• الصفحة الرئيسيةخريطة الموقعRSS
  • الصفحة الرئيسية
  • سجل الزوار
  • وثيقة الموقع
  • اتصل بنا
English Alukah شبكة الألوكة شبكة إسلامية وفكرية وثقافية شاملة تحت إشراف الدكتور سعد بن عبد الله الحميد
 
الدكتور سعد بن عبد الله الحميد  إشراف  الدكتور خالد بن عبد الرحمن الجريسي
  • الصفحة الرئيسية
  • موقع آفاق الشريعة
  • موقع ثقافة ومعرفة
  • موقع مجتمع وإصلاح
  • موقع حضارة الكلمة
  • موقع الاستشارات
  • موقع المسلمون في العالم
  • موقع المواقع الشخصية
  • موقع مكتبة الألوكة
  • موقع المكتبة الناطقة
  • موقع الإصدارات والمسابقات
  • موقع المترجمات
 كل الأقسام | أسرة   تربية   روافد   من ثمرات المواقع  
اضغط على زر آخر الإضافات لغلق أو فتح النافذة اضغط على زر آخر الإضافات لغلق أو فتح النافذة
  •  
    المحطة العاشرة: مقومات الإيجابية
    أسامة سيد محمد زكي
  •  
    أنماط التعليم الإلكتروني من حيث التدرج في ...
    أبو مالك هيثم بن عبدالمنعم الغريب
  •  
    وصية امرأة لابنتها في زفافها
    الشيخ محمد جميل زينو
  •  
    المحطة التاسعة: العادات
    أسامة سيد محمد زكي
  •  
    الشباب بين الطموح والواقع: كيف يواجه الجيل الجديد ...
    محمود مصطفى الحاج
  •  
    هبة فيها النجاة!
    أ. رضا الجنيدي
  •  
    بركة الزوج الصالح على الزوجة في رفع درجتها في ...
    فهد عبدالله محمد السعيدي
  •  
    تربية الأطفال في ضوء توجيهات سورة الحجرات
    محمد عباس محمد عرابي
  •  
    السلاسل الحقيقية لا ترى!
    أمين محمد عبدالرحمن
  •  
    تطوير العلاقات الإنسانية في الإسلام
    يوسف بن طه السعيد
  •  
    المحطة الثامنة: القرارات
    أسامة سيد محمد زكي
  •  
    التربية بالقدوة: النبي صلى الله عليه السلام
    محمد أبو عطية
  •  
    مهن في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم
    نجاح عبدالقادر سرور
  •  
    تزكية النفس: مفهومها ووسائلها في ضوء الكتاب ...
    عاقب أمين آهنغر (أبو يحيى)
  •  
    الإنذار المبكر من التقاعد المبكر
    هشام محمد سعيد قربان
  •  
    دور الذكاء الاصطناعي في تعزيز كفاءة العملية ...
    أبو مالك هيثم بن عبدالمنعم الغريب
شبكة الألوكة / حضارة الكلمة / أدبنا / دراسات ومقالات نقدية وحوارات أدبية
علامة باركود

الرثاء في شعر باشراحيل (4)

محيي الدين صالح

مقالات متعلقة

تاريخ الإضافة: 3/1/2011 ميلادي - 27/1/1432 هجري

الزيارات: 11428

 حفظ بصيغة PDFنسخة ملائمة للطباعة أرسل إلى صديق تعليقات الزوارأضف تعليقكمتابعة التعليقات
النص الكامل  تكبير الخط الحجم الأصلي تصغير الخط
شارك وانشر

من أهمِّ الجماليَّات التي تُميِّز بعضَ الأدباء والشعراء - التزامُهم بالموروث الثقافي، والتأثُّر به، والتفاعُل معه، فإذا تَجاوب الشاعِرُ مع مَوروثِه الدِّيني بالذَّات وهو ينسج أشعارَه وقوافيه، فإنه لا يلتفت كثيرًا إلى ما حوله ومن حوله، إلاَّ بالقدر الذي ينسجم مع دواخله ومكوناته، وهذا يأخذنا إلى قولِ النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((المرء على دين خليله، فلينظر أحدكم من يُخالِل)) والحكمة العربية التي تقول: "قل لي من تصاحب، أقُلْ لك من أنت"، وعلى هذا فيُمكننا الاستدلالُ بالرفيق على رفيقه، فإذا كان القارئُ يعرف باشراحيل، الذي يعيش بين ظَهْرَانَيْنا، فمن خلاله يستطيعُ التعرُّف على من رثاهم بشعره، وإذا كان يعرف سيرةَ من رثاهم باشراحيل، فسيعرف شخصيةَ الراثي من خلالهم.

 

ويلحظ المتتبع لشعر باشراحيل الرثائي في مجموعته "مرافئ الدمع" أنَّه تعرض لقامات كبيرة، لها دَوْرٌ عظيم دينيًّا وأدبيًّا واجتماعيًّا، ومن هؤلاء الأعلام: الأديب الكبير والعالم الموسوعي الفريق يحيى المعلمي، وعلامة الجزيرة الراحل حمد الجاسر، وشيخ الإسلام محمد بن عثيمين، وفقيه العصر سماحة الشيخ الراحل ابن باز، والأديب عبدالقدوس الأنصاري، والكاتب الإسلامي أحمد محمد جمال، والشاعران حسين سرحان، وحسين عرب، والشاعر السوري عمر أبو ريشة، والكاتب محمد أسعد، والفنان السعودي طلال المداح، إضافةً إلى بعض المقربين إليه مثل عباس عجلان، وعبدالله الحمدان، ومعتز فاروق، وكذلك فإنَّ أولى الناس به وباهتماماته كان لهم نصيب من قصائده "والده في قصيدتين، وعمته في قصيدة".

 

ونستطيع أنْ نؤكِّد أنَّ باشراحيل أخلصَ في قصائده هذه لرموز فكرية ودينية وأدبية، أجمعت الأمَّة على عظمة ما قدَّمته من آراء وأفكار وأشعار، وفي إذكاء جذوة الصَّحوة في أركان المجتمع العربي الإسلامي، بكتاباتها الرَّصينة، وإخلاصها في عِلاج مُشكلات الأمَّة، إنْ شعرًا وإنْ نثرًا، أو حتى بالمقالات الاجتماعية، أو الخطب المنبرية، أو الدروس المسجدية، ومن هنا كان باشراحيل مُخلصًا لأبعد حد في رثائه لهذه الشموس النَّيِّرات في سماء العرب في العصر الحديث، وإلاَّ... فإنَّنا لم نَرَه - مثلاً - يرثي أصحابَ الجاه والسُّلطان والثراء، لماذا؟ لأنه كان صادقًا في قصيده الرِّثائي لشخصيَّات بارزة استحَقَّت كلمةَ الرِّثاء، في وقتٍ عزَّ فيه الراثي الصادق، والصديق النبيل، وكأنَّه أراد أن ينأى بنفسِه عن الشبهات التي تلحق بمن يرثون القادةَ والحكام.

 

ففي قصيدته "طبت وطبت" في رحيل الأستاذ الأديب المعلمي، تتبدَّى علائم وأمارات الموت واضحةَ العيان في خيال الشاعر؛ لأَنَّه الحقيقة الكبرى في دنيا الناس، والنَّجاة منه ليست لأحد:

كُلُّنَا إِنْ تَقَارَبَ الْمَوْتُ حَاضِرْ
مَنْ يَرُدُّ الْقَضَاءَ مَنْ ذَا يُكَابِرْ
قَدْ تَرَجَّلْتُ وَالْأَزَاهِرُ ثَكْلَى
أَنْتَ أَسْقَيْتَهَا بِدَمْعِ الْمَحَاجِرْ

 

وهو في رثائه ليحيى المعلمي لا يتحدَّث عنه كشاعر وأديب ومُؤرخ ولغوي؛ لأنَّ فاجعةَ المنون سلبت من باشراحيل كُلَّ تفاصيل حياة الراحل الكريم - ذلك العَلَم الذي لا ينكر - وجعلته يَهيمُ في طريق الموت واصفًا وشارحًا وراثيًا؛ حيث لا تنفعُ إلاَّ الكلمة الصادقة في هذا المُخْلِص الذي أدرك فيه الشاعر أنَّ كلَّ نعيم في الحياة إلى زَوال، وأنَّ عزاءَه هو الدُّعاء بالمغفرة له في هذا المقام، وليس الحديث عن مناقبه أو عن حياته:

جِئْتُ أَرْثِيكَ وَالدُّعَاءُ عَزَائِي
إِنَّ رَبَّ الْأَنَامِ لِلْعَبْدِ غَافِرْ
مَا نَعِيمُ الْحَيَاةِ غَيْرَ خَيَالٍ
وَنَعِيمُ الْجِنَانِ أَعْلَى الذَّخَائِرْ
فَاغْتَرِفْ مِنْ مَنَاهِلِ الرَّبِّ فَضْلاً
وَهْوَ بِالْفَضْلِ لِلْخَلاَئِقِ جَابِرْ
جِئْتُ أَرْثِيكَ وَالْمَنَايَا طَرِيقٌ
وَخُطَانَا عَلَى الْحَيَاةِ مَعَابِرْ
ضَمَّخَ اللَّهُ بِالرَّيَاحِينِ وَجْهًا
وَسَقَاكَ الْحَيَا مِنَ الْخَيْرِ مَاطِرْ

 

ويرى باشراحيل أنَّ المعلمي ملَّ الحياةَ السقيمة، وتَمنَّى الفردوسَ الأعلى؛ لذلك كان كالطير المسافر، وكذلك أراد الشاعرُ في رثائه أنْ يكون مثلَ البرقيات المستعجلة، والتعازي الحارَّة المخلصة، بلا رتوش أو أقنعة مزيفة:

يَا لَيَحْيَى تَجَاذَبَتْهُ الثَّوَانِي
قَبْلَ أَنْ نَلْتَقِي كَطَيْرٍ مُسَافِرْ
هَجَرَ الدَّوْحَ وَاغْتِرَابَ اللَّيَالِي
مَلَّ مِنْ سَطْوَةِ الْحَيَاةِ مُهَاجِرْ
فَارْشُفِ النُّورَ مِنْ رَحِيقِ الْأَمَانِي
طِبْتَ رُوحًا وَطِبْتَ مَيْتًا وَحَاضِرْ

 

وارتشافُ النور من رحيق الأماني صورةٌ شعرية بديعة، توضِّح مدى ارتباطِ الشاعر بالمعاني الإيمانية التي يراها في الْمَرْثِيِّ... كما توضح قوة تأثُّر باشراحيل بالقناعات التي عاش لها وبها المرحوم بإذن الله (يحيى المعلمي)، وكيف كان قدوةً لمن معه ومن يأتي بعده.

 

أمَّا قصيدته "هذا هو الحق" في رثاء الأديب العلامة حمد الجاسر، فهي تنضح بمكانة الرجل العِلْمِيَّة، وأخلاقه السمحة، فهو صاحِبُ الفكر المحلق الوحيد الذي تشرئبُّ إليه النفوس والأفئدة:

يَا سَاكِنًا فِي جُفُونِ الدَّهْرِ مَا غَمَضَتْ
عَيْنٌ مِنَ الدَّمْعِ تَهْمِي وَهْيَ نَجْلاَءُ
خُيُولُنَا فِي رِحَابِ الْفِكْرِ جَاثِمَةٌ
وَخَيْلُ فِكْرِكَ تَجْرِي وَهْيَ خَرْسَاءُ
مَضَى الْأَدِيبُ وَلَمْ تَمْضِ خَلاَئِقُهُ
تَعِيشُ وَهْيَ أَنَاشِيدٌ وَأَصْدَاءُ
قَلْبٌ عَلَى الطِّيبِ أَغْرَتْنَا مَحَبَّتُهُ
وَإِنَّهَا لِكَرِيمِ الطَّبْعِ آلاَءُ

 

ثم يتحدث الشاعر بعد ذلك عن المباهج التي يُلاقيها حمد الجاسر في جَنَّات الخلد والنعيم؛ حيث لا عينٌ رأت، ولا أذنٌ سَمِعَت، ولا خَطَر على قلب بشر.

 

ومن البديهي أنْ لا أحدَ يُزكِّي أحدًا على الله، ولكنَّه إحسانُ الظنِّ الذي أمرنا به الرسول الكريم - صلَّى الله عليه وسلَّم - في قوله: ((إذا رأيتم الرجلَ يرتادُ المساجد، فاشهدوا له بالإيمان))، يقول باشراحيل:

يَا رَاحِلاً عَنْ ظَلاَمِ الْأَرْضِ فِي مَلَلٍ
كَيْفَ الضِّيَاءُ وَكَيْفَ الظِّلُّ وَالْمَاءُ
وَكَيْفَ جَنَّاتُ عَدْنٍ فِي مَبَاهِجِهَا
وَأَنْتَ فِي رَحْمَةِ الدَّيَّانِ قَرَّاءُ
هُنَاكَ مَا لاَ رَأَتْ عَيْنٌ وَلاَ خَطَرَتْ
عَلَى الْقُلُوبِ عُيُونٌ وَهْيَ حَوْرَاءُ
فَانْهَلْ مِنَ الصَّفْوِ كَاسَاتٍ مُعَتَّقَةً
أَلْوَانُهَا مِنْ رَحِيقِ الشَّهْدِ صَفْرَاءُ
وَعْدَ الْإِلَهِ وَوَعْدُ اللَّهِ يُنْجِزُهُ
لِلصَّادِقِينَ فَلاَ ضَيْمٌ وَلاَ دَاءُ
فَاغْنَمْ حُظُوظَكَ أَنْعَامًا وَمَكْرُمَةً
فَقَدْ وَفَيْتَ وَمَا أَغْرَتْكَ أَشْيَاءُ
فَاغْفِرْ لَهُ يَا إِلَهَ الْكَوْنِ فِي كَرَمٍ
فَإِنَّنَا وَجَمِيعَ الْخَلْقِ خَطَّاءُ

 

وفي القصيدتين السابقتين يتبيَّن لنا مدى عاطفة باشراحيل الفوَّارة بِحُبِّ أهل العلم والأدب، والصادقة إلى أبعدِ مدى، والألفاظ التي تُلائِم جَوَّ الرثاء، وجلالَ الحدث، ومكانةَ الراحلين، فضلاً عن الصور الفنية المعبرة عن علمِ وقيمةِ هؤلاء، كقوله: "فَاغْتَرِفْ مِنْ مَنَاهِلِ الرَّبِّ فَضْلاً"، وهي صورة جامعة لما ينتظره من الثَّواب العميم، والخير الجزيل، وعليه في الجنات أن يغترفَ من أماكن وموارد ومناهل وفيوضاتِ الرحمن - سبحانه وتعالى - فهو الجدير بهذه المكرمات الربانية، وفي قوله:

ضَمَّخَ اللَّهُ بِالرَّيَاحِينِ وَجْهًا
وَسَقَاكَ الْحَيَا مِنَ الْخَيْرِ مَاطِرْ

 

تخيل الرياحين وهي تعتلي وجهَ المعلمي في رحاب الله، داعيًا مولاه أن يسقيَه من عطائه الجزيل وخيراته الماطرة.

 

كذلك حال باشراحيل في صدقه الإنساني مع قصيدةِ رثاء العلاَّمة حمد الجاسر، تفوح فيها روائحُ الإخلاص والمحبة والصِّدْق، والتحليق الفني في دوحة علامة الجزيرة، وتبدو تصاويره الفنية أقربَ إلى اللوحة الفنية المرسومة بريشة فنان ماهر، مثال ذلك قول بشراحيل:

يَا سَاكِنًا فِي جُفُونِ الدَّهْرِ مَا غَمَضَتْ
عَيْنٌ مِنَ الدَّمْعِ تَهْمِي وَهْيَ نَجْلاَءُ

 

عندما جعله الشاعر ساكتًا في جفون الزمن، وأنَّ كلَّ العيون البشرية تبكي عليه، وتنوح من أجْلِ فراقه، وهي صورة بديعة تتضمن معانِيَ جَمَّة تؤكد على مكانة هذا الرجل الموسوعي.

