• الصفحة الرئيسيةخريطة الموقعRSS
  • الصفحة الرئيسية
  • سجل الزوار
  • وثيقة الموقع
  • اتصل بنا
English Alukah شبكة الألوكة شبكة إسلامية وفكرية وثقافية شاملة تحت إشراف الدكتور سعد بن عبد الله الحميد
 
الدكتور سعد بن عبد الله الحميد  إشراف  الدكتور خالد بن عبد الرحمن الجريسي
  • الصفحة الرئيسية
  • موقع آفاق الشريعة
  • موقع ثقافة ومعرفة
  • موقع مجتمع وإصلاح
  • موقع حضارة الكلمة
  • موقع الاستشارات
  • موقع المسلمون في العالم
  • موقع المواقع الشخصية
  • موقع مكتبة الألوكة
  • موقع المكتبة الناطقة
  • موقع الإصدارات والمسابقات
  • موقع المترجمات
 كل الأقسام | أسرة   تربية   روافد   من ثمرات المواقع  
اضغط على زر آخر الإضافات لغلق أو فتح النافذة اضغط على زر آخر الإضافات لغلق أو فتح النافذة
  •  
    المحطة العاشرة: مقومات الإيجابية
    أسامة سيد محمد زكي
  •  
    أنماط التعليم الإلكتروني من حيث التدرج في ...
    أبو مالك هيثم بن عبدالمنعم الغريب
  •  
    وصية امرأة لابنتها في زفافها
    الشيخ محمد جميل زينو
  •  
    المحطة التاسعة: العادات
    أسامة سيد محمد زكي
  •  
    الشباب بين الطموح والواقع: كيف يواجه الجيل الجديد ...
    محمود مصطفى الحاج
  •  
    هبة فيها النجاة!
    أ. رضا الجنيدي
  •  
    بركة الزوج الصالح على الزوجة في رفع درجتها في ...
    فهد عبدالله محمد السعيدي
  •  
    تربية الأطفال في ضوء توجيهات سورة الحجرات
    محمد عباس محمد عرابي
  •  
    السلاسل الحقيقية لا ترى!
    أمين محمد عبدالرحمن
  •  
    تطوير العلاقات الإنسانية في الإسلام
    يوسف بن طه السعيد
  •  
    المحطة الثامنة: القرارات
    أسامة سيد محمد زكي
  •  
    التربية بالقدوة: النبي صلى الله عليه السلام
    محمد أبو عطية
  •  
    مهن في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم
    نجاح عبدالقادر سرور
  •  
    تزكية النفس: مفهومها ووسائلها في ضوء الكتاب ...
    عاقب أمين آهنغر (أبو يحيى)
  •  
    الإنذار المبكر من التقاعد المبكر
    هشام محمد سعيد قربان
  •  
    دور الذكاء الاصطناعي في تعزيز كفاءة العملية ...
    أبو مالك هيثم بن عبدالمنعم الغريب
شبكة الألوكة / حضارة الكلمة / أدبنا / دراسات ومقالات نقدية وحوارات أدبية
علامة باركود

أبو تمام في فتح عمورية

أبو تمام في فتح عمورية
د. إبراهيم عوض

مقالات متعلقة

تاريخ الإضافة: 1/9/2020 ميلادي - 13/1/1442 هجري

الزيارات: 111334

 حفظ بصيغة PDFنسخة ملائمة للطباعة أرسل إلى صديق تعليقات الزوارأضف تعليقكمتابعة التعليقات
النص الكامل  تكبير الخط الحجم الأصلي تصغير الخط
شارك وانشر

