• الصفحة الرئيسيةخريطة الموقعRSS
  • الصفحة الرئيسية
  • سجل الزوار
  • وثيقة الموقع
  • اتصل بنا
English Alukah شبكة الألوكة شبكة إسلامية وفكرية وثقافية شاملة تحت إشراف الدكتور سعد بن عبد الله الحميد
 
الدكتور سعد بن عبد الله الحميد  إشراف  الدكتور خالد بن عبد الرحمن الجريسي
  • الصفحة الرئيسية
  • موقع آفاق الشريعة
  • موقع ثقافة ومعرفة
  • موقع مجتمع وإصلاح
  • موقع حضارة الكلمة
  • موقع الاستشارات
  • موقع المسلمون في العالم
  • موقع المواقع الشخصية
  • موقع مكتبة الألوكة
  • موقع المكتبة الناطقة
  • موقع الإصدارات والمسابقات
  • موقع المترجمات
 كل الأقسام | أسرة   تربية   روافد   من ثمرات المواقع  
اضغط على زر آخر الإضافات لغلق أو فتح النافذة اضغط على زر آخر الإضافات لغلق أو فتح النافذة
  •  
    المحطة العاشرة: مقومات الإيجابية
    أسامة سيد محمد زكي
  •  
    أنماط التعليم الإلكتروني من حيث التدرج في ...
    أبو مالك هيثم بن عبدالمنعم الغريب
  •  
    وصية امرأة لابنتها في زفافها
    الشيخ محمد جميل زينو
  •  
    المحطة التاسعة: العادات
    أسامة سيد محمد زكي
  •  
    الشباب بين الطموح والواقع: كيف يواجه الجيل الجديد ...
    محمود مصطفى الحاج
  •  
    هبة فيها النجاة!
    أ. رضا الجنيدي
  •  
    بركة الزوج الصالح على الزوجة في رفع درجتها في ...
    فهد عبدالله محمد السعيدي
  •  
    تربية الأطفال في ضوء توجيهات سورة الحجرات
    محمد عباس محمد عرابي
  •  
    السلاسل الحقيقية لا ترى!
    أمين محمد عبدالرحمن
  •  
    تطوير العلاقات الإنسانية في الإسلام
    يوسف بن طه السعيد
  •  
    المحطة الثامنة: القرارات
    أسامة سيد محمد زكي
  •  
    التربية بالقدوة: النبي صلى الله عليه السلام
    محمد أبو عطية
  •  
    مهن في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم
    نجاح عبدالقادر سرور
  •  
    تزكية النفس: مفهومها ووسائلها في ضوء الكتاب ...
    عاقب أمين آهنغر (أبو يحيى)
  •  
    الإنذار المبكر من التقاعد المبكر
    هشام محمد سعيد قربان
  •  
    دور الذكاء الاصطناعي في تعزيز كفاءة العملية ...
    أبو مالك هيثم بن عبدالمنعم الغريب
شبكة الألوكة / حضارة الكلمة / أدبنا / دراسات ومقالات نقدية وحوارات أدبية
علامة باركود

الرثاء في شعر باشراحيل (3)

محيي الدين صالح

مقالات متعلقة

تاريخ الإضافة: 27/12/2010 ميلادي - 20/1/1432 هجري

الزيارات: 9590

 حفظ بصيغة PDFنسخة ملائمة للطباعة أرسل إلى صديق تعليقات الزوارأضف تعليقكمتابعة التعليقات
النص الكامل  تكبير الخط الحجم الأصلي تصغير الخط
شارك وانشر

بين الحجاز والشام

حينما قرأت للشاعر بشار بن برد بيتَه الشهير:

يَا قَوْمِ أُذْنِي لِبَعْضِ الْحَيِّ عَاشِقَةٌ
وَالْأُذْنُ تَعْشَقُ قَبْلَ الْعَيْنِ أَحْيَانَا

 

اعتبرتُ هذه المقولة من بناتِ الخيال التي تصدر عن الهائمين فقط... وعندما قرأتُ للشاعر باشراحيل قصيدةَ (منبر الشرق)، التي يرثي فيها الشاعرُ الكبير/ عمر أبو ريشة، تأكَّدت أنَّ بشارًا لم يتجاوز ولم يبالغ، ولكنه كان صادقًا، فها قد عَشِقْتُ (أبا ريشة) دون أنْ أراه من قبل، وذلك من خلال ما قاله باشراحيل، فتمنيتُ أنِّي لو تواصلت مع الفقيد وعايشته، ولمست فيه هذه الصفات النبيلة عن قُرب وهو صاحب قطوف الشعر كما يناجيه باشراحيل:

أَيُّهَا الشَّاعِرُ الْمُتَوَّجُ بِالشِّعْ
رِ وَمِنْ شِعْرِهِ شَذًى وَقُطُوفُ

 

 

وهذه القصيدة تحلِّق في أفق الحجاز، تلك الآفاق التي لها مكانتها؛ إذ تنزلت من خلالها كلُّ معاني مكارم الأخلاق التي يبثُّها باشراحيل عبر قصائده، وتتَّجه شمالاً في ذات الدُّروب التي أظلَّت رحلةَ الصيف، التي كانت تتحرَّك من الحجاز إلى الشام، إلاَّ أنَّ بضاعةَ باشراحيل ليست للتِّجارة التي تطعم من جوع، ولكنَّها للحب والمودة ووَصْل ما أمر الله به أن يوصل، وإذا كانت المسافةُ بين مكة (بلد الراثي)، وسوريا (بلد المَرْثِي) قد نعمت بهذا التواصل، فإنَّني أضيف إليهما (وادي النيل) بالتجاوب... ثم تتداخَل المسافات ما بين المتلقين، فتنصهر في بوتقة الأدب العربي وفق المنظور والتصوُّر الإسلاميَّين، وتتلاحم عبر القوافي لما فيه الخير للشعوب ثقافِيًّا واجتماعيًّا.

 

وعمر أبو ريشة كان شاعرًا يستحقُّ الرثاء بكُلِّ هذه المعاني والأخيلة، ولم يكُن باشراحيل مُجاملاً عندما سمَّى قصيدته بمنبر الشرق، فإذا تتبعنا أثر رحيل أبي ريشة عن دُنيانا في أعماق بعضِ الشعراء المعاصرين، سنجد أيضًا مكانته في قلوب الجميع، وكما يقول الشاعر السوري (ناصر الخوري) في رثاء أبي ريشه[1]:

نُوحِي جُفُونَ الْهَوَى وَاسْتَنْفِري الْوَتَرَا
مَاتَ الْأَمِيرُ وَنَايُ الشِّعْرِ قَدْ كُسِرَا
أَغْنَى الزَّمَانِ تُضِيءُ الدَّرْبَ أَحْرُفُهُ
فَالشَّمْسُ تَحْمِلُ فِي أَجْفَانِهَا الْقَمَرَا

 

وهذا دليلٌ على أنَّ باشراحيل كان صادقًا في تعبيراته في رثاء أبي ريشة، ومن ثَمَّ هو لم يتصنع الألفاظ والمعاني.

 

وعنوان القصيدة (منبر الشرق) فيه إيحاء، المنبر عند المسلمين له مكانةٌ مَرموقة؛ حيث يشعُّ منه نورُ العلم، والشرق يُمثل بدايةَ كلِّ يوم جديد ومولد متجدد للشمس التي لا يُفنيها الغروب.

 

وواضح أن الشاعر أراد أن يجمع بين هذين النيرين، عندما أراد أن يتحدث عن (عمر أبو ريشة) وأدبه الذي تركه من بعده، وسيرته التي يراها باشراحيل نموذجًا يُحتَذى به، وكان يُمكنه أن يكتفي بالعُنوان في الاستدلال على ذلك، ولكنه استرسل قائلاً:

أَيُّهَا الْمُبْدِعُ الْمُحَلِّقُ كَالنِّسْ
رِ عَلَى الرِّيحِ فِي الْفَضَاءِ يَطُوفُ
أَيُّهَا الْمُرْتَقِي إِلَى سُبُلِ الْمَجْ
دِ وَلِلنَّاسِ مِنْكَ عَقْلٌ حَصِيفُ

 

ويُصرِّح بما خفي بين حروف العنوان، من ذلك الضوء الذي ينبعث من منبره؛ ليفتت الظلام:

أَنْتَ لِلْعُرْبِ مِنْبَرٌ يَتَضَاوَى
فِي دَيَاجِي الظَّلاَمِ مِمَّا يَحِيفُ

 

وباشراحيل كما عهدناه في كُلِّ قصائد الرثاء وغير الرثاء، لا يَحيد عن اللجوء إلى الله - سبحانه وتعالى - بما يرجوه لنفسه ولغيره:

فَلْيُنِلْكَ الرَّحْمَنُ خَيْرَ ثَوَابٍ
وَهْوَ لِلنَّاسِ غَافِرٌ وَرَؤُوفُ

 

وهو إذ يَختتم قصيدتَه في رثاء (عمر أبي ريشة) بهذا البيت، وكأنَّه يريد أنْ يزيلَ عن القراء بعضَ القلق الذي قد يُساورهم بسبب البيت الأول؛ حيث يقول:

حَسْبُنَا كُلِّنَا أَسًى يَا رَفِيقُ
وَأَنِينُ الْفِرَاقِ دَاءٌ مُخِيفُ

 

وفيما يتعلَّق بأسلوب باشراحيل في هذه القصيدة، نَجده يُخاطب المرثي بأشكال متعدِّدة، فأحيانًا وكأنه يناديه عبر الأثير بقوله: (أيُّها)، ويُكرِّرها في أبيات أربعة غير متتابعة كقوله:

أَيُّهَا الرَّاحِلُ الْمُوَسَّدُ بِالْحُبْ
بِ وَفِي رَوْضِكَ الزَّمَانُ الْوَرِيفُ
أَيُّهَا الشَّاعِرُ الْمُتَوَّجُ بِالشِّعْ
رِ وَمِنْ شِعْرِهِ شَذًى وَقُطُوفُ

 

(وكان قد سبق أنْ خاطبه بقوله: (أيها المبدع، وأيها المرتقي).

 

وهو في ذلك يتصوَّره ماثلاً أمامَه بقيمه وشعره وإبداعاته، ونجده يقول له:

أَنْتَ فِي الدَّهْرِ صُورَةٌ تَتَسَامَى
وَصَدَاكَ الشَّجِيُّ فِينَا أَلِيفُ

 

مع أنَّه في بعض الأبيات يتحدَّث عنه بضمير الغائب، وبفعل (كان):

كَانَ مِلْءَ الْعُيُونِ يُنْشِدُ لِلْحَقْ
قِ وَفِي رَاحَتَيْهِ مِنْهُ سُيُوفُ
كَانَ فِي الْجَدْبِ يَسْتَجِيبُ إِلَى الزَّهْ
رِ وَوَجْهُ النَّدَى إِلَيْهِ شَفُوفُ

 

وقد يخاطبه بـ(كنت):

كُنْتَ تَمْضِي إِلَى الْحَيَاةِ بِعَقْلٍ
وَهْوَ فِيكَ الْحَكِيمُ وَالْفَيْلَسُوفُ

 

وهذا التنوُّع في أسلوبِ المُخاطبة يُوحي بأنَّ باشراحيل لم يفتقدْ رُوح (عمر أبي ريشة) الإنسان الشاعر، ولكنه فَقَد حضورَه المكاني فقط.

 

وإذا نظرنا إلى مُجمل القصيدة من خلال اتِّجاهات باشراحيل في الرثاء، نجد أنَّها واضحةُ المضمون، (فأنين الفراق) في البيت الأول، و(الراحل الموسد) في منتصف القصيدة، و(الجوانج الثكلى) في نهاياتها - تَجزم الغرض الرثائي للقصيدة، والأغاريد، والبلابل، والروح، والنسر المحلِّق، والريح: كلمات تدلُّ على شاعريَّة المرثي ومكانته في فَضاءات الأدب، وكلمات: (التسامي، والحكمة، والفلسفة، والارتقاء) تدُلُّ على مكانته بين الناس.

 

ومع أنَّ القصيدةَ تتكوَّن من واحدٍ وعشرين بيتًا، فإنَّ المعاني والصُّور والأخيلة التي بُثَّت من خلالها كثيرةٌ، تفي بمكانةِ الفقيد ومآثره في قلب الرَّاثي؛ ولذلك فَقَدِ استطاع باشراحيل أنْ يقنعَ المتلقي برسالته التي أراد أنْ يبلغها للمثقف العربي عن رُوَّاد الشعر في العصر الحديث.

 

وهذه الأبيات وهي تحلِّق من الحجاز إلى الشام، فإنَّها تطيح بالحدود السياسيَّة التي رسمها الاستعمار؛ للتفريق بين أبناء الأمة الإسلاميَّة في ثقافتها، بل تبشِّر بأنَّ ما بذره الأعداءُ لم يُنبت إلاَّ طَلْعَ التحدِّي، ولو أتى أُكُلَه بعد حين، وهذه الدِّراسة التي نَصُوغها ونحن على ضفافِ نهر النيل دليلٌ على الصدى الطيب الذي أحدثه الشعر والشاعر، ونجاحه مع رفاقه الشُّعراء والأدباء في خلخلة الإقليمية، التي يُحاول ضعافُ النُّفوس فرضها على الواقع العربي، وهم ينادون بقَطْعِ الصلة بين الماضي والحاضر؛ تَمهيدًا لتفتيت الحاضر.