 

كذلك أبدع خيالُ باشراحيل في قوله عن حمد الجاسر:

خُيُولُنَا فِي رِحَابِ الْفِكْرِ جَاثِمَةٌ
وَخَيْلُ فِكْرِكَ تَجْرِي وَهْيَ خَرْسَاءُ

 

فأفكارنا نحن بلا خيول مُتحركة؛ لأنَّها جاثمة على الأرض، أمَّا خيلُ فكر حمد الجاسر، فهي راكضة مُتحركة وراء المعرفة والعلم والرِّيادة في شَتَّى مجالات الحياة.

 

وفي فراقِ الشيخ محمد بن عثيمين أبدع الشاعِرُ عبدالله باشراحيل فريدتَه "الفراق المر" متوجعًا، شاكيًا، باكيًا، مُستصعبًا آلامَ الفراق، ولوعةَ الرحيل:

يَا لَلْفِرَاقِ بَكَتْكَ عَيْنٌ أَمْ فَمُ
وَبَكَاكَ فِي كُلِّ الْبِلاَدِ الْمُسْلِمُ
مَا أَصْعَبَ الْفَقْدَ الَّذِي يَنْتَابُنَا
وَالْمَوْتُ حَقٌّ وَالْقَضَاءُ مُحَكَّمُ

 

ولأن الشيخَ كان بطلعته البَهِيَّة يعتاد المسلمين في كلِّ عيد، ويُطِلُّ عليهم بإشراقته الساحرة، فإنه الآن اختار طريقَ الجنان، الذي هو أعظمُ فرحةً للمُؤمن الظمآن لنعيم مولاه:

يَا أَيُّهَا الشَّيْخُ الَّذِي يَعْتَادُنَا
فِي كُلِّ عِيدٍ بِالتُّقَى يَتَبَسَّمُ
عِيدُ الْجِنَانِ هُنَاكَ أَعْظَمُ فَرْحَةٍ
لِلْمُؤْمِنِ الصَّادِي لِمَنْ هُوَ أَعْظَمُ

 

ويرى باشراحيل أنَّ ابن عثيمين يتسربل في النعيم - بإذن الله - ويشرب رحيقَ المسك؛ لأنَّه عاشق البلد الحرام، وهذا هو جزاء العُلماء العاملين:

عِمْ يَا مُحَمَّدُ بِالنَّعِيمِ وَبِالْعُلاَ
وَاشْرَبْ رَحِيقَ الْمِسْكِ وَهْوَ مُخَتَّمُ
وَانْعَمْ بِأُخْرَاكَ الْبَهِيجَةِ بَاسِمًا
فِي رَوْضَةٍ مِنْ حُسْنِهَا تَتَكَلَّمُ
يَا عَاشِقَ الْبَلَدِ الْحَرَامِ وَفَضْلِهِ
هَا قَدْ ثَوَيْتَ بِهِ وَطَابَ الْمَقْدِمُ
هَذَا جَزَاءُ الْعَامِلِينَ بِعِلْمِهِمْ
هَذَا الْفَلاَحُ قَدِ اجْتَبَاكَ الْمُنْعِمُ
فَالْثَمْ ضِيَاءَ الْحَمْدِ فِي جَنَّاتِهِ
وَانْهَلْ مِنَ اللَّذَّاتِ مَا لاَ تَعْلَمُ

 

كوكب العلم:

علامة الحجاز، وشيخ الإسلام الشيخ عبدالعزيز بن باز - رحمه الله - صاحِبُ الباعِ الطويل في الدَّعوة، وفي العناية بالحديث، وبالجرح والتعديل، الذي لم يَمُت - كما يقول باشراحيل - هو بطلُ هذه القصيدة وصاحبها؛ لأنَّ ذكراه عاطرةٌ على مَرِّ الأيام، وفتاواه وكتاباته يتداولُها الناس، ويطالعونَها عن حبٍّ وفهم، وعندما جاءَه نداء ربِّه لبَّاه على الفور، في فرحة وعجلة، وكأنَّه في عرس كبير يزفُّه فيه مُحِبُّوه ومشيعوه إلى مُستَقَرِّه في مكة المكرمة:

لاَ لَمْ تَمُتْ فِيكَ ذِكْرَانَا إِلَى الْأَبَدِ
يَا كَوْكَبَ الْعِلْمِ بَيْنَ الْمَتْنِ وَالسَّنَدِ
لَبَّيْتَ حَقًّا نِدَاءَ الْحَقِّ فِي عَجَلٍ
بِفَرْحَةٍ مِنْ شِغَافِ الْقَلْبِ لِلْأَحَدِ
وَقَدْ تَخَيَّرْتَ فِي أُمِّ الْقُرَى نُزُلاً
أَنْعِمْ بِهَا جِيرَةً لِلْبَيْتِ وَالْبَلَدِ
يَا أَيُّهَا الشَّيْخُ أَقْيَالٌ وَأَفْئِدَةٌ
جَاءَتْ تَزِفُّكَ أَنْفَاسًا بِلاَ عَدَدِ
هَذِي غِرَاسُكَ أَحْبَابٌ مُشَيِّعَةٌ
وَأَنْتَ بِالطُّهْرِ وَالْأَوْرَادِ وَالْبَرَدِ

 

وينتقل باشراحيل إلى سَرْدِ تفاصيل حياة الشيخ، ومَواقفه، عندما كان - يرحمه الله - يصحبُ الأخيارَ والصَّالحين، ويُوجِّه أنظارَهم إلى عمل الخيرات؛ لأَنَّه كان في أعماقِ ضمائر أحبابه يَحْيا بعلمه، ويُحيِيهم بدُروسه وتقواه:

وَكُنْتَ تَصْطَحِبُ الْأَخْيَارَ فِي كَرَمٍ
وَكَمْ تَحُثُّ رِجَالَ الْخَيْرِ بِالْمَدَدِ
لَكَمْ صَحِبْنَاكَ عُمْرًا فِي ضَمَائِرِنَا
وَقَدْ حَفِظْنَاكَ حَتَّى آخِرِ الْأَمَدِ
يَا مَنْ بَذَلْتَ مِنَ الْمَعْرُوفِ أَثْمِنَةً
وَكُنْتَ تُخْفِيهِ عَنْ أَهْلٍ وَعَنْ وَلَدِ

 

ومن شدة حبِّ الناس للشيخ ابن باز أصبحَ الجميعُ ساهرين؛ لبكاهم عليه، حتى إنَّ الغَدَ تأثَّر به، فشايعهم في بكاه:

يَا أَيُّهَا الشَّيْخُ وَالْأَحْبَابُ سَاهِرَةٌ
تَبْكِي الرَّحِيلَ وَيَبْكِي لِلْفِرَاقِ غَدِي
فَقَدْ يَهُونُ وَلِلْأَيَّامِ تَعْزِيَةٌ
لَكِنَّ فَقْدَكَ قَدْ أَعْيَا عَلَى الْجَلِدِ
أَمْطَرْتَ بِالْعَطْفِ تَسْقِي جَدْبَ أَنْفُسِنَا
وَكُنْتَ بِالْعِلْمِ تِرْيَاقًا لِكُلِّ صَدِي
طَبْعُ الْقُرَى فِيكَ إِحْسَانٌ وَتَأْسِيَةٌ
لِلْمُعْدَمِينَ تُدَاوِي قِلَّةَ الْمَدَدِ
وَكُنْتَ لِلْحَقِّ صَوْتًا غَيْرَ مُحْتَجِبٍ
تَذُودُ بِالشَّرْعِ عَنْ جَهْلٍ وَعَنْ فَنَدِ

 

وها هو ذا باشراحيل يُصوِّر الشيخَ وهو يرفع رايةَ الحق عاليةً مُدوِّية بعيدةً عن الزيف والأوهام، وهو كذلك عازفٌ عن أهواءِ ومطالب النَّفسِ الأرضية، وهو أيضًا في جهاده:

مُجَاهِدٌ فِي سَبِيلِ الْحَقِّ يَرْفَعُهُ
حُبُّ الْإِلَهِ عَنِ الْأَوْهَامِ وَالنَّكَدِ
وَعَازِفٌ عَنْ بَرِيقِ الْأَرْضِ يَطْلُبُهُ
مُجَاهِدٌ لِنِدَاءِ الْحَقِّ فِي جَلَدِ

 

