• الصفحة الرئيسيةخريطة الموقعRSS
  • الصفحة الرئيسية
  • سجل الزوار
  • وثيقة الموقع
  • اتصل بنا
English Alukah شبكة الألوكة شبكة إسلامية وفكرية وثقافية شاملة تحت إشراف الدكتور سعد بن عبد الله الحميد
 
الدكتور سعد بن عبد الله الحميد  إشراف  الدكتور خالد بن عبد الرحمن الجريسي
  • الصفحة الرئيسية
  • موقع آفاق الشريعة
  • موقع ثقافة ومعرفة
  • موقع مجتمع وإصلاح
  • موقع حضارة الكلمة
  • موقع الاستشارات
  • موقع المسلمون في العالم
  • موقع المواقع الشخصية
  • موقع مكتبة الألوكة
  • موقع المكتبة الناطقة
  • موقع الإصدارات والمسابقات
  • موقع المترجمات
 كل الأقسام | أسرة   تربية   روافد   من ثمرات المواقع  
اضغط على زر آخر الإضافات لغلق أو فتح النافذة اضغط على زر آخر الإضافات لغلق أو فتح النافذة
  •  
    المحطة العاشرة: مقومات الإيجابية
    أسامة سيد محمد زكي
  •  
    أنماط التعليم الإلكتروني من حيث التدرج في ...
    أبو مالك هيثم بن عبدالمنعم الغريب
  •  
    وصية امرأة لابنتها في زفافها
    الشيخ محمد جميل زينو
  •  
    المحطة التاسعة: العادات
    أسامة سيد محمد زكي
  •  
    الشباب بين الطموح والواقع: كيف يواجه الجيل الجديد ...
    محمود مصطفى الحاج
  •  
    هبة فيها النجاة!
    أ. رضا الجنيدي
  •  
    بركة الزوج الصالح على الزوجة في رفع درجتها في ...
    فهد عبدالله محمد السعيدي
  •  
    تربية الأطفال في ضوء توجيهات سورة الحجرات
    محمد عباس محمد عرابي
  •  
    السلاسل الحقيقية لا ترى!
    أمين محمد عبدالرحمن
  •  
    تطوير العلاقات الإنسانية في الإسلام
    يوسف بن طه السعيد
  •  
    المحطة الثامنة: القرارات
    أسامة سيد محمد زكي
  •  
    التربية بالقدوة: النبي صلى الله عليه السلام
    محمد أبو عطية
  •  
    مهن في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم
    نجاح عبدالقادر سرور
  •  
    تزكية النفس: مفهومها ووسائلها في ضوء الكتاب ...
    عاقب أمين آهنغر (أبو يحيى)
  •  
    الإنذار المبكر من التقاعد المبكر
    هشام محمد سعيد قربان
  •  
    دور الذكاء الاصطناعي في تعزيز كفاءة العملية ...
    أبو مالك هيثم بن عبدالمنعم الغريب
شبكة الألوكة / حضارة الكلمة / أدبنا / دراسات ومقالات نقدية وحوارات أدبية
علامة باركود

استثمار الأسلوب العدولي (11/ 11)

استثمار الأسلوب العدولي (11/ 11)
د. عيد محمد شبايك

مقالات متعلقة

تاريخ الإضافة: 4/2/2012 ميلادي - 11/3/1433 هجري

الزيارات: 12106

 حفظ بصيغة PDFنسخة ملائمة للطباعة أرسل إلى صديق تعليقات الزوارأضف تعليقكمتابعة التعليقات
النص الكامل  تكبير الخط الحجم الأصلي تصغير الخط
شارك وانشر

ثاني عشر: العدول إلى الألفاظ الفرائد:

وأعني بـ "الفرائد": اللفظةَ الفريدة التي لم تتكرَّر في القرآن كلِّه، وإنما أتتْ مرة واحدة في موضعها الذي وردتْ فيه؛ لما لها من دلالة خاصَّة، لو أدرتَ اللغة ما وجدت لفظة تصلُح في موضعها، وذلك شأنُ كل لفظةٍ في القرآن؛ لأنَّ كلمات القرآن معتبرة بأصوات حُروفها وحركاتها، ومواقعها من الدلالة المعنوية.

 

ومن شواهده كلمة "ضِيزى" في قوله - تعالى -: ﴿ تِلْكَ إِذًا قِسْمَةٌ ضِيزَى ﴾ [النجم: 22]، ولم يقل: "جائرة"، لقد عدَّها ابن الأثير - "ضيزى" - من الألفاظ الغريبة[1] التي حسُنتْ بحُسْن موقعها، ثم علَّل ذلك بأنها جاءتْ على الحرف المسجوع الذي جاءتِ السورة جميعها عليه، وغيرها لا يسدُّ مسدَّها، وقد يكون هناك لفظةٌ آلف منها، مثل جائرة أو ظالمة، ولكنَّها في هذا الموضع لا تَرِد ملائمةً لأخواتها ولا مناسبة؛ لأنَّها تكون خارجةً عن حرْف السورة، فلو قلنا: "ألكم الذَّكَر وله الأنثى تلك إذًا قسمة ظالمة"، لم يكن النظم كالنظم الأول، وصار الكلام كالشيءِ المعْوَز الذي يحتاج إلى تمام، وهذا لا يخفى على مَن له ذوق، ومعرفة بنظم الكلام".[2]

 

وهذا كلام صائب مسلَّم به بحُكم السمع والذوق معًا، ولكن ما يُؤخذ على ابن الأثير هو ما أخَذْناه على غيره، من أنَّه أرْجع الحسن إلى شيءٍ لفظي محضّ، وهو مراعاة التقارُب في مقاطع الفواصل؛ ليتمَّ لها الائتلاف، والانسجام الإيقاعي، ولكن الرَّافعي نظر إليها نظرةً عميقة شاملة، تناولتها من ناحيتيها في إفاضة وحُسْن عرض، حيث قال: "وفي القرآن لفظةٌ هي أغربُ ما فيه، وما حَسُنتْ في كلام قط إلا في موضعها، وهى كلمة "ضيزى"، ومع ذلك فإنَّ حسنها في نظم الكلام من أغربِ الحُسْن وأعجبه، ولو أدرت اللغة عليها ما صلح لهذا الموْضع غيرُها[3]، فإنَّ السورة التي هي منها - وهى سورة النجم - مفصلة كلُّها على حرف (الياء)، فجاءت الكلمة فاصلةً من الفواصل.