أبو تمام في فتح عمورية


السَّيفُ أصدقُ أنباءً من الكُتبِ
في حَدِّه الحدُّ بين الجِدِّ واللَّعِبِ
بِيضُ الصفائحِ لا سُودُ الصحائفِ في
مُتونِهنَّ جِلاءُ الشكِّ والرِّيَبِ
والعِلمُ في شُهُبِ الأَرباح لامعةً
بين الخَميسينِ لا في السَّبعةِ الشُّهُبِ
أين الروايةُ بل أين النجومُ وما
صاغُوه مِن زُخرفٍ فيها ومِن كَذِبِ؟!
تَخرُّصًا وأحاديثًا مُلفَّقةً
ليستْ بنَبعٍ إذا عُدَّتْ ولا غَرَبِ
عجائبًا زعَموا الأيامَ مُجْفِلةً
عنهنَّ في صَفَرِ الأصفارِ أوْ رَجَبِ
وخوَّفوا الناسَ مِن دَهياءَ مُظلِمةٍ
إذا بدا الكوكبُ الغربيُّ ذو الذَّنَبِ
وصيَّروا الأَبْرُجَ العُليا مُرتَّبةً
ما كان مُنقلبًا أو غيرَ مُنقلبِ
يَقضون بالأمرِ عنها وهي غافلةٌ
ما دارَ في فَلَكٍ منها وفي قُطُبِ
لو بَيَّنَتْ قطُّ أمرًا قبلَ مَوقعِه
لم تُخْفِ ما حلَّ بالأوثانِ والصُّلُبِ
فتحُ الفُتوحِ تَعالَى أن يُحيطَ بِه
نَظمٌ مِن الشعرِ أو نثرٌ مِن الخُطَبِ
فَتحٌ تَفتَّحُ أبوابُ السماءِ لَه
وتَبْرُزُ الأرضُ في أثوابِها القُشُبِ
يا يومَ وقْعَةِ عَمُّوريَّةَ انْصَرَفتْ
عنْك المُنى حُفَّلًا مَعسولةَ الحَلَبِ
أَبْقَيتَ جَدَّ بني الإسلام في صُعُدٍ
والمشركين ودارَ الشِّركِ في صَبَبِ
أُمٌّ لهم لَو رَجَوْا أن تُفْتَدى جعَلوا
فِداءَها كلَّ أُمٍّ بَرَّةٍ وأَبِ
وبَرْزَةُ الوجهِ قد أَعيتْ رياضتُها
كِسرى وصدَّت صدودًا عن أَبي كَرَبِ
مِن عهدِ إسكندرٍ أو قبلَ ذلك قدْ
شابتْ نواصي الليالي وَهْيَ لَمْ تَشِبِ
بِكْرٌ فما افْتَرَعَتْها كَفُّ حادِثةٍ
ولا تَرقَّتْ إليها هِمَّةُ النُّوَبِ
حتى إذا مَخَّضَ الله السنينَ لَها
مَخْضَ البخيلةِ كانتْ زُبْدَةَ الحِقَبِ
أتَتْهم الكُرْبَةُ السَّوداءُ سادِرةً
منها وكان اسمُها فرَّاجَةَ الكُرَبِ
جرى لها الفألُ نَحْسًا يومَ أَنْقَرَةٍ
إذ غُودِرتْ وَحشة الساحاتِ والرَّحَبِ
لَمَّا رَأَتْ أُختَها بالأمسِ قد خَرِبَتْ
كان الخرابُ لها أَعْدى مِن الجَرَبِ
كم بينَ حِيطانها مِن فارسٍ بَطَلٍ
قاني الذوائبِ مِن آني دمٍ سَرِبِ
بسُنَّةِ السيفِ والخطِّيِّ مِن دَمَهِ
لا سُنةِ الدين والإسلام مُختَضَبِ
لقد تركتَ أميرَ المؤمنين بها
للنار يومًا ذليلَ الصَّخْرِ والخَشَبِ
غادَرْتَ فيها بهيمَ الليل وهْو ضُحًا
يَشُلُّه وسطَها صبحٌ مِن اللَّهَبِ
حتى كأنَّ جَلابيبَ الدُّجى رغِبتْ
عن لونِها أو كأنَّ الشمسَ لَم تَغِبِ
ضوءٌ مِن النارِ والظَّلْماءُ عاكفةٌ
وظُلمةٌ مِن دُخانٍ في ضُحًا شَحِبِ
فالشمسُ طالعةٌ مِن ذا وقد أَفَلَتْ
والشمسُ واجبةٌ مِن ذا ولَم تَجِبِ
تَصرَّحَ الدَّهْرُ تَصْريحَ الغَمامِ لِها
عن يومِ هيْجاءَ مِنها طاهِرٍ جُنُبِ
لم تَطلُعِ الشمسُ منهم يومَ ذاك على
بانٍ بأهلٍ ولم تَغْرُبْ على عَزَبِ
ما رَبْعُ ميَّةَ مَعمورًا يُطيفُ بِه
غيلانُ أَبْهى رُبًا مِن رَبْعِها الخَرِبِ
ولا الخُدودُ وقد أُدْمِينَ مِن خَجلٍ
أَشهَى إلى ناظِري مِن خَدِّها التَّرِبِ
سَماجةً غَنِيتْ منا العيونُ بِها
عن كلِّ حُسنٍ بدا أو منظرٍ عَجَبِ
وحُسنُ مُنقلبٍ تَبدو عواقبُه
جاءتْ بَشاشته عن سُوءِ مُنقلبِ
لَم يَعلمِ الكُفرُ كَمْ مِن أَعْصُرٍ كمَنتْ
له المنيةُ بين السَّمْرِ والقُضُبِ
تَدبيرُ مُعتصمٍ بالله مُنتقمٍ
لله مُرتَغبٍ في الله مُرتقِبِ
ومَطْعَمُ النصرِ لم تَكْهُمْ أَسِنَّتُه
يومًا ولا حُجِبَتْ عن رُوح مُحتجِبِ
لم يَغْزُ قومًا ولم يَنْهَدْ إلى بلدٍ
إلا تَقدَّمَه جيشٌ مِن الرُّعُبِ
لو لَم يَقُدْ جَحْفلًا يومَ الوَغَى لَغَدَا
مِن نفسِه وحدَها في جَحْفلٍ لَجِبِ
رَمى بكَ الله بُرْجَيها فَهَدَّمها
ولو رمَى بكَ غيرُ اللهِ لم تُصِبِ
مِن بعدما أشَّبُوها واثقينَ بها
والله مِفتاحُ بابِ المَعْقِلِ الأَشِبِ
وقال ذُو أَمرِهم لا مَرْتَعٌ صَدَدٌ
للسارحين وليس الوِرْدُ مِن كَثَبِ
أَمانِيا سَلَبَتْهُمْ نُجْحَ هاجِسها
ظُبَى السيوفِ وأطرافُ القَنا السُّلُبِ
إنَّ الحِمامين مِن بِيضٍ ومِن سُمُرٍ
دَلْوَا الحياتين مِن ماءٍ ومِن عُشُبِ
لبَّيْتَ صوتًا زِبَطْريًّا هَرَقْتَ لَهُ
كأسَ الكَرَى ورُضابَ الخُرَّدِ العُرُبِ
عداك حرُّ الثُّغور المستضامةِ عن
بَردِ الثُّغور وعن سَلْسالِها الحَصِبِ
أَجَبْتَه مُعلنًا بالسيفِ مُنصَلِتًا
ولو أَجبتَ بغير السيف لم تُجِبِ
حتى ترَكتَ سوادَ الشِّرك مُنقَعِرًا
ولم تُعرِّجْ على الأَوتادِ والطُّنُبِ
لَمَّا رأى الحربَ رأْيَ العينِ تُوفلِسٌ
والحربُ مُشتقَّةُ المعنى مِن الحَرَبِ
غدًا يُصرِّفُ بالأموالِ جِرْيَتَها
فعَزَّهُ البحرُ ذُو التَّيَّار والحَدَبِ
هَيْهَاتَ زُعْزِعَتِ الأرضُ الوقورُ بهِ
عنْ غَزْوِ مُحتسِبٍ لا غَزْوِ مُكتسِبِ
لم يُنْفقِ الذهبَ المُرْبِي لكَثرتِه
على الحَصَى وبَهِ فقْرٌ إلى الذَهَبِ
إن الأُسُودَ أسودَ الغابِ هِمَّتُها
يومَ الكريهةِ في المسلوبِ لا السَّلَبِ
وَلَّى وقد أَلْجَمَ الخطِّيُّ مَنطِقَه
بسَكتةٍ تحتَها الأحشاءُ في صَخَبِ
أَحْذَى قَرَابينه صَرْفَ الرَّدَى ومَضَى
يَحْتَثُّ أَنْجَى مَطاياهُ مِن الهَرَبِ
مُوكِّلًا بَيفاعِ الأرضِ يَشْرَفُهُ
مِن خِفَّةِ الخوفِ لا مِن خِفَّةِ الطَّرَبِ
إن يَعْدُ مِن حرِّها عَدْوَ الظليمِ فَقَدْ
أَوسعتَ جاحِمَها مِن كثرةِ الحَطَبِ
تِسعونَ ألفًا كآسَادِ الشَّرى نَضِجَتْ
جُلودُهم قبلَ نُضْجِ التِّينِ والعِنَبِ
يا رُبَّ حَوباءَ لَمَّا اجْتُثَّ دابِرُهمْ
طابَتْ ولو ضُمِّخَتْ بالمسْك لَم تَطِبِ
ومُغْضَبٍ رَجَعَتْ بِيضُ السيوفِ بِه
حيَّ الرِّضا مِن رَداهمْ مَيِّتَ الغَضَبِ
والحربُ قائمةٌ في مَأْزِقٍ لَجِجٍ
تَجثو الكُمَاةُ بِه صُغْرًا على الرُّكَبِ
كَمْ نِيلَ تحتَ سَناها مِن سَنا قَمَرٍ
وتحتَ عارِضِها مِنْ عَارِضٍ شَنِبِ
كم كانَ في قطعِ أسبابِ الرِّقابِ بِها
إلى المُخَدَّرةِ العَذْراءِ مِن سَبَبِ
كم أَحْرَزَتْ قُضُبُ الهنْدِيِّ مُصْلَتَةً
تَهتزُّ مِن قُضُبٍ تَهتزُّ في كُثُبِ
بِيضٌ إذا انْتُضِيَتْ مِن حُجْبِها رَجَعَتْ
أَحقَّ بالبِيض أَترابًا مِن الحُجُبِ
خليفَةَ الله جازَى اللهُ سعْيَكَ عنْ
جُرْثُومَةِ الدينِ والإِسلامِ والحَسَبِ
بَصُرْتَ بالرَّاحةِ الكُبْرى فلَمْ تَرَها
تُنَالُ إلَّا على جِسْرٍ مِنَ التَّعَبِ
إنْ كانَ بينَ صُروفِ الدَّهرِ مِن رَحِمٍ
مَوصولةٍ أو ذِمامٍ غيرِ مُنْقَضِبِ
فبَيْنَ أيَّامِك اللاتي نُصِرْتَ بِهَا
وبَيْنَ أيَّامِ بدرٍ أقرَبُ النَّسَبِ
أَبْقَتْ بَني الأصْفَر المِمْراضِ كاسْمِهمُ
صُفْرَ الوجُوهِ وجلَّتْ أَوْجُهُ العَرَبِ

