• الصفحة الرئيسيةخريطة الموقعRSS
  • الصفحة الرئيسية
  • سجل الزوار
  • وثيقة الموقع
  • اتصل بنا
English Alukah شبكة الألوكة شبكة إسلامية وفكرية وثقافية شاملة تحت إشراف الدكتور سعد بن عبد الله الحميد
 
الدكتور سعد بن عبد الله الحميد  إشراف  الدكتور خالد بن عبد الرحمن الجريسي
  • الصفحة الرئيسية
  • موقع آفاق الشريعة
  • موقع ثقافة ومعرفة
  • موقع مجتمع وإصلاح
  • موقع حضارة الكلمة
  • موقع الاستشارات
  • موقع المسلمون في العالم
  • موقع المواقع الشخصية
  • موقع مكتبة الألوكة
  • موقع المكتبة الناطقة
  • موقع الإصدارات والمسابقات
  • موقع المترجمات
 كل الأقسام | أسرة   تربية   روافد   من ثمرات المواقع  
اضغط على زر آخر الإضافات لغلق أو فتح النافذة اضغط على زر آخر الإضافات لغلق أو فتح النافذة
  •  
    المحطة العاشرة: مقومات الإيجابية
    أسامة سيد محمد زكي
  •  
    أنماط التعليم الإلكتروني من حيث التدرج في ...
    أبو مالك هيثم بن عبدالمنعم الغريب
  •  
    وصية امرأة لابنتها في زفافها
    الشيخ محمد جميل زينو
  •  
    المحطة التاسعة: العادات
    أسامة سيد محمد زكي
  •  
    الشباب بين الطموح والواقع: كيف يواجه الجيل الجديد ...
    محمود مصطفى الحاج
  •  
    هبة فيها النجاة!
    أ. رضا الجنيدي
  •  
    بركة الزوج الصالح على الزوجة في رفع درجتها في ...
    فهد عبدالله محمد السعيدي
  •  
    تربية الأطفال في ضوء توجيهات سورة الحجرات
    محمد عباس محمد عرابي
  •  
    السلاسل الحقيقية لا ترى!
    أمين محمد عبدالرحمن
  •  
    تطوير العلاقات الإنسانية في الإسلام
    يوسف بن طه السعيد
  •  
    المحطة الثامنة: القرارات
    أسامة سيد محمد زكي
  •  
    التربية بالقدوة: النبي صلى الله عليه السلام
    محمد أبو عطية
  •  
    مهن في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم
    نجاح عبدالقادر سرور
  •  
    تزكية النفس: مفهومها ووسائلها في ضوء الكتاب ...
    عاقب أمين آهنغر (أبو يحيى)
  •  
    الإنذار المبكر من التقاعد المبكر
    هشام محمد سعيد قربان
  •  
    دور الذكاء الاصطناعي في تعزيز كفاءة العملية ...
    أبو مالك هيثم بن عبدالمنعم الغريب
شبكة الألوكة / حضارة الكلمة / أدبنا / دراسات ومقالات نقدية وحوارات أدبية
علامة باركود

صعود معقوف تجاه انهيار ثابت

د. خليل حسونة


تاريخ الإضافة: 9/4/2012 ميلادي - 17/5/1433 هجري

الزيارات: 4213

 حفظ بصيغة PDFنسخة ملائمة للطباعة أرسل إلى صديق تعليقات الزوارأضف تعليقكمتابعة التعليقات
النص الكامل  تكبير الخط الحجم الأصلي تصغير الخط
شارك وانشر

صعود معقوف

تجاه انهيار ثابت

قراءة أولية لرواية "انهيار"

للكاتب "مأمون أحمد مصطفى"

 

الرواية هي المَثَل الأعلى لكل العَلاقات الإنسانية الدقيقة والمُتَداخِلة التي اكتَشَفها الإنسان؛ كونَها وسيلةً هامة تكشف "قَوْس قَزَح"، الذي هو علاقتنا الحية المتغيرة، والوعي بالشيء المعالَج، وهي كتاب التفصيلات المفتوح، الواضحة المحدَّدة.

