الدرس اللغوي وعلاقته بالنص الديني في الثقافة الإسلامية

الدرس اللغوي وعلاقته بالنص الديني

في الثقافة الإسلامية

للنص الديني مكانة بارزة في الثقافة والتراث الدِّينيَّيْن؛ إذ يُعتبر الرحَى التي تدور حولها جُلُّ الخطابات الدينية، ولا يمكن الحديث عن فهمٍ متكامل وواضح لهذه الخطابات إلا بالرجوع إلى قواعد اللغة التي كُتب بها؛ فهي تُمثل الإطار والمرجعية العامة التي تَضبط وتُقعِّد النص الديني، ودراسة علاقة التأثير والتأثُّر بين الدرس اللغوي والنص الديني في ظل الحضارة العربية الإسلامية - أي: دراسة علاقة الدرس اللغوي العربي بالنص الشرعي - تجعلنا نتساءل: إلى أي مدى كان النص الديني الإسلامي عامةً - والقرآن الكريم خاصةً - مُمهِّدًا لتطوُّر الدرس اللغوي؟

يحظى النص الديني - كتابًا وسنةً - بموقع خاص في التراث العربي الإسلامي؛ إذ يُعتبر المرجعَ الأساسي في فهم ومعرفة مبادئ الإسلام، وهكذا كان النص الديني - وخاصة القرآن الكريم - الحضن الدافئ الذي تربَّى في أكنافه الدرس اللغوي، فقد كان هذا الأخير عند العرب "وليد الحاجة إلى فهم القرآن، وكانت بداياته في تتبُّع اللحن، فتطوَّر إلى النحو، وفي تتبُّع معاني المفردات، فتطوَّر إلى العمل المُعجمي، وفي تفسير تراكيب الآيات، فتطوَّر إلى المباحث البلاغية، وكلُّ هذا من أجل فهم النص القرآني فهمًا دقيقًا، واستخراج الأحكام الشرعية منه"[1].

لهذا؛ نجد علماء أصول الفقه الذين عُنُوا بدراسة الأحكام الشرعية - لا تخلو كتبهم من قواعد اللغة العربية، التي استمدُّوا منها القواعد الأصولية التي تُعتبر أداةً لفهم النص الشرعي واستنباط الأحكام الشرعية، مثلًا: "القاعدة الأصولية: "الأمر يقتضي الفور" دليلها: أن ذلك لا يفهمه إلا أهل اللغة؛ فلو قال السيد لخادمه: اسقني ماءً، فتأخر، كان ملومًا"[2].

فالدرس الأصولي قد استفاد في صياغة مناهجه ووضع قواعده من اللغة وقواعدها، فدَرس الألفاظ وبيَّن أوجُه دلالتها، إلى درجة أن كثيرًا من مباحث أصول الفقه هي في طبيعتها مباحث لغوية محضة، تجدها منثورة في ثنايا كتب اللغة والنحو والبلاغة[3]؛ لذلك كان من الشروط اللازمة على مُستنبِط الأحكام الشرعية من القرآن والسنة أن يكون على علم باللسان العربي؛ ليفهم عن الله عز وجل وعن النبي صلى الله عليه وسلم، ويكون عالمًا بالنص الذي هو ترتيب العرب لكلامهم الذي به نزل القرآن الكريم[4].

وقد لا نغالي إن قلنا بأنَّ أصول الفقه - وهو علم شرعي خالص - كان الرابطَ بين الدرس اللغوي والنص الديني؛ لذلك نجد أن الأسباب الداعية وراء نشأة الدرس اللغوي - جاءت في الأساس لخدمة القرآن الكريم، "فبعد ذيوع اللحن وفُشوِّه، خاف أهل اللغة والدين من صعوبة فهم القرآن الكريم والحديث، فجنَّد أهل اللغة العربية دروس اللغة وقواعدها لعلاج ظاهرة اللحن، حيث أجمعت الروايات المستفيضة على اقتران وضع النحو باللحن، وأول من كتب فيه - على الراجح - أبو الأسْود الدُّؤلي بإشارة من أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه"[5].

فكانت البدايات بتنقيط القرآن الكريم، ومن دواعي ذلك أن "أبا الأسْود الدُّؤلي سمع قارئًا يقرأ قوله تعالى: ﴿ أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ ﴾ [التوبة: 3] ويكسر "رسوله"، فقال: "معاذَ الله أن يتبرأ الله من رسوله"، وقيل: إنه قال: "ما ظننتُ أمر الناس آلَ إلى هذا"، ثم طلب كاتبًا، وقال له: "إذا رأيتَني فتحتُ فمي بالحرف، فانقُط فوقه على أعلاه، وإذا ضممتُ فمي، فانقُط نقطة بين يدي الحرف، وإذا كسرتُ، فاجعل نقطة من تحت الحرف، وإذا مكنتُ الكلمة بالتنوين، فاجعل أمارةَ ذلك نقطتين"[6].

وهكذا، كان من أسباب الاهتمام بالدرس اللغوي صيانة النص القرآني من التحريف والتزوير، وظهَر النحو الذي ضبط القراءة وغير ذلك من القواعد التي أثَّرت بدورها في اختلاف المجتهدين من الفقهاء في مسائل الأحكام الشرعية[7].

ومن الأمثلة الفقهية الناتجة عن الاختلاف في المعنى اللغوي: ما يتعلق بحُكم غسل الرجلين في الوضوء؛ حيث إن قول الله عز وجل: ﴿ وَامْسَحُوا بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ ﴾ [المائدة: 6]، تُقرأ بالنصب والخفض، ونشأ عن الاختلاف في القراءتين الثابتتين اختلافُ أهل العلم في الواجب في الرِّجلين: هل هو الغسل؟ أم المسح؟

علاوةً على ما تقدم، يتضح أن العلاقة بين الدرس اللغوي والنص الديني قامت على التأثير والتأثُّر، فنجد النص الديني - مُمثَّلًا في القرآن الكريم - كما رأينا قد طوَّر من الدرس اللغوي؛ حيث دعت الحاجة إلى ظهور علوم لغوية جديدة تخدم هذا النص من ناحية، وتضبط كلماته من ناحية أخرى، بالإضافة إلى هذا: نجد أن الدرس اللغوي - بدوره - أثَّر في العلوم الشرعية المرتبطة بالنص الديني، خاصةً ما يتعلق بالأحكام الشرعية المستنبَطة من الكتاب والسنة النبوية.