 

ثم هي في معرِض الإنكار على العرب، إذ وردتْ في ذِكْر الأصنام، وزعمهم في قسمة الأولاد، فإنهم جعلوا الملائكةَ والأصنام بناتٍ لله، مع وأْدِهم البنات، فقال - تعالى -: ﴿ أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثَى * تِلْكَ إِذًا قِسْمَةٌ ضِيزَى ﴾ [النجم: 21 - 22]، فكانتْ غرابة اللفظ أشدَّ الأشياء ملائمةً لغرابة هذه القِسمة التي أنكرها، وكانتِ الجملة كلها كأنَّها تُصوِّر في هيئة النطق بها الإنكارَ في الأولى، والتهكُّمَ في الأخرى، وكان هذا التصوير أبلغَ ما في البلاغة، وخاصَّة في اللفظة الغريبة التي تمكَّنت في موضعها من الفصْل، ووصف حال المتهكِّم في إنكاره من إمالة اليد والرأس بهذَيْن المدَّيْن فيها، وجمعت - إلى ذلك - غرابةَ الإنكار لغرابتها اللفظية، والعرب يعرفون هذا الضَّرْب من الكلام، وله نظائرُ في لغتهم، وكم مِن لفظة غريبة عندَهم لا تحسن إلا في موضعها، ولا يكون حُسْنها - على غرابتها - إلا أنها تؤكِّد المعنى الذي سِيقتْ إليه بلفظها، وهيئة منطقها، فكأنَّ في تأليف حروفها معنًى حسيًّا، وفي تأليف أصواتها معنى مثله في النفس.

 

ثم يقول: وإن تعجب فعجبٌ نظمُ هذه الكلمة الغريبة، وائتلافه على ما قبلها، إذ هي مقطعان: أحدهما مدٌّ ثقيل، والآخر مدٌّ خفيف، وقد جاءَتْ عقب غُنَّتَين في "إذًا" و"قسمةٌ"، وإحداهما خفيفة حادَّة، والأخرى ثقيلة متفشِّية، فكأنَّها بذلك ليستْ إلا مجاوبة صوتية لتقطيع الموسيقا، وهذا معنى رابع للثلاثة التي عددْناها آنفًا، أما خامس هذه المعاني، فهو أنَّ الكلمة التي جمعتِ المعاني الأربعة إنما هي أربعةُ أحرف أيضًا".[4]

 

الرافعي يلفتُنا إلى الأداء الدقيق لكلمة "ضيزى" في هذا التركيب البياني المعجِز، فهي متناسقة مع غيرها من الفواصل، ممَّا يُبرز جمالَ الإيقاع الذي انتظم فواصل السورة كلها عدَا بعض آيات في آخرها، ورغم ثقلِها في ذاتها فإنَّ انسجامها مع اللفظتين السابقتين عليها جعلها سهلةً في نطقها؛ إذ أَعْقَبت غُنَّتَين في "إذًا"، و"قسمة"، فألفت مع غيرها مجاورةً صوتية لتقطيع موسيقيّ، هذا إلى ما أوحتْ به غرابة اللفظة إلى غرابة القِسمة، فأتت مناسبةً لجو الكراهة والإنكار الذي صوَّرتْه الآية في معرِض إنكارها على المشركين قسمتهم الجائرة.

 

ويرى الدكتور "تمَّام حسان" ملحظين آخرَيْن - غير رعاية الفاصلة - أحدهما: الإيحاء بما في "الضاد" من تفخيم بأنَّ الجور في هذه القسمة لا يزيد عليه، وثانيهما: ما في "ضيزى" - وهى للتفضيل - مِن زيادة في معناها على معنى "جائرة" التي هي صفة مشبَّهة.[5]

 

فلله دَرُّ البيان الأعْلى! يستعمل الكلمة في موضعها، فتكون أمسَّ رحمًا بالمعنى، وأوضح في الدلالة عليه، وأشدَّ إيحاءً به.

 

ومن شواهد ذلك أيضًا: كلمة "الحُطمَة" في قوله - تعالى -: ﴿ لَيُنْبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ ﴾ [الهمزة: 4]، ولم يقل: "جهنم"، أو "النار".

 

بداية يجب أن نفهم معنى "النبذ"، وهو إلقاء الشيء وطَرْحه؛ لقلَّة الاعتداد به، ولذلك يقال: "نبذتُه نبذَ النعل الخَلَق"[6]، ولك أن تتصوَّر ما في هذا التعبير من إيحاء بكلِّ معاني الحقارة والذلَّة والهوان، هذا فضلاً عن توكيد الفعْل توكيدًا واجبًا باللام والنون.

 

و"الحُطمة" هي اسم من أسماء النار، كما ذُكِر من أسمائها في مواضع أخرى "جهنم"، و"سقر"، و"لظى"... وهي من شأنها أن تَحْطِم العظام، وتأكل اللحم (وفي ذلك إشارة إلى غاية تعذيب الهُمَزة اللُّمَزة)، ويقال للرجل الأكول: "حطمة"، ووزنها فُعَلة كهُمَزة ولُمَزة... كأنه قيل له: كنت همزة لمزة، فقابلناك بالحُطمة، وأيضًا في الحطمة معنى الكسْر والتحطيم، والهمَّاز اللمَّاز يُكسِّر أخلاق الناس بالاغتياب، ويحطم أعراضَهم بالعيب، أو يأكل لحومَهم كما يأكل الرَّجل الأكول[7]، كما أنَّ سُهولة الحركات في (الهمزة واللمزة والحطمة) توحي بسُهولة ذلك عليه، فهو يأتيه كثيرًا ولا يُبالي، كالأكول الشَّرِه الذي يأكل دون مراعاة الآخرين.