 

وقد استطاعت أن تكشف جوهر الإنسان، ليس في كونه مشروطًا، بل في كونه يَفْلِت من الشروط كلها.

 

كما أنها إنتاج عمل فرديِّ؛ أي: إنها تعكس النهج الخاص، الذي يَتْبَعه الإنسان – أي: الكاتب - في تحمُّل العالَم فهمه، والتعرف عليه، ومن ثم غَرْبَلته.

 

هذا وإذا كانت معظم الروايات، لا تستطيع أن تعطينا أكثر مما أراده الكاتب لها، فإن الحدث وجدل الصراع يفرضان نفسيهما على بساط الرواية، ولو على حساب الشخصية التي قد تكون غائمة وضبابية.

 

رواية "انهيار" للكاتب "مأمون أحمد مصطفى" الصادرة "2012" عن دار نهضة مصر، في محاولتها اقتحامنا، حيث ترشقنا بشظايا جوِّها الغَرَائبي، تؤكِّد بجدارة أنها رواية الوثيقة النفسية المندلعة، المتشظية، المتداخلة، التي تحاول سَبْر أغوار الذات المُرْسَلة والمُتلقِّية.

 

منذ البداية تطالعنا الرواية بدَفْقَة غنية وجادة لاستنهاض تاريخ الذات بكل زَخَمه ومَرَارته، وبنوعٍ من المُرَاوغة الذكية ينصب لنا القاصُّ كمائن مختلفة، نتخطَّاها ونخرج منها أكثر حميمية، عبر طقوس حدَّدت الفاعلية المفترضة أو المفروضة، لاستحلاب البعد الحلمي المَرْجُوِّ والمُبْتَغى في جو طقوس مُفْعَم بالتشظيات، والاستقطابات النفسية المتداخلة، التي تحاول تعويض آلامها، بإسقاط لوعتها وفزعها على الذات المغايرة، وكونها روايةً شبهَ سيرةٍ ذاتيةٍ، فهي في اقترابها من ذلك على الأقل، انتصرت لتلك الشريحة من البشر المُمْتَهنة، المُتَقَوقِعة، الفَاقِدة لأهليَّتها كما يرى الغير خطأً.

 

لقد حدَّد "فيليب لوغون" شكل "السيرة الذاتية" بأنه: "نصٌّ حِكَائي يَسْتَعِيد الماضي نثريًّا، يَرْوِيه، أو يليّنه شخصٌ حقيقي عن حياته الخاصة".

 

فهذا الشخص - بناءً على تحديد "لوغون" - ذو عناصر تركيبية ثلاثة محوَّرة: الكاتب، الرواية، الشخصية المركزية، تنسج عالمًا متكاملا له فضاؤه الخاصُّ، يتولَّد عنها عناصر جزئية أخرى تُسْهِم في تشكيل هذا العالم.

 

منذ البداية نستطيع استشراف كيف أن الكاتب في روايته يحاول تفجير الذات الداخلية لـ"أناه" و"أنوات" الآخرين، وذلك بإطلاق الوعي الآخر، عبر طريق تَصْلِيب الذات، عَبْر تحويل الروح إلى مثال ثابت ودائم، متكئًا على الوضوح البيِّن، والصراحة المُطْلَقة، التي جَعَلت في نهاية المطاف "الطبيب" هو المفعول به، "والمريض" هو الفاعل كما سيتضح في نهاية الرواية.

 

"لماذا لا أخبره عن تلك الجثث التي تسكن ذاكرتي، وهي مُضْرَجة بالدماء، مثقوبة الأجزاء، مَنْخُولة الأجساد؟

 

لماذا لا أخبره بأنها تهاجمني حين يُسْلِمني جسدي للنوم، ككوابيس معجونة بالشياطين والنيران" ص5.

