• الصفحة الرئيسيةخريطة الموقعRSS
  • الصفحة الرئيسية
  • سجل الزوار
  • وثيقة الموقع
  • اتصل بنا
English Alukah شبكة الألوكة شبكة إسلامية وفكرية وثقافية شاملة تحت إشراف الدكتور سعد بن عبد الله الحميد
 
الدكتور سعد بن عبد الله الحميد  إشراف  الدكتور خالد بن عبد الرحمن الجريسي
  • الصفحة الرئيسية
  • موقع آفاق الشريعة
  • موقع ثقافة ومعرفة
  • موقع مجتمع وإصلاح
  • موقع حضارة الكلمة
  • موقع الاستشارات
  • موقع المسلمون في العالم
  • موقع المواقع الشخصية
  • موقع مكتبة الألوكة
  • موقع المكتبة الناطقة
  • موقع الإصدارات والمسابقات
  • موقع المترجمات
 كل الأقسام | أسرة   تربية   روافد   من ثمرات المواقع  
اضغط على زر آخر الإضافات لغلق أو فتح النافذة اضغط على زر آخر الإضافات لغلق أو فتح النافذة
  •  
    المحطة العاشرة: مقومات الإيجابية
    أسامة سيد محمد زكي
  •  
    أنماط التعليم الإلكتروني من حيث التدرج في ...
    أبو مالك هيثم بن عبدالمنعم الغريب
  •  
    وصية امرأة لابنتها في زفافها
    الشيخ محمد جميل زينو
  •  
    المحطة التاسعة: العادات
    أسامة سيد محمد زكي
  •  
    الشباب بين الطموح والواقع: كيف يواجه الجيل الجديد ...
    محمود مصطفى الحاج
  •  
    هبة فيها النجاة!
    أ. رضا الجنيدي
  •  
    بركة الزوج الصالح على الزوجة في رفع درجتها في ...
    فهد عبدالله محمد السعيدي
  •  
    تربية الأطفال في ضوء توجيهات سورة الحجرات
    محمد عباس محمد عرابي
  •  
    السلاسل الحقيقية لا ترى!
    أمين محمد عبدالرحمن
  •  
    تطوير العلاقات الإنسانية في الإسلام
    يوسف بن طه السعيد
  •  
    المحطة الثامنة: القرارات
    أسامة سيد محمد زكي
  •  
    التربية بالقدوة: النبي صلى الله عليه السلام
    محمد أبو عطية
  •  
    مهن في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم
    نجاح عبدالقادر سرور
  •  
    تزكية النفس: مفهومها ووسائلها في ضوء الكتاب ...
    عاقب أمين آهنغر (أبو يحيى)
  •  
    الإنذار المبكر من التقاعد المبكر
    هشام محمد سعيد قربان
  •  
    دور الذكاء الاصطناعي في تعزيز كفاءة العملية ...
    أبو مالك هيثم بن عبدالمنعم الغريب
شبكة الألوكة / المواقع الشخصية / مواقع المشايخ والعلماء / الشيخ دبيان محمد الدبيان / بحوث ودراسات
علامة باركود

تغيير الشيب بالسواد

تغيير الشيب بالسواد
الشيخ دبيان محمد الدبيان

مقالات متعلقة

تاريخ الإضافة: 8/10/2012 ميلادي - 22/11/1433 هجري

الزيارات: 117162

 حفظ بصيغة PDFنسخة ملائمة للطباعة أرسل إلى صديق تعليقات الزوارأضف تعليقكمتابعة التعليقات
النص الكامل  تكبير الخط الحجم الأصلي تصغير الخط
شارك وانشر

تغيير الشيب بالسواد


خضاب الشيب بالسواد اتفقوا على جوازه في الحرب[1]، واختلفوا في غير الحرب:

فقيل: يحرم.

وهو قول في مذهب الشافعية، اختاره جماعة منهم، ورجحه النووي[2].


وقيل: يكره بالسواد لغير حرب، وهو قول في مذهب الحنفية[3]، ومذهب المالكية[4]، وقول في مذهب الشافعية[5]، والمشهور في مذهب الحنابلة[6].


وقيل: جائز بلا كراهة، وهو قول في مذهب الحنفية[7]، واختيار أبي يوسف[8]ومحمد بن الحسن[9]، ومذهب بعض الصحابة[10]، واختاره جماعة من التابعين منهم ابن سيرين[11]، وأبو سلمة[12]، ونافع بن جبير[13]، وموسى بن طلحة[14]، وإبراهيم النخعي[15]وغيرهم.


وقيل: يجوز للمرأة، ولا يجوز للرجل، وهو قول إسحاق[16]، واختاره الحليمي[17].


دليل القائلين بالتحريم:

الدليل الأول

(609-173) ما رواه مسلم في صحيحه، قال: حدثني أبو الطاهر، أخبرنا عبدالله بن وهب، عن ابن جريج، عن أبي الزبير، عن جابر بن عبدالله، قال: أتي بأبي قحافة يوم فتح مكة، ورأسه ولحيته كالثغامة بياضًا، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((غيروا هذا بشيء، واجتنبوا السواد))[18].

[الحديث صحيح، واختلف في قوله: وجنبوه السواد][19].


فقيل: إنها ليست من الحديث؛ لأن أبا الزبير أنكرها من رواية زهير بن معاوية عنه، ولم يذكرها عزرة بن ثابت عن أبي الزبير، وإذا اختلف في ثبوتها عن أبي الزبير، فإن المرجع هو أبو الزبير، وقد صرح أنها ليست في الحديث.


وثانيًا: أن ابن جريج كان يصبغ بالسواد، وهو ممن روى الحديث عن أبي الزبير.


وأجيب:

أولاً: أنه قد رواه جملة من الرواة غير زهير بن معاوية بإثبات: "وجنبوه السواد"، منهم ابن جريج وهو في مسلم، وأيوب السختياني عند أبي عوانة بسند صحيح، وليثُ بن أبي سليم، وأجلح وفي إسناديهما ضعف منجبر، فلا يتصور وقوع إدراج في الحديث؛ لأن الإدراج يحتمل وروده من الواحد، أما من الجماعة فبعيد.


وعليه؛ فيكون نفي أبي الزبير محمولاً على نسيانه لها، وهذا قد يحدث لبعض الحفاظ الكبار كما هو معروف.


قلت: ليست العلة في الحديث إدراج لفظة: "وجنبوه السواد"؛ إنما علته تردد أبي الزبير، فتارة يثبتها، وتارة ينفيها، ولو كان أبو الزبير يشك في ثبوتها أو يتردد، لقيل: من حفظ مقدم على من لم يحفظ، وإذا اختلف على الراوي فتارة يذكرها، وتارة ينفيها، كان هذا سببًا في إضعاف روايته، ولا أحمل على أحد من الرواة عن أبي الزبير، وإنما الحمل عليه هو. وأبو الزبير ليس بالمتقن[20].


قالوا: وأما كون ابن جريج يصبغ، فليس بحجة في قوله ولا في فعله، فالحجة في روايته، فكيف تبطلون ما روي عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - بفعل تابعي غير معصوم؟!


ثانيًا: أن الإمام أحمد قد جاء عنه ما يدل على تصحيحه لهذه اللفظة: (610-174) جاء في كتاب الترجل والوقوف: أخبرني عصمة بن عصام، حدثنا حنبل، قال: سمعت أبا عبدالله يقول: وأكره السواد؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((وجنبوه السواد))"[21].


وجَزْمُ إمام أهل السنة بنسبة الحديث إلى الرسول - صلى الله عليه وسلم - يدل على ثبوته عنده، فلو كان الاختلاف على أبي الزبير مؤثرًا، لأعله إمام أهل السنة، فإنه في العلل سل به خبيرًا.


قلت: فأما كراهيته للسواد، فهذا ثابت عن أحمد، لا نزاع في ثبوته عنه، ولا يلزم من كراهيته له أن تكون زيادة: "وجنبوه السواد" ثابتة؛ لأن الإمام قد يأخذ به فقهًا لأمور ودواعٍ أخرى مما يوافق أصوله، ولا يراه ثابتًا من ناحية الإسناد، فهذا حديث التسمية في الوضوء يرى الإمام أحمد أنه لا يصح في الباب شيء، ومع ذلك يراه فقهًا، وأمثلة هذا كثيرة.


وأما نسبة الحديث إلى الرسول - صلى الله عليه وسلم - فجاء من طريق عصمة بن عصام، عن حنبل بن إسحاق، عن أحمد، فلا أظنها تثبت عنه[22].


ثالثًا: أن الإمام مسلمًا قد أخرجها في صحيحه، وهو أصح كتاب بعد البخاري، وقد تلقته الأمة بالقبول، وإخراجها في كتابه تصحيح لها، وهذا يدل على أن الحديث ثابت عنده، وكفى بذلك تصحيحًا.


وأجيب:

لا يلزم من إيراد مسلم له في صحيحه أن يكون قد صحح هذه الزيادة، فقد قال لي بعض الإخوة في المذاكرة: إذا ساق مسلم الحديث بلفظ، ثم أعقبه بلفظ آخر يخالفه، كان ذلك منه تنبيهًا على علته، ولو لم يصرح، وقد أكثر من هذا أبو داود في سننه.


وهذا يمكن أن يقبل لو نص عليه إمام، أو كان نتيجة للدارسة والسبر، فإن كان هذا مسلَّمًا، فذاك، وإن كان غير مسلَّم، فإنه قد انتقدت بعض الأحاديث في البخاري ومسلم، وسُـلِّم للدارقطني وغيره بعض الاعتراضات على بعض الأحاديث، وما انتقده العلماء ليس داخلاً في تلقي الأمة له بالقبول، وهذا الحديث منها، والله أعلم.


ثم وجدت من نص على هذه الحقيقة، وقد أثبت ذلك من خلال دراسته لصحيح مسلم[23].


جواب آخر ذكره أبو حفص الموصلي:

قال: والجواب عن حديث "وجنبوه السواد" من وجهين:

الأول: أن أحاديث مسلم لا تقاوم أحاديث البخاري!

يقصد حديث أبي هريرة في الصحيحين: ((إن اليهود والنصارى لا يصبغون، فخالفوهم))، فأمر بالصبغ وأطلق ولم يقيد بشيء.

والجواب: أحاديث البخاري أقوى من أحاديث مسلم بالجملة، هذا مسلّم، ولا نحتاج إلى الترجيح إلا حيث يوجد التعارض بحيث لا يمكن العمل بكلا الدليلين، وحديث البخاري لا يعارض هنا حديث مسلم؛ لأن مطلق حديث أبي هريرة بالأمر بالصبغ مقيد بحديث جابر في تجنيب السواد، والمطلق لا يعارض المقيد، كما أن العام لا يعارض الخاص، وهذا الجواب قوي لو صح الحديثان، فالمقيد يقدم على المطلق إذا كانا صحيحين، وإلا فلا يقيد الحديثَ الصحيحَ حديثٌ ضعيفٌ، والله أعلم.


الوجه الثاني: قال: إن الحسن والحسين وسعد بن أبي وقاص قد صبغوا بالسواد، فلو كان حرامًا لما فعلوه، وكذلك كانوا في زمان الصحابة - رضوان الله عليهم أجمعين - فلو كان حرامًا لأنكروا عليهم[24].


وأجيب:

بأن العصمة إنما هي للوحي، وكم من حديث صحيح ثابت خالفه أفراد من الصحابة، فنعتذر للصاحب بأنه لا يتعمد الخطأ، لكن لا نبطل النص الشرعي لمخالفة بعض الصحابة، والله أعلم.


الدليل الثاني:

(611-175) فقد روى أحمد بن حنبل، قال: ثنا محمد بن سلمة الحراني، عن هشام، عن محمد بن سيرين، قال:

سئل أنس بن مالك عن خضاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يكن شاب إلا يسيرًا، ولكن أبا بكر وعمر بعده خضبا بالحناء والكتم، قال: وجاء أبو بكر بأبيه أبي قحافة إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم فتح مكة يحمله حتى وضعه بين يدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأبي بكر: ((لو أقررت الشيخ في بيته، لأتيناه))؛ مكرمة لأبي بكر، فأسلم، ولحيته ورأسه كالثغامة بياضًا، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((غيروهما، وجنبوه السواد))[25].


[لم يذكر قصة أبي قحافة في الحديث إلا محمد بن سلمة عن هشام، وقد رواه غيره عن هشام ولم يذكرها، كما رواه جمع من الرواة عن أنس بدون ذكرها، والحديث في الصحيحين بدون ذكر قصة أبي قحافة، فلا أظنها محفوظة من حديث أنس][26].


الدليل الثالث:

(612-176) ما رواه الطحاوي، قال: حدثنا فهد بن سليمان، قال: حدثنا أحمد بن حميد ختن عبيدالله بن موسى، قال: حدثنا عبدالرحمن بن محمد المحاربي، عن محمد بن إسحاق، عن يحيى بن عباد بن عبدالله بن الزبير، عن أبيه، عن أسماء قالت: لما كان يوم الفتح أتي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بأبي قحافة، وكأنَّ رأسه ولحيته ثغامة، قال: ((غيروه، وجنبوه السواد))[27].

[إسناده ضعيف؛ فيه المحاربي وقد عنعن، ورواه غيره لم يقل: وجنبوه السواد][28].


الدليل الرابع:

(613-177) ما رواه الطبراني في الأوسط، قال: حدثنا عبدان بن أحمد، قال: حدثنا محبوب بن عبدالله النميري أبو غسان، قال: حدثنا أبو سفيان المديني، عن داود بن فراهيج، عن أبى هريرة، قال: لما فتح رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مكة، وأبو بكر قائم على رأسه، قال: بأبي أنت وأمي يا رسول الله، إن أبا قحافة شيخ كبير، وإنه بناحية مكة، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((قم بنا إليه))، فقال: يا رسول الله، هو أحق أن يأتيك، فجيء بأبي قحافة كأن لحيته ورأسه ثغامة بيضاء، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((غيروه، وجنبوه السواد))[29].

[إسناده ضعيف][30].


الدليل الخامس:

(614-178) ما رواه أحمد، قال: ثنا حسين وأحمد بن عبدالملك، قالا: ثنا عبيدالله يعني ابن عمرو، عن عبدالكريم، عن ابن جبير - قال أحمد: عن سعيد بن جبير - عن ابن عباس عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: يكون قوم في آخر الزمان يخضبون بهذا السواد. قال حسين: كحواصل الحمام لا يريحون رائحة الجنة[31].


[رجاله ثقات إلا أنه اختلف في وقفه ورفعه][32].


وأجيب بأجوبة:

الأول: ضعف الحديث؛ لأن في إسناده اختلافًا، وقد ناقشت هذا في التخريج.

قال أبو حفص الموصلي: قد ورد: "يكون في آخر الزمان قوم يخضبون بالسواد، لا يريحون رائحة الجنة"، ولا يصح في هذا الباب شيء غير قوله في حق أبي قحافة: "وجنبوه السواد"، والجواب عنه من وجهين: ثم ذكرهما[33].


الجواب الثاني: أن الوعيد الشديد ليس على الصبغ بالسواد؛ وإنما هو على معصية أخرى لم تذكر، كما قال الحافظ ابن أبي عاصم في كتاب الخضاب له[34]، وابن الجوزي كما سيأتي عنه، ويدل على ذلك قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((يكون قوم يخضبون في آخر الزمان بالسواد))، وقد عرفت وجود طائفة قد خضبوا بالسواد في أول الزمان وبعده من الصحابة والتابعين وغيرهم - رضي الله عنهم - فظهر أن الوعيد المذكور ليس على الخضاب بالسواد؛ إذ لو كان الوعيد على الخضب بالسواد، لم يكن لذكر قوله: "في آخر الزمان" فائدة، فالاستدلال بهذا الحديث على كراهة الخضب بالسواد ليس بصحيح.