 

والقرآن يُغْنِينا عن تأويلٍ بما تولَّى من بيان الحطمة في الآيات بعدَها، وتبدأ بالسؤال ﴿ وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحُطَمَةُ ﴾ [الهمزة: 5]؟، ويأتي الجواب ببيان مناط الرَّهْبة والهول في قوله - تعالى -: ﴿ نَارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ * الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ ﴾ [الهمزة: 6 - 7]، وباستقراء الاستعمال القرآني للنار نلحظ غلبةَ مجيئها لنار الجحيم في الآخرة[8]، ومع كَثْرة هذا الاستعمال لم تأتِ مضافةً إلى الله - تعالى - إلا في "الهمزة"، فشهد ذلك بفداحة النُّكرِ لفِتنة المال...".[9]

 

ومن شواهد ذلك أيضًا: كلمة "دحاها" في قوله - تعالى -: ﴿ وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا ﴾ [النازعات: 30]، دحاها؛ أي: جعلها كالدِّحية (البيضة)، وهو ما يوافِق أحدثَ الآراء الفلكية عن شكل الأرض... ولفظة "دحا" تعني أيضًا البسط... وهي اللفظةُ العربية الوحيدة التي تشتمِل على البسط والتكوير في ذات الوقت، فتكون أدلَّ الألفاظ على الأرض المبسوطة في الظاهر المكوَّرة في الحقيقة، وهذا منتهى الإحكام والخفاء في اختيار اللَّفْظ الدقيق المبين.[10]

 

ومن شواهد ذلك أيضًا: كلمة "تُدْلُوا" في قوله - تعالى -: ﴿ وَلاَ تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ ﴾ [البقرة: 188]، فكلمة "تُدْلُوا" مأخوذة من الإدلاء، والإدلاء في الأصل: إرسال الدَّلْو في البئر، ثم جُعِل كلُّ إلقاء أو دفع لقول أو فعل إدلاءً، يُقال: أدْلى بحُجَّته؛ أي: أرسلها، والمراد بالإدلاء هنا الدفْع إلى الحاكم بطريق الرِّشوة، والرِّشوة من "الرِّشاء"، وهو الحبل الذي يُعلَّق فيه الدلو، ﴿ وتُدْلوا ﴾ بالأيدي إلى الحُكَّام، مع أنَّ الحاكم هو الأعْلى، والمحكومين هم الأسفل... والسِّرُّ واضح... إنَّ الحاكم إذا قبل الرِّشوة أصبح في الأسفل، وأصبحتِ اليد التي تُعْطي هي الأعلى، ومن هنا كانت اللفظة المحكمة الدقيقة "تُدْلوا" هي أشدُّ تعبيرًا وتصويرًا للمعنى المقصود... ويستحيل عليك أن تتصوَّر لفظةً أخرى أدقَّ وأحكم للمناسبة.[11]

 

ومن ذلك أيضًا: كلمة "التَّهْلُكة" في قوله - تعالى -: ﴿ وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلاَ تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ ﴾ [البقرة: 195]، فـ"التهلُكة" على وزن "تفْعُلة"، ولا نظيرَ لها في اللغة العربية، فهي كلمةٌ فريدة، لا يوجد على وزن تَفْعُلة سواها.

 

قال اليزيدي: "التهلُكة: من نوادر المصادر، ليستْ ممَّا يجري على القياس".[12]

 

والتهلكة: ما يؤدِّي إلى الهلاك، والهلاك خروجُ الشيء عن حال إصلاحه، بحيث لا يُدرَى أين يذهب، ومثال ذلك هلاك الإنسان يكون بخروج رُوحه، وبناءً على هذا المعنى اللغوي نفهم أنَّ قوله - تعالى -: ﴿ وَلاَ تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ ﴾ يكشِف لنا بعضًا من روائع الأداء البياني في القرآن، ففي الجملة الواحدة تُعطيك الشيءَ ومقابلَ الشيء، وهذا أمرٌ لا نجده في أساليب البشر، ومعنى ﴿ وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ﴾؛ أي: في الجهاد، ويقول بعدها: ﴿ وَلاَ تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ ﴾، فكأنَّه رَبَط بين الإنفاق في سبيل الله - الجهاد - بالإلقاء إلى التهلكة؛ لأنَّ الامتناع عن الإنفاق يؤدِّي إلى التهلكة، بمعنى أنَّ الإنفاق الذي هو إخراج المال إلى الغَيْر الذي يؤدِّي لك مهمةً تفيد الإعدادَ لسبيل الله كصناعة الأسلحة، أو الإمدادات التموينية، أو تجهيز مبانٍ وحُصونٍ، هذه أوجه إنفاق المال.

 

وكلمة "تُلْقوا" تفيد أنَّ هناك شيئًا عاليًا، وشيئًا أسفل، فكأنَّ الله يقول: لا تلقوا بأنفسكم إلى التهلكة... وهل يفعل أحدٌ ذلك بنفسه؟! لا، إنما اليدُ المغلولة عن الإنفاق في سبيل الله هي التي تُلْقي بصاحبها إلى التهلكة؛ لأنَّه إنِ امتنع عن الإنفاق في سبيل الله، والإعداد للجهاد، والأخْذ بالأسباب لمواجهة العدوّ، اجترأ العدوُّ عليه، وما دام اجترأ العدو عليه فسوف يَفْتنه في دِينه، وإذا فَتَنه في دِينه، فقد هَلَك.

 

إذًا فالاستعداد للحرْب أنفَى للحرْب؛ بمعنى: أنَّ العدو حين يراك قويًّا يهابك ويتراجع عن قِتالك، هذا هو المعنى الأوَّل... أما المعنى الثاني: لا تُلقوا بأيديكم إلى التهلُكة، بأن تُقْبِلوا على القِتال بلا داعٍ، أو بلا إعداد كافٍ.[13]

 

وقد أشار عبدالقاهر إلى مزايا القرآن التي أعجزتِ العرب في نَظْمه، وخصائصه التي صادفوها في سِياق لفظه... فلم يجدوا في الجميع كلمةً ينبو بها مكانها، ولفظةً ينكر شأنها، أو يُرى أنَّ غيرها أصلح هناك أو أشبه، أو أحْرى أو أخْلق؛ بل وجدوا اتِّساقًا بَهَرَ العقول، وأعجز الجمهور.[14]

 

والمتأمِّل في هذا النص يَجِد إشارةً يمكن أن تقابِل في النقد الحديث ما يُسمَّى بمحور الاختيار أو الاستبدال، وهو محور يتقاطَع مع محور التركيب أو التوزيع، فينتج من ذلك ما يُسمَّى الأسلوب.[15]

 

أي: إنَّ محور الاختيار في القرآن محورٌ حَازَ من درجات الجمال والكمال أتَمَّها، وهو أمرٌ لا يتَّفق لغيره من الكلام.

 

ثالث عشر: العدول في مرسوم خط القرآن:

من الخصوصيات التي اختصَّ بها النص القرآني "مرسوم خطه".

 

وإنَّ المتأمِّل في رسم كلمات المصحف يرى كلماتٍ كُتبت برسم مُعيَّن في مواضعَ تخالف رسمَها في مواضعَ أخرى، بحسب اختلاف أحوال معاني الكلمات، كحذف الياء من "يسري"، أو حذف الواو من "يدعو"، أو زيادة الياء في "بأييكم"، أو زيادة الألف في "لِشَائْ"، أو اختلاف الحرْف بين السين والصاد، كما في "بسطة وبصطة"، أو اختلاف هيئة التاء بقبضها في مواضعَ، وبسطها في مواضعَ أخرى، كما في نحو "رحمة، ورحمت" و"كلمة، وكلمت" و"قرة، وقرت"، أو فصل "إن" عن "ما" في مواضعَ، ووصلها بها في مواضعَ، إلى غيرِ ذلك من صُور العدول في مرسوم الخط القرآني.

