• الصفحة الرئيسيةخريطة الموقعRSS
  • الصفحة الرئيسية
  • سجل الزوار
  • وثيقة الموقع
  • اتصل بنا
English Alukah شبكة الألوكة شبكة إسلامية وفكرية وثقافية شاملة تحت إشراف الدكتور سعد بن عبد الله الحميد
 
الدكتور سعد بن عبد الله الحميد  إشراف  الدكتور خالد بن عبد الرحمن الجريسي
  • الصفحة الرئيسية
  • موقع آفاق الشريعة
  • موقع ثقافة ومعرفة
  • موقع مجتمع وإصلاح
  • موقع حضارة الكلمة
  • موقع الاستشارات
  • موقع المسلمون في العالم
  • موقع المواقع الشخصية
  • موقع مكتبة الألوكة
  • موقع المكتبة الناطقة
  • موقع الإصدارات والمسابقات
  • موقع المترجمات
 كل الأقسام | أسرة   تربية   روافد   من ثمرات المواقع  
اضغط على زر آخر الإضافات لغلق أو فتح النافذة اضغط على زر آخر الإضافات لغلق أو فتح النافذة
  •  
    المحطة العاشرة: مقومات الإيجابية
    أسامة سيد محمد زكي
  •  
    أنماط التعليم الإلكتروني من حيث التدرج في ...
    أبو مالك هيثم بن عبدالمنعم الغريب
  •  
    وصية امرأة لابنتها في زفافها
    الشيخ محمد جميل زينو
  •  
    المحطة التاسعة: العادات
    أسامة سيد محمد زكي
  •  
    الشباب بين الطموح والواقع: كيف يواجه الجيل الجديد ...
    محمود مصطفى الحاج
  •  
    هبة فيها النجاة!
    أ. رضا الجنيدي
  •  
    بركة الزوج الصالح على الزوجة في رفع درجتها في ...
    فهد عبدالله محمد السعيدي
  •  
    تربية الأطفال في ضوء توجيهات سورة الحجرات
    محمد عباس محمد عرابي
  •  
    السلاسل الحقيقية لا ترى!
    أمين محمد عبدالرحمن
  •  
    تطوير العلاقات الإنسانية في الإسلام
    يوسف بن طه السعيد
  •  
    المحطة الثامنة: القرارات
    أسامة سيد محمد زكي
  •  
    التربية بالقدوة: النبي صلى الله عليه السلام
    محمد أبو عطية
  •  
    مهن في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم
    نجاح عبدالقادر سرور
  •  
    تزكية النفس: مفهومها ووسائلها في ضوء الكتاب ...
    عاقب أمين آهنغر (أبو يحيى)
  •  
    الإنذار المبكر من التقاعد المبكر
    هشام محمد سعيد قربان
  •  
    دور الذكاء الاصطناعي في تعزيز كفاءة العملية ...
    أبو مالك هيثم بن عبدالمنعم الغريب
شبكة الألوكة / حضارة الكلمة / أدبنا / دراسات ومقالات نقدية وحوارات أدبية
علامة باركود

استثمار الأسلوب العدولي (4/ 11)

د. عيد محمد شبايك

مقالات متعلقة

تاريخ الإضافة: 7/9/2011 ميلادي - 8/10/1432 هجري

الزيارات: 13452

 حفظ بصيغة PDFنسخة ملائمة للطباعة أرسل إلى صديق تعليقات الزوارأضف تعليقكمتابعة التعليقات
النص الكامل  تكبير الخط الحجم الأصلي تصغير الخط
شارك وانشر

ثالثًا: تداولية العدول وأسبابه:

إنَّ "الأسلوب العدولي" ظاهرةٌ أسلوبية بارزة في حركة اللغة الأدبية، حيث تتحوَّر اللفظة في موضعها تحورًا غير مألوف، يفرز دلالةً فيها كثيرٌ مما لا يتوقَّعه المتلقي، وفيها كثيرٌ من إمكانات المبدع في استعمال الطاقات التعبيرية الكامِنة في اللغة[1].