 

كما أنَّ المؤرخين الذين سيأتون في أجيالٍ لاحقة، ويستعينون بالأدب في تأريخهم، ستقرُّ أعينُهم عندما يرَوْن مثل هذه القصائد التي تُؤكِّد لهم مدى التواصُل المكاني بين العرب في كل مكان، والتواصل الزماني بين الأجيال المتعاقبة، وارتباطهم بالنبع الصافي، الذي بدأ منذ قرون بعيدة مع قوله - تعالى -: ﴿ اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ ﴾ [العلق: 1]، وتكون المحصلة النِّهائيةُ خيرَ دافع للأجيال القادمة على السير في ذاتِ طريق المجد، من خِلال ما توارثوه من أدبٍ، ولغة، وثقافة، وأشكال تعبيريَّة، وخصوصيَّة أخلاقيَّة، وأوازن بيانيَّة، يتخطَّون بكل ذلك أعتابَ المستقبل، فيذكرون أجدادهم (الذين هم نحن) بكل خير.

 

•    •    •

 

الأغراض المتنوعة وظلال الرثاء:

معاني الرثاء في شعر باشراحيل مُتعدِّدة، قد تأتي مباشرةً كما اعتادَه الناسُ، وقد تأتي في أثناء وجدانيَّاته وهو يستدعي من ذاكرة التاريخ بعضَ المآثر أو أصحابها للاستِدلال، أو الاستِشهاد بها في ظروفٍ مُعيَّنة، ورُبَّما يستصرخ بهم؛ ليثيرَ حَمية مُحبيهم وعشاقهم.

 

ففي قصيدة (شوقي أمير الشعراء) من ديوان (معذبتي)، نجد أنَّ باشراحيل يناجي شوقي قائلاً:

أَدْعُوكَ فِي زَمَنٍ تَنَاقَضَ أَمْرُهُ
وَسَطَا عَلَى الشِّعْرِ الْعَظِيمِ الْبَانِي
الشِّعْرُ فِي أَيَّامِنَا فِي مِحْنَةٍ
مِنْ هَجْمَةِ الْغُرَبَاءِ وَالْغِرْبَانِ
أَدْعُوكَ أَدْعُو الشِّعْرَ يُثْرِي عُمْرَنَا
أَدْعُو أَمِيرَ الْقَوْلِ وَالتِّبْيَانِ

 

وكأنَّ باشراحيل تلفَّت حوله، فلم يجد من رفاقه ما يشفي غليلَه، أو رآها أقلَّ مما يتوقعه في مُواجهة الأدعياء والمتطفِّلين على موائد الشِّعر تَحت أسماء مُتنوعة، وفي مثلِ هذه الظُّروف تكون الساحةُ في أشدِّ الحاجة إلى العبقريَّات الأدبية، التي لا يشقُّ لها غبار، وأمير الشُّعراء بما تركه لنا من شعرٍ خالد هو البدر الذي يفتَقِده باشراحيل في الليلة الظلماء، فيستدعيه بكل معاني الحب والوفاء والإجلال قائلاً:

أَدْعُوكَ حُبًّا يَا حَبِيبَ تُرَاثِنَا
يَا خَالِدَ الْإِلْهَامِ وَالْأَوْزَانِ

 

ويُسَوِّغ باشراحيل سببَ هذا التلاحُم بينه وبين شوقي:

يَا شَاعِرًا مَلَأَ الْوُجُودَ قَرِيضُهُ
بِالْحُبِّ وَالْإِلْهَامِ وَالْإِيمَانِ
أَثْرَى الْحَيَاةَ فَأَشْرَقَتْ أَيَّامُهُ
نَحْوَ الدُّنَا تَزْهُو بِكُلِّ زَمَانِ

 

وهذا هو عَيْنُ الرِّثاء، وإن لم يكن في شخصٍ فإنَّه في معنى أو قيمة أو أثر، وكذلك رُبَّما يكون المرثي زمانًا أو مكانًا.

 

وهذا الاتجاه في شعر باشراحيل علامةٌ أو سِمَة من سمات القريض عنده، وهذا هو ما أشرتُ إليه من قبل عن تداخُل الأغراض الشِّعْرِيَّة وتَمازُجها وتلاحُمها حسب ما تقضيه المواقف، وإن كان "شوقي" أمير البيان، فإنَّ لكلِّ جانب من جوانب الحياة أميرَه ورجالَه، والتاريخ مليء بأسماء العُظماء في كلِّ مجال، والخصال الحميدة التي يحن إليها باشراحيل لا يَخلو منها زمان، ولذلك نجده يروح ويغدو مستعرضًا الأيَّام والليالي، بل الشهور والسنين، وكأنَّه نَحْلة تأكل من كلِّ الثمرات سالكةً سُبُلَ ربِّها ذُلُلاً، وفي آخر أسفاره يقدِّم لنا عصارةَ قراءاته وجولاته في أعماقِ التاريخ الأدبي الإسلامي، فلا يُسميها "قصائد رثاء"، ولكنَّه يسميها إمَّا بأسماء أبطالِها، أو بمآثرهم.