قلت: قد يكون فائدة ذكر "آخر الزمان" أنه يكثر فيه وينتشر، بخلاف ما وجد في العصر الأول، فإن الصبغ من آحادهم، وعلى كل حال هذا تأويل للنص، والذي ينبغي على طالب العلم أن يترك تأويل النصوص وحملها على خلاف الظاهر، وإذا كنا نعيب على أهل البدع تأويل نصوص الصفات، فكيف نسمح لأنفسنا أن نقبل به هنا، وما الفائدة من ذكر هذا الخبر إذا كان على معصية لم تعلم، ويكون الخبر لغوًا لا فائدة فيه؛ لأننا لا نعلم جرمهم لنتقيه، غاية ما فيه أن في آخر الزمان قومًا لا يريحون رائحة الجنة، ثم القاعدة الأصولية: أن الحكم إذا رتب على وصف، فإنه يدل على أن الوصف علة في الحكم، فلو قال قائل: إن قوله تعالى: ﴿ الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة ﴾[35].


لو قال: إن الجلد ليس على الزنا، وإنما هو على معصية أخرى لم تذكر، هل يمكن أن يقبل ذلك منه؟


الثالث: أن المراد بالخضب بالسواد في هذا الحديث الخضب به لغرض التلبيس والخداع، لا مطلقًا؛ جمعًا بين الأحاديث المختلفة، وهو حرام بالاتفاق[36].


قال ابن الجوزي: إنما كرهه - يعني الصبغ بالسواد - قوم؛ لما فيه من التدليس، فأما أن يرتقي إلى درجة التحريم إذا لم يدلس، فيجب به هذا الوعيد، فلم يقل بذلك أحد، ثم نقول على تقدير الصحة يحتمل أن يكون المعنى: لا يريحون ريح الجنة لفعل صدر منهم أو اعتقاد، لا لعلة الخضاب، ويكون الخضاب سيماهم، فعرفهم بالسيما، كما قال في الخوارج: سيماهم التحليق، وإن كان تحليق الشعر ليس بحرام[37].


الجواب الرابع عن الحديث: لقد صبغ جماعة من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - بالسواد، أيكون الصبغ متوعدًا عليه بأنه لا يريح رائحة الجنة، ثم هؤلاء يصبغون؟! ولا ينقل إنكار من الصحابة - رضوان الله عليهم - وهم أكمل الأمة في النصح والعلم والقيام بالواجب، لا يخافون في الله لومة لائم.


وأجيب:

بأننا إنما نحتاج إلى الرد إلى أقوال الصحابة وأفعالهم فيما لم يرد فيه نص، أما ما ورد فيه نص، فلا يحتاج الأمر إلى الرجوع إلى أفعال الصحابة، قال - تعالى -: ﴿ فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول ﴾[38]، فإذا كانت السنة واضحة صريحة، فلا ترد إلى غيرها.


هذا من جهة، ومن جهة أخرى هناك مسائل كثيرة خالف فيها بعض الصحابة النص المتفق عليه، ومع ذلك لم يقدح هذا في النص، أرأيت إلى لبس خاتم الذهب جاء فيه النص واضحًا بتحريمه، ومع ذلك جاء عن عدد من الصحابة كانوا يلبسون خاتم الذهب، فهل كان ذلك علة في رد النص؟


وقد يقال: إن الرجوع إلى فهم الصحابة يتعين لفهم النص، وفهمهم أولى من فهم غيرهم، فيحمل على أن النهي للكراهة؛ لمخالفتهم النهي، لكن يشكل عليه قوله في الحديث: ((لا يرح رائحة الجنة))، لا يقال مثل هذا في المكروه، والله أعلم.


الجواب الخامس: أن العقوبة الواردة في الحديث مبالغ فيها، وقد يكون من أسباب ضعف الحديث أن يرتب على العمل اليسير ثواب عظيم، أو عقاب كبير، كما ذكر ذلك العلماء، وهذا يقال هنا لأن الإسناد ليس من القوة[39]، فالتحريم نحتاج للقول به إلى إسناد صحيح خالٍ من النزاع؛ لأن الأصل الحل، ولا ننتقل عنه إلا بدليل صحيح صريح خالٍ من النزاع.


وأجيب:

بأن الشرع هو الذي يقدر أن الذنب يسير أو عظيم؛ ولذلك ورد وعيد شديد في المسبل إزاره:

(615-179) فقد روى مسلم في صحيحه، قال: حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة ومحمد بن المثنى وابن بشار، قالوا: حدثنا محمد بن جعفر، عن شعبة، عن علي بن مدرك، عن أبي زرعة، عن خرشة بن الحر، عن أبي ذر، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة، ولا ينظر إليهم، ولا يزكيهم، ولهم عذاب أليم))، قال: فقرأها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثلاث مرار. قال أبو ذر: خابوا وخسروا، من هم يا رسول الله؟


قال: ((المسبل، والمنان، والمُنفِّق سلعته بالحلف الكاذب))[40].


فلا يمكن أن نعل الحديث بأن ذنب الإسبال يسير، فكيف يتوعد عليه بمثل هذه العقوبة؟ والله أعلم.


الدليل السادس:

(616-180) ما رواه ابن عدي في الكامل، قال: حدثنا صدقة بن منصور بحران، قال: ثنا أبو معمر، قال: ثنا عاصم بن سليمان التميمي، عن إسماعيل بن أمية، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، قال: جيء بأبي قحافة إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - يوم الفتح، ورأسه ولحيته كأنها ثغامة، فقال: النبي - صلى الله عليه وسلم -: غيروا هذا الشيب، وجنبوه السواد[41].

[موضوع بهذا الإسناد][42].


الدليل السابع:

(617-181) قال ابن سعد: أخبرنا معن بن عيسى، قال: حدثني عبدالله بن المؤمل، عن عكرمة بن خالد، قال: أتي بأبي قحافة إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وكأن رأسه ثغامة، فبايعه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثم قال: غيروا رأس الشيخ بحناء.

[ضعيف وذكر الحناء فيه منكر][43].


الدليل الثامن:

(618-182) ما رواه ابن أبي شيبة، قال: حدثنا أبو أسامة، عن عبدالملك، قال: سئل عطاء عن الخضاب بالوسمة، فقال: هو مما أحدث الناس، وقد رأيت نفرًا من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فما رأيت أحدًا منهم يختضب بالوسمة، ما كانوا يخضبون إلا بالحناء والكتم وهذه الصفرة[44].

[إسناده صحيح].


وأجيب:

أولاً: لا شك أنه ثبت عن بعض الصحابة الصبغ بالأسود، ثبت عن الحسن من طرق كثيرة، وبعضها صحيح، وثبت عن عقبة بن عامر بسند صحيح، وسيأتي النقول عنهم - إن شاء الله.


(619-183) ثانيًا: قد روى ابن أبي شيبة، قال: حدثنا ابن نمير، عن إسرائيل، عن عبدالأعلى، قال: سألت ابن الحنفية عن الخضاب بالوسمة، فقال: هي خضابنا أهل البيت[45].

[وسنده حسن].


ثالثًا: أن الصبغ بالأسود على فرض أن جميع الصحابة لم يصبغوا به، لم ينقل عن الصحابة أيضًا أنهم كرهوه أو منعوه، ولو نقل لكان صالحًا للحجة.


وقال بعضهم: إن الوسمة صبغ ليس بالأسود، قيل: إن كان كذلك لم يكن قول عطاء بأن الصبغ به حدث دليلاً على أن الصحابة لم يصبغوا بالأسود، فأما أن تعتبره أسود، فالجواب عنه ما علمت، أو ليس بالأسود فلا تستدل به على أن الصحابة لم يصبغوا بالأسود.


الدليل التاسع:

(620-184) ما رواه ابن عدي من طريق رشدين بن سعد، عن أبي صخر حميد بن زياد، عن يزيد بن قسيط، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إن الله يبغض الشيخ الغربيب)).


قال أحمد: قال رشدين: الذي يخضب بالسواد[46].

[إسناده ضعيف][47].


دليل القائلين بكراهة الخضاب بالسواد:

جمعوا بين النهي عن الخضاب بالسواد وبين فعل الصحابة، على أن النهي ليس للتحريم، ولو كان للتحريم لما خضب جمع من السلف من الصحابة والتابعين ومن بعدهم.


قال ابن القيم: "صح عن الحسن والحسين - رضي الله عنهما - أنهما كان يخضبان بالسواد، ذكر ذلك عنهما ابن جرير في كتاب تهذيب الآثار، وذكره عن عثمان بن عفان، وعبدالله بن جعفر، وسعد بن أبي وقاص، وعقبة بن عامر، والمغيرة بن شعبة، وجرير بن عبدالله، وعمرو بن العاص، وحكاه عن جماعة من التابعين، منهم عمرو بن عثمان، وعلي بن عبدالله بن عباس، وأبو سلمة بن عبدالرحمن، وعبدالرحمن بن الأسود، وموسى بن طلحة، والزهري، وأيوب، وإسماعيل بن معدي كرب، وحكاه ابن الجوزي عن محارب بن دثار، ويزيد، وابن جريج، وأبي يوسف، وأبي إسحاق، وابن أبي ليلى، وزياد بن علاقة، وغيلان بن جامع، ونافع بن جبير، وعمرو بن علي المقدمي، والقاسم بن سلام"[48].


فذكر ابن القيم ثمانية من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - يصبغون بالسواد، أيكون الصبغ متوعدًا عليه بأنه لا يريح رائحة الجنة، ثم هؤلاء يصبغون؟! ولا ينقل إنكار من الصحابة - رضوان الله عليهم - وهم أكمل الأمة في النصح والعلم والقيام بالواجب، لا يخافون في الله لومة لائم، فإما أن نقول: إن فعل مثل هؤلاء يقدح في المنقول من النهي، وهذا غير جيد، أو نقول: إن فعل هؤلاء يبين أن النهي ليس للتحريم؛ وإنما هو للكراهة، فيكون من أجازه لم يعارض من كرهه، والجواز لا ينافي الكراهة كما هو معروف، ومن خضب بالسواد فهم أن الأمر على التخيير، والله أعلم.


قال ابن القيم: وأما الخضاب بالسواد، فكرهه جماعة من أهل العلم، وهو الصواب بلا ريب[49].


وسوف أحاول تخريج بعض الآثار عن الصحابة - رضي الله عنهم - لأن أقوالهم ليست كأقوال غيرهم.


(621-185) فقد روى عبدالرزاق في المصنف، قال: عن معمر، عن الزهري، قال: كان الحسين بن علي يخضب بالسواد. قال معمر: رأيت الزهري يغلف بالسواد وكان قصيرًا[50].


(622-186) وروى عبدالرزاق أيضًا، قال: عن معمر، عن الزهري قال: كان الحسن بن علي يخضب بالسواد[51].


الأثر الثاني:

(623-187) ما رواه ابن أبي شيبة، قال: حدثنا شبابة، قال: حدثنا ليث بن سعد، قال: حدثنا أبو عشانة المعافري، قال:

رأيت عقبة بن عامر يخضب بالسواد ويقول:

نسود أعلاها وتأبى أصولها....................................[52].


الأثر الثالث:

(624-188) روى ابن أبي الدنيا في العمر والشيب، قال: حدثنا أبو كريب، حدثنا زكريا بن عدي، عن زاجر بن الصلت، عن الحارث بن عمرو، عن البحتري بن عبدالحميد، أن عمر بن الخطاب قال: نعم الخضاب السواد؛ هيبة للعدو، ومسكنة للزوجة[53].

[سنده ضعيف][54].


 

الأثر الرابع:

(625-189) روى الطبراني في الكبير، قال: حدثنا أحمد بن رشدين المصري، ثنا نعيم بن حماد، ثنا رشدين بن سعد، عن يونس، عن ابن شهاب، عن سعيد بن المسيب، أن سعد بن أبي وقاص كان يخضب بالسواد.

[سنده ضعيف][55].


الأثر الخامس:

(626-190) روى الطبراني، قال: حدثنا محمد بن عبدالله الحضرمي ثنا محمد بن منصور الكلبي، قال: حدثني سليم أبو الهذيل قال:

رأيت جرير بن عبدالله يخضب رأسه ولحيته بالسواد[56].


الأثر السادس:

(627-191) قال الهيثمي في المجمع: وعن عبدالله بن عمرو، أن عمر بن الخطاب رأى عمرو بن العاص وقد سود شيبه فهو مثل جناح الغراب، فقال: ما هذا يا أبا عبدالله؟ فقال: يا أمير المؤمنين، أحب أن يرى في بقية، فلم ينهه عن ذلك ولم يعبه عليه.


قال الهيثمي: رواه الطبراني، وفيه راوٍ لم يسم، قال سعيد بن أبي مريم: حدثني من أثق به، وعبدالرحمن بن أبي الزناد وبقية رجاله ثقات[57].


أما الآثار عن التابعين، فهي كثيرة جدًّا، ولكن لما كانت المسألة فيها أحاديث اكتفيت بها؛ لأن الاستدلال بأقوال التابعين إنما يستأنس به إذا لم يكن في المسألة سنة عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - ولا عن أصحابه، فإننا نرجع إلى آثار السلف من التابعين - رضوان الله عليهم أجمعين.


دليل من قال: يجوز تغيير الشيب بالسواد:

الدليل الأول:

لم يثبت عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - نهي في التحريم، والأصل في الأشياء الإباحة.


قال يحيى: سمعت مالكًا يقول في صبغ الشعر بالسواد: لم أسمع في ذلك شيئًا معلومًا، وغير ذلك من الصبغ أحب إلي. قال: وترك الصبغ كله واسع - إن شاء الله - ليس على الناس فيه ضيق[58].


وإمام بمثل مالك، وهو في المدينة قد رأى فقهاء التابعين وأخذ منهم، يرى أنه لم يسمع في الصبغ بالسواد شيئًا - دليل على أن أحاديث النهي في الباب لا تصح.


الدليل الثاني:

(628-192) ما رواه البخاري، قال - رحمه الله -: حدثنا عبدالعزيز بن عبدالله، قال: حدثني إبراهيم بن سعد، عن صالح، عن ابن شهاب قال: قال أبو سلمة بن عبدالرحمن:


إن أبا هريرة - رضي الله تعالى عنه - قال: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((إن اليهود والنصارى لا يصبغون، فخالفوهم))؛ ورواه مسلم[59].


وجه الاستدلال:

أن الحديث يقتضي الأمر بالصبغ، ولم يقيد صبغًا دون صبغ، فبأي شيء صبغ الرجل فقد امتثل الأمر.


الدليل الثالث:

(629-193) ما رواه أحمد، قال: ثنا يزيد وابن نمير قالا: ثنا محمد بن عمرو عن أبي سلمة عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((غيروا الشيب ولا تشبهوا باليهود ولا بالنصارى))[60].

[إسناده حسن][61].


وجه الاستدلال:

أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - أمر بتغيير الشيب، فله أن يغيره بأي شيء؛ لأن الحديث مطلق لم يقيد بشيء.


الدليل الرابع:

(630-194) ما رواه مسلم، قال: حدثنا يحيى بن يحيى، أخبرنا أبو خيثمة، عن أبي الزبير، عن جابر قال: أتي بأبي قحافة - أو جاء عام الفتح أو يوم الفتح - ورأسه ولحيته مثل الثغام أو الثغامة، فأمر أو فأمر به إلى نسائه، قال: ((غيروا هذا بشيء))[62].


وجه الاستدلال من الحديث كالاستدلال بالحديثين السابقين.

وأجيب عن هذا:

بأن الأمر المطلق بتغيير الشيب مقيد بالأحاديث الأخرى، وهو النهي عن الأسود، كما في حديث جابر وأنس وغيرهما.