 

يكتسب العدول تداوليتَه من تغيير الأساليب والصِّيَغ الزمانية والمكانية والكلمات، أضِفْ إلى ذلك التجنيسَ في الكلمات، والتلوين في الألفاظ والحروف لمباغتة المتلقِّي، والتأثير فيه بنقلِه من قضية إلى قضية، وتكمن تداولية العدول في مراعاة منشئ الخطاب للمتلقِّي، فهذا الأخير هو السببُ الأول في لجوء منشئ الخطاب إلى إحداث العدول في الأساليب والصِّيَغ والضمائر والمعجم، وكما سبقتِ الإشارة فإنَّ العدول لون بلاغي نابع من تجارِبنا الكلامية، ومعارفنا حولَ أنفسنا التي ترفُض التَّكْرار المملّ، وتجنح نحو البديل والتغيير، والتلوين في أساليب الكلام وصِيَغِه وأشكاله، كما تنفِرُ نفوسنا وأذواقنا وأحاسيسنا الجمالية المتطوِّرة دومًا من النَّبْرة نفسِها، والنغمةِ نفسِها، والإيقاعِ عَينِه.

 

يقول الزمخشري: "إنَّ الكلام إذا نُقِل من أسلوب إلى أسلوب كان ذلك أحسنَ تطريةً لنشاط السامع، وإيقاظًا للإصغاء إليه من إجرائه على أسلوب واحد، وتختص مواقعه بفوائد"[2].

 

ولعلنا نلحظ تعبير الزمخشري بلفظة "فوائد" جمعًا ونكرة، لتعني تعدُّد جماليات العدول بتعدُّد مواقعه، كما أنها تعني التأثيرَ المُفضِي إلى التجديد، والتحديث والتطوير في فنون القول، وضروب الكلام، وأنماط الحديث، وأنواع الأدب القائِم على التمثيل، زيادة على التقدُّم في الأفعال والأعمال، والممارسات والمنجزات، الفكرية والمادية، حيث يتفاعل الماديُّ والفكريّ، الواقعيُّ والأدبيّ، مثلما تتفاعل التجرِبة والبلاغة.

 

فإذا كان بعض البلاغيِّين يعتبرون الالْتفات - وهو أحد أنواع العدول - هو الوجهَ البلاغي المُجسِّد لشجاعة العربية، فإنهم يقصدون بذلك شجاعةَ منشئ الخطاب، ومدى قدرته على الإبداع في التعبير بما يُحدِثه فيه من تشكيلات عدولية، وتنويع الأسلوب؛ استجابةً لأفق انتظار المتلقي أو لإدهاشه، أو مفاجأته بالانتقال من حال إلى حال، أو من معنى إلى آخرَ، أو من طريقة إلى أخرى، والانتقالُ أو التغيير أساسٌ من أسس التداولية، مثل تكييف أفعال الكلام بحسب المتلقِّي ومقامه[3].

 

وبقدر ما يُرَاعى حال المتلقي في أسلوب العدول بتنشيطه، وإزالة السآمة عنه، وتنبيهه - بنقْل الكلام من صِيغة إلى صيغة أخرى - إلى وجوه من الحُسْن لا بدَّ أن يعيَها، فإنَّ الأسلوب العدولي مدينٌ بما فيه من قِيم بلاغية إلى الحضور الواضح للمبدِع الذي يتطلَّع إلى إيصال رسالة إلى المتلقِّي بكل ما فيها من قِيَم جمالية، فينحرف بالأسلوب عن نمط الأداء المألوف (المعتاد)؛ ليحقِّقَ ما يريده من أهداف يعجز عن توصيلها التركيبُ العادي، كما قد يمثِّل العدول نازعًا نفسيًّا يوحي بتضارب الأشياء والأحداث، وتداخلها في العقل الباطن للمبدِع، ويكون العدول هو التمثيلَ اللُّغوي لهذا النزوع النفسي.

 

وقد جعله ابن جِنِّي من أبواب "شجاعة العربية"[4]، واقتبس ابن الأثير تسميةَ ابن جني، وتبعه الطوفي في "الإكسير"[5]، والعلوي في "الطراز"[6].

 

وقد اتَّجه بعضُ البلاغيِّين في رصدهم للقيمة الجمالية للالتفات/ العدول، إلى النظر إلى الصيغة وما تحويه من إمكانات لُغوية مجاوزة تخرق المألوف، وتكسِر آلية اللغة المعتادة[7] مِن خلال العدول عن صيغة إلى أخرى مخالفة لمقتضى الظاهر، وهذا العدول يُعدُّ تفنُّنًا في الكلام وتصرفًا فيه، يُكسب النص قيمةً جمالية، وينبه إلى أسرار بلاغية كثيرة يتعمدها المبدِع، أو منشئ الخطاب.