 

هذه المخالفة تُعدُّ نوعًا من العدول في الرسم، ولا شكَّ أنَّ ذلك يتعلَّق بسرٍّ من أسرار إعجاز القرآن في ألفاظه ومعانيه، التي اختصَّ الله بها كتابه العزيز، دون سائر الكتب السماوية، ومن اللاَّفت: أنَّ مرسوم خط القرآن لا يخضع لقواعدَ محدَّدة، ولا أصول مُقنَّنة تضبطه، مما يجعل العدولَ بارزًا في رسم بعض الكلمات، وكونه عدولاً فلا يخلو من طرافة أو مغزًى، ربما نهتدي - مع التدبُّر والتأمُّل - إلى إدراكه، وربَّما لا نهتدي، فنقول: سبحانك ربِّي هل كنتُ إلا بشرًا قَصُورًا.

 

وإذا كان هناك فريقٌ يرى أنَّ الالتزام بالخط العثماني فيه مشقَّة في قراءته، وفيه إلباس على البعض[16]، فالرأي عندي: أنَّ القرآن يُؤخَذ بالتلقِّي، وما دام يُؤخَذ بالتلقي، فلا مجالَ للقول بالإلباس.

 

ومع طول مصاحبتنا للمصحف الشريف تلاوةً ودراسةً، تبيَّن لنا أنَّ كثيرًا من الكلمات حَدَث في كتابتها عدول اتَّضح لنا في رسمها، فرُحْنا نلتمس التوجيه المناسِب لهذا العدول في مرسوم الخط - وذلك يُعدُّ من الجديد في هذا البحث.

 

ونذكر فيما يلي بعضَ الشواهد لهذا النمط من أنماط العدول المتعدِّد الصور، المختلف الهيئات:

أ- المخالفةُ بين إثباتِ الألف، أو حذفها من كلمة "اسم"، حيث نلحظ أنَّها إذا أضيفت إلى لفظ الجلالة، نحو: ﴿ بِسْمِ اللَّهِ ﴾ [الفاتحة 1، هود 41، النمل 30] حُذِفت الألف، أما إذا أضيفت لغيرِ لفظ الجلالة ثبتت الألف، نحو: ﴿ بِاسْمِ رَبِّكَ ﴾ [الواقعة 74، 96، الحاقة 52، العلق 1].

 

ولعلَّ السِّرَّ في هذا العدول - أي حذف الألف في: "بسم الله" - التنبيهُ على عُلوِّه في أول رُتْبة الأسماء وانفراده، فهو علم على الذات الإلهية المقدَّسة، ولهذا لم يتسَمَّ به غيرُ الله، بخلاف غيرِه من أسمائه، فلهذا ظهرتِ الألف معها تنبيهًا على ظهور التسمية في الوجود.

 

وحُذِفت الألف التي قبل الهاء من اسم الله، وأظهرت التي مع اللام من أوَّله؛ دلالةً على أنه الظاهر من جهة التعريف والبيان، الباطن مِن جِهة الإدراك والعِيان، أما إذا أُضِيفت لغير الله ثبتت، نحو "باسم ربك"[17]؛ لأنَّ كلمة "ربك" تأتي مشتركة بين "الله" - عزَّ اسمُه - وبين خَلْقه، فمِن ذلك مثلاً: ﴿ اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ ﴾ [يوسف: 42]؛ يعني: العزيز أو الملك، وهذا الاسم الجليل لا يُعرَف له اشتقاقٌ من فِعْل، كما أنَّ الألف واللام فيه لازمة، وجميع أسماء الله الحسنى إذا أُسقط منها حرْف ذهبت دلالته على "الله"، ولم يَعُدْ له معنى، أما اسم "الله" خمسة حروف، إذا أسقط منها حرْف أو اثنان أو ثلاثة أو أربعة فما بقي من الاسم يدلُّ عليه - سبحانه.

 

وحَذْف الألف من "بسم الله" يُعدُّ لونًا من الإيجاز بالحذف، وهو حذف لا يُؤثِّر في النطق بالبسملة، في حين أنَّ له دلالةً قيمة؛ إذ يدلُّ حذفه على بناء الصِّلة بالله - تعالى - بأقصر طريق وأخصره، وهو صراط الله المستقيم.[18]

 

ب- المخالفة بين إثبات الألف وحذفها في كلمة "كتاب" (مُعرَّفة أو مُنكَّرة)، حيث وردتْ بدون الألف في المصحف كله، عدَا أربعة مواضع جاءتْ فيها بالألف.[19]

 

قال الزركشي: "وكذلك كل ما في القرآن من "الكتاب" أو "كتاب"، فبغير ألف؛ إلا في أربعة مواضعَ بأوصاف خصصتْه من الكتاب الكلي:

 

في الرعد: ﴿ لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ ﴾ [الرعد: 38]، فإنَّ هذا "كتاب الآجال"، فهو أخصُّ من الكتاب المطلق، أو المضاف إلى الله.

 

وفي الحِجْر: ﴿ وَمَا أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ إِلاَّ وَلَهَا كِتَابٌ مَعْلُومٌ ﴾ [الحجر: 4]، فإنَّ هذا "كتاب إهلاك القرى"، وهو أخصُّ من كتاب الآجال.

 

وفي الكهف: ﴿ وَاتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتَابِ رَبِّكَ ﴾ [الكهف: 27]، فإنَّ هذا أخصُّ من "الكتاب" الذي في قوله: ﴿ اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ ﴾ [العنكبوت: 45]؛ لأنَّه أطلق هذا، وقَيَّد ذلك بالإضافة إلى الاسم المضاف إلى معنى الوجود، والأخصُّ أظهرُ تنزيلاً.

 

وفي النمل: ﴿ تِلْكَ آيَاتُ الْقُرْآنِ وَكِتَابٍ مُبِينٍ ﴾ [النمل: 1]، هذا "الكتاب" جاء تابعًا للقرآن، والقرآن جاء تابعًا للكتاب، كما جاء في الحِجْر: ﴿ تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ وَقُرْآنٍ مُبِينٍ ﴾ [الحجر: 1]، فما في "النمل" له خصوصُ تنزيل مع الكتاب الكلي، فهو تفصيلُ الكتاب الكلي بجوامع كليته.