الدليل الخامس:

(631-195) ما رواه ابن ماجه قال: حدثنا أبو هريرة الصيرفي محمد بن فراس، نا عمر بن الخطاب بن زكريا الراسبي، ثنا دفاع بن دغفل السدوسي، عن عبدالحميد بن صيفي، عن أبيه، عن جده صهيب الخير قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إن أحسن ما اختضبتم به لهذا السواد؛ أرغب لنسائكم فيكم، وأهيب لكم في صدور عدوكم.

[إسناده ضعيف][63].


الدليل السادس:

أن أبا بكر صبغ بالحناء والكتم، والحناء والكتم يعطي نوعًا من اللون الأسود؛ وذلك لأن الأسود درجات، منه: الأسود الداكن، ومنه الأسود الفاتح، وبينهما درجات، يسميه بعضهم باللغة المعاصرة البني الغامق، وهي لون من درجات اللون الأسود، فلما أذن في الحناء والكتم دل على إذنه بالأسود، لكن قد يكون الحناء له نفع للبشرة والشعر، فخص بالنص، وهو دليل على جوازه بغير الحناء والكتم مما يعطي لونهما، والله أعلم.


دليل القائلين بأنه يجوز للمرأة دون الرجل:

قالوا: إن الزينة للمرأة مطلوبة؛ ولذلك جاز لها خضاب اليدين والرجلين، ولا يجوز ذلك في حق الرجل، وجاز لها لبس الذهب دون الرجل، والأحاديث الواردة إنما ثبتت في حق الرجل، كحديث: "وجنبوه السواد"، وحديث: "يكون قوم آخر الزمان يخضبون بهذا السواد" قد جاء في بعض ألفاظه: "يخضبون لحاهم بالسواد"، والله أعلم.

هذا بعض ما وقفت عليه من أدلة الفريقين، والقول بالتحريم قول قوي، والقول بالكراهة أقوى، وهو قول السواد الأعظم من الأمة، بل إن التحريم إنما هو وجه عند بعض أصحاب الشافعي فقط، والوجه الآخر مكروه فحسب، وما عداهم من المذاهب الأربعة بين مجيز وكاره.


فهذا أبو يوسف ومحمد بن الحسن يريان الجواز، وقال ابن عابدين: ومذهبنا أن الصبغ بالحناء والوسمة حسن كما في الخانية. وهذا مالك يقول: لا أعلم فيه شيئًا.


وهذا الإمام أحمد يكره الصبغ، ويفسرها أكثر أصحابه بأنها كراهة تنزيه.


والصواب أن كل ما قيل: مكروه، في كتب المذاهب الفقهية، ولم نعلم أنهم يريدون به كراهة التحريم، فإنه يحمل على كراهة التنزيه:

أولاً: لأن اصطلاح الكراهة عند الفقهاء يختلف اصطلاحه في نص الشارع، وإنما اشتهر هذا المصطلح - أعني إطلاق الكراهة - على كراهة التنزيه عند الفقهاء.


ثانيًا: أنهم صرحوا بالمقصود به، فلا نتكلف في صرفه[64].


وقد حاولت قدر الإمكان عرض أدلة الفريقين بكل حياد؛ لأن نصوص المعرفة حق للقارئ، لا يجوز إذا رجحت قولاً أن أغمط أدلة القول الآخر؛ ولأن فهم النص قد أُوافَق عليه وقد أُخَالف، وفرق بين رأي العالم واجتهاده وبين النص؛ لأنا لو جعلنا فهم النص بمنزلة النص ألغينا الاجتهاد، والعصمة إنما هي للنص، وليست لفهم النص، فلا يخلط بينهما، فيبقى على طالب العلم أن يذكر النصوص، والقارئ يرجح ما يراه، ولا ينبغي أن نصادر حق القارئ بالترجيح، فأتحامل فأسوق كل دليل أراه يؤيد رأيي، ولو كان بتأويل سائغ أو غير سائغ، وأغض الطرف عن أدلة القول الآخر بسبب أنه لم يترجح لي، وأتكلف التأويل، ورحم الله ابن القيم، فإنك حين تقرأ له مسألة خلافيه، يجمع لكل قولٍ ما يمكن أن يكون مؤيدًا له، ويسوق له الأدلة من هنا وهناك؛ حتى تظن أنه يرى هذا القول، ثم في آخر الأمر يتبين لك أنه لا يراه، ولكن فرق بين أن أعطي كل قول حقه من الأدلة، وبين أن أغمط أدلته؛ خشية أن يترجح لغيري خلاف ما ترجح لي.


وأحكام الإسلام منها ما هو واضح بيِّن، ومنها ما هو خفي، وهو ما عناه الرسول - صلى الله عليه وسلم - بقوله: ((الحلال بيِّن، والحرام بيِّن، وبينهما أمور مشتبهات))، فبعض المسائل من الأمور المتشابهة، والذي ينبغي على طالب العلم أن يستفرغ وسعه في فهم النص ودلالته، وليست كل مسألة يكون الفرق بين القولين فيهما كما بين السماء والأرض، ففي أحيان كثيرة يكون الترجيح هو اطمئنان النفس وميلها إلى أحد القولين، وهذا الميل يكفي في ترجيح أحد القولين، ولا يكلف الله نفسًا إلا وسعها، ولكن إذا كانت المسألة كذلك ينبغي أن يتورع الإنسان من الطعن في أي من الأقوال المحتملة، والله أعلم.


وإني حين أرجح كراهية تغيير الشيب بالسواد؛ ذلك لأن ما يختاره الإنسان للناس غير ما يختاره الإنسان لنفسه، فإن على الباحث أن لا يوقِّع بتحريم شيء إلا وقد ظهر له ظهورًا جليًّا من نص صريح لا خلاف في ثبوته؛ وذلك لأنه يخبر عن حكم الشرع، لا عن سلوك يرتضيه لنفسه، والاحتياط ليس في جانب المنع، بل الاحتياط هو أن لا يتجرأ أحد على التحريم إلا بدليل صريح صحيح، فمن ظهر له هذا، فهو وذاك، ومن لم يظهر له، فمن أين يقوله؟ والله - سبحانه وتعالى - يقول:

﴿ وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ ﴾} [النحل: 116][65] بل إن التحريم أشد من الإباحة؛ وذلك أن الإباحة لا تحتاج إلى دليل؛ لأنها الأصل، بخلاف التحريم.



[1] قال الحافظ في الفتح(6/499): "ويستثنى من ذلك - يعني النهي عن الصبغ بالأسود - المجاهد اتفاقًا".

[2] أسنى المطالب(1/173)، وقال النووي في المجموع(1/345): "اتفقوا على ذم خضاب الرأس واللحية بالسواد، ثم قال الغزالي في الإحياء، والبغوي في التهذيب، وآخرون من الأصحاب: هو مكروه، وظاهر عباراتهم أنه كراهة تنزيه، والصحيح بل الصواب أنه حرام، وممن صرح بتحريمه صاحب الحاوي في باب الصلاة بالنجاسة، قال: إلا أن يكون في الجهاد، وقال في آخر كتابه(الأحكام السلطانية): يَمْنَع المحتسب الناس من خضاب الشيب بالسواد إلا المجاهد". اهـ

وانظر معالم القربة في معالم الحسبة(ص: 197، 198)، وفتاوى الرملي(2/27).

[3] حاشية ابن عابدين(6/422)، الجوهرة النيرة(2/282).

[4] المنصوص عن مالك في الموطأ(2/949): "قال يحيى: سمعت مالكًا يقول في صبغ الشعر بالسواد: لم أسمع في ذلك شيئًا معلومًا، وغير ذلك من الصبغ أحب إليَّ. قال: وترك الصبغ كله واسع - إن شاء الله - ليس على الناس فيه ضيق" إلخ كلامه - رحمه الله.

وقال محمد بن رشد في البيان والتحصيل(17/166- 168): "أما صبغ الشعر بالحنا والكتم والصفرة، فلا اختلاف بين أهل العلم في أن ذلك جائز، ثم قال:

وأما الخضاب بالسواد، فكرهه جماعة من العلماء، ثم ذكر حديث قصة مجيء أبي قحافة، ثم قال: وقد صبغ بالسواد جماعة، منهم: الحسن والحسين ومحمد بنو علي بن أبي طالب، وسرد جماعة من التابعين. وانظر الفواكه الدواني(2/307)،

[5] اختاره الغزالي والبغوي، انظر المجموع(1/345).

[6] جاء في كتاب الوقوف والترجل(ص: 138): "أخبرنا أحمد بن محمد بن حازم، أن إسحاق بن منصور حدثهم، أنه قال لأبي عبدالله: يكره الخضاب بالسواد؟

قال: إي والله مكروه. ونقله ابن قدامة في المغني(1/67)، وانظر الإنصاف(1/123)، كشاف القناع(1/77).

[7] قال ابن عابدين في حاشيته(6/756): "ومذهبنا أن الصبغ بالحناء والوسمة حسن كما في الخانية، وقال أيضًا: والأصح أنه لا بأس به في الحرب وغيره".

وقال في الفتاوى الهندية: "وعن الإمام - يعني أبا حنيفة - أن الخضاب حسن بالحناء والكتم والوسمة". اهـ والوسمة السواد.

[8] قال في حاشية ابن عابدين(6/ 422): "وبعضهم جوزه بلا كراهة - يعني الصبغ بالأسود - روي عن أبي يوسف أنه قال: كما يعجبني أن تتزين لي، يعجبها أن أتزين لها".

[9] قال محمد بن الحسن: "لا نرى بالخضاب بالوسمة والحناء والصفرة بأسًا، وإن تركه أبيض فلا بأس بذلك، كل ذلك حسن"؛ الموطأ لمالك رواية محمد بن الحسن(ص:331).

[10] سيأتي النقول عنهم - إن شاء الله تعالى - في ثنايا البحث.

[11] روى ابن أبي شيبة(5/183)، قال: حدثنا ابن علية، عن ابن عون، كانوا يسألون محمدًا - يعني ابن سيرين - عن الخضاب بالسواد، فقال: لا أعلم به بأسًا.

[وسنده صحيح].

[12] روى ابن أبي شيبة(5/183) حدثنا وكيع وابن مهدي، عن سفيان، عن سعد بن إبراهيم، عن أبي سلمة أنه كان يخضب بالسواد.

[13] روى ابن أبي شيبة(5/183) قال: حدثنا وكيع، عن عبدالله بن عبدالرحمن بن موهب، قال: رأيت نافع بن جبير يختضب بالسواد.

[14] روى ابن أبي شيبة في المصنف(5/183) حدثنا وكيع، عن عمرو بن عثمان، قال: رأيت موسى بن طلحة يختضب بالوسمة.

وإسناده صحيح، وعمرو بن عثمان هو عمرو بن عثمان بن عبدالله بن موهب، ثقة.

[15] روى ابن أبي شيبة في المصنف(5/183) حدثنا وكيع، عن سفيان، عن حماد، عن إبراهيم، قال: لا بأس بالوسمة، إنما هي بقلة.

[16] جاء في كتاب الوقوف والترجل للخلال(ص: 139): "أخبرنا عبدالله بن العباس، حدثنا إسحاق بن منصور، قال: قلت لإسحاق: قال - يعني ابن راهويه -: الخضاب بالسواد للمرأة؟ قال: لا بأس بذلك للزوج أن تتزين له.

[17] فتح الباري(6/499).

[18] صحيح مسلم(2102).

[19] هذا الحديث مداره على أبي الزبير، عن جابر.

يرويه عن أبي الزبير زهير بن معاوية، وابن جريج، وليث بن أبي سليم، وعزرة بن ثابت، والأجلح، وأيوب السختياني.

فرواه زهير بن معاوية، وعزرة بن ثابت عن أبي الزبير، عن جابر، ولم يقولوا: وجنبوه السواد، ورواية زهير صريحة أن أبا الزبير لم يذكرها أصلاً في الحديث.

ورواه الباقون بذكرها، والحديث له شواهد سنأتي على ذكرها أثناء تخريج الحديث - إن شاء الله تعالى.

والحديث - كما سبق - مداره على أبي الزبير، عن جابر، ويرويه عنه جماعة كالآتي:

الطريق الأول: زهير بن معاوية عن أبي الزبير:

أخرجه الطيالسي(1753) حدثنا زهير، عن أبي الزبير، قال: قلت له: أحدثك جابر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال لأبي قحافة: "غيروا، وجنبوه السواد"؟ قال: لا.

وهذه الرواية مختصرة، والنفي في الحديث المقصود به أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - لم يقل: وجنبوه السواد، وأما الأمر بالتغيير، فهو ثابت من طريق زهير؛ فقد أخرجه أحمد(3/338)، قال: ثنا حسن وأحمد بن عبدالملك، قالا: ثنا زهير، عن أبي الزبير، عن جابر، قال أحمد في حديثه: ثنا أبو الزبير، عن جابر، قال: أتي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بأبي قحافة - أو جاء عام الفتح - ورأسه ولحيته مثل الثغام أو مثل الثغامة. قال حسن: فأمر به إلى نسائه، قال:((غيروا هذا الشيب))، قال حسن: قال زهير: قلت لأبي الزبير: أقال: "جنبوه السواد"؟ قال: لا.

وأخرجه مسلم(2102) حدثنا يحيى بن يحيى، أخبرنا أبو خيثمة، عن أبي الزبير، عن جابر قال: أتي بأبي قحافة - أو جاء عام الفتح أو يوم الفتح، - ورأسه ولحيته مثل الثغام، أو الثغامة، فأمر أو فأمر به إلى نسائه قال:((غيروا هذا بشيء)).

وأبو خيثمة: هو زهير بن معاوية.

وأخرجه ابن الجعد في مسنده(2652) من طريق شبابة، نا أبو خيثمة به.

وأخرجه الطبراني في الكبير(9/41) رقم 8327 من طريق عمرو بن خالد الحراني، ثنا زهير به.

واختلف على زهير بن معاوية، فرواه عنه من سبق:

1- يحيى بن يحيى عند مسلم.

2- أبو داود الطياليسي في مسنده.

3 - حسن بن موسى عند أحمد.

4 - أحمد بن عبدالملك عند أحمد.

5 - شبابة كما في مسند ابن الجعد.

6 - عمرو بن خالد كما عند الطبراني، ستتهم رووه عن زهير بن معاوية، عن أبي الزبير عن جابر، وليس فيه ذكر السواد، بل في بعضها التصريح على أنها ليست في الحديث.

وخالفهم إبراهيم بن إسحاق بن مهران، فرواه ابن عبدالبر في الاستيعاب(1773) من طريق إبراهيم بن إسحاق بن مهران، عن شيخ مسلم يحيى بن يحيى، عن زهير بن معاوية به بذكر: "وجنبوه السواد"، ولا شك أن هذا وهم في رواية زهير بن معاوية، فلو خالف إبراهيم مسلمًا وحده، لكان ذلك علة، فكيف وقد خالف ستة رواة ممن رووه عن زهير بدونها؟!

الطريق الثاني: عزرة بن ثابت، عن أبي الزبير:

أخرجه النسائي في الكبرى(5/416) وفي الصغرى(5242) قال: أخبرنا محمد بن عبدالأعلى، قال: حدثنا خالد - وهو ابن الحارث - قال: حدثنا عزرة - وهو ابن ثابت - عن أبي الزبير، عن جابر قال: أتي النبي - صلى الله عليه وسلم - بأبي قحافة، ورأسه ولحيته كأنه ثغامة، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: غيروا - أو اخضبوا. اهـ هذا لفظ الصغرى، ولفظ الكبرى: " يروا هذا، خضبوا لحيته".