 

هذه الكوابيس التي أراد أن يخبر الطبيب بها، تمثَّلت في حالات نزيف روحي، عصر البطل المتحدِّث عصرًا، جعله يعبِّر عن نفسه بأكثر ما يستطيع من حرية الوعي المستفز.

 

إنها حالات تراوح مكانها، في محاولة منها لدفع الغير للبحث عن الحقيقة التي يرونها ولا يريدون أن يروها.

 

"حمار أبي رصاص المعذَّب، تسطح الكرة الأرضية، الجرذ مهروس الراس، قاضي القطط وقاتلها، الغزال المطارد من الفهد، عجل القصَّاب، الطفلة المُستَلْقِية تحت عجلات السيارة، أبو حديد قاتل أولاده الذي قال الأطباء: إنه مصاب بانفصام الشخصية، كَهْل "جيوس"، "المسكاوي".

 

أطلق حكاياها عبر براغماتية خلاَّقة، دون أن تكون متعالية، كان للتأمل فيها دوره الذي يعتبر القلق والمجهول وطنًا واحدًا، وطنًا له رنين عاطفي وفلسفي، اعتمد إشعال الروح وإطلاقها عبر منظومة أخلاقية خاصة به، تعتمد الثقة بالنفس بقوة كبيرة، تحاول أن تَسْحَب المشاعر المنفية من أرض المصالح.

 

"حمار أبي رصاص كان يعمل طوال حياته بصمت ووفاء دون شكوى أو تذمُّر، لكن البشر كانوا فقط يتذكَّرون الشيطان، الحمار مات، وماتت معه الحقيقة"ص7.

 

"ولكني أعلم بأن عاصفةً من اللذة اجتاحت كياني، وتمحورت ببؤرة قلبي، وأنا أراه ينسحق ببطء، وهو بلا حول ولا قوة"ص9.

 

"تحول السائق إلى كتلة رعب متوهِّجة، تكاد تبعث بوهجها وسط ظهيرة "اب" الحارقة، ولكني عرفت خوفه ورعبه خاليًا من العذاب، مشحونًا بالتوقع والتحسب من طبيعة العقاب"ص29.

 

• "لأنهم جميعًا رأوا الجريمة من زاوية الحدث، من زاوية الفعل وردة الفعل، أما أنا فقد شاهدتُها من خلال عيونهم، من خلال ألمهم، ومن خلال الكلمات الأخيرة التي قالها القاتل، وهو يَستَعِدُّ للنزول إلى القبر"ص45.

 

المعاناة في هذه النصوص تبحث عن تصوُّر المبدِع المظلِم لواقعه الفردي، وعُزْلته الوجودية المُطْلَقة، فهو دائمًا يرى المختلف، فما حوله غابة من الظلمات، واقع ضبابي، لا أمل لديه في تجاوزه لتحقيق "الأنا" المثالية للعيش والتفاعل مع الآخر، كما لو أنه يحاول أن يَكْسِر صدفتَه، ولا يستطيع أو لا يُسْمَح له.

 

الجانب الآخر للمعاناة برز في التناقض التناحري في داخل أفكار الغير، الغير كما هو، وكما يجب أن يكون، ونَعْنِي بالغير: كلَّ ما هو خارج الفرد من قضايا، ورؤى وفلسفات، وهي هنا وجه آخر لفكرة الذات.

 

لهذا؛ صار يصرخ سائلاً الطبيب: "لذلك أخبرني أنت بفصاحتك المُخْتَفية وراء مريولك الأبيض، كيف ستتمكن من إعادتي إلى مُرَبَّع البياض، بعد أن انغرزت كل تلك الأشياء بذاكرتي"ص26.

 

هكذا، وعبر هذا السؤال، حاول بَطَل قصَّتنا الكاتب قدر الإمكان تَعْرِية الرؤى الذاتية المؤسساتية والتقليدية، وسحبها من القَسْرِية الدوغماتية المشروطة مسبقًا، وفرض شروطها على الذائقة المعرفية للناس، بما يَعْنِي محاولته تأسيس رؤية معرفية قابلة للجدل والتلاقح، كحلٍّ مفترض للكُسَاح السلوكي، والمعرفي، الذي يعانيه المجتمع، شخوص الرواية.