ولأن الشيخ مضى إلى رضوانِ الله، وهو لا يعرف ماذا أصاب المسلمين من بعده؛ خاطبه باشراحيل في نداء يَنْدَى بالخجل، بعد ما دهمتنا طيورُ الأعادي الضَّعيفة، وتُذِيقُنا الموتَ ألوانًا من العذاب والضنك والشتات:

أَعْدَاؤُنَا مِنْ بُغَاثِ الطَّيْرِ تُمْطِرُنَا
بِوَابِلٍ مِنْ رِمَاحِ الْحِقْدِ وَالْحَسَدِ
تُذِيقُنَا الْمَوْتَ مَا ضَجَّتْ جَوَانِحُنَا
وَكَمْ شَكَى الصَّبْرُ فِينَا حُرْقَةَ الْجَسَدِ
يَا أَلْفَ مِلْيُونَ وَالْإِسْلاَمُ يَجْمَعُنَا
كَيْفَ الشَّتَاتُ وَنَارُ الثَّأْرِ فِي الْكَبِدِ
كَيْفَ الْخَلاَصُ وَدَرْبُ الْحَقِّ تَخْذُلُهُ
عِصَابَةٌ مِنْ شِرَارِ الْخَلْقِ بِالرَّصَدِ
يَا أَيُّهَا الشَّيْخُ فِينَا مِنْكَ تَذْكِرَةٌ
تَرُودُنَا كُلَّمَا ضِقْنَا مِنَ الْكَمَدِ

 

فذكرى الشيخ دائمًا وأبدًا حِصنٌ منيعٌ ضِدَّ التُّرّهات والأباطيل والأراجيف، وهو القابع في رحابِ الخُلْدِ؛ حيث الأطيارُ المحلقة، التي يُشجيه تسبيحُها:

سِرْ لِلْجِنَانِ رِحَابُ الْخُلْدِ وَارِفَةٌ
وَانْعَمْ بِرَحْمَةِ رَبِّ الْخَلْقِ لِلْأَبَدِ
تَطُوفُ عِنْدَكَ أَطْيَارٌ مُحَلِّقَةٌ
يَشْجِيكَ تَسْبِيحُهَا فِي صَوْتِهَا الْغَرِدِ

 

الفراق الصعب:

ويَرْثِي شاعِرُنا صديقَه الناقد الدكتور عباس عجلان، الذي كان آيةً في الأخلاق الحميدة، وغزارة العلم، ونقداته الأدبية الصائبة، التي أطرت للساحة الأدبية طريقها وَفْقَ ضوابطِ العلم، ولذلك خاض معاركَ نقدية طائلة، فما وهن ولا استكان لما أصابه:

(عَبَّاسُ)، وَانْدَاحَ شِعْرِي فِي خَلاَئِقِهِ
وَاقْتَدَّ فِي سَامِقِ الْعَلْيَاءِ بُنْيَانُهْ
(عَبَّاسُ)، يَا مَوْئِلاً لِلْفِكْرِ قَدْ نَضَجَتْ
بِهِ الْعُلُومُ وَمَا أَعْيَاهُ تِبْيَانُهْ
(عَبَّاسُ)، يَا فَرْحَةً بِالْأَمْسِ عَاطِرَةً
مَرَّتْ سِرَاعًا وَيَبْقَى مِنْكَ تَحْنَانُ
لَقَدْ غَرَسْتَ غُصُونَ الْحُبِّ مَوْرُومَة
وَكَمْ رَمَاكَ مِنَ الْحُسَّادِ بُهْتَانُ
مَا رَقَّ خَافِقُهُمْ يَوْمًا عَلَى أَلَمٍ
مِنْ جَانِحِيكَ وَقَدْ أَغْرَاكَ سُلْوَانُ
وَكُلُّ شَلْوٍ عَلَى آثَارِكَ ارْتَفَعَتْ
بِهِ الْمَرَاتِبُ يَعْلُو وَهْوَ جَذْلاَنُ
الْحَاقِدُونَ وَقَدْ لاَنَتْ مَلاَمِسُهُمْ
وَكُلُّهُمْ فِي ثِيَابِ الْغَدْرِ ثُعْبَانُ
صَحِبْتُ فِيكَ مَسَرَّاتِي وَأَغْبِيَتِي
وَنَحْنُ فِي مُلْتَقَى الْأَفْلاَكِ جِيرَانُ

 

ويدعوه باشراحيل إلى الخلود؛ حيث يُسافر الشعر في بهجة معه، والأحباب والخلان؛ ليتركَ على الأرض الأشباحَ وبقايا الشعراء:

إِلَى الْخُلُودِ وَيَسْرِي الشِّعْرُ فِي شَغَفٍ
وَسَافَرَ الشَّوْقُ تَسْتَدْنِيهِ أَشْجَانُ
إِلَى الْخُلُودِ وَكُلُّ الصَّحْبِ فِي وَجَلٍ
وَحَوْلَكَ الْيَوْمَ أَحْبَابٌ وَخِلاَّنُ
إِلَى الْخُلُودِ ضَحُوكُ الثَّغْرِ لَيْسَ يَرَى
سِوَى الْمَنَاكِيدِ أَشْبَاحٌ وَغِرْبَانُ
سِرْ حَيْثُ شِئْتَ طَلِيقًا عِنْدَ بَارِئِنَا
ظِلُّ الفَرَادِيسِ فِي مَثْوَاكَ فَيْنَانُ
وَقَلِّبِ الطَّرْفَ أَلْوَانًا عَلَى فَنَنٍ
مِنَ الْجِنَانِ بِهَا رَوْحٌ وَرَيْحَانُ

 

ونلحظ مدى حنين باشراحيل إلى صُحْبَةِ صديقه عباس عجلان، سواء في الدنيا أم في الآخرة، وكأنَّهما صنوانِ عاشا على حُبِّ الأدب الأصيل، والشعر القويم، وهكذا كانت نفس عجلان، في وُدِّها وأدبها، وهكذا كانت - وما تزال - نفسُ وروح باشراحيل الشاعرة.

 

فداحة العمر اليتيم:

وهنا تتجلَّى براعةُ باشراحيل الموسيقيَّة العالية، وقوة جرسه الصادح بالنَّغَم في رثاء الشاعر الكبير حسين سرحان، عندما تناغَمت ألفاظُه مع المضمون والعاطفة:

يَا شَاعِرَ الْوَقْتِ الْجَحُو
دِ وَقَدْ رَعَى بِالْحَقِّ عَهْدَهْ
جِئْنَاكَ لَمْ نَلْقَ الْمَكَا
نَ وَلاَ الزَّمَانَ وَلاَ الْأَوُدَّةْ
جِئْنَاكَ وَالطَّيْفُ الْحَبِيبُ
مُحَلِّقٌ فِي كُلِّ بَلْدَةْ
جِئْنَاكَ وَالْعُمْرُ الْيَتِيمُ
وَقَدْ أَضَاعَ الْعُمْرُ مَهْدَهْ
جِئْنَاكَ وَالدَّمْعُ الْحَزِي
نُ عَلَى الْجُرُوحِ الْمُسْتَبِدَّةْ
جِئْنَاكَ وَالسَّيْفُ الصَّقِيلُ
قَدِ اسْتَعَادَ الْيَوْمَ غِمْدَهْ
خَلَّدْتَ لِلصَّوْتِ الصَّدَى
وَالشِّعْرُ يُحْيِي فِيكَ مَجْدَهْ

 

فحسن التقسيم والبلاغة الموسيقيَّة طبعت هذه القصيدة بطابع الإخلاص، والحب والصدق لشخص الشاعر حسين سرحان، وتبدو المفارقةُ في أبيات باشراحيل قويَّة، عندما جاءه ومعه مُحبُّو الشاعر الكبير، لكنَّهم صدموا بفقده؛ حيث لا الزمان هو الزمان، ولا المكان هو المكان؛ لأنَّك - يا شاعرنا - قد رحلت وأخذت معك كلَّ شيء جميل.