ولم يقل: وجنبوه السواد. ورجاله إلى أبي الزبير كلهم ثقات أثبات. وأخرجه الحاكم في المستدرك(3/173) من طريق خالد بن الحارث، ثنا عزرة بن ثابت به.

فهنا ثقتان: زهير بن معاوية، وعزرة بن ثابت يرويانه عن أبي الزبير، عن جابر بدون "وجنبوه السواد"، وفي طريق زهير ينقل عن أبي الزبير أنه يصرح أن قوله: "وجنبوه السواد" ليست في الحديث.

ويشهد له ما رواه أحمد(6/349) وابن حبان(7208) والطبراني في الكبير(24/88) رقم 236 من طريق يعقوب بن إبراهيم بن سعد، عن أبيه، عن ابن إسحاق، حدثني يحيى بن عباد بن عبدالله بن الزبير، عن أبيه، عن جدته أسماء، وفيه:((غيروا هذا من شعره))، ولم يقل: وجنبوه السواد، وسوف يأتي الكلام على هذا الطريق إن شاء الله تعالى.

الطريق الثالث: ابن جريج، عن أبي الزبير:

أخرجه مسلم(2102) قال: حدثني أبو الطاهر، أخبرنا عبدالله بن وهب، عن ابن جريج، عن أبي الزبير، عن جابر بن عبدالله قال: أتي بأبي قحافة يوم فتح مكة، ورأسه ولحيته كالثغامة بياضًا، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:((غيروا هذا بشيء، واجتنبوا السواد)).

وأخرجه أبو داود(4204)، ومن طريقه أخرجه البيهقي في السنن الكبرى(7/310) قال: حدثنا أحمد بن عمرو بن السرح وأحمد بن سعيد الهمداني، قالا: ثنا ابن وهب به.

وأخرجه النسائي( 5076 ) قال: أخبرنا يونس بن عبدالأعلى، قال: حدثنا ابن وهب به.

وأخرجه ابن حبان(12/285) رقم 5471 من طريق أبي الطاهر بن السرح، قال: حدثنا ابن وهب به.

وأخرجه البيهقي في الكبرى(7/310) وفي شعب الإيمان(5/215) من طريق بحر بن نصر، وأبي الطاهر بن السرح عن ابن وهب به.

وأخرجه أبو عوانة(2/74) من طريق يونس بن عبدالأعلى وبحر بن نصر كلاهما، عن ابن وهب به.

الطريق الرابع: ليث بن أبي سليم، عن جابر:

أخرجه عبدالرزاق(11/154) قال: أخبرنا معمر، عن ليث، عن أبي الزبير، عن جابر، قال: أتي بأبي قحافه إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم الفتح كأن رأسه ثغامة بيضاء، فقال:((غيروه، وجنبوه السواد)).

ومن طريق عبدالرزاق أخرجه أحمد(3/322)، وأبو عوانة(5/514)، والطبراني في الكبير(9/40) رقم 8324.

وأخرجه ابن أبي شيبة في المصنف(5/182) رقم 25000 ومن طريقه أخرجه ابن ماجه(3624) ثنا إسماعيل بن علية، عن ليث به.

وأخرجه أحمد أيضًا(3/316) قال: ثنا إسماعيل - يعني ابن علية - به.

الطريق الخامس: الأجلح، عن أبي الزبير:

أخرجه أبو يعلى في مسنده(1819) قال: حدثنا أبو بكر، حدثنا شريك، عن الأجلح، عن أبي الزبير، عن جابر قال: لما قدم النبي - صلى الله عليه وسلم - مكة أتي بأبي قحافة، ورأسه ولحيته كأنهما ثغامة، فقال:((غيروا الشيب، واجتنبوا السواد به))، وهذا إسناد فيه ضعف من أجل شريك بن عبدالله.

ومن طريق شريك أخرجه الطبراني في الأوسط(6/14) رقم 5658، وفي الصغير(483)،

الطريق السادس: أيوب السختياني، عن أبي الزبير:

أخرجه أبو عوانة في مسنده(5/513) حدثنا أحمد بن إبراهيم أبو علي القهستاني، قال: حدثنا عبدالرحمن بن المبارك، قال: ثنا عبدالوارث، عن أيوب، عن أبي الزبير، عن جابر قال: أتي بأبي قحافة إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - عام الفتح، وكان رأسه ولحيته مثل الثغامة، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:((ابعثوا به إلى عند نسائه، فليغيرنه، وليجنبنه السواد)).

وهذا إسناد صحيح إلى أبي الزبير.

أحمد بن إبراهيم أبو علي له ترجمة في تاريخ بغداد، قال عنه الخطيب: أحاديثه مستقيمة حسان تدل على حفظه وتثبته. تاريخ بغداد(4/9).

وعبدالرحمن بن المبارك من رجال التهذيب، ثقة روى له البخاري. وبقية الإسناد مشهورون.

وأخرجه الطبراني في الكبير(9/41) رقم 8326 ثنا يحيى بن معاذ التستري، ثنا يحيى بن غيلان، ثنا عبدالله بن بزيغ، عن روح بن القاسم، عن أيوب السختياني به.

الطريق السابع: مطر بن طهمان الوراق، عن أبي الزبير:

أخرجه الطبراني في الكبير(8325) حدثنا الحسن بن علوية القطان، ثنا إسماعيل بن عيسى العطار، ثنا داود بن الزبرقان، عن مطر الوراق وليث بن أبي سليم، عن أبي الزبير به.

وهذا إسناد ضعيف جدًّا؛ فيه داود بن الزبرقان، وهو متروك، وفيه مطر بن طهمان الوراق كثير الخطأ.

وقد اختلف فيه على مطر بن طهمان:

فرواه داود بن الزبرقان عنه كما سبق.

وأخرجه الطبراني في الكبير(9/41) رقم 8328 قال: حدثنا خلف بن عمرو العكبري، ثنا الحسن بن الربيع البوراني، ثنا عبدالعزيز بن عبدالصمد العمي، عن مطر بن طهمان الوراق يكنى بأبي رجاء، عن أبي رجاء العطاري، عن جابر بن عبدالله قال: جيء بأبي قحافة إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ورأسه ولحيته كأنها ثغامة، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:((اذهبوا إلى بعض نسائه يغيرنه))، قال: فذهبوا به فحمروها.

[20] قال الخطيب في الكفاية(ص: 138): "ما قولكم فيمن أنكر شيخه أن يكون حدثه بما رواه عنه؟

قيل: إن كان إنكاره لذلك إنكار شاكٍّ متوقف، وهو لا يدرى هل حدثه به أم لا، فهو غير جارح لمن روى عنه، ولا مكذب له، ويجب قبول هذا الحديث والعمل به؛ لأنه قد يحدِّث الرجل بالحديث وينسى أنه حدث به، وهذا غير قاطع على تكذيب من روى عنه، وإن كان جحوده للرواية عنه جحود مصمم على تكذيب الراوي عنه، وقاطع على أنه لم يحدثه، ويقول: كذب عليَّ، فذلك جرح منه له، فيجب أن لا يعمل بذلك الحديث وحده من حديث الراوي، ولا يكون هذا الإنكار جرحًا يبطل جميع ما يرويه الراوي؛ لأنه جرح غير ثابت بالواحد، ولأن الراوي العدل أيضًا يجرح شيخه، ويقول: قد كذب في تكذيبه لي، وهو يعلم أنه قد حدثني، ولو قال: لا أدري حدثته أو لا؟ لوقفت في حاله، فأما قوله: أنا أعلم أني ما حدثته، فقد كذب، وليس جرح شيخه له أولى من قبول جرحه لشيخه، فيجب إيقاف العمل بهذا الخبر، ويرجع في الحكم إلى غيره، ويجعل بمثابة ما لم يرو".

وقال ابن كثير في مختصر علوم الحديث المطبوع مع الباعث الحثيث(1/310): "مسألة: وإذا حدث ثقة، عن ثقة بحديث، فأنكر الشيخ سماعه بالكلية:

فاختار ابن الصلاح أنه لا تقبل روايته عنه؛ لجزمه بإنكاره، ولا يقدح ذلك في عدالة الراوي عنه فيما عداه، بخلاف ما إذا قال: لا أعرف هذا الحديث من سماعي، فإنه تقبل روايته عنه، وأما إذا نسيه، فإن الجمهور يقبلونه". اهـ

لكن يعكر عليه قوله في(ص: 283): "إن أهل العلم كافة اتفقوا على العمل باللفظ الزائد في الحديث إذا قال راويه: لا أحفظ هذه اللفظة، وأحفظ أني رويت ما عداها... إلخ

إلا أن يقال: إن قوله: "لا أحفظ" ليس بمثابة قوله: "أحفظ أني لم أروها"؛ لأن هناك فرقًا بين النفي والإثبات، والله أعلم. وعلى كل حال قد يختلف الحال من راوٍ لآخر، وقد يوجد إنكار لفظة من طريق تثبت من طريق آخر، فكل حالة لها حكم خاص أشبه بزيادة الثقة والشذوذ، ومنه يتبين هل يكون إنكار راويه يبطلها أو لا يبطلها، وقد يعرف من أين أتى الخطأ من الشيخ أو من التلميذ حال تتبع الحكم على الزيادة من جميع الطرق والشواهد، والله أعلم.

[21] الوقوف والترجل(ص: 138).

[22] عصمة بن عصام، له ترجمة في تاريخ بغداد، وذكر عنه أنه يروى عن حنبل، ولم يذكر راويًا عنه سوى الخلال، ولم يذكر فيه شيئًا من جرح أو تعديل. تاريخ بغداد(12/288).

وأما حنبل فهو وإن كان ثقة في نفسه، إلا أنه تكلم فيما ينفرد به عن أحمد:

قال ابن تيمية في مجموع الفتاوى(16/405): "وحنبل ينفرد بروايات يغلطه فيها طائفة كالخلال وصاحبه".

وقال ابن رجب عن رواية حنبل في شرحه للبخاري(2/367): "وهو ثقة، إلا أنه يهم أحيانًا، وقد اختلف متقدمو الأصحاب فيما تفرد به حنبل عن أحمد، هل تثبت به رواية عنه أم لا؟".

وقال أيضًا(7/229): "كان أبو بكر الخلال وصاحبه لا يثبتان بما تفرد به حنبل عن أحمد رواية". اهـ

ومن أخطائه ما نسبه إلى أحمد، وهو غير معروف عنه من مذهبه: من تأويل قوله تعالى: {وَجَاءَ رَبُّكَ} [الفجر: 22]، قال: وجاء أمر ربك، وهذا خلاف مذهب السلف.

ونسب أيضًا للإمام أحمد أن الإمام يتحمل عن المأموم تكبيرة الإحرام في حال السهو، قال ابن رجب: وهذه رواية غريبة عن أحمد، لم يذكرها الأصحاب، والمذهب عندهم أنها لا تجزئه، كما لا تجزئ عن الإمام والمنفرد، وقد نقله غير واحد عن أحمد، والله أعلم. وانظر زاد المعاد(5/392).

[23] وقد أجاد الدكتور حمزة بن عبدالله المليباري في كتابه القيم: عبقرية الإمام مسلم، في ذكر هذه الخاصية للإمام مسلم، واستنبطها من مقدمة مسلم، فقد قال مسلم في كتابه: إنه قسم الأحاديث إلى ثلاثة أقسام:

قال مسلم: "فأما القسم الأول، فإنا نتوخى أن نقدم الأخبار التي هي أسلم من العيوب من غيرها وأنقى من أن يكون ناقلوها أهل استقامة في الحديث، وإتقان لما نقلوا، ولم يوجد في روايتهم اختلاف شديد، ولا تخليط فاحش، كما قد عثر فيه على كثير من المحدثين، وبان ذلك في حديثهم".

فتبين أن مسلم يقدم الحديث الأنقى، ثم يعقبه بالحديث الذي أقل منه درجة، وقد يكون في الحديث الثاني علة، فيكون ذلك كالتنبيه عليها، فجزى الله الشيخ حمزة خيرًا، وإني أنصح بقراءة كتب الشيخ؛ لاهتمامه بطريقة المتقدمين من المحدثين، والله أعلم.

[24] جنة المرتاب بنقد المغني عن الحفظ والكتاب(ص: 477، 487).

[25] مسند أحمد(3/160).

[26] تخريج حديث الباب:

الحديث أخرجه أبو يعلى(2831) حدثنا الحسن بن أحمد بن أبي شعيب الحراني، حدثنا محمد بن سلمة به. ومن طريق الحسن بن أحمد بن أبي شعيب أخرجه ابن حبان(5472).

ورواه الطحاوي في شرح مشكل الآثار(3686) حدثنا ابن أبي داود، قال: حدثنا عبدالغفار بن داود الحراني، قال: حدثنا محمد بن سلمة به.

من طريق محمد بن سلمة الحراني وأخرجه الحاكم في المستدرك(3/244) والبزار كما في كشف الأستار(2981).

والحديث اختلف فيه على هشام بن حسان، فرواه محمد بن سلمة، عن هشام، عن ابن سيرين، عن أنس، بذكر قصة أبي قحافة كما في حديث الباب.

ورواه عبدالله بن إدريس، عن هشام به، كما عند مسلم(2341) ولم يذكر قصة أبي قحافة.

فقد أخرجه مسلم، قال: حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة وابن نمير وعمرو الناقد جميعًا، عن ابن إدريس، قال عمرو: حدثنا عبدالله بن إدريس الأودي، عن هشام، عن ابن سيرين، قال: سئل أنس بن مالك: هل خضب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ قال: إنه لم يكن رأى من الشيب إلا - قال ابن إدريس: كأنه يقلله - وقد خضب أبو بكر وعمر بالحناء والكتم.

ومن طريق ابن أبي شيبة أخرجه الطحاوي في مشكل الآثار(3685).

وعبدالله بن إدريس أحفظ من محمد بن سلمة، ولا مقارنة.

ومع هذا فقد توبع عبدالله بن إدريس، تابعه ثقتان، هما: روح، ووهب بن جرير. فقد رواه أحمد(3/206) قال أحمد: ثنا روح، ثنا هشام، عن محمد قال:

سألت أنس بن مالك: هل خضب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ قال: لم يكن رأى من الشيب إلا - يعني يسيرًا - وقد خضب أبو بكر وعمر أحسب بالحناء والكتم.

ورواه الطحاوي في شرح مشكل الآثار(3691) عن بكار بن قتيبة، قال: حدثنا وهب بن جرير، قال: حدثنا هشام بن حسان، عن محمد بن سيرين، قال: قلت لأنس: هل كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يخضب؟ فقال: إنه لم يكن رأى من الشيب إلا قليلاً، ولم يذكر سوى ذلك، ولكن قد خضب أبو بكر وعمر بالحناء والكتم. اهـ

فهؤلاء ثلاثة حفاظ رووه عن هشام بن حسان، ولم يذكروا ما ذكره محمد بن سلمة. كما رواه غير هشام عن ابن سيرين، ورواه جمع عن أنس من غير طريق ابن سيرين، ولم يذكروا قصة أبي قحافة، وهذا يجعلني أجزم أن ذكر قصة أبي قحافة في حديث أنس ليست محفوظة، والله أعلم.

أما من رواه عن ابن سيرين، فقد رواه البخاري من طريق أيوب، عن محمد بن سيرين. أخرجه البخاري(5894) حدثنا معلى بن أسد، حدثنا وهيب، عن أيوب، عن محمد بن سيرين، قال: سألت أنسًا: أخضب النبي - صلى الله عليه وسلم -؟ قال: لم يبلغ الشيب إلا قليلاً.

ومن طريق معلى بن أسد أخرجه مسلم(2341) والبيهقي(7/309).