 

هذه القصيدة واحدة من الغُرر اللامعة في جبين الشعر العربي قديمه وحديثه، وسوف تظَل تترنم بها أجيال العرب والمسلمين حتى في أحلكِ لحظات تاريخهم؛ لأنها تُذكرهم بالمجد القديم، وتَستحثهم أن ينهضوا ويَسموا إلى الأفق السامق الذي حلَّق فيه المسلمون بقيادة معتصمهم تحليق النسور، وانقضُّوا منه على أعدائهم، فافترسوهم وأبادوهم، ومزَّقوهم شرَّ مُمزَّقٍ، وجعلوهم عِبرة لمن تُسوِّل له نفسه الخبيثة العدوانَ على بلاد المسلمين، لكن رَوعة القصيدة الخالدة ليست ترجع فحسبُ إلى موضوعها، وما تُثيره في نفوس العرب والمسلمين جميعًا من معاني المجد ومشاعر العزة، وتَستحثهم إليه من منازل الكرامة - وإنما ترجع أيضًا إلى ما حَوَتْه من كنوز الفن الراقي، وإليك البيان:

أول ما يَلفت انتباهنا في هذه الرائعة الخالدة ما يُسَربِلُها من فخامة الوزن والقافية واللفظ والصورة ... إلخ، فخامة تناسب فخامةَ هذا الفتح المبين، الذي سحَق فيه المسلمون عُلوجَ الشِّرك - لعَنهم الله في كل زمان ومكان - فغادروا تسعين ألفًا من هؤلاء الكلاب مطروحةً جثثُهم في وسط النيران التي أكلت بيوتهم، بيوت الرِّجس والعدوان، لا تجد مَن يسأل عنها أو يُبالي بها، فالبحر الذي صُبَّتْ فيه القصيدة من الأبحر الطويلة التي تُهيئ للشاعر الفرصة لأن يهتف ويُجلجل صوته كما يَحلو له الجَلجلة والهُتاف، ثم تأتي القافية البائية التي لم يتكرَّر فيها لفظ واحد مرتين، لتَقرَعَ الآذان قرعًا، فتَغمُر الجسم والنفس فورةُ الحماسة، ويستيقظ أنبلُ وأكرم وأمجدُ ما في الإنسان، بل إني لأَتخيَّل الشاعر وهو يَنظُم رائعته هذه وقد سَخُنَتْ رأسُه، وأصبح لخياله ألفُ عينٍ وعين يُبصر بها، ويَقتنِص هذه الصور العجيبة التي تُخيِّل لك وأنت تقرأ القصيدة أنك في معرض للفن العظيم تَبْهُر عينَك اللوحاتُ الفاتنة الساحرة، فلا تستطيع - إلا بالمشقة - التركيز على إحداها؛ لأن كلًّا منها يَدعوك في ذات الوقت لتَتملَّاها وأنت متحير بين هذه وذي وتلك، ومَن ذا الذي يقرأ الأبيات الآتية وهو متمالكٌ مشاعرَه؟!