 

هكذا وقفْنا على شيء من الأسرار المُرادة من حذف "الألف" في "الكتاب" أو "كتاب"، وهذا الحذف أو الإثبات يجريانِ على منهج حكيم له دلالتُه، وحاشَا لله أن يكون في هذه الخصوصيات نوعٌ من السهو أو الجهل؛ لأنَّ كتاب الله مُنزَّه عن كل نقص أو عيب في مفرداته وجُمَله، وتراكيبه ومعانيه.

 

جـ- المخالفة بين إثبات المدِّ وحذفه، تأمل في سورة "الكافرون" ﴿ قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ * لاَ أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ * وَلاَ أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ * وَلاَ أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ * وَلاَ أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ * لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ ﴾ [الكافرون: 1 - 6].

 

تأمّل قوله: ﴿ لاَ أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ * وَلاَ أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ ﴾ تَرَ إيضاح ما يلي:

1) تر المدَّ على "مَا أَعْبُدُ" (في المرتين)، ولا تَرَ ذلك المدَّ في "مَا تَعْبُدُونَ"، وفي ذلك إشارةٌ إلى تفخيم وتعظيم ما يعبده النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - وهو الله - سبحانه - وتحقيرِ ما يعبده الكافرون من أصنام وحِجارة.

 

2) توَحُّد الفعل " أَعْبُدُ" المسْنَد إلى رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - بنصِّه في المرَّتين، وتغيُّره زمنًا بين المضارِع والماضي المسنَد إلى ضمير الكافرين، ففي توحُّد الأول: إشارة إلى توحُّد معبود النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - وتفرُّده بالوحدانية، فهو اللهُ الواحد الأحَدُ الفرْد الصمد، وفي تغيُّر الثاني إشارةٌ إلى تعدُّد معبوداتهم وحقارتها؛ لأنَّ التغيُّر جارٍ عليها.

 

3) المدّ على لاَ أَعْبُدُ "لام" بعدها "ألف" يمتدُّ بها الصوت ما لم يقطعه ضِيق النَّفَس، فآذن امتداد الصوت بلفظها بامتداد معناها، وهو النفي الجازِم الشامل للحال والاستقبال؛ قطعًا لأطماعهم وبراءة من أفعالهم، ولأنَّ " لاَ" لا تدخُل إلاَّ على مضارع في معنى الاستقبال.[20]

 

4) العدول عن "مَن" إلى "ما"، قال الزمخشري: "فإن قلت: لمَ عدل عن "مَن" إلى "ما"؟ قلت: لأنَّ المراد الصفة، كأنَّه قال: لا أعبد الباطل، ولا تعبدون الحقّ".[21]

 

5) العدول عن "ما عبدتُ" - في مقابلة " مَا عَبَدْتُمْ " - إلى "مَا أَعْبُدُ "، قال الزمخشري: "لأنَّهم كانوا يعبدون الأصنام قبل المَبعث".[22]

 

قال أحمد بن المنير: "أو يكون العدولُ إلى المضارع لقصْد تصوير عبادته في نفس السامع، وتمكينها من فَهْمه".[23]

 

6) العدول عن جمْع التكسير "الكفار" إلى جمع السلامة "الْكَافِرُونَ" لمراعاة الفاصلة، وانسجام نهايات الآيات.

 

يقول الكرماني: "قوله: ﴿ لاَ أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ ﴾ في تَكْراره أقوال جمَّة، ومعانٍ كثيرة... هذا التَّكْرار اختصار وإيجاز، وهو إعجاز؛ لأنَّ الله نفَى عن نبيِّه عبادةَ الأصنام في الماضي، والحال، والاستقبال، ونفى عن الكفَّار المذكورين عبادةَ الله في الأزمنة الثلاثة أيضًا؛ فاقتضى القياسُ تَكْرار هذه اللفظة ستَّ مرَّات، فذكر لفظ الحال؛ لأنَّ الحال هو الزمان الموجود، واسم الفاعل واقعٌ موقعَ الحال، وهو صالح للأزمنة الثلاثة، واقتصر من الماضي على المسند إليهم، فقال: ﴿ وَلاَ أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ ﴾... واقتصر من المستقبل على تَكْرار هذه اللفظة مع المسند إليه، فقال: ﴿ وَلاَ أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ ﴾، وكأنَّ أسماء الفاعلين بمعنى المستقبل".[24]

 

د - المخالفة بين الفصل والوصل في مرسوم الخط القرآني، فمِن شواهده قوله - تعالى -: ﴿ إِنَّ مَا تُوعَدُونَ لآتٍ ﴾ [الأنعام: 134]، حيث نلحظ الفصْلَ بين "إنّ" و"ما" في هذا الموضع فقط من القرآن؛ عدولاً عن الوصْل بينهما الذي ورَدَ في القرآن 137 مرَّة[25]، ولعلَّ السِّرَّ في هذا العدول إلى الفصل أن يلفت انتباهَنا إلى أنَّ هناك ملحظًا بلاغيًّا وراءَ هذا العدول، وهذا يدعونا إلى النظر إلى السِّياق الذي وردتْ فيه الآية، حيث يُبيِّن أنَّ البشر فريقان؛ مهتدٍ وضالٌّ، منهم مَن شرح الله صدرَه، وأنار قلبَه فاهتدى، ومنهم مَن اتَّبع هواه، واتبع الشيطان فضلَّ وغوَى، فبيَّن الله - تعالى - أنَّه سيَحشر الخلائق جميعًا يومَ القيامة للحساب؛ لينال كلُّ فريق جزاءَه العادل، فجاءتِ الآية تعقيبًا على ذلك الفصْل بين الفريقين في موعودهم، فناسب ذلك الفصل في الموعود الفصل في المرسوم.

 

وقد أشار الزركشيُّ إلى رأي آخر، فقال: "إنَّ حرف "ما" هنا وقع على مُفصَّل، فمنه خيرٌ موعود به لأهْل الخير؛ ومنه شرٌّ موعود به لأهل الشر؛ فمعنى "ما" مفصول في الوجود والعلم"[26]، فناسب ذلك كتابتها مفصولة.

 

فكأنَّ الموصول في الوجود توصل كلماتُه في الخط، كما توصل حروف الكلمة الواحدة، والمفصول معنًى في الوجود يفصل في الخط، كما تُفْصل كلمة عن كلمة.