وأخرجه أبو داود الطيالسي(2100) قال: حدثنا هارون، قال: حدثنا محمد بن سيرين، قال:

سألنا أنسًا: هل خضب النبي - صلى الله عليه وسلم -؟ فقال: لم يبلغ ذلك - وذكر قلة من شيبة - ولكنْ أبو بكر - رحمه الله - خضب بالحناء والكتم.

وأخرجه مسلم(2341) قال: حدثنا محمد بن بكار بن الريان، حدثنا إسماعيل بن زكريا، عن عاصم الأحول، عن ابن سيرين، قال: سألت أنس بن مالك: هل كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خضب؟ فقال: لم يبلغ الخضاب، كان في لحيته شعرات بيض. قال: قلت له: أكان أبو بكر يخضب؟ قال: فقال: نعم بالحناء والكتم.

وأخرجه أبو يعلى الموصلي في مسنده(2729) بإسناد مسلم.

فهؤلاء أيوب، وعاصم الأحول، وهارون رووه بما يوافق رواية عبدالله بن إدريس ووهب بن جرير وروح عن هشام عن ابن سيرين، أفيكون محمد بن سلمة مقدمًا على هؤلاء الستة؟! لا شك أن طريقة جمهور المحدثين تأبى قبول زيادة الثقة مطلقًا، وإنما الترجيح للأكثر والأحفظ، وقد اجتمعا في روايتنا هذه.

وأما من رواه عن أنس من غير طريق ابن سيرين، فإليك تخريج رواياتهم:

الطريق الأول: قتادة، عن أنس:

أخرجه أحمد(3/192) قال: ثنا بهز، ثنا همام، عن قتادة، قال:

سألت أنس بن مالك: أخضب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ قال: لم يبلغ ذلك، إنما كان شيء في صدغيه، ولكنْ أبو بكر - رضي الله تعالى عنه - خضب بالحناء والكتم.

وأخرجه البخاري(3550) قال: حدثنا أبو نعيم، حدثنا همام به.

وأخرجه الترمذي في الشمائل(36) حدثنا محمد بن بشار، أنا أبو داود، أنا همام به.

وأخرجه النسائي في المجتبى(5086) حدثنا محمد بن المثنى، قال: حدثنا أبو داود، قال: حدثنا همام به.

وأخرجه مسلم(2341) والنسائي(5087) من طريق المثنى بن سعيد، عن قتادة، عن أنس.

الطريق الثاني: ثابت، عن أنس:

أخرجه أحمد(3/227) حدثنا يونس، حدثنا حماد - يعني: ابن زيد - عن ثابت، أن أنسًا سئل: خضب النبي - صلى الله عليه وسلم -؟ قال: لم يبلغ شيب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما كان يخضب، ولو شئت أن أعد شمطاتٍ كن في لحيته لفعلت، ولكنَّ أبا بكر كان يخضب بالحناء والكتم، وكان عمر يخضب بالحناء.

ومن طريق حماد بن زيد أخرجه البخاري(5895)، ومسلم(2341)، وأبو داود(4209)، وأبو يعلى في مسنده(3364).

وأخرجه عبدالرزاق(20178)(20185) من طريق معمر، عن ثابت، عن أنس. ومن طريق عبدالرزاق أخرجه الترمذي في الشمائل(37)، والبغوي(3653).

الطريق الثالث: حميد، عن أنس:

أخرجه أحمد(3/100) من طريق معتمر بسند صحيح.

وأخرجه أيضًا(3/108) وابن ماجه(3629) من طريق ابن أبي عدي بسند صحيح، كلاهما عن حميد، عن أنس.

وأخرجه أحمد أيضًا(3/178) حدثنا سهل بن يوسف، عن حميد به، وسنده صحيح. وأخرجه أحمد(3/188) حدثنا محمد بن عبدالله، حدثنا حميد به، وسنده صحيح.

وأخرجه أحمد(3/201) وعبد بن حميد(1414) عن يزيد بن هارون، عن حميد، وسنده صحيح.

الطريق الرابع: أبو إياس معاوية بن قرة، عن أنس: أخرجه مسلم(2341).

هذه بعض الطرق إلى أنس، وأعترف أنني لم أتقصاها كلها، ومع ذلك فقد وقفت على عشرة طرق في الحديث، لا يذكرون ما ذكره محمد بن سلمة.

منها ثلاثة طرق يروونه عن هشام، عن ابن سيرين، عن أنس.

ومنها ثلاثة طرق يروونه عن ابن سيرين، عن أنس.

ومنها أربعة طرق عن أنس، فالباحث بهذا يستطيع أن يجزم بوهم محمد بن سلمة.

[27] شرح مشكل الآثار(3684).

[28] المحاربي مدلس، وقد ذكره الحافظ في المرتبة الثالثة ممن لا تقبل عنعنته، وقد يقال: إنه من أصحاب المرتبة الرابعة؛ لكونه يدلس عن المجهولين والمتروكين.

قال العقيلي: حدثنا عبدالله بن أحمد بن حنبل، قال: عرضت على أبي حديثًا حدثناه علي بن الحسن أبو الشعثاء وأبو كريب، قالا: حدثنا المحاربي، عن معمر، عن الزهرى، عن سعيد بن المسيب، عن أبي سعيد الخدري، قال: سئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن التشبيه في الصلاة، فقال:((لا ينصرف حتى يسمع صوتًا، أو يجد ريحًا))، فأنكره أبي واستفظعه، ثم قال لي: المحاربي عن معمر؟ قلت: نعم، فأنكره جدًّا. قال أبو عبدالله: ولم نعلم أن المحاربي سمع من معمر شيئًا، وبلغنا أن المحاربي كان يدلس. الضعفاء الكبير(2/347).

وقال العقيلي أيضًا: حدثنا عبدالله بن أحمد، قال: قيل لأبي: إن المحاربي حدث عن عاصم، عن أبي عثمان، عن جرير: تبنى مدينة بين دجلة ودجيل، فقال: كان المحاربي جليسًا لسيف بن محمد بن أخت سفيان، وكان سيف كذابًا، وأظن المحاربي سمعه منه. المرجع السابق. فانظر كيف يتهم بالتدليس عن الكذابين؟

ومع عنعنته، فقد رواه غيره بدون زيادة: "وجنبوه السواد":

أخرجه أحمد(6/349-350) قال: ثنا يعقوب، قال: ثنا أبي، عن ابن إسحاق، قال: حدثني يحيى بن عباد بن عبدالله بن الزبير، عن أبيه، عن جدته أسماء بنت أبي بكر، في حديث طويل، وفيه: قالت: لما دخل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مكة ودخل المسجد، أتاه أبو بكر بأبيه يعوده، فلما رآه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال:((هلا تركت الشيخ في بيته حتى أكون أنا آتيه فيه))، قال أبو بكر: يا رسول الله، هو أحق أن يمشي إليك من أن تمشي أنت إليه، قال: فأجلسه بين يديه، ثم مسح صدره، ثم قال له: أسلم، فأسلم، ودخل به أبو بكر - رضي الله تعالى عنه - على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ورأسه كأنه ثغامة، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:((غيروا هذا من شعره...)) الحديث. وليس فيه ذكر السواد.

فهذا إبراهيم بن سعد رواه عن ابن إسحاق، ولم يذكر ما ذكره المحاربي، والحديث في صحيح ابن حبان(7208) والطبراني في الكبير(24/88) رقم 236 من طريق يعقوب بن إبراهيم بن سعد به، وليس فيه: "وجنبوه السواد "، فهذا الحديث يشهد لحديث زهير بن معاوية، عن أبي الزبير، عن جابر أن الحديث ليس فيه: "وجنبوه السواد "، والطريق مختلف والقصة واحدة.

كما رواه الطبراني في الكبير(24/89) من طريق جرير بن حازم، عن ابن إسحاق به. وقال: مثله؛ أي: مثل رواية إبراهيم بن سعد. ومعنى ذلك عدم ورودها في رواية جرير بن حازم.

ورواه الحاكم في المستدرك(3/46) والبيهقي في دلائل النبوة(5/95) من طريق يونس بن بكير، عن ابن إسحاق، وليس فيه: "وجنبوه السواد".

وجاء ذكر السواد من طريق آخر، فقد أخرجه أحمد(3/247) قال: حدثنا قتيبة، قال: أخبرنا ابن لهيعة، عن خالد بن أبي عمران، عن سعد بن إسحاق بن كعب بن عجرة، عن أنس بن مالك، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: غيروا الشيب، ولا تقربوه السواد.

ورواه الطبراني في الأوسط(142) من طريق يحيى بن بكير، عن ابن لهيعة به، بنحوه.

وفي هذا الإسناد ابن لهيعة، وقد رأى بعضهم تحسين حديثه إذا كان من طريق من روى عنه قبل أن تحترق كتبه. والراجح أنه ضعيف مطلقًا، لكن رواية العبادلة عنه أعدل من غيرها كما قال الحافظ، وهذه العبارة لا تقتضي تحسين حديثه.

قال عبدالرحمن بن أبي حاتم: سئل أبو زرعة عن ابن لهيعة سماع القدماء منه؟ فقال: آخره وأوله سواء، إلا أن ابن المبارك وابن وهب كانا يتتبعان أصوله فيكتبان منه، وهؤلاء الباقون كانوا يأخذون من الشيخ، وكان ابن لهيعة لا يضبط، وليس ممن يحتج بحديثه. الجرح والتعديل(5/145).

فهذا نص على أنه ضعيف مطلقًا، وإن كان قد يتفاوت الضعف، فرواية ابن المبارك أخف ضعفًا.

وقال عمرو بن علي: عبدالله بن لهيعة احترقت كتبه، فمن كتب عنه قبل ذلك مثل ابن المبارك وعبدالله بن يزيد المقري أصح من الذين كتبوا بعدما احترقت الكتب، وهو ضعيف الحديث. المرجع السابق.

وهذا النص ليس فيه أن ما يرويه العبادلة صحيح مطلقًا، إنما كلمة(أصح) لا تعني الصحة كما هو معلوم، ولذلك قال: وهو ضعيف الحديث، هذا حاله قبل احتراق كتبه وبعدها.

قال ابن أبي حاتم: قلت لأبي إذا كان من يروي عن ابن لهيعة مثل بن المبارك وابن وهب يحتج به؟ قال: لا. الجرح والتعديل(5/145).

وقال ابن حبان: قد سبرت أخبار ابن لهيعة من رواية المتقدمين والمتأخرين عنه فرأيت التخليط في رواية المتأخرين عنه موجودًا، وما لا أصل له من رواية المتقدمين كثيرًا، فرجعت إلى الاعتبار فرأيته كان يدلس عن أقوام ضعفاء، عن أقوام رآهم ابن لهيعة ثقات، فالتزقت تلك الموضوعات به. قال عبدالرحمن بن مهدي: لا أحمل عن ابن لهيعة قليلاً ولا كثيرًا؛ كتب إلي ابن لهيعة كتابًا فيه: حدثنا عمرو بن شعيب، قال عبدالرحمن، فقرأته على ابن المبارك، فأخرجه إلي ابن المبارك من كتابه، عن ابن لهيعة قال حدثني: إسحاق بن أبي فروة، عن عمرو بن شعيب.

ثم قال ابن حبان: وأما رواية المتأخرين عنه بعد احتراق كتبه، ففيها مناكير كثيرة،؛ وذاك أنه كان لا يبالي ما دفع إليه قراءة، سواء كان ذلك من حديثه أو غير حديثه، فوجب التنكب عن رواية المتقدمين عنه قبل احتراق كتبه؛ لما فيها من الأخبار المدلسة عن الضعفاء والمتروكين، ووجب ترك الاحتجاج برواية المتأخرين عنه بعد احتراق كتبه؛ لما فيه مما ليس من حديثه. المجروحين(2/11).

وهذا عين التحرير: أن رواية المتقدمين عنه فيها ما يدلسه عن الضعفاء، ورواية المتأخرين عنه فيها ما ليس من حديثه.

وجاء في ضعفاء العقيلي(2/294): "حدثنا محمد بن عيسى، قال: حدثنا محمد بن علي، قال سمعت: أبا عبدالله، وذكر ابن لهيعة، وقال: كان كتب عن المثنى بن الصباح، عن عمرو بن شعيب، وكان بعد يحدث بها عن عمرو بن شعيب نفسه.

وهذا صريح بأن ابن لهيعة يدلس عن الضعفاء.

وحديثنا هذا قد عنعنه ابن لهيعة وقد ذكره الحافظ ابن حجر في المرتبة الخامسة، والمرتبة الخامسة قال فيها الحافظ:

الخامسة: من ضعف بأمر آخر سوى التدليس، فحديثهم مردود، إلا بما صرحوا فيه بالسماع إلا إن توبع من كان ضعفه منهم يسيرًا كابن لهيعة.

قلت: هذا الطريق بهذا الإسناد لا أعلم أحدًا تابع فيه ابن لهيعة، فهو ضعيف، والله أعلم.

وأما رواية قتيبة بن سعيد عن ابن لهيعة، فهل تكون بمنزلة رواية العبادلة فتعتبر أعدل من غيرها أم لا؟ فالراجح فيه أن قتيبة بن سعيد سمع من ابن لهيعة بآخرة.

أولاً: أن قتيبة بن سعيد صغير، فقد ولد كما قال هو سنة 150 هـ، وخرج للرحلة من بغداد سنة 172 هـ، وكان عمره ثلاثًا وعشرين سنة، وكان احتراق كتب ابن لهيعة سنة 169هـ وحضر قتيبة جنازة ابن لهيعة سنة ثلاث وسبعين أو أربع وسبعين ومائة، فمن أين له أن يكون سماعه قديمًا، ولذلك قال أبو بكر الأثرم: وسمعت أبا عبدالله أحمد بن حنبل وذكر قتيبة، فأثنى عليه، وقال: هو من آخر من سمع من ابن لهيعة. انظر الجرح والتعديل(7/ 140). وتهذيب الكمال(23/528).

وأما ما رواه الذهبي في السير(8/17) قال: "قال جعفر الفريابي: سمعت بعض أصحابنا يذكر أنه سمع قتيبة يقول: قال لي أحمد بن حنبل: أحاديثك عن ابن لهيعة صحاح؟ فقلت: لأنا كنا نكتب من كتاب ابن وهب، ثم نسمعه من ابن لهيعة".

فهذه القصة إن لم يكن لها إلا هذا الإسناد، فإنه ضعيف؛ لأن جعفرًا الفريابي لم يسمعها، إنما قال: سمعت بعض أصحابنا يذكر... وذكرها، فلم يذكر لنا من هم بعض أصحابه؟ هل ممن يعتد به في النقل والجرح أم لا؟ فلا تعارض الحقائق التاريخية التي قدمتها، ولا تعارض ما رواه أبو بكر الأثرم سماعًا عن أحمد من أن قتيبة من آخر من سمع من ابن لهيعة، والله أعلم.

ثم وقفت على إسناد آخر في تهذيب الكمال(15/487): "قال أبو عبيد الآجري: سمعت أبا داود يقول: سمعت قتيبة يقول: كنا لا نكتب حديث ابن لهيعة إلا من كتب ابن أخيه، أو كتب ابن وهب، إلا ما كان من حديث الأعرج".

وعلى كل حال الذي أراه أن العبادلة روايتهم عن ابن لهيعة ليست صحيحة، إنما هي أعدل من غيرها فحسب، ولا أزيد على هذا، والله أعلم.

[29] المعجم الأوسط(5/23) رقم 4568.

[30] في إسناده داود بن فراهيج.

قال النسائي: ضعيف. الضعفاء والمتروكين(183).

قال يحيى بن سعيد القطان: كان شعبة يضعف حديث داود بن فراهيج. الجرح والتعديل(3/422).