 

ففي قصيدة عنوانها "حمزة بن عبدالمطلب" من ديوان "وحشة الروح"، يتلمَّس باشراحيل مواطنَ الضَّعْفِ الذي أصاب الأمَّة الإسلاميَّة، ويستدعي تلك المعاني التي غابت بغياب أصحابها، وأسد الله "حمزة" كما يقول عنه:

هُوَ ذَلِكَ الشَّهْمُ الشُّجَا
عُ وَذَلِكَ الْقَلْبُ الْمُنَزَّهْ
كَمْ قَدْ سَقَى "أُحُدًا" دَمَ الْ
بَاغِي وَبَاتَ الْحَقُّ رَمْزَهْ

 

فهل استَشعَر باشراحيل بِحِسِّه الشاعري المُرهف غِيابَ الشهامة، والشجاعة، ونزاهة القلب، أو أنَّه لاحَظ استشراءَ الغدر والخيانة عند خصوم الإسلام، ولم يجد مَن يصدُّهم بما هم أهلٌ له، فتذكر استشهادَ حمزة بضربةٍ غادرة، وهذه بتلك؟

يَا رُمْحَ وَحْشِيِّ الَّذِي
غَرَزَ الضَّغِينَةَ شَرَّ غِرْزَةْ

 

وهذه الضغينة التي غُرِزَت في كَبِد الأُمَّة الإسلامية، تَوالَت أصداؤها عَبْرَ الزمان على مرِّ العصور، وفي أماكن مُتعدِّدة في بلاد الإسلام، فهذه "جنين" في فلسطين السليبة تعاني، والمسلمون في سُبات عميق، وفي قصيدة "جنين يا جنين" يقول باشراحيل:

سُحِقْتِ والرُّؤَى تَرَاك

لَكِنَّ لاَ يَدَ تُعِينْ

وَبَيْنَ غَمْضَةِ الرَّدَى

لاَ زِلْتِ تَبْسُمِينْ

إلى أن يقول:

الْفَقْدُ وَالْحَنِينْ

وَقِبْلَةٌ تُهَانُ دُونَ رَادِعٍ وَدِينْ

وَكُلُّنَا نَخَافُ، كُلُّنَا بِمَالِهِ وَعُمْرِهِ ضَنِينْ

 

فإذا وضعنا هذه الأبيات بجوار أبيات قصيدة "حمزة" التي يقول فيها:

تَاللَّهِ مَا خَشِيَ الْخُطُو
بَ إِذَا ادْلَهَمَّتْ لَمْ تَهُزَّهْ
قَلْبُ الْبَسَالَةِ وَالنَّدَى
بَطَلٌ يَخَافُ الْكُفْرُ لَمْزَهْ

 

وتداوُلنا مضمونَ القصيدتين معًا يُوضِّح لنا نظرةَ باشراحيل الفلسفية، عندما يتناول المحنَ التي تصيبُ المسلمين، ويُحاول أنْ يستفزَّ مشاعِرَهم بشتَّى الطرق، سواء كان ذلك بالترغيب أم بالترهيب.

 

وفي قصيدة (صوت الجزائر) من ديوان (وحشة الروح) يئنُّ باشراحيل من حال العرب والعروبة، ويقول عن هذه الأمة:

تَظَلُّ تَحْتَقِبُ الْآلاَمُ فِي وَهَنٍ
وَالْخَوْفَ وَالذُّلَّ وَالْأَوْهَامَ تَجْنِيهَا
هَذِي الْعُرُوبَةُ وَالْأَدْوَاءُ تَصْرَعُهَا
عَزَّ الشِّفَاءُ فَقُلْ لِي مَنْ يُدَاوِيهَا؟
يَا أَلْفَ مِلْيُونِ عَقْلٍ، كَمْ يُؤَرِّقُنَا
أَنَّ الْعُرُوبَةَ نَامَتْ عَنْ دَوَاهِيهَا

 

وهو بذلك يَرْثِي حالَ الأُمَّة العربية في أسلوبٍ غير مُباشر، ويُغلِّف الرِّثاءَ في أشكال متعدِّدة، كما فعل الشيء نفسه في قصيدة (مصر مبارك)، التي يقول فيها:

أَيْنَ السَّلاَمُ، تَبَدَّدَتْ أَحْلاَمُهُ؟
وَالْوَقْتُ أَظْلَمَ فِي عُيُونِ كَسِيحِ
وَشُعُوبُنَا تَقْتَاتُ مِنْ هَوْلِ الرَّدَى
وَغِلاَلُهَا نَهْبٌ لِظُلْمِ كَشِيحِ