 

ويؤكِّد باشراحيل على أنَّ حسين سرحان، وإنْ كان قد انتهى أجلُه إلاَّ أن الأجيال ستظل تذكره وتتذكره، عن طريق مطالعة أسفاره الضخمة الشعريَّة، التي يبدأ عندها تاريخ الشعر:

إِنْ يَنْتَهِ الْعُمْرُ الْمَدِي
دُ سَتَذْكُرُ الْأَجْيَالُ رِفْدَهْ
أَوْ يَنْصَرِمْ شَرْخُ الشَّبَا
بِ سَيَبْدَأُ التَّارِيخُ عِنْدَهْ

 

صوت الرحيل:

وتَمتاز قصيدته هذه في رثاء الشيخ عبدالله المحمد الحمدان أبي عليوي؛ لقدرته العجيبة على مَوْسَقَةِ أبياته، والتلاعُب الفَذِّ في تناغُمها، على غرار فرائد شاعر العرب الأكبر أبي الطيب المتنبي، في مفتتح قصائده:

أَسْرِي مَعَ الْوَجْدِ فِي تَذْكَارِ مَحْبُوبِي
وَأَسْتَعِيدُ زَمَانًا غَيْرَ مَجْلُوبِ
وَكَمْ أُفِيقُ عَلَى السَّلْوَى وَيَصْرُخُ بِي
صَوْتُ الْمَنَايَا وَعُمْرِي رَجْعُ تَغْرِيبِ
أَسْتَنْقِذُ الْعُمْرَ فِي صَحْرَاءَ قَاحِلَةٍ
فِيهَا الْأَمَانِي اقْتَضَتْ هَمِّي وَتَعْذِيبِي
أَمْضَى وَيُقْلِقُنِي وَقْتِي وَيَفْجَعُنِي
بِمَنْ أَحَبَّ فِرَاقًا غَيْرَ مَحْسُوبِ

 

ولأن هذا الشيخَ كان صديقًا للبرِّ والإحسان، فإنَّ لياليَه الغراء تسألُ الشاعرَ عنه، وأين هو الآن بعد عمر مديد من النوال والعطاء:

كَمْ سَاءَلَتْنِي اللَّيَالِي عَنْ صَنَائِعِهِ
وَكَمْ يُجِيبُ لِسَانِي بِالْأَعَاجِيبِ
أَوَّاهُ يَا شَيْخُ جَمْعُ النَّاسِ مُصْطَخِبٌ
وَأَنْتَ بَيْنَ الْوَرَى تَهْنَا بِتَرْحِيبِ
أَوَّاهُ يَا مَنْ بِكَ الْأَخْيَارُ فِي شَرَفٍ
وَقَدْ نَعَوْكَ عَلَى بُعْدٍ وَتَقْرِيبِ
كَمْ مِنْ فَقِيرٍ وَقَدْ أَثْرَتْ مَغَانِمُهُ
مِنْ فَيْضِ جُودِكَ تُعْطِي بَيْنَ تَرْغِيبِ
قَدْ عَاشَ بِالْبُخْلِ أَقْوَامٌ عَلَى سَعَةٍ
وَأَنْتَ تَحْيَا عَلَى إِسْعَادِ مَكْرُوبِ

 

ولأن صورةَ هذا الرجل الحاتمي، بلا نظيرٍ في عالم اليوم، وجدنا باشراحيل يكنيه بأبي كلِّ الأخلاق:

إِيهٍ أَبَا كُلِّ أَخْلاَقٍ تَعِنُّ لَنَا
تَهْمِي سَحَائِبُ مِنْ مُزْنٍ وَمِنْ طِيبِ
وَوَجْهُكَ الْبَاسِمُ النَّادِي عَلَى خَجَلٍ
يَزِينُه الْبِشْرُ لاَ يَرْضَى بِتَقْطِيبِ
دُنْيَاهُ كَانَتْ وَأَضْحَتْ خَيْرَ خَاتِمَةٍ
مَا غَيَّرَتْهُ صُرُوفٌ بَعْدَ تَجْرِيبِ

 

أَبَتاه... طريق الشاعرية الأصيلة:

وإلى أبيه... ينطلق باشراحيل في رثائه الإيماني المتدفق، كسيل منهمر، يمتلئ بالتُّقى والقناعة بمكانة أبيه عند ربِّه في جنات النعيم، وأنَّ الناس في الدُّنيا - ما تزال - تتهافت بذكره:

كُلَّمَا مَرَّ ذِكْرُهُ طَيَّبَ النَّا
سَ فَهَامُوا مِنْهُ بِعِطْرٍ حَنُونِ
عَيْنُهُ تَزْدَهِي بِجَنَّتِهِ الْخَضْ
رَا وَيَزْهُو السَّنَا بِحُورٍ عِينِ
يَا أَبِي إِنَّمَا الْمَسَافَاتُ تَطْوِي
كُلَّ أَعْمَارِنَا غُيُوبَ الْمَنُونِ

 

ويُنادي الشاعرُ أباه بأجملِ لَقَب كان يحبُّه في الحياة الدنيا، وهو أبو الحب، مؤكِّدًا على حقيقة ناصعة البياض، هي أنَّ ألَم الفراق هو أشدُّ ألم يعيب الإنسان.

يَا أَبَا الْحُبِّ وَالْمَحَبَّةُ ثَكْلَى
وَالْأَشِقَّاءُ فِي مَسَاءٍ حَزِينِ
قَدْ تَطِيبُ الْجِرَاحُ يَوْمًا فَيَوْمًا
وَجِرَاحُ الْفِرَاقِ جُرْحُ السِّنِينِ
وَإِذَا هَذِهِ الْحَيَاةُ مَضَاءٌ
وَسُكُونٌ يَمُرُّ إِثْرَ سُكُونِ
هَكَذَا الْعُمْرُ رِحْلَةٌ تَتَهَادَى
وَإِذَا نَحْنُ رَهْنُ سِرِّ الْيَقِينِ

 

ليصل باشراحيل إلى الحقيقة الكبرى، وهي أنَّ جميع الخلائق تسير متَّجهة إلى الله، وإلى لقائه يوم تبلى السرائر:

وَإِلَى اللَّهِ كَمْ تَسِيرُ الْبَرَايَا
أَمْرُهُ نَافِذٌ بِكَافٍ وَنُونِ
يَا أَبِي وَالرَّحِيلُ وَالصَّبْرُ دُونِي
وَثَوَانِيكَ فِي سَوَادِ عُيُونِي
مَا افْتَرَقْنَا وَأَنْتَ فِي كُلِّ عُمْرِي
أَمَلٌ ضَاحِكُ الرُّؤَى يَرْوِينِي

 

وهكذا يتصبَّر الشاعر على مُصابه الأليم، بفقْد والده، ولا يَملك إلا أن يلجأ إلى ربه، فهو الرُّكن الركين، معتمدًا على ثقافته الدينيَّة، وإيمانه القوي، بلا جزع ولا نصب ولا شكوى؛ لأنه لم يفارق أباه الذي يحيا معه بأخلاقه وكريم صفاته.

 

وتُخْتَتَم مرثيةُ باشراحيل إلى أبيه بتأكيده على أنَّه مهما عشنا في الحياة، فإنَّ الرجعة والسكون هي خاتمة المطاف، وإنَّ إلى الله المثوبة:

لَمْ تَزِدْنِي الْحَيَاةُ غَيْرَ يَقِينٍ
أَنَّ لِلَّهِ رَجْعَتِي وَسُكُونِي
وَهْوَ بِالْخَلْقِ رَاحِمٌ وَكَرِيمٌ
وَهْوَ مَوْلاَكَ بَيْنَ دُنْيَا وَدِينِ

 

ونلمح ممَّا سبق أنَّ باشراحيل لم يرثِ أباه رثاءَ العوام، الباكين، الجزعين، المتخلِّين عن إيمانهم لحظةَ الفراق، ولكنَّه كان في رثائه ثابتَ الجنان، قويَّ الإيمان، رابطَ الجأش، مُستعصمًا بحبل الله المتين، قانعًا أنَّ والدَه يَحيا في ظلالِ الخلد وملك لا يبلى، ويَحتسبه عند مولاه.

 

أمَّا ألفاظُه هنا، فهي ألفاظُ الإسلام، والتربية الإيمانية التي نشأ عليها؛ حيث تفيض قصائدُه الرثائية بروح الرِّضا التام بما كتبه الله له، وما ابتلاه به، وهو في هذا الشعور يسير على النَّهجِ الإسلامي، وعلى سمت الشعر الملتزم، شكلاً ومعنى.