واختلف قول يحيى بن معين فيه:

فقال عثمان بن سعيد الدارمي: سألت يحيى بن معين، عن داود بن فراهيج كيف حديثه؟ فقال: ليس به بأس.

وقال ابن أبي حاتم: قرئ على العباس بن محمد الدوري: سئل يحيى بن معين عن داود بن فراهيج، فقال: ضعيف الحديث. المرجع السابق.

وقال أبو حاتم الرازي: صدوق. المرجع السابق.

وذكره العقيلي في الضعفاء(2/40).

وقال ابن عدي: لا أرى بمقدار ما يرويه بأسًا. الكامل(3/81).

وقال الساجي: كان أحمد يضعفه. تعجيل المنفعة(ص: 282).

وقال حنبل بن إسحاق عن أحمد: مديني صالح الحديث. المرجع السابق.

وقال أبو حاتم: تغير حين كبر، وهو ثقة صدوق. انظر الكواكب النيرات(ص:162) رقم 21.

وفيه أبو غسان محبوب بن عبدالله النميري: لم أقف له على ترجمة، وقد ذكره المزي في تهذيب الكمال من تلاميذ محمد بن زياد اليشكري، انظر تهذيب الكمال(25/223).

وشيخ الطبراني عبدان بن أحمد، جاء في تذكرة الحفاظ: الإمام رحلة الوقت صاحب التصانيف.

وقال الحافظ أبو علي النيسابوري: رأيت من أئمة الحديث أربعة، فذكر عبدان، وقال: فأما عبدان، فكان يحفظ مائة ألف حديث.

وقال الذهبي: لعبدان غلط، ووهم يسير، وهو صدوق. التذكرة(2/688).

وقال الهيثمي في مجمع الزوائد(5/161): رواه الطبراني في الأوسط، وفيه داود بن فراهيج، وثقه يحيى القطان وغيره، وضعفه جماعة، وفيه من لم أعرفهم.

كما جاء حديث أبي هريرة من طرق أخرى، فإليك إياها:

الطريق الأول: ما رواه ابن عدي في الكامل(5/219) والبيهقي في السنن الكبرى(7/311) من طريق أبي حامد أحمد بن محمد بن الحسن الحافظ، عن الحسن بن هارون، ثنا مكي بن إبراهيم، أنا عبدالعزيز بن أبي رواد، عن محمد بن زياد، عن أبي هريرة - رضي الله تعالى عنه - ذكر النبي - صلى الله عليه وسلم - قال:((غيروا الشيب، ولا تشبهوا باليهود، واجتنبوا السواد)).

وهذا إسناد ضعيف؛ فيه الحسن بن هارون، وهو نيسابوري، وليس هو الحسن بن عفان، ولا ابن سليمان.

قال ابن حبان: الحسن بن هارون من أهل نيسابور، يروي عن مكي بن إبراهيم، ثنا عنه أبو حامد الشرقي. الثقات(5/347).

قلت: أبو حامد الشرقي: هو الحافظ أبو حامد أحمد بن محمد بن الحسن.

وعليه فالراوي لم يرو عنه إلا أبو حامد الشرقي، ولم يوثقه إلا ابن حبان، فهو ضعيف.

وفيه عبدالعزيز بن أبي رواد:

قال أحمد: عبدالعزيز بن أبي رواد رجل صالح، وكان مرجئًا، وليس هو في التثبت مثل غيره. الجرح والتعديل(5/349).

وقال يحيى بن معين: ثقة! المرجع السابق.

وذكره العقيلي في الضعفاء(3/6).

وقال علي بن الجنيد: كان ضعيفًا، وأحاديثه منكرات. تهذيب التهذيب(6/301).

وقال الدارقطني: هو متوسط في الحديث، وربما وهم في حديثه. المرجع السابق.

وقال ابن عدي: ولعبدالعزيز بن أبي رواد غير حديث، وفي بعض رواياته ما لا يتابع عليه. الكامل(5/290).

وقال ابن حبان: كان ممن غلب عليه التقشف، حتى كان لا يدري ما يحدث به، فروى عن نافع أشياء لا يشك من الحديث صناعته إذا سمعها أنها موضوعة، كان يحدث بها توهمًا لا تعمدًا، ومن حدث على الحسبان، وروى على التوهم حتى كثر ذلك منه، سقط الاحتجاج به، وإن كان فاضلاً في نفسه، وكيف يكون التقي في نفسه من كان شديد الصلابة في الإرجاء، كثير البغض لمن انتحل السنن. المجروحين(2/136).

قلت: ومن أوهامه ما رواه الخطيب في الجامع(1/347) من طريق حدثني الوليد، عن عبدالعزيز بن أبي رواد، عن نافع، عن ابن عمر، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يتنور في كل شهر، ويقلم أظفاره في كل خمس عشرة.

إلا أن يكون الحمل فيه على الوليد.

ومنها ما رواه أبو الشيخ في أخلاق النبي - صلى الله عليه وسلم - وآدابه(4/107) من طريق الوليد بن مسلم، عن عبدالعزيز بن أبي رواد، عن نافع، عن ابن عمر، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يقص أظفاره يوم الجمعة، والله أعلم.

طريق آخر لحديث أبي هريرة رواه الحارث في مسنده كما في إتحاف الخيرة المهرة(6/132) رقم 5625 قال: ثنا أبو الوليد خالد بن الوليد الجوهري - والصواب خلف بن الوليد كما في بغية الباحث - ثنا عباد بن عباد، عن معمر، عن الزهري أن أبا بكر أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - بأبيه يوم فتح مكة، وهو أبيض الرأس واللحية، كأن رأسه ولحيته ثغامة بيضاء، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ألا تركت الشيخ حتى أكون أنا آتيه، ثم قال: اخضبوه وجنبوه السواد.

وهو في بغية الباحث رقم(581). والحديث مرسل، والمرسل ضعيف.

وانفرد بهذا عباد عن معمر، وعباد وإن كان ثقة إلا أن له أوهامًا، وأين أصحاب معمر عن هذا الحديث لو كان من حديث معمر؟

قال ابن جرير الطبري: وكان عباد بن عباد ثقة غير أنه كان يغلط أحيانًا فيما يحدث. تاريخ بغداد(11/101).

وقال ابن سعد: كان ثقة وربما غلط. الطبقات الكبرى(7/327).

وقال أيضًا: كان معروفا بالطلب، حسن الهيئة، ولم يكن بالقوي في الحديث. المرجع السابق(7/290).

ووثقه يعقوب بن شيبة، وأبو داود والنسائي وابن معين وغيرهم. انظر تهذيب التهذيب(5/83).

وقال عبدالرحمن بن أبي حاتم: سألت أبي - رحمه الله - عن عباد بن عباد المهلبي، فقال: صدوق لا بأس به. قيل له: يحتج بحديثه؟ قال: لا. الجرح والتعديل(6/82)، وعلى كل حال، فعباد ثقة قد جاوز القنطرة، ولكن حديثه هذا مرسل، والله أعلم.

[31] مسند أحمد(1/273).

[32] قال الحافظ ابن حجر في الفتح(6/499): "ولأبي داود، وصححه ابن حبان من حديث ابن عباس مرفوعًا:((يكون قوم في آخر الزمان يخضبون كحواصل الحمام لا يجدون ريح الجنة))؛ وإسناده قوي، إلا أنه اختلف في رفعه ووقفه، وعلى تقدير ترجيح وقفه، فمثله لا يقال بالرأي؛ فحكمه الرفع.

قلت: لم أقف على هذا الاختلاف في الحديث من مخرج واحد، فليتأمل.

وهذا الإسناد مداره على عبيدالله بن عمرو الرقي، عن عبدالكريم، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس.

واختلف في عبدالكريم، فورد في أكثر الروايات غير منسوب.

وورد في سنن أبي داود(4212) من طريق توبة.

وعند البيهقي في شعب الإيمان(5/215) رقم 6414 من طريق هلال بن العلاء الرقي، عن أبيه وعبدالله بن جعفر، ثلاثتهم عن عبيدالله بن عمرو الرقي عن عبدالكريم الجزري، مصرحًا بأنه الجزري.

ورأى ابن الجوزي أنه ابن أبي المخارق، فذكره في الموضوعات، قال(1455): "هذا حديث لا يصح عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والمتهم به عبدالكريم بن أبي المخارق أبو أمية البصري"اهـ

فتعقبه الحافظ ابن حجر في القول المسدد( ص: 48 ) فقال: "أخطأ ابن الجوزي؛ فإن عبدالكريم الذي هو في الإسناد هو ابن مالك الجزري، الثقة المخرج له في الصحيح"، ثم ذكر من خرج الحديث. اهـ

وقال ابن عراق في التنزيه(2/275): وسبق الحافظَ ابن حجر إلى تخطئة ابن الجوزي في هذا الحديث الحافظُ العلائي.

والحق مع الحافظ؛ للأسباب التالية:

أولاً: أنه ذكر منسوبًا عند أبي داود، وسنده صحيح، وعند البيهقي في شعب الإيمان، وسنده حسن.

ثانيًا: أن عبيدالله بن عمرو الرقي لا يروي عن ابن أبي المخارق، فلم يذكر المزي في تهذيب الكمال أنه من تلاميذه، بينما معروف أن عبيدالله الرقي يروي عن الجزري، وهذه قرينة في أن عبدالكريم هو الجزري، بل ذكر الحديث في تحفة الأشراف(4/424) من مسند عبدالكريم الجزري، عن سعيد، عن ابن عباس.

وعبيدالله بن عمرو راوية الجزري، لكن تفرد الجزري عن سعيد بن جبير بهذا الحديث، ولم يروه غيره من أصحاب سعيد بن جبير كأيوب والمنهال بن عمرو وغيرهما.

وقد قال ابن حبان: كان صدوقًا، ولكنه كان ينفرد عن الثقات بالأشياء المناكير، فلا يعجبني الاحتجاج بما انفرد من الأخبار، وإن اعتبر معتبر بما وافق الثقات من حديثه فلا ضير، وهو ممن أستخير الله فيه. المجروحين(2/146).

وقال يعقوب بن شيبة: هو إلى الضعف ما هو، وهو صدوق، وقد روى عنه مالك، وكان ممن ينقي الرجال. تهذيب التهذيب(6/333).

والحق أن عبدالكريم ثقة، متفق على ثقته، وتعميم ابن حبان غير مرضي، ولم ينتقد حديث عبدالكريم إلا في روايته عن عطاء، وابن حبان إذا جرح عمَّم، لكن الأئمة قد يعلون الحديث إذا تفرد به ثقة عن أقرانه، وكان أصلاً في الباب، ولم يصححه معتبر، فكيف وقد اختلف في إسناده ومتنه؟ وإليك بيانه:

الحديث رواه عبيدالله بن عمرو، عن عبدالكريم الجزري، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس كما سبق.

ورواه الحكيم الترمذي في المنهيات(199) من طريق أبي حمزة السكري، عن عبدالكريم، عن مجاهد، أنه ذكر عن ابن عباس، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: يكون في آخر الزمان قوم يصبغون بالسواد، لا ينظر الله إليهم يوم القيامة.

وعبدالكريم هذا هو الجزري؛ لأن أبا حمزة السكري لا يروي إلا عن الجزري، ومجاهد لم يصرح أنه سمعه من ابن عباس.

والأول أقوى إسنادًا، والحكيم الترمذي متكلم فيه، لكنه قد توبع على الأقل في ذكر مجاهد.

فقد رواه الخلال في كتاب الترجل(ص:139) أخبرنا يحيى، قال: أخبرنا عبدالوهاب، قال: أخبرنا هشام بن عبدالله، عن عبدالكريم بن أبي أمية، عن مجاهد، قال: يكون قوم في آخر الزمان يسودون شعورهم، لا ينظر الله إليهم يوم القيامة.

وهذا إسناد حسن إلى عبدالكريم بن أبي أمية، رجاله كلهم ثقات إلا عبدالوهاب، فإنه صدوق، وهنا صرح في الإسناد أن عبدالكريم هو ابن أبي أمية المتروك.

كما أن فيه مخالفة أخرى، وهو أن المتن ليس فيه: "لا يريحون رائحة الجنة".

كما أن هشامًا توبع في كون الحديث من قول مجاهد، فقد روى عبدالرزاق في المصنف(20183) قال: أخبرنا معمر، عن خلاد بن عبدالرحمن، عن مجاهد، قال: يكون في آخر الزمان قوم يصبغون بالسواد لا ينظر الله إليهم، أو قال: لا خلاق لهم.

وهذا إسناد رجاله كلهم ثقات.

وأما ما رواه ابن أبي شيبة في المصنف(5/148) رقم 25031 قال: حدثنا ملازم بن عمرو، عن موسى بن نجدة، عن جده زيد بن عبدالرحمن، قال: سألت أبا هريرة: ما ترى في الخضاب بالوسمة؟ فقال: لا يجد المختضب بها ريح الجنة.

فهذا إسناد ضعيف؛ فيه موسى بن نجدة لم يرو عنه غير ملازم بن عمرو، ولم يوثقه أحد؛ ولذلك قال الحافظ: مجهول.

ورواه الخلال في الوقوف والترجل(ص: 139): أخبرنا محمد بن علي، حدثنا مهنا، قال: حدثني أبو عصام داود، حدثنا زهير بن محمد العنبري، عن الحسن، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يكون قوم يغيرون البياض بالسواد، قال مرة: يغيرون بياض اللحية والرأس بالسواد، يسود الله وجوههم يوم القيامة.

وهذا مع كون إسناده ضعيفًا، فإنه من مراسيل الحسن، وهي من أضعف المراسيل، والله أعلم.

وأما قول الحافظ ابن حجر في الفتح(6/499): "ولأبي داود، وصححه ابن حبان من حديث ابن عباس مرفوعًا:((يكون قوم في آخر الزمان يخضبون كحواصل الحمام، لا يجدون ريح الجنة))؛ وإسناده قوي، إلا أنه اختلف في رفعه ووقفه، وعلى تقدير ترجيح وقفه، فمثله لا يقال بالرأي؛ فحكمه الرفع".

فإن كان يعني الحافظ أنه موقوف على صحابي، فمسلم، ولم أقف عليه موقوفًا على ابن عباس.

وإن كان يقصد الحافظ أنه موقوف على مجاهد، فليس بجيد؛ لأن قول التابعي قولاً لا مجال للرأي فيه كأن يكون من الغيبيات، هل يكون له حكم الرفع؟ بحيث يقال: إنه في حكم المرسل. أو يقال: إنه موقوف عليه، وفرق بينه وبين الصحابي من وجوه:

الأول: أن الصحابي الغالب منه أنه يروي عن صحابي مثله، أو عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - وبالتالي الواسطة ثقة، فيكون له حكم الرفع، بينما التابعي قد يروي عن تابعي آخر، والتابعي الآخر قد يكون حافظًا، وقد لا يكون.

الوجه الثاني: أنه على التسليم بأن له حكم المرسل، فمرسل التابعي ضعيف، بخلاف مرسل الصحابي - رضي الله عنه.

الوجه الثالث: إذا كنا نشترط في الصحابي ألا يكون ممن يروي عن الإسرائيليات إذا أخبر بأمور غيبية من قوله، فما بالك بالتابعي؟ وعلى كل حال، فهذا البحث من المباحث الأصولية الحديثية التي ينبغي أن تحرر من أقوال المجتهدين، وعمل المحدثين.

فالشاهد: هل هذا الاختلاف يؤثر في الحديث أم لا؟

قد يقال: لا يؤثر؛ لأن الاختلاف إذا اختلف مخرج الحديث لا يعل الموقوف المرفوع، بل ربما يقويه. ووجهه:

عندنا رواية مجاهد فيها اختلاف:

فقيل: عن مجاهد يذكر عن ابن عباس.