 

يا يومَ وقْعَةِ عَمُّوريَّةَ انْصَرَفتْ
عنْك المُنى حُفَّلًا مَعسولةَ الحَلَبِ
♦   ♦   ♦
وبَرْزَةُ الوجهِ قد أَعْيَتْ رياضتُها
كِسرى وصدَّت صدودًا عن أَبي كَرَبِ
مِن عهدِ إسكندرٍ أو قبلَ ذلك قدْ
شابتْ نواصي الليالي وَهْيَ لَمْ تَشِبِ
بِكْرٌ فما افْتَرَعَتْها كَفُّ حادِثةٍ
ولا تَرقَّتْ إليها هِمَّةُ النُّوَبِ
حتى إذا مَخَّضَ الله السنينَ لَها
مَخْضَ البخيلةِ كانتْ زُبْدَةَ الحِقَبِ
♦   ♦   ♦
لَمَّا رَأَتْ أُختَها بالأمسِ قد خَرِبَتْ
كان الخرابُ لها أَعْدى مِن الجَرَبِ
♦   ♦   ♦
ما رَبْعُ ميَّةَ مَعمورًا يُطيفُ بِه
غيلانُ أَبْهى رُبًا مِن رَبْعِها الخَرِبِ
ولا الخُدودُ وقدْ أُدْمِينَ مِن خَجلٍ
أَشهَى إلى ناظِري مِن خَدِّها التَّرِبِ
سَماجةً غَنِيتْ منا العيونُ بِها
عن كلِّ حُسنٍ بدَا أو منظرٍ عَجَبِ
♦   ♦   ♦
لَم يَعلَمِ الكُفرُ كَمْ مِن أَعْصُرٍ كمَنتْ
له المنيةُ بين السَّمْرِ والقُضُبِ
تَدبيرُ مُعتصمٍ بالله مُنتقمٍ
لله مُرتَغبٍ في الله مُرتقِبِ

 

وإني ما قرأتُ هذه البيت الأخير مرة، إلا وتخيَّلت أبا تمام يجأَر بأعلى صوته مِن فرط حماسته وإعجابه بهذا النصر العظيم، الذي وفَّق الله إليه أميرَ المؤمنين المعتصم بالله، وهو يَملأ فمه بهذه التقسيمات الموسيقية المدوية: "معتصم بالله، منتقم لله، مُرتغب في الله"، (وقد تكون هكذا: "بالله منتقم، لله مرتغب، في الله مرتقب"، وكلا التقسيمين أَحلى من الآخر، وقد أخذت الأرض والسماوات جلجلة اسم الذات الإلهية التي منها استمداد النصر وإليها الملاذ.

 

إن القصيدة كما يقال: هي في مدحِ المعتصم، ولكن انظر كيف يكون المديح، إنه ليس مديح النفاق والكذب، بل مديح يعرف حدوده، فنُعجَب نحن به مِن ثَمَّةَ إعجابًا لا يَعرِفُ الحدودَ، فهو يقول:

لم يَغْزُ قومًا ولم يَنْهَدْ إلى بلدٍ
إلا تَقدَّمَه جيشٌ مِن الرُّعُبِ
لو لَم يَقُدْ جَحفلًا يومَ الوَغَى لَغَدَا
مِن نفسِه وحدَها في جَحْفلٍ لَجِبِ

 

ولكنه عَقيب هذا يضيف:

رَمى بكَ الله بُرْجَيها فَهَدَّمها
ولو رمَى بكَ غيرُ اللهِ لم تُصِبِ
مِن بعدما أشَّبُوها واثقينَ بِها
والله مِفتاحُ بابِ المَعْقِلِ الأَشِبِ

 

ومِن هنا فعندما يقول:

إنْ كان بين صُروفِ الدَّهرِ مِن رَحِمٍ
مَوصولةٍ أو ذِمامٍ غيرِ مُنْقَضِبِ
فبَيْنَ أيَّامِك اللاتي نُصِرْتَ بِهَا
وبَيْنَ أيَّامِ بدرٍ أقرَبُ النَّسَبِ

 

فإننا لا نَملِك إلا الإعجاب بهذه البصيرة التمَّاميَّة التي التَقَطتْ خيط هذا النَّسَب الكريم العظيم، أتدري ماذا يقول الله في قرآنه المجيد عن الانتصار الساحق الذي أحرزه الرسول والمسلمون في بدر الكبرى؟ إنه سبحانه يقول: ﴿ فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى ﴾ [الأنفال: 17]، فقارِن بين قول الحق هنا سبحانه وبين بيتي أبي تمام السابقين على آخر بيتين استشهدنا بهما، تجد المعنى واحدًا؛ لأن أبا تمام قد استلَهم الآية الكريمة، ويزيد هذا المديح علوًّا في نظرنا أن أبا تمام إنما يَمدَح المعتصم لِما أنجَزه هذا البطل العظيم مِن نصرٍ مبين في موقعة عمَّورية التي:

أَبْقَتْ بَني الأصْفَر المِمْراضِ كاسْمِهمُ *** صُفْرَ الوجُوهِ وجلَّتْ أَوْجُهُ العَرَبِ

 

وفضلًا عن هذه الفخامة التي تُسربل القصيدة، ثَمَّةَ الوحدة الفكرية والنفسية التي تشد أبياتها كلها بآصرةٍ وثيقة، فتبدو للعين بناءً متينًا صُلبًا راسخًا، فالأبيات لا تعالج موضوعًا آخر غير هذا الفتح المجيد الذي تَمَّ على يد البطل الصِّنديد الخليفة المعتصم بالله الذي استحقَّ بحقٍّ أن يدعوَ له شاعرنا المُفلق ضارعًا بقوله:

خليفَةَ الله جازَى اللهُ سعْيَكَ عنْ  *** جُرْثُومَةِ الدينِ والإِسلامِ والحَسَبِ

 

وهذه الأبيات تبدأ بالتهكُّم الصاعق على المنجِّمين وتَخرُّصاتهم؛ إذ حاولوا أن يَثنوا المعتصم بالله عن إنفاذ الجيش للانتقام من عدوان الروم على أطراف الدولة، تحت شُبهة أن النجوم تخبرهم بأن الحملة ستفشل إن خرَجت في ذلك الوقت، والشاعر في أثناء ذلك يَسخَر من النجوم والأبراج وتقسيمات المنجمين لها إلى أَبْرُاج عُليا وغير عليا، وأبراج مُنقلبة وغير منقلبة، حتى إذا ما بلَغ النغمة الأخيرة في تهكُّمه في البيت التالي:

لو بَيَّنَتْ قطُّ أمرًا قبلَ مَوقعِه *** لم تُخْفِ ما حلَّ بالأوثانِ والصُّلُبِ

 

اندفع يَهتِف ممجدًا هذا الفتحَ المبين الذي يُسميه عن جدارة "فتح الفتوح"، الذي اهتزَّ له الكون كله طربًا، فكأنه في يوم عيد، وكيف لا وقد عزَّ به الإسلامُ والمسلمون، وذلَّ به الشركُ والمشركون، وذلك حين سقَطت عمورية التي يصفها الشاعر قائلًا: إنها "شابتْ نواصي الليالي وَهْيَ لَمْ تَشِب"، عمورية التي تأبَّت على مَن حاوَلَ قَبلَ المعتصمِ فَتْحَها من الفاتحين، كما تتأبَّى الحسناء المدلة بجمالها وفِتنتها على الخُطَّاب والعاشقين، احتقارًا لهم وغرورًا بتلك الفتنة الخالدة، عمورية الغادة البكر التي اعتَلَتْ على كرِّ الأزمان عرشَ المجد، فلم تستطع هِمَّةُ النوائب أن ترتقي إليها في عليائها وبهائها، فجاء المعتصم ففعَل ما لم يَفعَله الأولون؛ إذ أذل كبرياءَها، وأَسْلَسَ عِصيانَها!

 

وهنا ينطلق الشاعر، فيَرسُم في لوحات أخَّاذةً نابضةَ الألوان والخطوط - ألسنةَ اللهب، وقد أحالتْ ليلها ضياءً، فيَخال الرائي أن الشمس لا تزال بازغةً في الأُفق، ويشاهد على ضوئها جثثَ تسعين ألفًا من جنود الأعداء وقادتهم، وقد تحوَّلت المدينة من حولهم إلى جدران وأنقاض.

 

ويعرِّج أبو تمام على اغترار رؤسائهم بحصانة مدينتهم، وظنِّهم أنهم لن يُغلَبوا مِن ضَعفٍ، فلم ينفعهم ما أَشَّبُوا من حصون، وكيف تَنفعهم وقد كانوا يحاربون الله؟! "والله مِفتاحُ بابِ المَعْقِلِ الأَشِبِ"، كما يَسخر أبو تمام هنا من إنفاق إمبراطور الروم الأموال الطائلة، ظنًّا منه أنه مستطيع أن يدفع هذه السيول العارمة بأمواله، ويُصوِّره وقد فرَّ يلوذ بالمرتفعات منخوبَ القلب، مُخلفًا وراءَه جنودَه بعدما قدَّمهم طعامًا للنيران والسيوف، تلك السيوف التي أحرزت للمنتصرين حِسانَ الروم.

 

ويَختم الشاعر هذه البائية الخالدة بهذه الأبيات التي لا نجد أحسنَ منها حُسنَ ختامٍ لمثل هذه الملحمة التي يَعِزُّ لها في الشعر نظيرٌ:

خليفَةَ الله جازَى اللهُ سعْيَكَ عنْ
جُرْثُومَةِ الدينِ والإسلامِ والحَسَبِ
بَصُرْتَ بالرَّاحةِ الكُبْرى فلَمْ تَرَها
تُنَالُ إلَّا على جِسْرٍ مِنَ التَّعَبِ
إنْ كان بين صُروفِ الدَّهرِ مِن رَحِمٍ
مَوصولةٍ أو ذِمامٍ غيرِ مُنْقَضِبِ
فبَيْنَ أيامِك اللاتي نُصِرْتَ بِها
وبينَ أيامِ بدرٍ أقربُ النَّسَبِ
أَبْقَتْ بَني الأصْفَر المِمْراضِ كاسْمِهمُ
صُفْرَ الوجُوهِ وجلَّتْ أَوْجُهُ العَرَبِ

 

وتُحِس الأذن والعين والنفسُ عند الفراغ من البيت الأخير - أنها وصلت إلى آخر نغمة في هذا اللحن الشامخ، ففيه تلخيصُ الموقف كله في هذه الصورة الأخَّاذةِ الحيَّة.