 

وقد جلَّى ابنُ جني أبعادَ هذا المقصد الفني حين صرَّح بأن انحراف الشاعر عن أعراف لغته لا يرجع إلى قصوره أو عجزه عن السَّيْر في مسارها الممهد؛ بل لأنَّه يحس بأنَّ المسار الآخر الذي يسلكه (الأسلوب العدولي) هو - رغم ما يحفُّ به من نتوء ومنحنيات - أقدرُ تصويرًا لرؤاه المتفرِّدة، وتبليغًا لغاياته ومراميه البعيدة، فيقول: "... فمتى رأيت الشاعر قد ارتكب مثلَ هذه الضرورات على قُبْحها، وانخراق الأصول بها، فاعلم أنَّ ذلك على ما جَشِمَهُ منه وإن دلَّ من وجه على جَوْرِه وتعسُّفه؛ فإنه من وجه آخر مؤذِن بصياله وتخمطه، وليس دليلاً على ضعْف لغته، ولا قصورًا عن اختيار الوجه الناطق بفصاحته؛ بل مَثلهُ في ذلك عندي مَثلُ مُجْرِي الجَمُوح بلا لجام، ووارد الحَرْب الضَّرُوس حاسرًا من غير احتشام، فهو وإن كان ملومًا في عنفه وتهالكه، فإنَّه مشهود له بشجاعته، وفيْض مِنَّتِه"[8].

 

ثم نجد الزمخشريَّ يشير إلى أنَّ وظيفة العدول البلاغية تتمثَّل في فائدتين: إحداهما عامَّة في كل صورة، وهي إمتاع المتلقِّي، وجذْب انتباهه بتلك النتوءات، أو التحولات التي لا يتوقَّعها في نسق التعبير، والأخرى خاصَّة تتمثَّل فيما تشعه كل صورة من تلك الصور - في موقعها من السياق الذي تَرِد فيه - من إيحاءات ودلالات خاصة، وهاكَ قولَه: "إنَّ الكلام إذا نُقِل من أسلوب إلى أسلوب، كان ذلك أحسنَ تطريةً لنشاط السامع، وإيقاظًا للإصغاء إليه من إجرائه على أسلوب واحد، وقد تختصُّ مواقعه بفوائد"[9].

 

يُفهم من العبارة السابقة: أنَّ الزمخشري جعل لكلِّ موطن من مواطن العدول فائدةً تتحقق من خلال السياق الذي وردتْ فيه.

 

ورغم إشارة الزمخشري الواضحة إلى اختصاص كلِّ موقع من مواقع العدول بفائدة تُستنبط من السياق، فإنَّ ابن الأثير ينتقده بالتوقُّف عند العامل النفسي في تفسير الظاهرة، قبل أن يطرحَ تفسيره البديل، وهو غير مُحقٍّ في ذلك؛ لأنَّنا نجده ينقل عن الزمخشري تحليلاتِه في هذا المبحث نقلاً يكاد يكون حرفيًّا، دون أن يشير إلى ذلك[10]، ولكن على كلِّ حال، إنَّ ما قدَّمه ابن الأثير من بيان فائدة الالْتفات وبلاغة الأسلوب العدولي يتَّفق مع الزمخشري اتفاقًا بيِّنًا.

 

وممَّن تابع الزمخشريَّ في ذلك السكاكيُّ، الذي علَّق قيمة العدول بوجود "المتلقي المثالي" الذي يُحْسِن تلقي النص، ويتفاعل معه، ويدرك أنماطَ العدول في بِنيته ومراميه، فقال: "وهذا النَّوْع قد تختصُّ مواقعُه بلطائف معانٍ، قلَّما تتضحُ إلا لأفرادِ بلغائِهم، أو للحُذَّاق المَهَرَةِ في هذا الفن، والعلماءِ النحارير، ومتى اختصَّ موقعه بشيء من ذلك كساه فضلَ بهاء ورونق، وأوْرث السامعَ زيادةَ هِزَّةٍ ونشاط، ووجد عنده من القَبول أرفعَ منزلةٍ ومحلٍّ، إن كان ممن يسمع ويعقل، وقليلٌ ما هُم... ولأمرٍ ما وقع التباين الخارج عن الحدِّ بين مُفسِّرٍ لكلام ربِّ العِزَّة ومفسِّر، وبين غوَّاص في بحر فرائده وغوَّاص، وكل الْتفاتٍ واردٍ في القرآن متى صرتَ من سامعيه عرَّفك ما موقعه"[11].