 

ويُفاجئنا باشراحيل - كعادته - بقصيدة من أفضل ما كتب، في رثاء والده - يرحمه الله - وكأنَّها قصة حياة للإنسانية جَمْعاء، أو هي قصة باشراحيل مع رمز التُّقى والعفاف والخير والبِرِّ والإحسان، رجل المواقف الصعبة، الذي برحيله رحلت المكارم، إنها قصة الأخلاق الإنسانية في أرفع صورها:

يَوْمٌ مِنَ الْأَيَّامِ طَابَ لَنَا السَّهَرْ
بَيْنَ الْبَيَادِرِ وَالْجَدَاوِلِ وَالزَّهَرْ
طَيْرٌ تَعَوَّدَنِي يَنُوحُ عَلَى الشَّجَرْ
لَمْ أَدْرِ أَنَّ الطَّيْرَ يُنْذِرُ بِالْقَدَرْ
وَأَنَا وَإِخْوَانِي الْأَمَاجِدُ فِي سَفَرْ
مَا بَيْنَ خِدْرِ الشَّمْسِ نَسْتَحْيِي الْعُمَرْ
نَتَقَاسَمُ الْأَنْفَالَ مِنْ طَلْعٍ أَغَرّْ
نُهْدِيهِ لِلْمَلأِ الْمُخَدَّرِ بِالضَّرَرْ
كُنَّا وَكَانَ الشَّيْخُ بِالْوَجْهِ النَّضِرْ
فِي مَهْمَهٍ وَالْحُبُّ فِي غَدِنَا انْتَصَرْ
وَعُيُونُ سَيِّدِنَا عَلَيْنَا تَنْبَدِرْ
وَهُوَ الْمُطَاعُ وَأَمْرُهُ فِيمَا أَمَرْ
الْأُمْسِيَاتُ وَصُورَةٌ تَجْلُو الصُّوَرْ
مَنْ يَفْتَحُ التَّارِيخَ يَسْتَقْرِي الذِّكَرْ

 

ويبهر باشراحيل القارئ بكمِّ الصفات والسمات التي قلَّما تجتمع إلا للعظماء من أفاضل الناس، ومن أجل هذا تسابقت الأفلاكُ والأجرام في الحديث عن مَزاياه وأفضليَّته، ومكانته الرفيعة، كحكيم من حكماء العرب:

قَالَتْ حُرُوفُ الشَّمْسِ عَلِّمْنَا النَّظَرْ
عَقْلٌ تَوَقَّدَ بِالنُّضُوجِ وَبِالْفِكَرْ
قَالَ الْهِلاَلُ وَقَدْ تَغَشَّاهُ الْخَضِرْ
هَذَا حَكِيمُ الْعَصْرِ فِي يَوْمِ الْفِتَرْ
مَنْ عَانَقَ الْأَطْفَالَ بِالْحُبِّ الْعَطِرْ
مَنْ يَحْمِلُ الْعَطْفَ الْكَبِيرَ الْمُسْتَمِرّْ
مَنْ قَاسَمَ الْفُقَرَاءَ أَمْوَالَ الْعُمِرْ
قَدْ كَانَ يَزْهَدُ بِالنَّعِيمِ وَبِالدُّرَرْ

 

ثم يهيب باشراحيل في تعداد مَزايا والده؛ حيث يتشوَّق إليه صوتُ الآذان وسور القرآن الكريم:

يَشْتَاقُهُ صَوْتُ الْمَآذِنِ وَالسُّوَرْ
وَيَقِينُهُ بِاللَّهِ بِالذِّكْرِ الْعَطِرْ
عَفُّ اللِّسَانِ عَنِ التَّنَدُّرِ بِالْبَشَرْ
إِلاَّ حَدِيثَ الْخَيْرِ أَوْ طِيبِ السِّيَرْ

 

ولأن والده كان حكيمًا متمرسًا، فقد واجه الصِّعاب بعقل مستنير، ودافع الظلم برجاحته وفطنته:

يَا سَيِّدِي وَالْمَوْجُ يُنْذِرُ بِالْخَطَرْ
وَسَلَكْتَ بِالسُّفُنِ الْمَلِيئَةِ تَحْتَذِرْ
يَا سَيِّدِي وَالرِّيحُ تَعْصِفُ تَعْتَصِرْ
وَوَقَارُكَ الضَّافِي عَلَيْهَا يَنْتَشِرْ
يَا سَيِّدِي وَقِرَاعُ إِنْسَانٍ أَشِرْ
تَلْقَاهُ مُغْتَرًّا بِثَغْرٍ مُزْدَهِرْ
يَا سَيِّدِي وَالظُّلْمُ مِنْ صُنْعِ الْبَشَرْ
تَأْبَى الْمَكَارِمُ فِيكَ أَلاَّ تَنْتَصِرْ

 

وإذا كان عِلْيَةُ القومِ يُدنون الأثرياءَ والوُجَهاء من مَجلسهم، فإنَّ أباه - على العكس من ذلك - كان يُدني الفُقراء، ويُقرِّبهم إليه؛ لأنَّه خاشع القلب، تنهمر دُمُوعه لرُؤية هؤلاء المساكين الذين يبرُّ بهم، ويعطف عليهم:

يَا صَاحِبَ الْفُقَرَاءِ فِي لَيْلِ الْكَدَرْ
كَمْ كُنْتَ تُدْنِيهِمْ لِمَجْلِسِكَ الْعَطِرْ
يَا مَنْ يَخَافُ اللَّهَ بِالْحَقِّ ائْتَزِرْ
وَالْقَلْبُ يَخْشَعُ وَالْمَدَامِعُ تَنْهَمِرْ

 

وإذا كانت هذه هي صفات والده، فإنَّ الجنةَ بلا ريب هي مَثواه - إن شاء الله تعالى -:

الْوَعْدُ يَا أَبَتِي نَعِيمٌ مُسْتَمِرّْ
فِي سَاحَةِ الْخُلْدِ الْمُنَضَّدِ بِالصُّوَرْ
يَا رَبِّ مَتِّعْهُ عَلَى تِلْكَ السُّرَرْ
مَا بَيْنَ جَنَّاتٍ جَنِيَّاتِ الثَّمَرْ

 

وبعقْد مقارنة سريعة بين قصيدتي باشراحيل عن والده - نلحَظ أنَّه في الأولى كان يُخرج نفثاتِه الثَّكْلَى، وآلامِه المجروحة عَبْرَ قصيدتِه في صورة مُباشرة، أمَّا القصيدةُ الثانية، فجاءت بعد رَويَّة وامتداد زمني جعَلَه يتفاعل مع جلال الحدث وأهميَّته، ومن ثَمَّ يستعرض سيرةَ والده العَطِرة بشيء من التفصيل، الباعث على رسم صورةٍ كلية له، تتآزر فيها السِّمَات الشخصية والأخلاقية، وتقدم للقارئ والدَه في أبهى حُلَّة، وأروع صورة، وهي صورة الشيخ الجليل نصير الفقراء والمُعْدَمين، رجل الحق والبِرِّ والخير، الذي بَكَتْه الأجرام السَّماوية في عَلْيَائِها، والأطفال في براءَتِها، وهي صورة كليَّة عبارة عن مجموعة من الصور الجزئية المتراكبة، التي تَجتمع عناصِرُها؛ لتبرز شخصَ والدِه الكريم - رحمه الله.

