعية أو من البلاغة السردية الموسعة، كما بينها الدكتور محمد أنقار في رسالته الجامعية حول صورة المغرب في الرواية الاستعمارية الإسبانية، من خلال التركيز على ثنائية المكونات والسمات. فالأولى هي عناصر ثابتة في النص، مثل: مكون الأحداث، ومكون الشخصية، ومكون الفضاء، ومكون الرؤية، ومكون اللغة. في حين، تحضر السمات في النص السردي أو الحكائي وتغيب، كالواقعية، والسخرية، والعجائبية، والدرامية، والتوتر...

هذا، وقد تمثل الكاتب، في كتابه هذا، معيار الصورة الروائية كما عند محمد أنقار ومحمد مشبال، مادام يركز الكاتب على الصورة السردية الموسعة، ويتتبع الصورة والتصوير بالدرس والتحليل، ويستخلص أنماط الصور وأنواعها ضمن أبعادها المفاهيمية والسيميائية والبيانية، ثم يحاول دراسة تلك الصور في ضوء سياقها الجنسي والنوعي واللغوي والبلاغي والنصي والذهني.

خاتمة:

وخلاصة القول، يتبين، لنا مما سبق ذكره، بأن كتاب (مفهوم الصورة في كتاب البيان والتبين عند الجاحظ) لمحمد العناز كتاب نقدي متميز، إذ يعيد قراءة التراث السردي القديم من وجهة نظر مختلفة، لاتمت بصلة إلى القراءات الموضوعية أو المرجعية أو البنيوية أو السيميائية، بل هو كتاب يبحث في الصورة السردية أو البلاغة النوعية بمكوناتها وسماتها عند الجاحظ من خلال كتابه (البيان والتبين). وتشبه هذه الدراسة، في تعاملها مع التراث السردي العربي القديم، ما قام به كل من شرف الدين ماجدولين في تعامله مع الأدب الشعبي القديم (ألف ليلة وليلة)[14]، وما أنجزه محمد مشبال من دراسات حول الجاحظ، كما يتجلى ذلك واضحا في كتاباته حول السرد العربي القديم تصويراً وحجاجاً وحكياً[15].