 

ويقول ابن الأثير مبيِّنًا الهدف الذي يقصد إليه المبدِع من سلوك طريق العدول: "اعلم أيُّها المتوشِّح لمعرفة علم البيان، أنَّ العدول من صيغة من الألفاظ إلى صيغة أخرى لا يكون إلاَّ لنوع خصوصية اقتضتْ ذلك، ولا يتوخَّاه في كلامه إلا العارفُ برموز الفصاحة والبلاغة... فإنَّه من أشكل ضروب عِلم البيان، وأدقها فهمًا، وأغمضها طريقًا"[12].

 

ويقول في موضعٍ آخرَ مبينًا تعدُّدَ الأغراض المقصودة من العدول بتعدُّد مواقعه: "إنَّ الغرض الموجِب لاستعمال هذا النوع من الكلام لا يَجري على وتيرة واحدة؛ وإنما هو مقصورٌ على العناية بالمعنى المقصود، وذلك المعنى يتشعَّب شعبًا كثيرة لا تنحصر، وإنما يُؤْتى بها على حسب الموضع الذي تَرِد فيه"[13]؛ لذلك قد تتعدَّد الأهداف الدلالية للعدول، وقد تنقلب الدلالة في أسلوب إلى نقيضها في أسلوب آخرَ مماثلٍ للأوَّل في بِنْيته المخالفة لمقتضى الظاهر، ويَرجع ذلك إلى اختلاف السِّياق، وقرائن الأحوال.

 

ففي تحليل ابن الأثير لسورة "الفاتحة" بيَّن أنَّ العدول في أولها من الغَيْبة إلى الخطاب لتعظيم شأن المخاطب، ثم انتقل في آخرِها من الخطاب إلى الغَيْبة لتلك العِلَّة نفسها، وهى تعظيمُ شأن المخاطَب أيضًا، فمخاطبة الربِّ - تبارك وتعالى - بإسناد النِّعمة إليه تعظيمٌ لخطابه، وكذلك ترْك مخاطبته بإسناد الغضب إليه تعظيمٌ لخطابه.

 

ومِن هذا المثال اتَّضح أنَّ الهدف المعنوي الواحد - وهو هنا تعظيم شأن المخاطب - قد اقتضى في مرَّة العدولَ عن الغَيْبة إلى الخطاب، وفى مرة أخرى - في النص نفسه - العدولَ عن الخطاب إلى الغيبة، وهذا ما يؤكِّد أنَّ المنحى الأسلوبي في ذاته لا يرتبط بقيمة ثابتة، أو بدلالة تعبيرية حاسمة ونهائية، تكون هي وحْدَها الصادقة، وأنَّ المعول في استخدام منحى أسلوب بعينه في سياق بعينه على المعنى، أو الهدف المعنوي الذي يتَّجه إليه منشئ الخطاب، فإذا كان تعظيمُ شأن المخاطب هدفًا من أهداف منشئ الخطاب، فإنَّ تحقيق ذلك الهدف هو الذي دعاه إلى العدول مرَّة عن خطاب الغائب إلى خطاب الحاضر، ومرَّة عن خطاب الحاضر إلى خطاب الغائب[14].

 

ويتَّفق مع هؤلاء بلاغيٌّ آخر هو نجم الدين ابن الأثير الحلبي (ت 737هـ) الذي نصَّ على أنَّ الالْتفات "من نعوت المعاني"[15]، ذلك بأنَّ كل حالة من حالات العدول تنطوي على معنًى بعينه، يقصد إليه منشئُ الخطاب، فقد تَرِد صيغةٌ ما مِن صِيَغ العدول في سياق بعينه؛ لتشيرَ إلى المعنى المقصود، ثم تَرِد هذه الصيغة نفسُها في سياق آخر؛ لتشيرَ إلى معنى آخرَ مقصود، هو نقيضٌ للمعنى الأول، وهذا يعني خصوصية الدلالة في كلِّ حالة، وهذا يتَّضح من قول ضياء الدين: إنَّ "الانتقال مِن الغَيْبة إلى الخطاب قد استعمل لتعظيم شأن المخاطب، ثم رأينا ذلك بعينه وهو ضدُّ الأول، قد استعمل في الانتقال من الخطاب إلى الغيبة، فعَلِمْنا حينئذٍ أنَّ الغرض الموجِب لاستعمال هذا النوع من الكلام لا يَجري على وتيرة واحدة؛ وإنما هو مقصورٌ على المعنى المقصود"[16].