 

فالقصيدة كما ترى وَحدةٌ واحدة في موضوعها وجوِّها النفسي، بما فيها مِن تهكُّمٍ واخزٍ وشماتة مُحرقة وفرحة طاغية، حتى إن الشاعر ليتلاعب في وسط هذه البهجة الغامرة باللغة تلاعبًا، وهو تلاعُبٌ يَعكِس ما كان يُحِسُّه الشاعر والأمة الإسلامية آنئذٍ من مشاعر الابتهاج والعزة والفخار، وحتى إن خياله ليَسُحُّ عليه بالصور المدهشة التي تدل على فحولة وأصالة واقتدار، فإذا كان التلاعب بالمحسنات البديعية مذمومًا في بعض المواقف لما فيه من تكلُّفٍ، فإن بديع أبي تمام هنا هو البديع بعينه، اقرأ إن شئتَ:

السَّيفُ أصدقُ أنباءً من الكُتبِ
في حَدِّه الحدُّ بين الجِدِّ واللَّعِبِ
بِيضُ الصفائحِ لا سُودُ الصحائفِ في
مُتونِهنَّ جِلاءُ الشكِّ والرِّيَبِ
والعِلمُ في شُهُبِ الأَرباح لامعةً
بين الخَميسينِ لا في السَّبعةِ الشُّهُبِ

 

إن الطِّباقات والتوريات والجناسات هنا، ليست حِيَلًا بهلوانية، بل زخارف مُوفقة في هذا العيد السعيد، وهي زخارف أتى بها الشاعر للزينة ولمعنى آخر غير الزينة، هو التهكُّم على جهل هؤلاء المنجِّمين وادعائهم وكذبهم، فكأنه يقول لهم:

أتزعمون أن في تنجيمكم الحدَّ بين الجِد واللعب؟ كلَّا ثم كلَّا، بل الحد بين الجد واللعب هو في حد سيوف الإيمان!

 

أتَزعُمون أن في سواد كتابات صُحفكم جِلاءَ الشك والريب؟ كلَّا ثم كلَّا؛ إذ كيف يكون في ظلمة السواد جلاءٌ من الشك والريبة؟ إنما جلاء الشك والريبة في نور بياض السيوف حين تُنْتَضَى ويُهْوَى بها على رؤوس الكفر والضلال!

 

أتزعمون أن عند شُهبكم العلمَ بما يُخبئه المستقبل؟ كلَّا ثم كلَّا، إنما علمُ ذلك يتجلَّى للعين على لمعِ الحسام إذا حمِي وطيسُ القتال، فهو الذي يقرِّر النصر والهزيمة؛ إذ لا نصرَ لعاجزٍ متخاذل يُنصت إلى أكاذيب الدجَّالين، وإنما النصر من عند الله يَهبه لكلِّ مؤمنٍ شجاع يأخذ عُدته وينطلق في سبيل الله، مقتحمًا الأخطار عاقدًا العزم على النصر أو الاستشهاد ... وهكذا، وهكذا.

 

وانظر أيضًا كيف يتلاعب الشاعر بالصور تلاعبًا يدل على ثرائه المدهش منها ومقدرته على التفنُّن فيها كيف يشاء! فهو مثلًا يجعل عمورية مرة أمًّا للروم، إشارة إلى أنها عنوان مجدهم من قديم الزمان، وأنهم كانوا على استعداد لفدائها بالآباء والأمهات:

أُمٌّ لهم لَو رَجَوْا أن تُفْتَدى جعَلوا *** فِداءَها كلَّ أُمٍّ بَرَّةٍ وأَبِ

 

ولكنهم فقَدوا الرجاء فلم يفعلوا؛ إذ كانت سيول المسلمين أطغى من أن تُصَدَّ.

 

ومرة يجعلها امرأةً برزةً تَدِلُّ بجمالها الفتَّان، وتَشمَخ بأنفها على مَن تُسول له الأمانيُّ أن يتقدَّم إليها يَعرِض عليها قلبَه وحبَّه، لم تَعفُ من ذلك كسرى ولا أبا كربٍ، وكيف لا تفعل وهي المرأة الخالدة التي شاب الزمن وشبابُها باقٍ على نَضارته وغَضارته وفِتنته؟!

 

ومرة يجعلها بِكرًا لم تستطع صروف الدهر أن تَفُضَّ بَكارتها، بَلْهَ أن تترقَّى إليها في عليائها وشموخها، ومرة يجعل السنين وعاءً من اللبن، وقد عكَفت يد الله عليه تَمخُضه في حرص وإعزازٍ، حتى استخلصت منه عمورية قطعةً من الزُّبْد المصفَّى:

حتَّى إذا مَخَضَ الله السنينَ لَها *** مَخْضَ البخيلةِ كانتْ زُبْدَةَ الحِقَبِ

 

وتأمَّل هذه الصورة أيضًا:

جرَى لها الفألُ نَحْسًا يومَ أَنْقَرَةٍ
إذ غُودِرتْ وَحشة الساحاتِ والرَّحَبِ
لَمَّا رَأَتْ أُختَها بالأمسِ قد خَرِبَتْ
كان الخرابُ لها أَعْدى مِن الجَرَبِ

فهل سمِعت من قبلُ بالخراب يُعدي كما يُعدي الجرب؟!

 

أو هذه الصورة:

لقد تركتَ أميرَ المؤمنين بها
للنار يومًا ذليلَ الصَّخْرِ والخَشَبِ
غادَرْتَ فيها بهيمَ الليل وهْو ضُحًا
يَشُلُّه وسطَها صبحٌ مِن اللَّهَبِ
حتى كأنَّ جَلابيبَ الدُّجى رغِبتْ
عن لونِها أو كأن الشمسَ لَم تَغِبِ
ضوءٌ مِن النارِ والظَّلْماءُ عاكفةٌ
وظُلمةٌ مِن دُخانٍ في ضُحًا شَحِبِ

 

فذِلة الهزيمة قد لحِقت حتى بجدران البيوت فيها من صخرٍ وخشبٍ، والظلام البَهيم قد استحال بفعل ألسنةِ النيران المتأججة إلى صبحٍ بل إلى ضحًى، والدُّجى لها جلابيبُ، وهذه الجلابيب قد سئِمت لونَها الأسود، والناظر إلى كلِّ هذا لا يدري أهو في حُلمٍ أم في علمٍ، ولا يستطيع القطع بأن ما يراه ليلٌ أو نهار، فاللهب مِن تأجُّجه يُحيل الدنيا إلى نهار ساطع، ثم يَهجُم الدُّخَان المنعقد الكثيف، فإذا به يُخيَّل إليه أن الشمس قد غرَبت مع أنه لا شمس هناك ولا نهار، وهذا الخيال الذي يجعل من الليل نهارًا، هو هو الخيال الذي يرى في قُبح ما لحِق بالمدينة مِن خرابٍ وحرائقَ - حُسنًا لا يضارعه حسنٌ، حسنًا يُسْتَلَبُ منه اللبُّ كما كان ربعُ ميَّةَ وهي فيه تَعمُره بالحياة والفتنة والجمال، يَسحَر فؤادَ ذي الرُّمة الشاعر الذي خلَّدها في شعره إلى الأبد:

ما رَبْعُ ميَّةَ مَعمورًا يُطيفُ بِه
غيلانُ أَبْهى رُبًا مِن رَبْعِها الخَرِبِ
ولا الخُدودُ وقدْ أُدْمِينَ مِن خَجلٍ
أَشهَى إلى ناظِري مِن خَدِّها التَّرِبِ
سَماجةً غَنِيتْ منا العيونُ بِها
عن كلِّ حُسنٍ بَدَا أو مَنظرٍ عَجَبِ

 

وتأمَّل كيف يَجعل أبو تمام الموت يترصَّد للكفر في غابة من الرماح أدهارًا متطاولة، ثم يَنقَضُّ فجأةً عليه، فيُجَرِّعه الهلاك تَجريعًا:

لَم يَعلمِ الكُفرُ كَمْ مِن أَعْصُرٍ كمَنتْ *** له المنيةُ بين السَّمْرِ والقُضُبِ

 

وتأمَّل كيف يجعل الكَرى كأسًا يَحتسي منها الإنسانُ مشروبًا حلوًا لذيذًا، فإذا بالمعتصم - وقد بلَغه خبرُ اعتداء الروم الأنجاس على حدود دولة الإسلام - يُمسك بالكأس ويُريق كلَّ ما فيها على الأرض، ثم يَنهَض للانتقام من هؤلاء الأرجاس، قاطعًا بذلك خطَّ الرجعة على نفسه، وقد كان الشاعر مستطيعًا أن يقول مثلًا: "آليتُ على نفسك ألا تُخلِد للكَرى"، ولكن مَن يَحلِف ألا ينام قد يَغلبه النوم على نفسه، فالنوم سلطان، أما أن يُهْرِقَ كأسَ الكَرى، فمعنى ذلك أنه لم يَعُد أمامه إلا السهرُ المتواصل حتى إتمام النصر.

 

وانظر كذلك إلى قوله:

لبَّيْتَ صوتًا زِبَطْريًّا هَرَقْتَ لَهُ
كأسَ الكَرَى ورُضابَ الخُرَّدِ العُرُبِ
أَجَبْتَه مُعلنًا بالسيفِ مُنصَلِتًا
ولو أَجبتَ بغير السيف لم تُجِبِ

 

حيث يجعل الإجابة بالعمل لا بالكلام، إذًا ما أسهل هذا وأقل جدواه! والمهم التنفيذ وليس الكلام بمطعم ولا مُسمن، والشاعر يصارح الخليفة بأنه لو كان جوابُه بشيءٍ آخرَ غير السيف - يَحُزُّ به رقابَ الأعداء، ويُجندِلُ به أبطالَه؛ حتى لا يفكِّر مَن ينجو بجِلده منهم في أن يعتدي على حُرمة الإسلام ثانيةً - ما كان لجوابه أيةُ قيمةٍ!

 

كذلك انظر كيف جعل الشاعر دولة الروم كالخيمة عمودها عمورية، وأوتادها المدن الصغرى، فجاء المعتصم وسدَّد ضربته المُصمية لمركز الدولة، فمحَقها من الوجود مَحقًا، فكأنه طوَّح بعمود الخيمة، غير مُضيع وقته وجُهده في اقتلاع الأوتاد التي ما كان اقتلاعها مفيدًا شيئًا يُذكَر لو بقِي عمودُ الخيمة في موضعه راسخًا:

حتى ترَكتَ سوادَ الشِّرك مُنقَعِرًا *** ولم تُعرِّجْ على الأَوتادِ والطُّنُبِ

 

وتأمَّل أيضًا هذه الصورة التي رسَم فيها أبو تمام ما أصاب إمبراطور الروم مِن رُعبٍ وفزعٍ:

وَلَّى وقد أَلْجَمَ الخطِّيُّ مَنطِقَه *** بسَكتةٍ تحتَها الأحشاءُ في صَخَبِ

جاعلًا من لسان الإمبراطور حصانًا قد امتطاه سيف الخليفة، وجعل له لجامًا مصنوعًا من الصمت والفزع.

 

أما قلب الإمبراطور، أو كما قال الشاعر: "أحشاؤه"، فإنها تحت هذا الصمت تَصخَب صخبًا مدويًا من الرعب كذلك والفزع، فلسانه من الرعب قد خَرِسَ، وقلبه أيضًا من الرعب تُدوِّي دَقَّاتُه دَويًّا شديدًا:

بَصُرْتَ بالرَّاحةِ الكُبْرى فلَمْ تَرَها *** تُنَالُ إلَّا على جِسْرٍ مِنَ التَّعَبِ

 

♦ التي يُصوِّر فيها الراحة الكبرى راحةَ العز والشرف بعد الانتقام من أعداء الأمة والمِلَّة، وقد فصَل بينه وبينها نهرٌ طامٌّ لا يُخاض له عُبابُ، وإنما يمتد فوقه جسرٌ بُنِي من الجهد والاضطلاع بعظائم الأمور، فما كان من المعتصم إلا أن عبَر النهر فوق هذا الجسر؛ لينال الراحة الكبرى، وهل تُنال الأمجاد إلا بالجد والعناء؟!