 

ومِن شواهد ذلك أيضًا: جاء إدغامُ نون "إنْ" في لام "لم" في القرآن مرَّة واحدة في قوله - تعالى -: ﴿ فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللَّه ﴾ [هود: 14]، وجاءتْ بدون إدغام مرَّة واحدة في قوله - تعالى -: ﴿ فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ ﴾ [القصص: 50]، ولعلَّنا نتساءل عن سبب هذا العدول، فيُجيبنا الزركشيُّ: "أظهر حرْف الشرط في آية القصص؛ لأنَّ جوابه المترتِّب عليه بالفاء هو ﴿ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ ﴾ متعلِّق بشيء ملكوتي ظاهر سُفلي، وهو اتِّباعهم أهواءَهم، وأخفى في آية هود؛ لأنَّ جوابه المترتِّب عليه بالفاء ﴿ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللَّه ﴾، هو علم متعلِّق بشيء ملكوتي خفي علوي، وهو إنزالُ القرآن بالعلم والتوحيد".[27]

 

هـ - المخالفة بين "يبسط" و"يبصط"، حيث نلحظ في قوله - تعالى -: ﴿ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ ﴾، ورد الفعل "يبسط" بالسين، وتكرَّر ذلك تسعَ مرات في تسعةِ مواضع[28].

 

وورد بالصاد "يبصط" مرَّة واحدة في البقرة: ﴿ وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْصُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ﴾ [البقرة: 245]، علَّل الزركشيُّ لهذا العدول بقوله: "البسط" بالسين يشير إلى السَّعة الجزئية، كذلك علَّة التقييد المشار إليها بقوله: ﴿ لِمَنْ يَشَاءُ ﴾، أما "البصط" بالصاد، فيشير إلى السَّعة الكلية؛ بدليل علوِّ معنى الإطلاق، وعُلوِّ الصاد مع الإطباق والتفخيم.[29]

 

هذا فضلاً عن دَلالة التقابُل على التنويع والتعدُّد؛ تقريرًا لشموله على سبيل التفصيل، وإرضاءً لطمأنينة النفس بالإشارة إلى مشيئة الله المبنية على الحِكَم والمصالح، وأنَّه هو المتصرِّف في شؤون الخلق جميعًا.

 

الخـاتمة

بعد هذه الصُّحْبة الشاقة الشائقة لأسلوب العدول في النصِّ القرآني، انتهينا إلى النتائج الآتية:

1- تُوقِفنا مقولة "الأسلوب العدولي" - في مجملها - على حقيقة أنَّ النظام المعنوي - بما هو مستوى من التواصل أكثر تركيبًا وتعقيدًا واتساعًا من النظام اللغوي - إنَّما يُحقِّق نفسه من خلال النظام اللُّغوي أحيانًا، حين يكون هذا النِّظام في المستوى قابلاً للإفضاء بالمعنى في حدود قواعده وأَنْساقه القارَّة والمطرِدة في الاستخدام؛ أي: في المستوى الذي عُرِف منذ "سوسير" بمستوى اللُّغة، كما أنه يحقِّق نفسه في أحيان أخرى من خلال اختراق هذا النِّظام والتعديل فيه على نحوٍ يسمح بالإشارة إلى المعنى الذي لم يتَّسع له النظام الأصلي/ المثالي، والنصوص الأدبية - شِعريةً كانتْ أو نثرية - تُعوِّل كثيرًا في الإفضاء بالمعنى - أو لفت النظر إليه - على هذا النَّوْع من الأسلوب العدولي.

 

2- إنَّ فكرة العدول ليستْ أصيلة في الفِكر البلاغي والنقدي فحسبُ؛ بل تُوشِك أن تكون أصيلةً في حركة اللُّغة أيضًا، فهي خاصية لُغوية يكاد يتميَّز بها الخِطاب الأدبي؛ إذ تُتيح لمنشئ الخِطاب التصرُّفَ في أساليب اللغة، والانحرافَ بها عن أنماطها القارَّة الشائعة الاستعمال إلى العديد من صور التعبير، التي يراها المبدِع محقِّقةً لهدفه، وهو التأثير في المخاطَب وإمتاعه؛ لذلك عُدَّ الالتفات - وهو صورة من صور الأسلوب العدولي - من شجاعة العربية، لذا أضمر هذا الوصف معنى القوى الماثلة في حَركة اللُّغة، وحريتها في التعبير عن الغَرَض المقصود؛ لأنَّ رُوح اللُّغة من السيولة بحيثُ لا تنضبط في مقولات، ومِن هنا كان وصْف البيانيِّين العرب لصيغ الالتفات المنحرفة عن النسق الأصلي بأنَّها أقوى وأبلغ؛ لأنَّ شجاعة اللغة وحريتها في التعبير تعْني قدرتها على أنْ تقبل أيَّ شيء متاح، وتنحية أيِّ شيء، من أجْل تحقيق معانيها، ولا سيَّما في قانون اللغة الأدبية/ لغة الفن، التي تُتيح لمنشئ الخطاب أن يتجاوزَ حدود الأشكال المعيارية للُّغة وقواعدها المطَّردة، ويُحدِث أشكالاً شخصية من التعبير وفقًا لحدسه الإبداعي.

 

3- يتعلَّق الأسلوب العدولي إذًا - من الناحية الاصطلاحية - بما يجرِي في حدود الخطاب الأدبي من انحراف في النسق اللُّغوي، أو اختراق له بنسق لُغوى آخر لا يطَّرد معه، والدافع إلى هذا الانحراف أو الاختراق مِن جانب منشئ الخِطاب إنما هو دافعٌ معنوي صرْف؛ لذلك ينتفي في حالة العدول أن يقال: إنَّ منشئ الخِطاب قد لجأ إليه لمجرَّد أنه ضرب من التنويع في الأسلوب يُروِّح به عن نفس المخاطَب، حيث يبدو الخِطاب العدولي مُركَّزًا في أصغر حيِّز كلامي ممكن له، وحيث تنتفي مع هذا الحيِّز فكرة المراوحة، ومِن ثَمَّ لا يتعلَّق الأسلوب العدولي بسيكولوجية التلقِّي - أي: القوْل بالترويح عن النفس - بل الأوْلى أن يكون متعلِّقًا بالهدف الخِطابي على مستوى الإقناع والإمتاع.