 

ونظرة الرجُلَين إلى بلاغة الأسلوب العدولي بهذه الإشارة العميقة، قريبةٌ من التنظير النقدي المعاصر، حيث يرى صاحبَا نظرية الأدب أنَّه ليس ممكنًا القول بأن لكلِّ أداة تعبيرية تأثيرًا محدَّدًا، أو قيمة تعبيرية محدَّدة في جميع السياقات التي تقع فيها، فتوالي الجُمل المعطوفة بحرف العطف (And) مثلاً، قد يوحي في الكتاب المقدَّس أو كتب الأخبار بالسَّرْد البطيء للأحداث، ولكنَّه قد يوحي في قصيدة رومانسية بمشاعرَ هائجة متدفقة، والمبالغة قد تخلق جوًّا تراجيديًّا أو شجيًّا، ولكنها في الوقت نفسه قد تخلق جوًّا كوميديًّا، أو فكاهة سوداء[17].

 

إذًا في كلِّ حالة من حالات استخدام العدول هناك أصلٌ لمعنى مقصود، هو "سياق الخطاب"، فالسياق هو الذي يَحسِم ما إذا كان هذا النوع من العدول أو ذاك قد قُصِد به هذا المعنى أو نقيضه[18]، أو لِنقُلْ: إنَّ السياق هو الذي يوجِّه منشئ الخطاب في موضع بعينه إلى استخدام هذا الأسلوب أو ذاك، أو هذه الصِّيغة أو تلك، ومِن ثَمَّ فهو يعمِد في كلِّ حالة إلى استنطاق السياق والاسترشاد به؛ ذلك لأنَّ الكلمة في الاستعمال لا تحمل معناها المعجميَّ فقط "dictionary meaning"، وإنَّما تُثير معها طائفةً من المترادفات والمشتركات اللفظية... فهي لا تحمل معناها وكفَى؛ وإنما تثير معانيَ الكلمات التي ترتبط بها ارتباطًا صوتيًّا أو معنويًّا، أو اشتقاقيًّا أو دلاليًّا، أو حتَّى الكلمات التي تتضاد معها وتتخالف[19].

 

ولَمَّا كان للسياق هذه الأهميَّة الأكيدة؛ لأنَّه هو الوجه الغائب لنصِّ الخطاب، فقد وجب على متأمِّل الأسلوب العدولي في قراءته للنصوص ألاَّ يعتمدَ على وجهها الظاهر- أي: على صياغتها اللغوية - بل على ذلك الوجه الغائب الذي يتطلَّب في قراءته وتأويله بصيرةً نافذة، وحِسًّا مرهفًا، ويقظة مفرطة.

 

والعدولُ من الأساليب البلاغية التي ترتبط بالمبدِع، وتأكيد دَوْره وحضوره فيها، بوصفه القاصد إلى تشكيل صور العدول المختلفة، حيث نلمس ذلك في دراستهم لمواضع الالْتفات في الشِّعر، وفي القرآن الكريم أيضًا.

 

إذًا نستطيع أن نقرِّر أنَّ وظيفة العدول هي: الْتقاطُ الانحرافات بالنسق عن مقتضى ظاهره، أو التحوُّلات التعبيرية في لغة الأدب، للكشف عن شحناتها التأثيرية أو الدلالية؛ لذلك فهو يقوم على اختيار واعٍ بين الإمكانات التي تُتيحها اللُّغةُ للمتكلِّم، والمعنى الذي يتحرَّك في نفسه، سواء كان هذا الاختيار في نِطاق المعجم (كما في إيثار لفظة بعينها، والعدول إليها دون مرادفها)، أم في نظام النحو (كما في إيثار صورة بعينها من صُور تركيب العبارة، والعدول إليها دون أخرى تُعادِلها في أداء أصْل معناها).