 

فالتناحر وقائع وُلِدت لدى العديد من الناس، النماذج المطروحة، عُقَد النقص، التي يرى الكاتب رموزها أسوياء، والتي ليست إلا انفصالاً عميقًا، بين الأنا الواقعية "الناس"، وتلك المثالية "البطل"، حيث التداخل النفسي المتشابك، وكثير التعقيد بين الرؤيتين، التي يعتقد الكاتب - البطل - المريض يمتلك الخيط الأصلب فيهما.

 

"لحظتئذٍ سأشعر بالمتعة الغامرة، وسأسجل بتواصلي بالتردد الذي قد يفضي غلى الكشف عن تلك المساحة انتصارًا على الطبيب، ثم سأعود لأفتح مساحة جديدة مُثْقَلة بالغموض الراعب المُربِك، دون أن أمنحه أي معلومة عن المساحة الأولى، أو المساحة الثانية، سأسحبه إلى عالمي، إلى لعبتي التي أتقنها، وسأدخله الدوامة، بكل ما فيها من تحسُّب وتوجُّس وخوف، لماذا؟ لا أعرف تمامًا".ص11

 

هذه اللوحة ثنائية الأطراف.

 

هذا "أنا" ناهضة متحفِّزة، البطل، وأنا منتظرة، الطبيب، الأنا الناهضة فيها هي الثابت الأقوى، وإن بدا الأمر غير ذلك.

 

ففي بِنْيَتها - كما نرى - نَسَق كامل وحالة من العواء الصاخب، إنها تحتوي على عناصر عقلية "سأسجل بتواصلي، بالتردد على الطبيب"، وانفعالية "سأسحبه إلى عالمي، إلى لعبتي"، محسوبة على ظروف تاريخية ومعرفية محدَّدة، وبيئة اجتماعية معينة؛ ليأتي الكاتب كمحوِّل ومغيِّر للواقع المعرفي السلبي كما يراه نفسه، تجعل من الأدب والفن، وهنا - كما في رواية "انهيار" - ليس التعبير عن الحركة، الحالة بشكل تبعي، وإنما لتكون جزءًا فاعلاً منها نفسها، وأن يكون موقِف المبدِع نقطة انطلاق السَّيْرُورة الإبداعية كضرورة نفسية للتعبير عن الانفعال وعكسه للآخرين، فعجوز "جيوس" "يقطع مسافات العمر المتبقِّي بخطوات لا تَنْتَظِر مسيرته الطبيعية". ص54

 

لهذا يرفض راحة الموت - كما يرى - على ألم الوفاء، ولهذا يصرِّح وبقوَّة رغبته في التمسك بالحياة "الدنيا عزيزة، عزيزة إلى حد التعلُّق بشقائها وألمها، تعلُّق رضا وقبول واختيار؛ لأن للألم لذةً تقترن بشهد الهروب من فناء"ص58.

 

هكذا عاش الكاتب هذه الحالة النافِرة محاولاً تذوق أشيائها، آثارها، بأن يُطْلِقها في حالة جديدة عَبْرَ التفجير النفسي الذي يدخل من اللامرئي إلى المرئي، حيث يشدك إلى مشاركته رياضته العقلية، النفسية، بوعي صادق بعيد عن الإسفاف؛ إذ استطاع استشراف ما يدور في عقل الكهل الإنسان، والغوص في أعماق النفس البشرية.

 

فالخال الكهل القَعِيد الذي بلغ من العمر عتيًّا، يفضِّل أن يبقى كذلك دون حِرَاك، على أن يَلْتَهِمه الموت، مع أنه تجاوز مائة عام حملها على ظهره، ولربما أيضًا ظهور الآخرين.