 

وفي قصيدة (النخلة والوطن) يقول عن الوطن:

يُعْطِي الْعَطَايَا وَلَيْلُ الْغَدْوِ مُحْتَشِدٌ
بِخُبْثِ مُرْتَزِقٍ أَوْ حِقْدِ مَنْكُودِ
يَا مَوْطِني نَامَتِ الْأَيَّامُ مِنْ زَمَنٍ
وَقَدْ صَحَوْنَا عَلَى غَدْرٍ وَتَبْدِيدِ

 

وكل هذه الرثائيَّات في قصائده المتعددة الأغراض، ما هي إلا شحذ للهِمَم، وكلُّ هذه القصائد تنتهي ببثِّ الأمل في النفوس، وتذكير الناس بأنَّ الله هو الملجأ الذي نستلهم منه أسلوبَ الخروج مما نعاني.

 

والكلام نفسه ينطبق على قصائد باشراحيل عن جغرافيا المسلمين والعرب، فالقدس، والبوسنة، والعراق، واليمن، ولبنان، وصبرا وشاتيلا - كلها أماكن لها وقْع وصَدًى في نفس الشاعر... مثال ذلك قصيدة (رصاصة من فلسطين) من ديوان "النبع الظامي"، التي يقول فيها:

فِلَسْطِينِي وَنَارُ الثَّأْ
رِ تَصْرُخُ فِي شَرَايِينِي
أَنَامُ عَلَى لَظَى النِّيرَا
نِ أَسْقِيهَا وَتَسْقِينِي
لَقَدْ فَجَّرْتُ قُنْبُلَتِي
وَقَدْ جَرَّدْتُ سِكِّينِي
لأَنَّ قَضِيَّتِي جُرْحٌ
بِأَعْمَاقِي يُنَادِينِي

وهذه الصورة القاتمة للواقع العربي تُقلق باشراحيل، فيسافرُ بخياله إلى أغوارِ الماضي، ويستدعي من الذكريات ما يُهوِّن عليه من الأمر.

 

ومن قصيدة (صور قديمة للعالم العربي) من ديوان الخوف:

أَرِينِي لَوْحَةً أُخْرَى
تُصَوِّرُ دَوْلَتِي الْكُبْرَى
مِنَ الْمُدُنِ الَّتِي أَوْدَتْ
وَأَضْحَى فَجْرُهَا ذِكْرَى

 

أمَّا ما دفع "باشراحيل" إلى الاستنجاد بالماضي بتاريخه وجغرافِيَّته - أنَّ الأمور صارت فوق طاقة النفس البشرية، وهو يطالب "منازل الوحي" أنْ تُشاركه في رثاء جزء عزيز من الوطن... فيقول في قصيدة (لبنان) ديوان (النبع الظامئ):

مَنَازِلَ الْوَحْيِ إِرْثِي الْيَوْمَ لُبْنَانَا
وَاسْتَمْطِري الصَّبْرَ مِنْ عَيْنَيْكِ رَيَّانَا
مَالَتْ عَلَيْهِ الْأَعَادِي فِي شَرَاسَتِهَا
وَقَدْ أَحَالَتْ عَرُوسَ الشَّرْقِ بُرْكَانَا

 

وهذا المآل لَم يكن الوصولُ إليه (بيده)، ولكن (بيد عمرو) عكس ما يقول المثل العربي، وتتوالى أبياتُ القصيدة على المنوال نفسِه:

مَاذَا عَلَى الشَّرْقِ؟ نِيرَانٌ مُكَثَّفَةٌ
قَدِ اسْتَبَاحَ بِهَا الْأَعْدَاءُ دُنْيَانَا
يَسْتَنْجِدُ الْعَدْلَ قَلْبٌ بَاتَ مُنْفَطِرًا
مِمَّا اعْتَرَاهُ فَمَنْ يُصْغِي لَهُ الْآنَا
وَالْغَرْبُ غَافٍ وَأَمْرِيكَا مُؤَيِّدَةٌ
وَالرُّوسُ يُحْصُونَ إِنْ أَحْصَوْا ضَحَايَانَا

 

أمَّا هذه الصورة القاتمة للواقع، فلن تبعث في نفوسنا اليأسَ الذي يرفضُه دينُنا الحنيف، ولكنَّ النهايةَ كما في آخر القصيدة:

فَلاَ تَهُونُ وَلاَ تَخْبُو عَزَائِمُنَا
وَلاَ يَكُونُ لِغَيْرِ الْحَقِّ نَجْوَانَا

 

فالحقُّ - سبحانه وتعالى - هو الملاذُ، وإذا لم نرع الحق بجلاله وصفاته، فإن العاقبة سيئة، وهذا ما ينفيه باشراحيل.