 

ولا شكَّ أنَّ الأسلوب العدولي يُحدِث إثارةً لدى المتلقي نتيجةَ التضاد الناجم عن الاختلاف الحادث من كَسْر النِّظام؛ لأنَّ كسر النظام أو النسق اللغوي المثالي يُحدِث لونًا من "المفاجأة الأسلوبية"[20] التي يتعمَّدها منشئ الخطاب، وبالتالي فليس من المعقول أن ينكشفَ المعنى في الأسلوب العدولي لكلِّ متأمل بصورة واحدة لا تتغيَّر؛ لأنَّ مِن طبيعة التأمل أن تتنوعَ فيه زوايا النظر، وأن يتنوَّع ما يبدو للمتأمِّلين، لا سيَّما أنَّ تأمُّل العدول في حاجة من صاحبه إلى خِبْرة واسعة لإدراك التوفيق بين الصِّيَغ أو الأساليب، وبخاصة في النص القرآني.

 

والأسلوب العدولي في النص القرآني قادرٌ على أن يَستثير العقولَ في مختلف العصور، وهو في حالة إرسال مستمرّ، برغم اختلاف الزمان والمكان والظروف.

 

وبذلك نستطيع أن نقول بأنَّ "الأسلوب العدولي" ليس حيلةً من حِيَل جذْب اهتمام المتلقي وتشويقه فحسبُ؛ لأنَّ ما يحدث من انحراف للنسق ليس مِن قبيل التطرية والترويح عن المتلقي، وإنَّما ينحصر الأمرُ في بيان معنًى على قدْر كبير من الرهافة والخفاء، لا يلتفت إليه إلاَّ متلقٍّ حاذقٌ متمرِّسٌ بأساليب اللغة، وأنماط التعبير المختلفة، قادر على قراءة الوجه الغائب للنصِّ من خلال وجهه الحاضر[21].



[1] د/ محمد عبدالمطلب: "جدلية الإفراد والتركيب" (ص: 188).

[2] "الكشاف" (1/64).

[3] "اللغة ودلالاتها"؛ محمد سويرتي، مجلة عالم الفكر، م 28، ع 3، يناير - مارس /2000م، (بتصرف كبير من جانبنا).

[4] ذكره ابن جني عند توجيهه لقراءة الحسن لقوله - تعالى -: ﴿ وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ﴾ [البقرة: 281] حيث قرأها (يُرجعون) بياء مضمومة، يراجع "المحتسب" (1/145)، تحقيق علي النجدي ناصف وآخرين، القاهرة، المجلس الأعلى للشؤون الإسلاميَّة، سنة 1386هـ.

وذكر ابن جني أبواب شجاعة العربية، وعدَّ منها الحذف، والتقديم والتأخير، والحمل على المعنى، في كتابه "الخصائص" (2/362 وما بعدها).

[5] الطوفي: "الإكسير في علم التفسير" (ص: 140)، تحقيق د/ عبدالقادر حسين.

[6] العلوي: "الطراز" (2/131).

[7] من النقاد المعاصرين من سمّاه (كسر النظام)، وقرنه بالانحراف، يُنظر: "نظرية البنائية" (ص: 375، وما بعدها)، و"علم الأسلوب" (ص: 236، وما بعدها).

[8] "الخصائص" (2/394).

[9] "الكشاف" (1/)65، وانظر: "مفتاح العلوم" (ص: 96، 97)، و"الإيضاح" (ص: 77)، و"الطراز" 2(/133)، و"البرهان في علوم القرآن" (3/314)، حاشية الدسوقي على مختصر السعد ضمن شروح التلخيص (1/472).

[10] انظر "المثل السائر" (2/170-180) وقارن بالكشاف (1/65، 2/276، 3/38).

[11] السكاكي: "المفتاح" (ص: 96).

[12] "المثل السائر" (2/180).

[13] "المثل السائر" (2/170)، و"الطراز" 2(/132).

[14] "جماليات الالتفات" (ص: 892).

[15] "جوهر الكنز" (ص: 119).

[16] "المثل السائر" (2/169) (بتصرف)

[17] Wellek، Rene / Warren، Austin، Theory of Literature، Penguin Books، Great Britain (1982) p. 178 وينظر: "اللغة والإبداع الأدبي" (ص: 20)

[18] جون لايمز: "اللغة والمعنى والسياق"؛ تر/ عباس صادق، دار الشؤون الثقافية، بغداد 1987 (ص: 226).

[19] Wellek، Rene / Warren، Austin، Theory of Literature، Penguin Books، Great Britain (1982) p. 175 وينظر: "اللغة والإبداع الأدبي" (ص: 20).