 

الكاتب هنا فيلسوف يحلِّل الأوضاع النفسية العامة للإنسان، أي إنسان، منبِّهًا إلى حالة بشرية متأزِّمة مستعصية، تُقسر "الأنا" في بوتقة "أناها" بشكل عنيف يصل إلى حد الفَظَاظة، والعَدْوى، السلبية، التي باتت في حالة الطبيب إيجابية، أدهشت الناس الذين لم يعرفوا سببًا للتبدل الطارئ، رغم كل ما وضعوه من فرضيات وتصورات.

 

"أخذ التحوُّل يشده نحوه، وغطَّى وجهه اصفرار متقلِّب مُشْرَب بتقادم الأيام، انتبه الناس للتغيُّرات التي أخذت تتقدَّم ببطءٍ، ولكن بثبات على حياة الطبيب وسلوكياته، فقد غدا: كثير السهوم، طويل الصمت، قليل التبسم، يميل نحو العزلة والانطواء، ويبحث بشكل يومي، بتوثب بركان، عن شيء ما، أو شخص ما".ص73

 

هل هذا التغير قرار تاريخي من قبل الطبيب؟

وكيف انتصر المريض على طبيبه، فأصبح المفعول به فاعلاً، والعكس؟

أليس هذا التغيُّر هو حالة انتقال من الصوت الفردي إلى المُبْهَم؟

 

أو أن تصدُّع الأنا الأخرى - الطبيب - مظهرٌ من مظاهر التصدُّع في الصورة المعرفية النمطية التي هي انعكاس العالم في الوعي،  وكان هناك سلسلة من القرارات المتشكِّكة، وغير المتشككة تأويليًّا، تأويل وجودنا، عبره، ومن أجله، حيث صراع الأضداد الذي يأخذ صراع "الأنا" مع الأخرى داخل "الأنا"، وتأويل وجودها ببصيرة ابستمولوجية، تحيل ذلك المفهوم من شكلانيته الساكنة، إلى مفهوم مادي وحركي، وكأنه يسترجع جذرية الشروط المؤسسة لذلك الفعل قبالة فعل معرفي لاحق، وعلى رأي "فوكو" السرداب الذي يشكِّل اركيولوجيا الفكر الذي يتجاوز الأيديولوجيا والعَلاقات الواقعية والخيالية التي تصل إلى: التوحُّد، التقمُّص، التضاد، والتلاحم،  في آن، كحالات مثلى للتوغُّل في الذات واستبطانها.

 

هذه الرواية الفلسفية بالمفهوم التاريخي تستنهض العقل، الفعل من خلال ما تراه وتَطْرَحه من قوة مقتدرة لعناصر النقائض.

 

كما هو الحال في الألوان، التي أتت تسمياتها كما يرى الكاتب من حيث لا نعلم.

 

حيث "وضعناها في قوالب نحن ارتضيناها، بغرورنا العاجز عن تشكيل الأشياء من بداياتها.

 

وهنا يتساءل:

لماذا علينا، ولماذا رضينا بأن نقبل التسميات للونين؟

لماذا لا يكون الأبيض أسود، والأسود أبيض؟ ص79.

 

وحين قَبِلنا اللونين قَبِلنا كل ما صاغته عيون البشر عبر الأجيال حول دلالاتهما ..." ص80.

 

هكذا وقف مفهوم التضاد والتناقض معلِنًا عن نفسه بدخول مساحات الحيرة والتساؤلات، وكأنه يدعو لنزع الأفكار من قَوْلَبتها وتسليعها المُسْبَق.

 

إنه رأيٌ في الوجود يترجِّم موقفًا ما حيال النظام الاجتماعي القائم: نقدًا، أملاً، نسغًا، واتجاهًا، الأمر الذي يؤكد أن هناك غموضًا واضحًا، ووضوحًا غامضًا، يشير إلى أن أكثر أنواع الغموض نهوضًا عندما يحاول المبدِع إقناع نفسه بما يراه بعقله ويَعْتَقِده، عبر فعل بركاني منفصل عن التقليدي، ومنحاز للمختلف.