 

4- إن الصيغة المنحرفة (المعدول إليها) قد تنتج معنى في سياق، وتنتج ضده في سياق آخر؛ ومن ثم تتأكد حقيقةٌ على جانبٍ كبيرٍ من الأهمية عند تحليل الخطاب، مؤداها أنه ليس هناك تراتب في القيمة بين صيغ الخطاب الثلاث المسندة إلى الضمائر المختلفة أو إلى أزمنة الفعل المختلفة، فليس لواحدة من هذه الصيغ في ذاتها قيمة ثابتة ترجح بها غيرَها؛ لأن العدول من زمن إلى زمن يتعلق بالمعنى، وما دام المعنى مجاوزًا بطبيعته التصنيف الزماني، كان طبيعيًّا أن يخترق "الأسلوب العدولي" نسق الزمن المطَّرد، ويصبح الزمن كله - ماضيًا وحاضرًا ومستقبلاً - زمنًا واحدًا، يتحرَّك فيه في حريةٍ تامَّة، وبكل مرونة، كما تَحرَّك بين ضمائر الفاعلين بالحرية والمرونة نفسيهما.

 

5- إنَّ انتقال الخِطاب في النص القرآني من صيغة إلى أخرى، أو مِن ضمير إلى آخر، أو بأيِّ صورة من صور العدول التي سبق أن عرضْناها؛ إنما الهدف من العدول فيها - في المقام الأوَّل - محكوم بـ"المقصد المعنوي" الذي يكمن في إعجازه وعجائبه، والذي جَعَل لإحدى الصِّيغ في سياقٍ ما رُجْحانًا على غيرها في تحقيق هذا المقصِد، وكل أداة أو صيغة - مهما صغرت حجمًا - وأوثر العدول إليها عن غيرها؛ فذلك لأنَّها تؤدِّي مهمَّةً لا يمكن تهميشها بحال من الأحوال.

 

6- إنَّ الأسلوب العدولي - لا سيَّما في النص القرآني - من الأساليب التي تتَّسع فيها الاحتمالاتُ، وتتنوَّع الأنماط، والاتِّساعُ والتنوُّع يرجعان إلى طبيعة التفكير والتأمُّل، وما يصحب ذلك من تنوُّع زوايا النظر؛ إذ ليس من المعقول أن ينكشِف المعنى في الأسلوب العدولي لكلِّ متأمل بصورة واحدة لا تتغيَّر.

 

7- إنَّ تأمُّل العدول في حاجةٍ من صاحبه إلى خِبرة واسعة لإدراك التوفيق بين الصِّيَغ المتغايرة، أو الأساليب الرفيعة، أو البِنَى المتغيِّرة بالزيادة أو الحذْف، أو التقديم والتأخير، أو التعريف والتنكير، أو مراعاة المناسبة، أو إيثار لفْظَة معيَّنة على غيرها من مرادفاتها، أو مخالفة مرسوم الخطِّ القرآني، إلى غير ذلك من أنماط العدول التي تَنِدُّ عن الحصر، وليس في مقدور باحِث حصرُها، ولا الكشْف عن أسرار كلِّ نمط منها إلا بمقدار ما يفتح الله له، ويُهيِّئ له من أدوات التعامل مع النصِّ القرآني، ولا يزال عطاءُ القرآن مستمرًّا برغم اختلاف الزمان والمكان والظروف؛ لأنَّ فيه من الخصائص وأوجه الإعجاز ما يجعله قادرًا على استثارةِ العقول في مختلف العصور، ومَنْجمًا يُستخرَج منه كثيرٌ من النفائس.

 

8- تتحدَّد الوظيفة التعبيرية/ الجمالية لأيِّ عدول تبعًا للسياق الذي يَرِد فيه؛ لأنَّ العدول - كما سبق أن ذكَرْنا - يتعلَّق بشكل أساسي بالمقصد المعنوي، والسِّياق هو الحارس الأمين على المعنى.

 

9- ومن نافلة القوْل أن نذكر أنَّ النظم القرآني لم يعدل عن مقتضى الظاهِر في التركيب اللغوي مراعاةً للفاصلة دون مراعاةِ المعنى، ولكن يجب أن نعلم أولاً - وقبل كل شيء - أنَّ المعنى هو الذي فَرَض هذا العدول عن المقتضى، وكانت موسيقا الفاصلة نتيجةً من نتائج الوفاء بالمعنى، إذًا فلا عجب أن يُراعِي القرآن ذلك الجانب المؤثِّر؛ لأنَّه نزل بلغة العرب، وجرَى على ما يَستحبُّ العرب من موافقة المقاطع، ومراعاة التناسب.

 

ولهذا أتتْ لغة القرآن محافظةً على ذلك التناسب الصوتي، في كلماته وجُمله، ومقاطعه ومفاصله، ببعض الترخيصات اللُّغوية؛ كالحَذْف أو الزيادة، أو التغيير في بِنية الكلمة، وببعض صور العدول عن الأصل؛ كتقديم كلمة، أو تأخير أخرى، أو إيثار صِيغة على أخرى، ممَّا يثبت أنَّ العطاء الموسيقيَّ مراعًى بجانب العطاء اللغوي، وموضوع في مقابله، وكأنَّ للحفاظ على التناسب الصوتي في القرآن قيمةً أكبر من الحفاظ على بعض العلاقات الجُزئية ما دام الترخُّص فيها لا يُشكِّل غموضًا أو الْتباسًا، أو إخلالاً بالمعنى والذَّهاب ببلاغته.

 

والقرآن الكريم حافلٌ بالأساليب العدولية التي تَحُلُّ فيها علاقة عقلية أو فنية محلَّ العلاقة الأصلية العُرفية، فيؤول الكلام إلى أحد الأساليب البيانيَّة العدولية (وكل أساليب البيان عدولي).

 

10- وخلاصة القول: أرى أنَّ الأسلوب العدولي باعتباره ظاهرةً مميزةً للخِطاب الإبداعي، إنما هو - أساسًا - دَربٌ من التحرير لغاية توفِيرِ أكثرِ ما يمكن من ضمانات تعدُّد القراءة، وفي رأيي أنَّ ربْط ظاهرة العدول بفِكرة القراءة يمكن أن يُفيدَنا في تعميق القضية، وفي دَرْسها، وفي فَهْم تخصُّصها بالنصوص الإبداعية.



[1] يُنظر: "في غريب القرآن"؛ لابن عزير (ص: 315)، تح/ محمد أديب جمران، دار ابن قتيبة دمشق، 1995.

[2] "المثل السائر" (1/176-178).

[3] يبدو أنَّ الرافعي متأثِّر في ذلك بابن عطية (ت542ه) في "المحرر الوجيز"، حيث يقول: "لو نزعت منه لفظة، ثم أدير لسان العرب في أن يوجد أحسن منها لم توجد"؛ "المحرر الوجيز" (1/57).