 

سفر العذراء الطويل:

وهي قصيدة من الشعر الحُرِّ كتبها باشراحيل في رثاء عمته مريم - رحمها الله تعالى - التي كانت بالنسبة له أنموذجًا فريدًا في النقاء والشفافية، وصفاء النفس:

قَالَتْ

سَأَخْتَارُ السَّفَرْ

طَالَ الْمُكُوثُ

فَأَيَّ شَيْءٍ أَنْتَظِرْ

زَمَنٌ قَدِ افْتَقَدَ النَّقَاءْ

وَشَرَابُهَا

مَاءٌ طَهُورْ

تَسْقِي بِهِ

حَتَّى الطُّيُورْ

وَمَعِينُهَا الصَّافِي

يَفِيضُ بِهِ السُّرُورْ

 

ولأَنَّها عذراء، فليست مثلَ نساء الأرض الأُخْريات، هي الرَّمْزُ الوحيد الباقي من زمنِ التضحية والوفاء، وهي الصَّدْر الحاني، الذي يأوي إليه كلُّ مُتعَب وجهيد:

أَيَّامُهَا مُدُنُ الْفَرَحْ

جَعَلَتْ مَبَاهِجَنَا

مُلَوَّنَةً

كَمَا قَوْسٍ قُزَحْ

 

وعندما رحلت، بكتها الحياةُ والأنواء، والسُّحب والظِّلاَل، وتَحولت الحياةُ من حوله إلى بكائية؛ بسبب رحيلها المفاجئ الحزين:

بَكَتِ الْحَيَاةُ

عَلَيْكِ يَا عَذْرَاءُ

فِي يَوْمِ الرَّحِيلْ

وَبَكَى الْأَقَارِبُ

وَالْقَبِيلْ

 

ويرى باشراحيل أنَّ نفسها المؤمنة تَمتاز بالفِرَاسَة والشَّفافية التي ترى بنور الله - عزَّ وجلَّ - فلقد كانت تنظر للغَدِ، وكأنَّما أطلعها المولى - سبحانه وتعالى - على أسرارِ الغيب والخلود، ومن هنا رأت مَكانتها في الجنان؛ حيث الورود، والرَّوائح الذَّكِيَّة، والظلال الهنيئة، والحرير، والقصور الشاهقة، ولأجل هذا اختارت طريقَ الله على الحياة الفانية:

وَكَأَنَّمَا الرَّحْمَنُ

أَطْلَعَهَا عَلَى سِرِّ الْخُلُودْ

فَرَأَتْ مَنَازِلَهَا

ظِلاَلاً أَوْ وُرُودْ

 

صغيري معتز:

وإلى الشاب الراحل معتز فاروق بنجر، يرثي باشراحيل ريعانَ الشباب وأفوله وقتَ نضوجه، يرثي البرعمَ المتفتِّح، وقد استوى عودُه، يَبكي نضارةَ الشباب ورحيلَه المفاجئ، يبكي ما خَلَّفَه بعد سَفره الدائم على نفسِ أمه وأبيه:

(مُعْتَزُّ) مَا أَبْصَرَتْ عَيْنِي مَلاَمِحَهُ
وَقَدْ بَصُرْتُ بِهِ وَالْمَوْتُ حِينَ دَنَا
تَرَكْتَ بَعْدَكَ أَجْفَانًا مُقَرَّحَةً
وَالْوَجْدُ فِي الْقَلْبِ نَزْفٌ صَارَ مُرْتَهَنَا
يَا قَلْبَ أُمِّكَ وَالْجُرْحُ الْعَمِيقُ بَدَا
وَقَلْبُ وَالِدِكَ الدَّامِي إِلَيْكَ رَنَا
(مُعْتَزُّ) غَرِّدْ كَمَا قَدْ كُنْتَ بُلْبُلَنَا
فِي رَوْضَةٍ مِنْ رِيَاضِ الْحُسْنِ مُفْتَتَنَا

 

ومن شدة حب باشراحيل لمعتز، وتعلقه به، نراه يناديه قائلاً: إنك لم تغب عنا يا معتز، بل سبقتنا إلى ذُرَى الفراديس:

(مُعْتَزُّ) لاَ لَمْ تَغِبْ بَلْ أَنْتَ تَسْبِقُنَا
إِلَى أَعَالِي الذُّرَى تُحْيِي الشَّبَابَ سَنَا
تَسْتَافُ مِنْ رَحْمَةِ الدَّيَّانِ فِي كَرَمٍ
وَتَسْتَزِيدُ فَتُعْطِي مَا غَلاَ ثَمَنَا
عِمْ بِالْجِنَانِ وَرَيَّانُ الْمُنَى غَرَدٌ
(مُعْتَزُّ) فَانْعَمْ بِمَا لاَ يَعْرِفُ الْوَهَنَا

 

رثاء فقيد الكلمة:

وتتجلَّى أريحيةُ باشراحيل وصدقُه مع الرُّمُوزِ المخلصة، والأبناء البَررة لأمَّتنا المجيدة، وعلى رأسهم الكاتب الإسلامي أحمد محمد جمال - رحمه الله - الذي كان بقلمه قُنبلَةً في وَجْهِ المارقين والحاقدين والموتورين، وسوطَ عَذابٍ يَصُبُّه على مَن يُهين تراثَنا وثقافَتَنا الأصيلة:

سِرْ أَنْتَ حَيْثُ مَشِيئَةُ الْأَقْدَارِ
تَلْقَى الْكَرَامَةَ فِي رِحَابِ الْبَارِي
يَا مَنْطِقَ الْحَرْفِ الصَّمُوتِ إِلَى الْوَرَى
بِالْحَقِّ لاَ بِالْمَيْنِ وَالْأَضْرَارِ
كَمْ تَنْبَرِي قَلَمًا وَفِكْرًا نَاهِضًا
لَكِنَّنَا فِي غَمْرَةِ التَّيَّارِ
لَمْ تَسْتَهِنْ يَوْمًا بِمَاضِي أُمَّةٍ
سَادَتْ وِلاَيَتُهَا عَلَى الْأَمْصَارِ
جَاهَدْتَ بِالْقَلَمِ الرَّفِيعِ شَجَاعَةً
فَغَدَا بَيَانُكَ مِثْلَ وَهْجِ النَّارِ

 

إلى أن يقول له - صادقًا في قوله، عارفًا لقدره، راجيًا أن يكون من الذين حَظُوا بنعيم مولاهم العميم يومَ القيامة -:

تَاللَّهِ قَدْ عَرَفُوا بِأَنَّكَ مُوقِنٌ
فِي رَحْمَةِ الْمَعْبُودِ لِلْأَخْيَارِ
وَبِأَنَّ دَارَكَ شُرِّعَتْ أَبْوَابُهَا
تَرْنُو إِلَيْكَ بِفَرْحَةِ الْأَنْظَارِ
فِيهَا الْمَبَاهِجُ وَالْمَنَاهِلُ ثَرَّةٌ
فِيهَا الْجَنَى مِنْ طَيِّبِ الْأَثْمَارِ
فَلْتَهْنَ بِالْعَفْوِ الْكَرِيمِ وَجَنَّةٍ
فَضْلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ لِلْأَبْرَارِ

 

دمعة ألم على فقيد الأمة:

يوجه باشراحيل أنظارَ قُرَّائِه ومنشدي شِعْره إلى أنَّ كلماتِه هذه المرة تأتي في تأبين ورثاء العَلاَّمة المرحوم عبدالقدوس الأنصاري، بلا لومٍ ولا رياء؛ لأَنَّها صادقة، من القلب إلى القلب، وتدُلُّ على عظيم مَحبته له، فهو أهلٌ للتَّكْرِمَة والإجلال والحفاوة:

بِالصَّبْرِ بِالدَّمْعِ الْغَزِيرْ
بِالْوُدِّ بِالْحُبِّ الْكَبِيرْ
أَنَا إِنْ بَكَيْتُكَ لاَ أُلاَ
مُ وَإِنْ نَعَيْتُكَ لِلدُّهُورْ
تِلْكَ الرِّحَابُ تَرَكْتَهَا
وَتَرَكْتَ مَقْعَدَكَ الْوَثِيرْ
النُّورُ فِي يُمْنَاكَ يَجْ
لُو ظُلْمَةَ اللَّيْلِ الْكَسِيرْ
خَلَّفْتَ مِنْ أَثَرِ الْعُلُو
مِ بَرَاعَةً بَيْنَ السُّطُورْ
فِيهَا غُرُوسُكَ لَمْ تَزَلْ
جَذْلَى بِأَطْيَابِ الزُّهُورْ

 

ويقدم باشراحيل أسانيدَه على صِدْقِ رِثَائِه لهذا الرجل الذي استمعتْ له الدُّنيا مُصغية؛ لجدارته العلمية والأدبية:

أَصْغَتْ لَكَ الدُّنْيَا وَأَنْ
تَ بِمَا حَمَلْتَ لَهَا جَدِيرْ
حَمَلُوكَ قَدْ حَمَلُوا النَّدَى
وَالصَّرْحُ بَعْدَكَ قَدْ يَمُورْ
حَمَلُوا رُفَاتَكَ لِلثَّرَى
فَجُعِلْتَ لِلْأَجْدَاثِ نُورْ
مَا كَرَّمُوكَ وَأَنْتَ أَوْ
لَى مَنْ تُكَرِّمُهُ الْعُصُورْ