 

فالمُتَنَبِّي ليس كالخنساء، والمريض مختلف عن طبيبه، كما هو الحال في الاختلاف بين "المعقَّد" و"المجنون"، أو الأسود والأبيض.

 

فهل هناك جنون فعلاً؟ وما، ومَن هو المجنون؟

أم أن هناك عالمًا خاصًّا بذاته له خواصه ومساحاته؟

 

الجنون حالة من خمول الدماغ، عَصِيَّة على الفهم، تختلف عن حالة ذلك الواقف بين الوعي واللاوعي، وكلا الحالتين تتَّسع وتتحدَّد كل يوم "حتى تصبح كدوامة تَحْمِل زَوْبَعة من نار مرسلة، تدور في النفس لتلوُّحها وتصلُّبها على مفارق ومنحنيات مختلفة". ص157.

 

أليست هذه المقاربة زوَّدت المتلقِّي برؤية جديدة، أساسها خضُّ الذهن ورجُّه بقوة؟

 

إنها حاولت تخليص "الأنا" و"الأنا الأخرى" من الالتواء الذهني في محاولة لكسر المنظومات التراجعية، وسلوك الهبوط، الانضواء تحت التقليدي المتوارث، مُبْرِزة أسرار الجوهر المشغول بالبعث، الصحو، والفَجَائعية أحيانًا، والتي - رغم هذا - قد تجعل الحرية مُطْلَقة.

 

وهكذا تَسْقُط الشوائب، ويَزْدَاد الوضوح، بمفهومه الإرادي والتكويني، وليس المادي والأحادي، يطهِّر العقل - كما يرى الكاتب - من أوهامه.

 

لهذا يطرح - من مفهوم فلسفي - بحث الفرق بين قانون البقاء، الذي يتحدد داخل الغابة بالغريزة، وقانون القتل، الذي يمارسه الإنسان باسم البقاء". ص117.

 

كما أن طريق المشفى حيث غرفة "عزرائيل" و"شبح بهجة" الضَّحِية المَذْبُوحة بيد أخيها، غير طريق جنود الدورية، رغم ما بينهما من قواسم مشتركة، أساسه ألم اللَّذَّة التي لم يَرْغَب المتحدِّث في فقدانها، وهو يفكِّر كيف سيتلقَّى الرصاصة.

 

وأخيرًا: لا يَسَعُنا القول سوى أن "انهيار" كروايةٍ مختلفة، رفدتنا بحالات متشابكة من الحكمة الأرضية المعرية، مَمْزُوجة برؤى دانتوية، أخروية، بأسلوب أدبي ممتاز في طريقة التفكير والتعبير والتصوير، إنه "أسلوبه المشتق من نفسه هو، نفسه المتعطشة، التي تحاور رحلة الاقتراب، بعقله وعواطفه وخياله، ثم لغته" معًا.

 

ونظرًا لعظم أهمية الأسلوب، وعبقرية الكاتب التحليلية نفسيًّا، عبر مقاربات تعويضية تؤكد أن شرارةً نوعية لا ينفذ إليها القاصُّ إلا بطريق الحدس، وهو من أجل ذلك يُحِس ولا يُعَبِّر عنه، الأمر الذي يؤكد أن الأسلوب هو اشتقاقُ الأديب من الأشياء ما يلائم عبقريته.

 

ومن هنا تنمو وتتنامى الفلذة الشعورية في العمل، ويَنُوسُ مِقْيَاس المفاجأة تبعًا لردود الفعل، ومَعْدِن المفاجأة ومولودها، هو اصطدام القارئ بتتابع جمله، وتداخل حواراته، بالربط بين جملة الموافقات لجملة المفارقات في نص الخطاب حيث - حسب جاكوبسون - "تولد اللامنتظر من خلال المنتظر"، حيث أصبح المريض هو المرسِل، وطبيبه هو المستقِبل.

 

"المريض كان يعيش حالة أخرى، حالة ارتجاج هائلة بين ما أوصل الطبيب إليه، وبين أنانيته في امتلاك الألم، والوجع.