[4] "تاريخ آداب العرب" (2/230-231).

[5] "البيان في روائع القرآن" (288).

[6] "مفردات الراغب" (ص: 480).

[7] "تفسير النيسابورى" - على هامش الطبري - (30/162، 163) (بتصرف)، ويُنظر: "غريب القرآن"؛ لابن عزير (ص: 201).

[8] وردت نحو مائة وعشرين مرة في مقابل خمس وعشرين مرة للنار في الدنيا حقيقة أو مجازًا.

[9] "التفسير البياني" (2/175-177) (بتصرف).

[10] د/ مصطفى محمود: "القرآن" (ص: 255).

[11] مصطفى محمود: "القرآن" (ص: 256).

[12] "الفتوحات الإلهية" (1/232).

[13] "تفسير الشعراوي" (2/831)، ويُنظر: "التحرير والتنوير" (1/214).

[14] "دلائل الإعجاز" (ص: 39).

[15] "ثنائية الشعر والنثر في الفكر النقدي" (ص: 381).

[16] الزركشي: "البرهان" (1/379)، والزرقاني: "مناهل العرفان" (1/378).

[17] الزركشي: "البرهان" (1/390).

[18] "تحليل الرسم القرآني" دراسة عرضها د/ أحمد إبراهيم البعثي، أهرام الجمعة 10/12/2000.

[19] راجع في ذلك "البرهان في علوم القرآن" (1/389، 390).

[20] "الكشاف" (4/392).

[21] "الكشاف" (4/392).

[22] "الكشاف" (4/392).

[23] "الانتصاف من الكشاف" (4/392).

[24] الكرماني: "البرهان" (ص: 307)، وراجع: "بصائر ذوي التمييز" (1/548، 549).

[25] راجع: برنامج قالون - الإصدار 1.0 - رمضان 1421 هـ.

[26] "البرهان" (1/417)، وينظر: "المقنع في رسم مصاحف الأمصار" (ص: 78).

[27] "البرهان" (1/427)، وينظر: "المقنع في رسم مصاحف الأمصار" (ص: 75، وما بعدها).

[28] راجع: برنامج قالون - الإصدار 1.0 - رمضان 1421 هـ، وانظر: "المعجم المفهرس لألفاظ القرآن الكريم" - مادة (ب س ط).

[29] "البرهان" (1/429)، 430 (بتصرف).





 حفظ بصيغة PDFنسخة ملائمة للطباعة أرسل إلى صديق تعليقات الزوارأضف تعليقكمتابعة التعليقات
شارك وانشر

مقالات ذات صلة

  • استثمار الأسلوب العدولي (1/ 11)
  • استثمار الأسلوب العدولي (2/ 11)
  • استثمار الأسلوب العدولي (3/ 11)
  • استثمار الأسلوب العدولي (4/ 11)
  • استثمار الأسلوب العدولي (5/ 11)
  • استثمار الأسلوب العدولي (6/ 11)
  • استثمار الأسلوب العدولي (7 /11)
  • استثمار الأسلوب العدولي (8/ 11)
  • استثمار الأسلوب العدولي (9/ 11)
  • استثمار الأسلوب العدولي (10 /11)

مختارات من الشبكة

  • الأسلوب الأدبي والأسلوب العلمي(مقالة - حضارة الكلمة)
  • أفضل أنواع الاستثمار(مقالة - ثقافة ومعرفة)
  • جمال الأسلوب(مقالة - مجتمع وإصلاح)
  • أثر القدوة وأهميتها في الدعوة إلى الله(مقالة - آفاق الشريعة)
  • تفعيل أساليب الإشراف التربوي(مقالة - مجتمع وإصلاح)
  • بحوث في السيرة النبوية (5)(مقالة - آفاق الشريعة)
  • الأسلوب القصصي الدعوي في القرآن(مقالة - آفاق الشريعة)
  • أساليب إنشائية في الحديث الشريف(مقالة - آفاق الشريعة)
  • أسلوب القاص محمود طاهر لاشين(مقالة - حضارة الكلمة)
  • أسلوب القدوة الحسنة في الدعوة(مقالة - آفاق الشريعة)

 


تعليقات الزوار
2- الالتفات
محمد صابر - الجزائر 30-03-2016 05:27 PM

بارك الله فيك أستاذنا الكريم وجزاك كل خير
إذا كان ممكن تتحفنا بشروط الالتفات عند علماء البلاغة

1- اللهم بارك
عبد الرحمن - الجزائر 11-04-2012 12:41 AM

بارك الله فيك أستاذنا الكريم
دراساتك درر من بحر العلم
جزاك الله خيراً

1 

أضف تعليقك:
الاسم  
البريد الإلكتروني (لن يتم عرضه للزوار)
الدولة
عنوان التعليق
نص التعليق

رجاء، اكتب كلمة : تعليق في المربع التالي

مرحباً بالضيف
الألوكة تقترب منك أكثر!
سجل الآن في شبكة الألوكة للتمتع بخدمات مميزة.
*

*

نسيت كلمة المرور؟
 
تعرّف أكثر على مزايا العضوية وتذكر أن جميع خدماتنا المميزة مجانية! سجل الآن.
شارك معنا
في نشر مشاركتك
في نشر الألوكة
سجل بريدك
  • بنر
  • بنر
كُتَّاب الألوكة
  • الدورة الخامسة من برنامج "القيادة الشبابية" لتأهيل مستقبل الغد في البوسنة
  • "نور العلم" تجمع شباب تتارستان في مسابقة للمعرفة الإسلامية
  • أكثر من 60 مسجدا يشاركون في حملة خيرية وإنسانية في مقاطعة يوركشاير
  • مؤتمرا طبيا إسلاميا بارزا يرسخ رسالة الإيمان والعطاء في أستراليا
  • تكريم أوائل المسابقة الثانية عشرة للتربية الإسلامية في البوسنة والهرسك
  • ماليزيا تطلق المسابقة الوطنية للقرآن بمشاركة 109 متسابقين في كانجار
  • تكريم 500 مسلم أكملوا دراسة علوم القرآن عن بعد في قازان
  • مدينة موستار تحتفي بإعادة افتتاح رمز إسلامي عريق بمنطقة برانكوفاتش

  • بنر
  • بنر

تابعونا على
 
حقوق النشر محفوظة © 1446هـ / 2025م لموقع الألوكة
آخر تحديث للشبكة بتاريخ : 11/11/1446هـ - الساعة: 0:55
أضف محرك بحث الألوكة إلى متصفح الويب