 

وإذا كانت قصيدة (صبرا وشاتيلا) في ديوان "النبع الظامئ" نهايتها:

رُبَّمَا عَادَتْ لَنَا أَمْجَادُنَا
ذَاتَ يَوْمٍ نَتَسَامَى رُبَّمَا

 

ومن المعروف أنَّ كلمةَ (رُبَّما) تُفيد الاحتمالَ الضَّعيف، أو تقليل احتمالاتِ الحدوث، على العكس من كلمتي "لعلَّ وعسى"، فإنَّ قصيدةَ (نكبة اليمن) في الديوان نفسه تجبر تلك الآلامَ التي خلفتها أحداثُ "صبرا وشاتيلا"، وألقت بظلالِها في نهاية القصيدة، وتَحكمت في الأسلوبِ الشِّعْري عند تناوُل الحدث، فنهايتها تنسجمُ مع التبعات التي استجدَّت مع الأحداث، وهو يقول فيها:

فَالْمُؤْمِنُونَ رِدَاءُ الْحَقِّ يَجْمَعُهُمْ
وَاللَّهُ مَوْلَى مَنِ اخْتَارَ الْهُدَى سَنَدَا
سُبْحَانَهُ اللَّهُ فَوْقَ الْعَرْشِ عِزَّتُهُ
وَهْوَ الَّذِي خَلَقَ الْأَكْوَانَ مُنْفَرِدَا

 

وباشراحيل يؤرقه حال التفرق والتشرذم، الذي تهيم فيه الأمة العربية، فيتصور أنَّ الزمانَ عاد القهقرى، فيستل قلمه ليقاومَ ذلك الاعوجاج بأسلوبِه الخاص، ويكتب قصيدة (ظلال الأمس) من "ديوان الخوف"، ويصب فيها كلمات قاسية جدًّا، منها (الزيف - وهج الغبار - الظلام - القهر - اللظى - الكي - الوهن - الريب - الإزهاق - الأعاصير - الأسى - الخيانة - التعاسة - الموت...) وهكذا فإنَّ القاموس اللُّغوي لهذه القصيدة يُوحي بمدى معاناة الشاعر وهو ينسج مشاعرَه ويَخطُّها بين القوافي والأوزان، وعلى غير عادته، يختتم باشراحيل هذه القصيدة بقوله:

مَرْحَى زَمَانَ الْخَالِدِينَ بِزَيْفِهِمْ
مَرْحَى زَمَانَ الْكِبْرِ عَادَ أَبُو لَهَبْ

 

وقد وصل إلى هذه النِّهاية بعد أنْ تراءى له أنَّ "الصدقَ مات مُجندلاً بين النصب"، كما يقول هو في شطر البيت قبل الأخير.

 

وأنا أرى أنَّ عودةَ أبي لهب معناها إعادة الأمور إلى المداولة مرة أخرى بين الحق والباطل، وكما انهزم أبو لهب، فإن عودته أيضًا مصيرها الاندحار، وإن لم يقل باشراحيل ذلك صراحةً، فإن البناء الشعري للقصيدة يوحي بذلك، فبداية القصيدة:

زَيْفٌ أَطَلَّ مِنَ الزَّوَابِعِ وَاقْتَرَبْ
مُتَسَرْبِلاً بِالْحِلْمِ فِي أَوْجِ النُّوَبْ

 

فالأمر كله زيفٌ في زيف، والزوابع مرحلة عابرة، وفي موضع آخر من القصيدة يقول:

هَذِي بَقَايَا الصَّيْفِ جَاثِمَةُ اللَّظَى
تَكْوِي، وَهَذَا الْوَهْنُ فِي غُصْنِ التَّعَبْ

 

فالمفاجأة عِبارة عن "بَقايا صيف" على وشْك التلاشي، أمَّا باشراحيل بشخصه، فإنه في وسط هذه الدَّوامة كما يصف نفسه:

أَمْسَكْتُ فِي يُمْنَايَ نَاقُوسَ الرِّضَا
وَغَرَسْتُ فِي صَدْرِي الْجَوَاهِرَ وَالذَّهَبْ

 

ولا أدري لماذا غرس الجواهر والذهب في صدره، ولَم يتقلَّدها؟ وهو القائل في قصيدة (البحث الأخير) من ديوان قناديل الريح:

نَسْتَعْلِي بِالدِّينِ الْأَسْمَى
وَنَكُونُ عَلَى الْبَاغِي أُمَّةْ

 