وقيل: عن مجاهد من قوله. والراجح من رواية مجاهد أنها من قوله؛ لأنها أقوى إسنادًا.

أما رواية عبدالكريم الجزري عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، فهي طريق آخر لم يأت من طريق مجاهد، فيكون الحديث من هذا الطريق محفوظًا. وهذا القول وجيه جدًّا.

وأما حديث أبي هريرة فضعيف جدًّا؛ لأن في إسناده راويًا مجهولاً عينًا.

وأما مرسل الحسن، فهو ضعيف أيضًا فيه علتان:

كونه مرسلاً، وفي إسناده من تكلم فيه.

وقد يقال: إن هذا الاختلاف مؤثر فيه:

ذلك أن طريق مجاهد وطريق سعيد بن جبير، كلاهما قيل فيه: عن ابن عباس.

ومع ذلك ثبت عن مجاهد من قوله.

وعبدالكريم تارة ينسب إلى الجزري الثقة في طريق عبيدالله بن عمرو الرقي.

وتارة ينسب إلى ابن أبي أمية كما في طريق هشام الدستوائي.

وتارة عن الحسن مرسلاً، وتارة من مسند أبي هريرة.

ولا يكفي أن يكون طريق عبيدالله بن عمرو مستقلاًّ حتى يكون مقبولاً، فالعلماء يعلون الحديث للمخالفة، ولو كان الطريق مستقلاًّ، فإذا كان الأكثر أو الأحفظ على إرساله أو وقفه، رجح على الموصول والمرفوع، وأقرب مثال على هذا ما رواه ابن أبي شيبة(1/171) رقم 1973، وأحمد وغيرهما ثنا وكيع، ثنا سفيان، عن أبي قيس، عن هزيل بن شرحبيل، عن المغيرة بن شعبة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - توضأ، ومسح على الجوربين والنعلين.

فهذا إسناد رجاله كلهم ثقات، وهو طريق مستقل كما أفصح عنه ابن دقيق العيد، فقال في نصب الراية(1/180): "ومن يصححه يعتمد بعد تعديل أبي قيس على كونه ليس مخالفًا لرواية الجمهور مخالفة معارضة، بل هو أمر زائد على ما رووه، ولا يعارضه، ولا سيما وهو طريق مستقل برواية هزيل عن المغيرة، لم يشارك المشهورات في سندها. اهـ

وقال ابن التركماني في الجوهر النقي عن رواية هذيل عن أبي قيس(1/284): "ثم إنهما لم يخالفا مخالفة معارضة، بل رويا أمرًا زائدًا على ما رووه بطريق مستقل غير معارض، فيحمل على أنهما حديثان". اهـ

ومع كونه طريقًا مستقلاًّ فقد أعله الأئمة بالمخالفة، وإليك النقول عنهم:

قال أبو داود في السنن(159): كان عبدالرحمن بن مهدي لا يحدث بهذا الحديث؛ لأن المعروف عن المغيرة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - مسح على الخفين.

وذكر البيهقي بسنده أن عبدالرحمن بن مهدي، قال لسفيان: لو حدثتني بحديث أبي قيس عن هذيل، ما قبلته منك. فقال سفيان: الحديث ضعيف، أو واهٍ، أو كلمة نحوها.

وساق البيهقي بسنده عن محمد بن يعقوب، قال: سمعت عبدالله بن أحمد بن حنبل يقول: حدثت أبي بهذا الحديث، فقال أبي: ليس يروى هذا إلا من حديث أبي قيس، وقال أبي: إن عبدالرحمن بن مهدي أبى أن يحدث به، ويقول: هو منكر.

وساق البيهقي أيضًا بسنده عن علي بن المديني أنه قال: حديث المغيرة بن شعبة في المسح، رواه عن المغيرة أهل المدينة، وأهل الكوفة، وأهل البصرة، ورواه هذيل بن شرحبيل، عن المغيرة إلا أنه قال: ومسح على الجوربين، وخالف الناس.

وروى البيهقي أيضًا من طريق المفضل بن غسان، قال: سألت يحيى بن معين عن هذا الحديث، فقال: الناس كلهم يروونه على الخفين غير أبي قيس.

وقال النسائي في السنن الكبرى(1/83) قال أبو عبدالرحمن: ما نعلم أحدًا تابع أبا قيس على هذه الرواية، والصحيح عن المغيرة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - مسح على الخفين.

فهذا عبدالرحمن بن مهدي وأحمد وابن معين ومسلم وأبو داود والنسائي، رجحوا ضعفه؛ للمخالفة مع اختلاف الطريق، ولم يخرجه البخاري مع أنه على شرطه، فيظهر أنه لعلة المخالفة.

قال النووي في المجموع بعد أن نقل عن الأئمة المتقدم ذكرهم تضعيفهم للحديث(1/500): "هؤلاء هم أعلام أئمة الحديث، وإن كان الترمذي قال: حديث حسن، فهؤلاء مقدمون عليه، بل كل واحد لو انفرد قدم على الترمذي باتفاق أهل المعرفة..." اهـ.

فلم يمنع من إعلال الحديث مع كونه طريقًا مستقلاًّ، ونرجع لحديثنا، فمع هذا الاختلاف لا يمكن للباحث أن يجزم بصحة إسناده، مع أن القول بالتحريم يفتقر إلى إسناد صحيح خالٍ من النزاع؛ لأن الأصل الحل، ولا ننتقل عنه إلا بدليل صحيح صريح خالٍ من النزاع، وأما الذين يرون في مثل هذه المسائل أن الاحتياط التحريم، فلم يحسنوا؛ لأن الاحتياط أن يتورع المجتهد عن الجزم بتحريم شيء على الناس بمجرد الشك، ولكن لا بد في ما يختاره المجتهد لغيره من اليقين أو غلبة الظن بأن مثل هذا حرام، وأما ما يختار الإنسان لنفسه من باب الاحتياط، فالباب واسع، وقد يلزم الإنسان نفسه ما لا يلزمه أهله وولده، فضلاً عن الناس، والله أعلم.

[تخريج الحديث]:

الحديث رواه أبو داود(4212) حدثنا أبو توبة، ثنا عبيدالله، عن عبدالكريم الجزري.

وأخرجه النسائي في السنن الصغرى( 5075 ) وفي الكبرى( 9346 ) قال: أخبرنا عبدالرحمن بن عبيدالله الحلبي، عن عبيدالله، وهو ابن عمرو به.

وأخرجه أبو يعلى في مسنده(2603) حدثنا زهير، حدثنا عبدالله بن جعفر الرقي، حدثنا عبيدالله، يعني ابن عمرو به.

وأخرجه البيهقي في السنن(7/311) من طريق عمرو - يعني: ابن خالد - أنا عبيدالله بن عمرو به.

وأخرجه البيهقي في شعب الإيمان( 6414 ) وأخبرنا أبو عبدالله الحافظ، ثنا عبدالرحمن بن حمدان الجلاب بهمدان، عن هلال بن العلاء الرقي، ثنا أبي وعبدالله بن جعفر، ثنا عبيدالله بن عمرو، عن عبدالكريم الجزري به.

وأخرجه أبو عمر الداني في السنن الواردة في الفتن(319) من طريق أحمد بن زهير، حدثنا عبدالله بن جعفر الرقي به.

وأخرجه الطبراني في المعجم الكبير( 12254 ) حدثنا محمد بن عمرو بن خالد الحراني، ثنا أبي ح

وحدثنا محمد بن عبدالله الحضرمي، ثنا جندل بن والق، قالا: ثنا عبيدالله بن عمرو به. ومن طريق عبيدالله بن عمرو أخرجه البغوي في شرح السنة(3180).

[33] جنة المرتاب بنقد المغني عن الحفظ والكتاب(ص: 477).

[34] ذكره عنه ابن حجر في الفتح(10/354).

[35] النور، آية: 2.

[36] تحفة الأحوذي(5/359، 360).

[37] الموضوعات(3/230).

[38] النساء، آية: 59.

[39] قال ابن القيم في المنار المنيف: سئلت: هل يمكن معرفة الحديث الموضوع بضابط من غير أن ينظر في سنده؟

فأجاب - رحمه الله -: هذا سؤال عظيم القدر، وإنما يعلم ذلك من تضلع في معرفة السنن الصحيحة، واختلطت بلحمه ودمه، وصار له فيها ملكة، وصار له اختصاص شديد بمعرفة السنن والآثار، ومعرفة سيرة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهديه فيما يأمر به وينهى عنه، ويخبر عنه، ويدعو إليه، ويحبه، ويكرهه، ويشرعه للأمة؛ بحيث كأنه مخالط للرسول - صلى الله عليه وسلم - كواحد من أصحابه.

فمثل هذا يعرف من أحوال الرسول - صلى الله عليه وسلم - وهديه وكلامه، وما يجوز أن يخبر به، وما لا يجوز مما لا يعرفه غيره، وهذا شأن كل متبع مع متبوعه؛ فإن للأخص به الحريص على تتبع أقواله وأفعاله من العلم بها، والتمييزِ بين ما يصح أن ينسب إليه وما لا يصح - ما ليس لمن لا يكون كذلك، وهذا شأن المقلدين مع أئمتهم يعرفون أقوالهم ونصوصهم ومذاهبهم، والله أعلم. المنار المنيف(ص: 43) فلا يقطع بضعف الحديث لمجرد عظم الثواب أو العقاب إلا من الجهبذ البصير بالعلل من أئمة علل الحديث كأحمد بن حنبل - رحمه الله - ويحيى بن معين، وابن المديني، والبخاري ونحوهم.

[40] صحيح مسلم(106).

[41] الكامل(5/238).

[42] فيه عاصم بن سليمان التميمي:

قال عمرو بن على: كان كذابًا يحدث بأحاديث ليس لها أصول، كذب عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه. الجرح والتعديل(6/344). وذكر في اللسان أحاديث وضعها على رسول الله - صلى الله عليه وسلم. لسان الميزان(3/338).

وذكره العقيلي في الضعفاء، وقال: غلب على حديثه الوهم. الضعفاء الكبير(3/337).

وقال ابن أبي حاتم: سمعت أبي يقول: ضعيف الحديث متروك الحديث. الجرح والتعديل(6/344).

قال ابن عدي: كان يعد ممن يضع الحديث. لسان الميزان(3/218).

قال النسائي: متروك. المرجع السابق.

وقال الدارقطني: كذاب. المرجع السابق.

[43] الطبقات الكبرى(5/451) وفيه ثلاث علل:

الأول: في إسناده عبدالله بن المؤمل:

قال أبو زرعة وأبو حاتم: ليس بقوي. الجرح والتعديل(5/175).

وقال أحمد: ليس هو بذاك. المرجع السابق.

وقال العقيلي: لا يتابع على كثير من حديثه. الضعفاء الكبير(2/302).

وفي التقريب: ضعيف الحديث.

الثاني: أن عكرمة تابعي، فهو مرسل.

الثالث: أن قصة أبي قحافة من الأحاديث الصحيحة ليس فيها أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - قال: غيروه بحناء، وإنما الخلاف هل قال: وجنبوه السواد، أم لا؟

[44] المصنف(5/148) رقم 25033.

[45] المصنف(5/148) رقم 25023.

[46] الكامل(3/156).

[47] فيه رشدين بن سعد، جاء في ترجمته:

ضعفه أحمد بن حنبل، عن رشدين بن سعد، وقدم ابن لهيعة عليه. الجرح والتعديل(3/513).

وقال يحيى بن معين، كما في رواية ابن أبي خيثمة عنه: رشدين بن سعد لا يكتب حديثه. المرجع السابق.

وقال علي بن الحسين بن الجنيد: سمعت ابن نمير يقول: رشدين بن سعد لا يكتب حديثه. المرجع السابق.

وقال أبو حاتم الرازي: رشدين بن سعد منكر الحديث، وفيه غفلة، ويحدث بالمناكير عن الثقات، ضعيف الحديث ما أقربه من داود بن المحبر، وابن لهيعة أستر، ورشدين أضعف. المرجع السابق.

وقال أبو زرعة: ضعيف الحديث. المرجع السابق.

وقال قتيبة: كان لا يبالي ما دفع إليه فيقرأه. التاريخ الكبير(3/337).

وقال النسائي: متروك الحديث. الضعفاء والمتروكين(203).

وقال ابن سعد: كان ضعيفًا. الطبقات الكبرى(7/517).

وقال ابن عدي: ورشدين بن سعد له أحاديث كثيرة غير ما ذكرت، وعامة أحاديثه عن من يرويه عنه ما أقل فيها ممن يتابعه أحد عليه، وهو مع ضعفه يكتب حديثه. الكامل(3/149).

وذكره العقيلي في الضعفاء(2/66).

وقال ابن حبان: كان ممن يجيب في كل ما يسأل، ويقرأ كل ما يدفع إليه، سواء كان ذلك حديثه أو من غير حديثه، ويقلب المناكير في أخباره على مستقيم حديثه. المجروحين(1/303).

وفي إسناده أيضًا أبو حميد صخر بن زياد، مختلف فيه.

[48] زاد المعاد(4/369)، وذكر نحوًا من ذلك القاضي عياض، فقال في شرحه لصحيح مسلم(6/625): "وكان منهم من يخضب بالسواد، وذكر ذلك عن عمر، وعثمان، والحسن، والحسين، وعقبة بن عامر، ومحمد بن علي، وعلي بن عبدالله بن عباس، وعروة، وابن سيرين، وأبي بردة في آخرين". اهـ

[49] تهذيب السنن(6/104).

[50] المصنف(20184).

[51] المصنف(20190).

رجاله ثقات إن كان الزهري سمع من الحسين بن علي، وقد جاء في العلل لابن أبي حاتم(2/302): "سألت أبي عن حديث رواه عبدالرزاق، عن معمر، عن الزهري، قال: رأيت علي بن الحسين يخضب بالسواد، وأخبرني أن أباه كان يخضب به. قال أبي: هذا الحديث منكر" اهـ. فهنا الزهري يروي عن الحسين بن علي بواسطة ابنه علي.

لكن روى الطبراني في المعجم الكبير(3/98) حدثنا عبدالله بن أحمد بن حنبل حدثني محمد بن عبدالرحيم أبو يحيى، ثنا حسين بن محمد، ثنا جرير بن حازم، عن محمد بن سيرين، عن أنس، أن الحسين بن علي كان يخضب بالوسمة. وسنده صحيح.

والوسمة: جاء في المصباح المنير(ص: ): "الوَسِمة - بكسر السين -: العظلم يختضب به".

والعظلم جاء في لسان العرب: "عن الزهري أَنه ذُكِرَ عنده الخِضابُ الأَسْودُ فقال: وما بأْسٌ به؟ هأَنذا أَخْضِبُ بالعِظْلِمِ".

والعظلم من تَعَظْلَمَ الليلُ: أظْلَمَ واسْوَدَّ جِدًّا. والعَظْلَمَةُ: الظُّلْمَةُ. والله أعلم.

وقال ابن أبي شيبة في المصنف(5/184): باب من كره الخضاب بالسواد.

ثم ساق بسنده أن عطاء سئل عن الخضاب بالوسمة، فقال: هو مما أحدث الناس، فهذا صريح من ابن أبي شيبة أن الوسمة هي السواد.

فتبين منه أن الوسمة: هو الخضاب بالأسود.

ويؤيد هذا التفسير ما قاله ابن عبدالبر في التمهيد(21/86) قال: وذكر أبو بكر قال: حدثنا يحيى بن آدم، قال: حدثنا حماد بن زيد، عن أيوب، قال: سمعت سعيد بن جبير سئل عن الخضاب بالوسمة، فقال: يكسو الله العبد في وجهه النور فيطفئه بالسواد. ورجاله ثقات. فظهر أن الوسمة هو السواد.