[20] يعرف جاكبسون المفاجأة الأسلوبية بأنها: "تولد اللامنتظر من خلال المنتظر"؛ انظر: "الأسلوبية والأسلوب" (ص: 86)، ويُنظر: "علم الأسلوب" (ص: 236، وما بعدها).

[21] "جماليات الالتفات" (مقال للدكتور عز الدين إسماعيل ضمن قراءة جديدة لتراثنا النقدي - المجلد الآخر (ص: 904، 905)، بتصرف.





 حفظ بصيغة PDFنسخة ملائمة للطباعة أرسل إلى صديق تعليقات الزوارأضف تعليقكمتابعة التعليقات
شارك وانشر

مقالات ذات صلة

  • استثمار الأسلوب العدولي (1/ 11)
  • استثمار الأسلوب العدولي (2/ 11)
  • استثمار الأسلوب العدولي (3/ 11)
  • استثمار الأسلوب العدولي (5/ 11)
  • استثمار الأسلوب العدولي (6/ 11)
  • استثمار الأسلوب العدولي (7 /11)
  • استثمار الأسلوب العدولي (9/ 11)
  • استثمار الأسلوب العدولي (10 /11)
  • استثمار الأسلوب العدولي (11/ 11)

مختارات من الشبكة

  • استثمار الأسلوب العدولي (8/ 11)(مقالة - حضارة الكلمة)
  • أفضل أنواع الاستثمار(مقالة - ثقافة ومعرفة)
  • الاستثمار الآمن في المؤسسات الخيرية (2)(مقالة - ثقافة ومعرفة)
  • مقاييس حرارة الاقتصاد(مقالة - موقع د. زيد بن محمد الرماني)
  • أوقات المسلم في رمضان(مقالة - آفاق الشريعة)
  • الاستثمار المعرفي في الأطفال(مقالة - موقع د. عبدالعزيز بن سعد الدغيثر)
  • استثمار الزكاة(مقالة - موقع د. طالب بن عمر بن حيدرة الكثيري)
  • استثمار الرهن(مقالة - ثقافة ومعرفة)
  • استثمار الأوقات(مقالة - آفاق الشريعة)
  • كيفية استثمار رمضان لتقوية الروابط الأسرية فرصة لجمع العائلة على الإفطار وصلاة الجماعة(مقالة - مجتمع وإصلاح)

 



أضف تعليقك:
الاسم  
البريد الإلكتروني (لن يتم عرضه للزوار)
الدولة
عنوان التعليق
نص التعليق

رجاء، اكتب كلمة : تعليق في المربع التالي

مرحباً بالضيف
الألوكة تقترب منك أكثر!
سجل الآن في شبكة الألوكة للتمتع بخدمات مميزة.
*

*

نسيت كلمة المرور؟
 
تعرّف أكثر على مزايا العضوية وتذكر أن جميع خدماتنا المميزة مجانية! سجل الآن.
شارك معنا
في نشر مشاركتك
في نشر الألوكة
سجل بريدك
  • بنر
  • بنر
كُتَّاب الألوكة
  • الدورة الخامسة من برنامج "القيادة الشبابية" لتأهيل مستقبل الغد في البوسنة
  • "نور العلم" تجمع شباب تتارستان في مسابقة للمعرفة الإسلامية
  • أكثر من 60 مسجدا يشاركون في حملة خيرية وإنسانية في مقاطعة يوركشاير
  • مؤتمرا طبيا إسلاميا بارزا يرسخ رسالة الإيمان والعطاء في أستراليا
  • تكريم أوائل المسابقة الثانية عشرة للتربية الإسلامية في البوسنة والهرسك
  • ماليزيا تطلق المسابقة الوطنية للقرآن بمشاركة 109 متسابقين في كانجار
  • تكريم 500 مسلم أكملوا دراسة علوم القرآن عن بعد في قازان
  • مدينة موستار تحتفي بإعادة افتتاح رمز إسلامي عريق بمنطقة برانكوفاتش

  • بنر
  • بنر

تابعونا على
 
حقوق النشر محفوظة © 1446هـ / 2025م لموقع الألوكة
آخر تحديث للشبكة بتاريخ : 9/11/1446هـ - الساعة: 17:29
أضف محرك بحث الألوكة إلى متصفح الويب