 

وفي رثاء الشاب محمد أسعد الفريح تتبدى عاطفةُ باشراحيل الإيمانية أمامَ عظمة الموت، الذي لا تقفُ أمامَ قوته أَيَّةُ قوة، مُخاطبَا والده بأسلوبٍ ينضح إيمانًا ويقينًا وعزاءً بأَنَّ ما عند الله هو خيرٌ مِمَّا في الدُّنيا الزائلة:

وَدِّعْهُ وَدِّعْ حَبِيبَ الْقَلْبِ وَالْكَبِدِ
وَقُلْ لَهُ لِجِنَانِ الْخُلْدِ يَا وَلَدِي
حَقًّا هُوَ الْمَوْتُ مَنْ فِي الْكَوْنِ يُنْكِرُهُ
وَكُلُّنَا فِي انْتِظَارِ الْمَوْعِدِ الْأَبَدِي
سَرَى (مُحَمَّدُ) نَحْوَ النُّورِ مُنْدَهِشًا
وَغَابَ فِي رَحْمَةِ الدَّيَّانِ وَالْأَحَدِ
رَأَى الْغُيُوبَ وَفِي أَنْدَائِهَا أَلِقٌ
رَأَى النَّعِيمَ وَصَوْتَ الْبُلْبُلِ الْغَرِدِ

 

وإلى أبي محمد ينصحُه باشراحيل بالتسلُّح بسلاح الصبر؛ لأنَّنا مُبْتَلَون في هذه الدنيا بفقد الأحبة:

(أَبَا مُحَمَّدِ) صَبْرًا أَنْتَ مُمْتَحَنٌ
وَالصَّبْرُ بِاللَّهِ يَشْفِي حُرْقَةَ الْكَمَدِ
وَالْوَعْدُ أَقْرَبُ وَاللُّقْيَا مُبَشِّرَةٌ
نَلْقَى الْأَحِبَّةَ فِي الْجَنَّاتِ وَالْغَرَدِ
وَكُلُّنَا رَهْنُ أَقْدَارٍ تُبَاغِتُنَا
وَمَا يَرُدُّ قَضَاءَ اللَّهِ مِنْ أَحَدِ

 

وإذا كان باشراحيل قد جمع رثاءَه في ملفٍّ خاصٍّ، ينتظم الشخوص التي فُجِعَ برحيلها، فإنه اختصَّ الملك الراحل فيصل بن عبدالعزيز بمرثية في ديوانه "مُعذبتي"، ولعلَّ هذه القصيدة تكون دليلاً على عذاب الشاعر الذي أتعبه رحيلُ الفيصل؛ فكان رحيله عذابًا شاقًّا في حياته، ولعلَّ موتَه المفاجئ الذي حَلَّ دونَ مقدماتٍ زادَ من هولِ الفاجعة، خاصَّة أنَّ الملك فيصل كان مَحبوبًا في الأوساطِ العربية:

أَفَقْتُ عَلَى فَاجِعَاتِ الزَّمَانِ
وَسَيْفِ الْقَضَاءِ وَحُكْمِ الْقَدَرْ
وَصَوْتِ النَّذِيرِ يَقُولُ انْهَضُوا
فَقَدْ حَلَّ أَمْرٌ أَزَاغَ الْبَصَرْ
لَقَدْ مَاتَ مَنْ كَانَ يَوْمًا لَنَا
ظِلاَلَ الْأَمَانِ وَنَفْحَ الزَّهَرْ
لَقَدْ مَاتَ أيُّ الْتِفَاتٍ حَزِينٍ
وَأَيُّ الْتِيَاعٍ يَهُزُّ الْحَجَرْ

 

فلقد كان الجميع ينام هانئَ البال، قريرَ العين، بينما الملك فيصل يَسْهَر على تحقيق أحلامهم وعلى شؤونهم:

أَضَاءَ الطَّرِيقَ السَّوِيَّ الْقَوِيمَ
وَعَلَّمَنَا غَالِيَاتِ السِّيَرْ
وَهَزَّ الْيَهُودَ فَأَحْلاَمُهُمْ
تَهَاوَتْ وَأَيَّامُهُمْ تَنْحَسِرْ

 

ولهذا يخاطبه باشراحيل بلهفة وترقُّب، وحديثٌ مِلؤُه الدُّعاء بخير الجزاء:

أَفَيْصَلُ إِنَّا سَئِمْنَا الْحَيَاةَ
فَكَيْفَ السَّبِيلُ وَأَيْنَ الْمَفَرّْ
عَزَاءُ الْأَحِبَّةِ فِيكَ الدُّعَاءُ
فَأَنْتَ الْحَبِيبُ الْعَزِيزُ الْأَبَرّْ
سَيَجْزِيكَ رَبِّيَ خَيْرَ الْجَزَاءِ
وَمَنْزِلُكَ الْخُلْدُ نِعْمَ الْمَقَرّْ




 حفظ بصيغة PDFنسخة ملائمة للطباعة أرسل إلى صديق تعليقات الزوارأضف تعليقكمتابعة التعليقات
شارك وانشر

مقالات ذات صلة

  • الرثاء في شعر باشراحيل (1)
  • الرثاء في شعر باشراحيل (2)
  • الرثاء في شعر باشراحيل (3)
  • الرثاء في شعر باشراحيل (5)

مختارات من الشبكة

  • منتدى الدكتور عبد الله محمد باشراحيل الثقافي(مقالة - موقع د. أحمد الخاني)
  • الرثاء تخليدا رمزيا للمرثي في شعر الخنساء(مقالة - حضارة الكلمة)
  • غرض الرثاء في شعرنا العربي القديم(مقالة - حضارة الكلمة)
  • الرثاء في الشعر العربي(مقالة - حضارة الكلمة)
  • الرثاء في الشعر العربي(مقالة - حضارة الكلمة)
  • الرثاء ما بين أندلس الأمس واليوم!(مقالة - المسلمون في العالم)
  • أعاصير تستحق الرثاء(مقالة - مجتمع وإصلاح)
  • رثاء صديق(مقالة - حضارة الكلمة)
  • في رثاء الشيخ إحسان إلهي ظهير (شعر)(مقالة - حضارة الكلمة)
  • من رثاء الأبناء في الشعر العربي(مقالة - حضارة الكلمة)

 



أضف تعليقك:
الاسم  
البريد الإلكتروني (لن يتم عرضه للزوار)
الدولة
عنوان التعليق
نص التعليق

رجاء، اكتب كلمة : تعليق في المربع التالي

مرحباً بالضيف
الألوكة تقترب منك أكثر!
سجل الآن في شبكة الألوكة للتمتع بخدمات مميزة.
*

*

نسيت كلمة المرور؟
 
تعرّف أكثر على مزايا العضوية وتذكر أن جميع خدماتنا المميزة مجانية! سجل الآن.
شارك معنا
في نشر مشاركتك
في نشر الألوكة
سجل بريدك
  • بنر
  • بنر
كُتَّاب الألوكة
  • الدورة الخامسة من برنامج "القيادة الشبابية" لتأهيل مستقبل الغد في البوسنة
  • "نور العلم" تجمع شباب تتارستان في مسابقة للمعرفة الإسلامية
  • أكثر من 60 مسجدا يشاركون في حملة خيرية وإنسانية في مقاطعة يوركشاير
  • مؤتمرا طبيا إسلاميا بارزا يرسخ رسالة الإيمان والعطاء في أستراليا
  • تكريم أوائل المسابقة الثانية عشرة للتربية الإسلامية في البوسنة والهرسك
  • ماليزيا تطلق المسابقة الوطنية للقرآن بمشاركة 109 متسابقين في كانجار
  • تكريم 500 مسلم أكملوا دراسة علوم القرآن عن بعد في قازان
  • مدينة موستار تحتفي بإعادة افتتاح رمز إسلامي عريق بمنطقة برانكوفاتش

  • بنر
  • بنر

تابعونا على
 
حقوق النشر محفوظة © 1446هـ / 2025م لموقع الألوكة
آخر تحديث للشبكة بتاريخ : 9/11/1446هـ - الساعة: 17:29
أضف محرك بحث الألوكة إلى متصفح الويب