 

وحالة التساقط النفسي التي وقع الطبيب بها، هي نتاج الخطة التي رسمها له منذ اللحظة الأولى"ص74.

 

هذا التوليف الذي يتقدَّم من الحسي إلى الفلسفي، من العقلي والخيالي، المرئي والخارق؛ أي: اللانهائي في النهائي، يشكِّل رؤية الكاتب للواقع الموضوعي في بلدته، عبر الحالات التي تطرَّق إليها النص، وكانت هذه الرؤيا من العوامل التي ساعدت رغبة التشكل الذهني للناس من جديد، من منطلق إشفاقه عليهم.

 

وعلى كل حال، فإن هذه الرواية التي بين أيدينا تشكل حالة الصعود، أو الرغبة منه دون الانهيار.

 

هكذا هي تنمّ عن نشاط متميِّز، يتضح في افتراض قدرتها على الكشف، ومحاولة القبض على عنق تشيُّؤ الأشياء.

 

لذلك لم يكتفِ شكلها البنائي بواقعة ما، واحدة، أو شخصية هامشية، يمنحها النمو الموضوعي.

 

لقد كانت الشخصية الرئيسة، الطبيب، المريض، حبَّتا عِقْد لأحداث متباينة، متداخلة، وشخصيات متناقضة، متقاربة، عبر أزمنة جديدة، قديمة.

 

الزمن الذي نستشفه من خلال ثنايا السر "ثقافة الطبيب".

 

الزمن النفسي للشخصيات "المركزية، الثانوية، من خلال حضورها الفعلي.

 

الزمن المفترض "زمن القص، وهو الحاضر، الماضي، المستقبل الذي يخوض في تفاصيل الحالات بالعين المحايدة، لكنه يحمل الانتصار المبطن لشيء أعلنته الرواية على لسان الكاتب".

 

"صحيحٌ أني كنت أبحث عن الألم بين تلك الأحداث، وكنت أشعر به تمامًا، أو كنت أظنني أشعر به، لكن بعد الموت الذي سكن أعماقي، وأضاف إلي نوعًا من رؤيا اكتشافية، تستطيع - وبخفاءٍ دهي غيرِ مدرَكٍ - أن تجعلني أعيش لحظاتهم الأخيرة، وَجَعهم الذي يحتاج إلى زمن يمتد من لحظة الخلق، إلى لحظة القيامة، كي يسجل أو يوصف، وهَلَعهم الموصول بالرعب والخوف إلى ما لا نهاية"ص141.

 

لقد جاء هذا النص ليشكِّل صورة عفوية لاندلاع اليقظة الذاتية للمختلف الذي يَكْمُن في الواقع الملموس، والمحسوس، وفي ملامح التواشج والاختلاف بين الشخوص الحية والنامية، والتي من خلالها برزت الوشائج الحقَّة بين الظواهر، وقوانينها الخفية، فالشخوص واضحة محدَّدة، والأمكنة ثابتة وبارزة.

 

كما أن الحوادث تنتظم في نَسَق يَخْدُم الحدث الأكبر، فامتلك النص شروط الخطاب المناوئ.

 

حيث نفذ بذلك إلى المحيط الداخلي للوعي الذاتي؛ فاستطاع أن يرى ويُدْرِك ما لم يُدْرِكه سابقًا.

 

"لحظتها أدركت - وبتيقن حازم - أن الخوف له أشكال مختلفة، وأن الرعب يملك أكثر من قناع".ص30.

 

"الزمن شيء غير مرئي، نتحدث عنه، نَلْمَسه بكل حركة من حركات حياتنا، لكننا في الحقيقة لا نَعْرِف عنه شيئًا، لا نُدْرِك معناه، ولا كُنْهَه، نسلم به تمامًا، كما سلمنا بالألم".ص81.