وروى الطبراني في الكبير(3/99)، قال: حدثنا محمد بن عبدالله الحضرمي حدثنا أحمد بن جواس الحنفي ثنا أبو الأحوص عن أبي إسحاق عن العيزار بن حريث قال: رأيت الحسين بن علي يخضب بالسواد.

ورجاله ثقات، وبالنسبة لتغير أبي إسحاق، فالجواب: قد روى الشيخان من رواية أبي الأحوص عن أبي إسحاق في صحيحيهما، والعنعنة قد زالت بالمتابعة، والله أعلم.

وقد توبع أبو الأحوص؛ فقد رواه الدولابي في الذرية الطيبة(174) حدثنا إبراهيم بن مرزوق حدثنا عبدالله بن داود عن يونس بن أبي إسحاق عن العيزار بن حريث عن الحسين أنه كان يخضب بالوسمة.

وروى ابن أبي شيبة في المصنف(5/183) رقم 25017 حدثنا أبو بكر بن عياش عن عبدالعزيز بن رفيع عن قيس مولى خباب قال: دخلت على الحسن والحسين وهما يخضبان بالسواد. وهذا سند صالح في المتابعات، وأبو بكر بن عياش قد توبع فيه؛ فقد أخرجه الطبراني(3/98) قال: حدثنا علي بن عبدالعزيز، ثنا أبو نعيم، ثنا سفيان، عن عبدالعزيز بن رفيع، عن قيس مولى خباب به.

وقيس مولى خباب، له ترجمة في الجرح والتعديل، قال ابن أبي حاتم: روى عن الحسن والحسين ابني على وابن عمر، روى عنه عبدالعزيز بن رفيع وابن جريج؛ سمعت أبي يقول ذلك. ولم يذكر فيه جرحًا ولا تعديلاً(7/106). وقد يقوى قيس باعتباره قد توبع فيه، فإذا روى الراوي ما يتابع عليه، ولم نجد جرحًا، كان هذا دليلاً على حفظه، والله أعلم.

وأخرج ابن الجعد في مسنده(2126 )، قال: أنا شريك، عن فراس، عن عامر قال: رأيت الحسين بن علي يخضب بالسواد.

روى الطبراني في المعجم الكبير(3/21) رقم 2531 حدثنا محمد بن عبدالله الحضرمي، ثنا عبادة بن زياد، ثنا شريك، عن عبدالله بن أبي زهير مولى الحسن بن علي - رضي الله تعالى عنه - قال: رأيت الحسن بن علي - رضي الله عنه - يخضب بالوسمة.

قال الحضرمي: هكذا قال عبادة مولى الحسن، وإنما هو مولى الحسين.

وروى الطبراني في الكبير(2535)، قال: حدثنا محمد بن عبدالله الحضرمي، ثنا أبو كريب، ثنا معاوية بن هشام، عن محمد بن إسماعيل بن رجاء، عن جعفر بن محمد، عن أبيه أن الحسن بن علي - رضي الله تعالى عنه - كان يخضب بالسواد.

قال الهيثمي في المجمع(5/162): رجاله رجال الصحيح، خلا محمد بن إسماعيل بن رجاء، وهو ثقة.

روى الطبراني(3/22) رقم 2536 حدثنا محمد بن عبدالله الحضرمي، ثنا عبدالوارث بن عبدالصمد، ثنا أبي، ثنا محتسب أبو عائذ، حدثني شجاع بن عبدالرحمن، أنه رأى الحسن بن علي - رضي الله تعالى عنه - مخضوبًا بالسواد على فرس ذنوب. وسنده ضعيف.

وروى الطبراني في الكبير(2534)، قال: حدثنا محمد بن إبراهيم بن عامر بن إبراهيم الأصبهاني، حدثني أبي، عن جدي عامر، عن يعقوب القمي، عن عنبسة بن سعيد، عن إبراهيم بن مهاجر، عن الشعبي، أن الحسن بن علي - رضي الله تعالى عنه - كان يخضب بالسواد.

وروى الطبراني في الكبير(3/99) قال: حدثنا محمد بن عبدالله الحضرمي، ثنا كامل بن طلحة الجحدري، ثنا ابن لهيعة، عن عبدالرحمن بن بزرج قال: رأيت الحسن والحسين - رضي الله تعالى عنهما - ابني فاطمة - رضي الله تعالى عنها - يخضبان بالسواد، وكان الحسين يدع العنفقة. وفيه ابن لهيعة.

[52] المصنف(5/184) رقم 25025. وسنده صحيح، وقد أخرجه يعقوب بن سفيان في المعرفة والتاريخ(3/204) من طريق الليث به.

[53] العمر والشيب(4).

[54] فيه البحتري بن عبدالحميد لم أقف عليه، والحارث بن عمرو لم ينسب فيتبين لي من هو. وأخرجه ابن قتيبة(2/53) من طريق زكريا بن يحيى بن نافع الأزدي، عن أبيه، عن عمر. ولم أعرفهم.

[55] المعجم الكبير(1/138) رقم 295، وسنده ضعيف، فيه نعيم بن حماد، ورشدين، وكلاهما ضعيف، ورواه الطبراني(1/138) رقم 296 حدثنا محمد بن عبدالله الحضرمي ثنا عبدالله بن عمر بن أبان، ثنا سليم بن مسلم، عن معمر، عن الزهري، عن عامر بن سعد أن سعدًا كان يخضب بالسواد.

قال الهيثمي في مجمع الزوائد(5/162): "سليم بن مسلم لا أعرفه".

قلت: سليم بن مسلم هو الخشاب معروف، وترجمته في كتب الرجال مشهورة.

قال أحمد بن حنبل: قد رأيته بمكة، ليس يسوى حديثه شيئًا. الجرح والتعديل(4/314).

وقال يحيى بن معين: ليس بثقة، كما في رواية الدوري عنه. المرجع السابق.

وقال أبو حاتم الرازي: ضعيف الحديث، منكر الحديث. المرجع السابق.

وقال أبو زرعة: ليس بقوي. المرجع السابق.

وقال النسائي: متروك. الضعفاء والمتروكين(244).

وقال يحيى بن معين: كان ينزل مكة وكان جهميًّا خبيثًا. الضعفاء الكبير(2/164).

وقال ابن حبان: يروي عن الثقات الموضوعات، الذي يتخايل إلى المستمع لها وإن لم يكن الحديث صناعته أنها موضوعة. المجروحين(1/354).

[56] المعجم الكبير(2/291) رقم 2209، قال الهيثمي في المجمع(5/162): "سليم والراوي عنه لم أعرفهما".

[57] مجمع الزوائد(5/162، 163)، ولم أقف عليه في المعاجم الثلاثة.

[58] الموطأ(2/949).

[59] صحيح البخاري(3462)، مسلم(2103).

[60] مسند أحمد(2/261).

[61] الحديث أخرجه أحمد(2/499) عن يزيد بن هارون وحده به.

وأخرجه ابن سعد في الطبقات الكبرى(1/439) عن يزيد بن هارون وابن نمير به.

وأخرجه أبو يعلى في مسنده(5977)، قال: حدثنا وهب أخبرنا خالد عن محمد به.

وأخرجه ابن حبان(5473) قال: أخبرنا أبو يعلى قال: حدثنا محمد بن عبدالله بن نمير قال: حدثنا ابن إدريس، عن محمد به.

وأخرجه أحمد(2/356) والترمذي(1752)، وأبو يعلى(6021) من طريق عمر بن أبي سلمة، عن أبيه، عن أبي هريرة. وهذا سند صالح في المتابعات والشواهد.

[62] مسلم(2102).

[63] فيه عمر بن الخطاب بن زكريا:

روى عنه اثنان، منهم يحيى بن حكيم المقوم، وأثنى عليه خيرًا. تهذيب الكمال(21/315).

ولم أقف له على توثيق، وفي التقريب: مقبول؛ يعني: إن توبع.

دفاع بن دغفل السدوسي:

قال أبو حاتم الرازي: ضعيف الحديث. الجرح والتعديل(3/445).

وفي التقريب: مخضرم، ويقال: له صحبة، ولم يصح، نزل البصرة، غرق بفارس في قتال الخوارج قبل سنة ستين.

وقال في مصباح الزجاجة(4/93): "هذا إسناد حس‍ن، وقال في الهامش: هذا الحديث معارض لحديث النهي عن السواد، وهو أقوى إسنادًا، وأيضًا النهي يقدم عند المعارضة". اهـ والصواب أن الحديث ليس بحسن كما عرفت من رجاله، والله أعلم.

[64] قال في الفتاوى الهندية: "وعن الإمام - يعني: أبا حنيفة - أن الخضاب حسن بالحناء والكتم والوسمة". وسبق لنا معنى الوسمة أنها الصبغ بالسواد.

والخلاف بين أصحاب أبي حنيفة دائر بين الجواز، وبين الكراهة كراهة تنزيه فقط؛ فأبو يوسف ومحمد بن الحسن على الجواز، وصححه ابن عابدين، وهو ظاهر عبارة الإمام في وصفه الصبغ بالوسمة أنه حسن.

وقال مالك عن الصبغ بالأسود: لم أسمع فيه شيئًا معلومًا، وغير ذلك من الصبغ أحب إليَّ.

وقال في حاشية العدوي(2/445): "ويكره صباغ الشعر الأبيض وما في معناه من الشقرة بالسواد من غير تحريم.

وقول مالك: وغيره من الصبغ أحب إلي، علله الباجي بقوله: لأنه صبغ لم يصبغ به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وفهم أصحابه من هذه اللفظة كراهة التنزيه، واللفظة لا تقتضيه؛ لأن الكراهة حكم شرعي، وما دام لم يسمع فيه شيئًا فينبغي أن تفسر أن غيره من الصبغ مستحب، وأما هو فلم يصل إلى درجة الاستحباب؛ وذلك لأنه لم يسمع فيه شيئًا.

وبدليل أن أشهب روى عنه في العتبية: ما علمت أن فيه النهي، وإذا كان لم يعلم فيه نهيًا كيف يكون مكروهًا في المذهب؟ والله أعلم.

وقال في الفواكه الدواني(2/307): "ويكره صباغ الشعر بالسواد من غير تحريم".

وقال في الرسالة: ويكره صبغ الشعر بالسواد من غير تحريم، انظر أسهل المدارك(3/364). وإذا نص على أنه من غير تحريم، كيف تحمل الكراهة عند أصحاب مالك على كراهة التحريم؟!

وقال ابن مفلح في الفروع(1/131): "ويكره بسواد، وفاقًا للأئمة، نص عليه، وفي المستوعب والتلخيص والغنية: في غير حرب، ولا يحرم"؛ أي: إن هذه الكتب الثلاثة نصت على أنه لا يحرم؛ ولذلك قال في الإنصاف: وقال في المستوعب والغنية والتلخيص: يكره بسواد في غير حرب، ولا يحرم. انظر الإنصاف(1/123).

وقال في الآداب الشرعية(3/337): ويكره بالسواد نص عليه، ثم قال: ويحرم بالسواد على الأصح عند الشافعية. فهنا فرق بين المكروه في مذهب الحنابلة وبين الحرام في مذهب الشافعية.

وقال أيضًا: والكراهة في كلام أحمد هل هي للتحريم أو التنزيه؟ على وجهين.

يقصد أن لفظ الكراهة إذا جاء عند أحمد فأصحابه مختلفون في تفسيرها على وجهين.

وقال في مطالب أولي النهى(1/89): وكره تغيير الشيب بسواد في غير حرب، وحرم لتدليس. وقال مثله في كشاف القناع(1/77).

فهنا واضح أن الكراهة كراهة تنزيه؛ لاختلاف الحكم بين فعله من غير تدليس فيكره، أو يفعل للتدليس فيحرم.

[65] الأنعام، آية: 116. [النحل: 116].





 حفظ بصيغة PDFنسخة ملائمة للطباعة أرسل إلى صديق تعليقات الزوارأضف تعليقكمتابعة التعليقات
شارك وانشر

مقالات ذات صلة

  • حكم إعفاء اللحية وتغيير الشيب
  • وقار الشيب ونذارته
  • نتف الشيب
  • تغيير الشيب بغير السواد
  • لا تواروا الشيب
  • السواد الخير والبياض الشرير
  • الشيب في اللغة والاصطلاح
  • نصح الشيب
  • الشيب والموت في الشعر
  • الشيب رسول الموت ونذيره

مختارات من الشبكة

  • تجلية المراد في اجتناب خضب الشيب بالسواد(كتاب - موقع الشيخ فريح بن صالح البهلال)
  • نور الشيب وحكم تغييره في ضوء الكتاب والسنة (PDF)(كتاب - مكتبة الألوكة)
  • نور الشيب وحكم تغييره في ضوء الكتاب والسنة (WORD)(كتاب - مكتبة الألوكة)
  • قيادة التغيير .. تغيير القناعات (1)(مقالة - مجتمع وإصلاح)
  • قبل إِرادة التغيير إدارة التغيير(مقالة - ثقافة ومعرفة)
  • من تغيير الجو إلى تغيير الزوجة(مقالة - مجتمع وإصلاح)
  • إرادة التغيير تقتضي إدارة التغيير(مقالة - ثقافة ومعرفة)
  • غيروا الشيب واجتنبوا السواد(مقالة - آفاق الشريعة)
  • تخريج حديث: يكون قوم في آخر الزمان يخضبون بالسواد كحواصل الحمام(مقالة - آفاق الشريعة)
  • وامتزج البياض بالسواد (قصة قصيرة)(مقالة - حضارة الكلمة)

 


تعليقات الزوار
2- شكر
Abubakar Muhammad Kabara - Nigeria 30-10-2019 08:56 PM

نشكركم على هذه المعلومات القيمة فقد استفدت كثيرا من الموقع فجزاكم الله خيرا آمين.

1- جزاك الله خيرا
الصادق ابراهيم - السودان 28-06-2014 06:00 PM

جزاك الله خيرا

1 

أضف تعليقك:
الاسم  
البريد الإلكتروني (لن يتم عرضه للزوار)
الدولة
عنوان التعليق
نص التعليق

رجاء، اكتب كلمة : تعليق في المربع التالي

مرحباً بالضيف
الألوكة تقترب منك أكثر!
سجل الآن في شبكة الألوكة للتمتع بخدمات مميزة.
*

*

نسيت كلمة المرور؟
 
تعرّف أكثر على مزايا العضوية وتذكر أن جميع خدماتنا المميزة مجانية! سجل الآن.
شارك معنا
في نشر مشاركتك
في نشر الألوكة
سجل بريدك
  • بنر
  • بنر
كُتَّاب الألوكة
  • الدورة الخامسة من برنامج "القيادة الشبابية" لتأهيل مستقبل الغد في البوسنة
  • "نور العلم" تجمع شباب تتارستان في مسابقة للمعرفة الإسلامية
  • أكثر من 60 مسجدا يشاركون في حملة خيرية وإنسانية في مقاطعة يوركشاير
  • مؤتمرا طبيا إسلاميا بارزا يرسخ رسالة الإيمان والعطاء في أستراليا
  • تكريم أوائل المسابقة الثانية عشرة للتربية الإسلامية في البوسنة والهرسك
  • ماليزيا تطلق المسابقة الوطنية للقرآن بمشاركة 109 متسابقين في كانجار
  • تكريم 500 مسلم أكملوا دراسة علوم القرآن عن بعد في قازان
  • مدينة موستار تحتفي بإعادة افتتاح رمز إسلامي عريق بمنطقة برانكوفاتش

  • بنر
  • بنر

تابعونا على
 
حقوق النشر محفوظة © 1446هـ / 2025م لموقع الألوكة
آخر تحديث للشبكة بتاريخ : 9/11/1446هـ - الساعة: 17:29
أضف محرك بحث الألوكة إلى متصفح الويب