 

ولكن انظر كيف عبَّر أبو تمام عن هذا المعنى، فأبدع وأتى بالمعجب العبقري، وتَمعَّنْ كيف يجعل بين صروف الدهر وأيامه نَسبًا وصِهرًا ورَحِمًا موصولةً؟! ثم كيف يستقري نسب هذا اليوم العظيم - يوم فتحت عمورية - حتى يرتد به إلى يوم بدر الذي انتصر فيه بنو الإسلام لأول مرة على علوج الكفر والضلال:

إنْ كان بين صُروفِ الدَّهرِ مِن رَحِمٍ
مَوصولةٍ أو ذِمامٍ غيرِ مُنْقَضِبِ
فبَيْنَ أيامِك اللاتي نُصِرْتَ بِها
وبينَ أيامِ بدرٍ أقربُ النَّسَبِ

 

ثم كيف يتلاعب بالكلمات تلاعبًا يَنُمُّ عن وَقادةِ ذهنٍ ولطف خيالٍ وفرحة غامرةٍ وشماتة قاهرةٍ:

أَبْقَتْ بَني الأصْفَر المِمْراضِ كاسْمِهمُ *** صُفْرَ الوجُوهِ وجلَّتْ أَوْجُهُ العَرَبِ

 

وهو يقصد بالعرب هنا "المسلمين"، فالإسلام دين عربي، "بمعنى أنه نزل على رسول عربي بُعِث أول ما بُعِث إلى العرب"، والدولة عربية "فلغتها هي لغة الضاد، وحُكَّامها عرب مسلمون"، وعلى أية حال فهذه هي المرة الوحيدة التي يذكر فيها العروبة والعرب، وإلا فقد قال قبل ذلك:

خليفَةَ الله جازَى اللهُ سعْيَكَ عنْ
جُرْثُومَةِ الدينِ والإِسلامِ والحَسَبِ
لَم يَعلمِ الكُفرُ كَمْ مِن أَعْصُرٍ كمَنتْ
له المنيةُ بين السَّمْرِ والقُضُبِ
♦   ♦   ♦
أَبْقَيتَ جَدَّ بني الإسلام في صُعُدٍ
والمشركين ودارَ الشِّركِ في صَبَبِ

 

فالصراع كان صراعًا بين الإسلام والشرك، ولم يكن صراعًا بين العرب وغيرهم، فجيش الإسلام لم يكن جيشًا عربيًّا بالمعنى العِرقي، بل كان يضم أبطالًا من كل صقعٍ ومن كل جنس في ديار الإسلام.





 حفظ بصيغة PDFنسخة ملائمة للطباعة أرسل إلى صديق تعليقات الزوارأضف تعليقكمتابعة التعليقات
شارك وانشر

مقالات ذات صلة

  • فتح عمورية
  • نبذة عن فتح عمورية سنة 223 هـ

مختارات من الشبكة

  • من تراجم الشعراء (ابن الرومي - ابن النديم - أبو تمام - أبو العتاهية)(مقالة - ثقافة ومعرفة)
  • فتحان في رمضان!(مقالة - ثقافة ومعرفة)
  • أبو موسى وعمه أبو عامر الأشعريان وقصة عجيبة دروس وعبر(مقالة - آفاق الشريعة)
  • المناظرات الفقهية بين فقهاء العراق: أبو إسحاق الشيرازي وأبو عبدالله الدامغاني نموذجا(مقالة - آفاق الشريعة)
  • ابن منده صاحب كتاب الإيمان وأبناؤه أبو القاسم وأبو عمرو ويحيى بن منده(مقالة - ثقافة ومعرفة)
  • من تراجم الشعراء (المتنبي - أبو فراس الحمداني - أبو الحسن الأنباري - ابن دريد - البحتري)(مقالة - ثقافة ومعرفة)
  • متشابه الأسماء (أبو حنيفة، أبو حيان)(مقالة - ثقافة ومعرفة)
  • لابو لابو(مقالة - المسلمون في العالم)
  • لابو لابو الذي قتل ماجلان(مقالة - ثقافة ومعرفة)
  • فتح مدينة عمورية (6 رمضان، سنة 223هـ)(مقالة - ثقافة ومعرفة)

 



أضف تعليقك:
الاسم  
البريد الإلكتروني (لن يتم عرضه للزوار)
الدولة
عنوان التعليق
نص التعليق

رجاء، اكتب كلمة : تعليق في المربع التالي

مرحباً بالضيف
الألوكة تقترب منك أكثر!
سجل الآن في شبكة الألوكة للتمتع بخدمات مميزة.
*

*

نسيت كلمة المرور؟
 
تعرّف أكثر على مزايا العضوية وتذكر أن جميع خدماتنا المميزة مجانية! سجل الآن.
شارك معنا
في نشر مشاركتك
في نشر الألوكة
سجل بريدك
  • بنر
  • بنر
كُتَّاب الألوكة
  • الدورة الخامسة من برنامج "القيادة الشبابية" لتأهيل مستقبل الغد في البوسنة
  • "نور العلم" تجمع شباب تتارستان في مسابقة للمعرفة الإسلامية
  • أكثر من 60 مسجدا يشاركون في حملة خيرية وإنسانية في مقاطعة يوركشاير
  • مؤتمرا طبيا إسلاميا بارزا يرسخ رسالة الإيمان والعطاء في أستراليا
  • تكريم أوائل المسابقة الثانية عشرة للتربية الإسلامية في البوسنة والهرسك
  • ماليزيا تطلق المسابقة الوطنية للقرآن بمشاركة 109 متسابقين في كانجار
  • تكريم 500 مسلم أكملوا دراسة علوم القرآن عن بعد في قازان
  • مدينة موستار تحتفي بإعادة افتتاح رمز إسلامي عريق بمنطقة برانكوفاتش

  • بنر
  • بنر

تابعونا على
 
حقوق النشر محفوظة © 1446هـ / 2025م لموقع الألوكة
آخر تحديث للشبكة بتاريخ : 9/11/1446هـ - الساعة: 17:29
أضف محرك بحث الألوكة إلى متصفح الويب