 

"النفس شيء آخر، لا تَكْفِي كل مصطلحات المجهول، والغامض والمُبْهَم، وكل ما يشابهها من ألفاظ بلغات الكون، أن تعطي ولو قدرًا ضئيلاً عن حركة واحدة من حركاتها".ص105

 

بما يؤكِّد أن العلم - رغم تفوقه - لا يعرف معنى: الفرح، والحزن، والموت؛ لأنه لا يستطيع إخضاع ذلك إلى التجارب والتحاليل المخبرية.

 

هكذا بات هذا العمل الإبداعي مثالاً واضحًا بيَّن أن كاتبنا من فرسان الوثيقة النفسية في العمل الروائي، هذه الرواية ليست "انهيارا"، إنما هي رواية الصعود الذي أراده الكاتب لنقاطه البشرية!





 حفظ بصيغة PDFنسخة ملائمة للطباعة أرسل إلى صديق تعليقات الزوارأضف تعليقكمتابعة التعليقات
شارك وانشر


مختارات من الشبكة

  • دراسة جديدة تؤكد ازدياد الآراء الإيجابية تجاه المسلمين(مقالة - المسلمون في العالم)
  • قراءات اقتصادية (47) صعود المال(مقالة - موقع د. زيد بن محمد الرماني)
  • من فضائل النبي: محبة الجبال له واهتزازها فرحا بصعوده عليها(مقالة - آفاق الشريعة)
  • الدعاء عند الصعود والهبوط(مقالة - آفاق الشريعة)
  • الخوف من أسلمة الغرب واقترانه بصعود الأحزاب الدينية المتشددة(مقالة - ثقافة ومعرفة)
  • مخطوطة مرقاة الصعود إلى سنن أبي داود (النسخة 2)(مخطوط - مكتبة الألوكة)
  • الصعود إلى القمة في رمضان(مقالة - آفاق الشريعة)
  • مخطوطة نشر البنود على مراقي الصعود(مخطوط - مكتبة الألوكة)
  • هل هناك حديث يفصل خروج الروح وصعودها إلى السماء؟(مقالة - موقع الشيخ عبدالله بن حمود الفريح)
  • ما قبل الصعود للمنبر(مقالة - آفاق الشريعة)

 



أضف تعليقك:
الاسم  
البريد الإلكتروني (لن يتم عرضه للزوار)
الدولة
عنوان التعليق
نص التعليق

رجاء، اكتب كلمة : تعليق في المربع التالي

مرحباً بالضيف
الألوكة تقترب منك أكثر!
سجل الآن في شبكة الألوكة للتمتع بخدمات مميزة.
*

*

نسيت كلمة المرور؟
 
تعرّف أكثر على مزايا العضوية وتذكر أن جميع خدماتنا المميزة مجانية! سجل الآن.
شارك معنا
في نشر مشاركتك
في نشر الألوكة
سجل بريدك
  • بنر
  • بنر
كُتَّاب الألوكة
  • الدورة الخامسة من برنامج "القيادة الشبابية" لتأهيل مستقبل الغد في البوسنة
  • "نور العلم" تجمع شباب تتارستان في مسابقة للمعرفة الإسلامية
  • أكثر من 60 مسجدا يشاركون في حملة خيرية وإنسانية في مقاطعة يوركشاير
  • مؤتمرا طبيا إسلاميا بارزا يرسخ رسالة الإيمان والعطاء في أستراليا
  • تكريم أوائل المسابقة الثانية عشرة للتربية الإسلامية في البوسنة والهرسك
  • ماليزيا تطلق المسابقة الوطنية للقرآن بمشاركة 109 متسابقين في كانجار
  • تكريم 500 مسلم أكملوا دراسة علوم القرآن عن بعد في قازان
  • مدينة موستار تحتفي بإعادة افتتاح رمز إسلامي عريق بمنطقة برانكوفاتش

  • بنر
  • بنر

تابعونا على
 
حقوق النشر محفوظة © 1446هـ / 2025م لموقع الألوكة
آخر تحديث للشبكة بتاريخ : 11/11/1446هـ - الساعة: 0:55
أضف محرك بحث الألوكة إلى متصفح الويب