وربما هي إشارةٌ إلى أنَّ (أبا لهب) الذي عاد، كانت نهايته استعلاء الدين الأسمى، ولذلك فإنَّه يُخاطب أمته بنفسٍ أبيَّة وهِمَّة عالية، ويقول لها في قصيدة (أمتي معي):

قُومِي اشْعِلِي اللَّيْلَ بِالْأَضْوَاءِ وَانْتَقِدِي
يَا أُمَّتِي وَاسْحَقِي ظُلْمَ الطُّغَاةِ مَعِي

 

وأيًّا كانت الأمور أو النتائج في الحياة، فإنَّها سجال؛ يقول في قصيدة (حمى جازان) من ديوان قناديل الريح:

هِيَ النَّوَائِبُ أَقْدَارٌ مُقَدَّرَةٌ
يَوْمٌ يَسُرُّ وَيَوْمٌ بَيْنَ أَحْزَانِ
يَا رَحْمَةً مِنْ لَدَى الْبَارِي نُؤَمِّلُهَا
وَفَضْلُهُ ذَائِعٌ فِي الْإِنْسِ وَالْجَانِ
يَا رَبِّ رُحْمَاكَ مِنْ خَطْبٍ يُدَاهِمُنَا
وَاسْبَغْ عَلَيْنَا بِإِكْرَامٍ وَغُفْرَانِ.


[1] معجم البابطين للشعراء العرب المعاصرين - المجلد الخامس.





 حفظ بصيغة PDFنسخة ملائمة للطباعة أرسل إلى صديق تعليقات الزوارأضف تعليقكمتابعة التعليقات
شارك وانشر

مقالات ذات صلة

  • الرثاء في شعر باشراحيل (1)
  • الرثاء في شعر باشراحيل (2)
  • الرثاء في شعر باشراحيل (4)
  • الرثاء في شعر باشراحيل (5)

مختارات من الشبكة

  • الرثاء تخليدا رمزيا للمرثي في شعر الخنساء(مقالة - حضارة الكلمة)
  • غرض الرثاء في شعرنا العربي القديم(مقالة - حضارة الكلمة)
  • الرثاء في الشعر العربي(مقالة - حضارة الكلمة)
  • الرثاء في الشعر العربي(مقالة - حضارة الكلمة)
  • منتدى الدكتور عبد الله محمد باشراحيل الثقافي(مقالة - موقع د. أحمد الخاني)
  • الرثاء ما بين أندلس الأمس واليوم!(مقالة - المسلمون في العالم)
  • أعاصير تستحق الرثاء(مقالة - مجتمع وإصلاح)
  • الشعر في ديوان جولة في عربات الحزن(مقالة - حضارة الكلمة)
  • في رثاء الشيخ إحسان إلهي ظهير (شعر)(مقالة - حضارة الكلمة)
  • من رثاء الأبناء في الشعر العربي(مقالة - حضارة الكلمة)

 



أضف تعليقك:
الاسم  
البريد الإلكتروني (لن يتم عرضه للزوار)
الدولة
عنوان التعليق
نص التعليق

رجاء، اكتب كلمة : تعليق في المربع التالي

مرحباً بالضيف
الألوكة تقترب منك أكثر!
سجل الآن في شبكة الألوكة للتمتع بخدمات مميزة.
*

*

نسيت كلمة المرور؟
 
تعرّف أكثر على مزايا العضوية وتذكر أن جميع خدماتنا المميزة مجانية! سجل الآن.
شارك معنا
في نشر مشاركتك
في نشر الألوكة
سجل بريدك
  • بنر
  • بنر
كُتَّاب الألوكة
  • الدورة الخامسة من برنامج "القيادة الشبابية" لتأهيل مستقبل الغد في البوسنة
  • "نور العلم" تجمع شباب تتارستان في مسابقة للمعرفة الإسلامية
  • أكثر من 60 مسجدا يشاركون في حملة خيرية وإنسانية في مقاطعة يوركشاير
  • مؤتمرا طبيا إسلاميا بارزا يرسخ رسالة الإيمان والعطاء في أستراليا
  • تكريم أوائل المسابقة الثانية عشرة للتربية الإسلامية في البوسنة والهرسك
  • ماليزيا تطلق المسابقة الوطنية للقرآن بمشاركة 109 متسابقين في كانجار
  • تكريم 500 مسلم أكملوا دراسة علوم القرآن عن بعد في قازان
  • مدينة موستار تحتفي بإعادة افتتاح رمز إسلامي عريق بمنطقة برانكوفاتش

  • بنر
  • بنر

تابعونا على
 
حقوق النشر محفوظة © 1446هـ / 2025م لموقع الألوكة
آخر تحديث للشبكة بتاريخ : 9/11/1446هـ - الساعة: 17:29
أضف محرك بحث الألوكة إلى متصفح الويب