الحلقة الثامنة عشرة

أحد العشرة المشهود لهم بالجنة، وأحد الفرسان المشهورين، وأول من رمى بسهم في سبيل الله، وكان مستجاب الدعوة معروفًا بذلك، ومن المتقدمين إسلامًا، وأحد الستة الذين أوصى عمرُ أن تكون الخلافة في واحد منهم، وأول دم أريق في الإسلام كان على يد سعد.

فقد كان أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بمكة يَستخْفون بصَلاتهم، فبينا سعد في شِعب من شعاب مكة في نفر من الصحابة، إذ ظهر عليهم المشركون فنافروهم، وعابوا عليهم دينهم، حتى قاتلوهم، فضرب سعد رجلاً من المشركين بلحي جمل فشجَّه، فكان أول دم أريق في الإسلام.

ولما قدم الرسول - صلى الله عليه وسلم - المدينة، أرِقَ ذات ليلة فقال: ((ليت رجلاً صالحًا من أصحابي يحرسني الليلة))، فإذا صوت السلاح، فكان سعد بن أبي وقاص قد جاء لهذا الغرض، فدعا له الرسول - صلى الله عليه وسلم.

وفي غزوة أحد كان رجل من المشركين قد أحرق المسلمين، ورمى بسهم فأصاب ذيل أم أيمن، وكانت جاءتْ تسقي الجرحى، فضحك منها، فدفع الرسول - صلى الله عليه وسلم - لسعد سهمًا، فوقع السهم في نحر هذا المشرك، فوقع مستلقيًا وبدتْ عورته، فضحك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقال: ((استقاد لها سعد))، ورمى سعد دون رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم أحد.

قال سعد: فلقد رأيته يناولني النبل وهو يقول: ((ارمِ فداك أبي وأمي))، حتى إنه ليناولني السهم ما له نصل فيقول: ((ارم به)).

التقى المسلمون والمشركون يوم أحد، وكان عتبة بن أبي وقاص من المشركين، وسعد أخوه من المسلمين، قال سعد: والله ما حرَصتُ على قتل رجلٍ كحرصي على قتل عتبة بن أبي وقاص، وإن كان - ما علمت - لسيِّئ الخلق، مبغضًا في قومه، ولقد كفاني منه قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((اشتد غضب الله على من دمَّى وجهَ رسوله)).

لقد اشتهر سعد ببسالته وإقدامه، وعندما أراد عمر أن يرسل جيشًا لمحاربة الفرس في القادسية، وكان لهذا الأمر من الأهمية والخطورة ما جعل عمرَ يعتزم أن يتولى بنفسه قيادة هذا الجيش، ولكنه رأى أن يستشير الصحابةَ وذوي الرأي قبل الإقدام على هذه الخطوة، ولينظروا ما هو الأصلح للمسلمين، ولكنهم جميعًا أشاروا عليه بالبقاء في المدينة، وأن يولي قيادةَ هذا الجيش رجلاً ذا مقدرة وكفاءة وحسن أحدوثة.

وبينما كانوا في اجتماعهم هذا يتداولون الرأيَ فيمن يكون هذا الأمير القائد، إذا بكتاب سعد بن أبي وقاص إلى عمر، وكان سعد على صدقات هوازن، وفيه: قد انتخبت لك ألف فارس، كلهم له نجدة ورأي، وصاحب حيطة يحوط حريم قومه، ويمنع ذمارهم، إليهم انتهت أحسابهم ورأيهم، فلما وصل كتابه وافق مشورتهم، فقالوا لعمر: قد وجدتَه، قال: من هو؟ قالوا: الأسد عاديًا، سعد بن مالك، فانتهى إلى قولهم.

واتفق رأيهم على أنه أنسب الناس لتولي هذه المهمة، فاستدعاه عمر، وأمَّره على حرب العراق، ووصاه وقال: لا يغرنَّك من الله أنْ قيل: خال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وصاحبه؛ فإن الله لا يمحو السيِّئَ بالسيئ، ولكنه يمحو السيئَ بالحسن، وليس بين الله وبين أحدٍ نسبٌ إلا طاعته، فالناس شريفهم ووضيعهم في ذات الله سواء، الله ربُّهم، وهم عباده، يتفاضلون بالعافية، ويدركون ما عنده بالطاعة، فانظر الأمر الذي رأيت رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يلزمه فالزمْه، ووصاه بالصبر.

ويسير هذا الجيش بقيادة سعد، ويتكامل عدده في القادسية أربعة وثلاثين ألفًا من المقاتلة.

ولم يكن عدده متكافئًا مع قوات الفرس التي يبلغ تعدادها مائة وعشرين ألفًا، ولكن الجهاد الصادق، واليقين الثابت، لا يبالي كثرة الأعداء ولا قوتهم.

وبينما سعد في طريقه سائر إلى هدفه، ورد كتاب عمر يزوده بتوجيهاته الحكيمة:

إني ألقي في روعي أنكم إذا لقيتم العدو هزمتموهم، فاطرحوا الشك، وآثروا اليقين عليه، فمتى لاعب أحد منكم أحدًا من العجم بأمان، أو بإشارة أو بلسان، كان لا يدري الأعجمي ما كلَّمه به، وكان عندهم أمانًا، فأجروا له ذلك مجرى الأمان، وإياكم والضحكَ، والوفاءَ الوفاءَ، فإن الخطأ بالوفاء بقية، وإن الخطأ بالغدر هلكة، وفيها وهنكم، وقوة عدوكم، وذهاب ريحكم، وإقبال ريحهم، واعلموا أني أحذركم أن تكونوا شينًا على المسلمين، وسببًا لتوهينهم.

ويمضي سعد على رأس الجيش وينزل القادسية، وتتوارد الكتب بين عمر وسعد، ويستشير سعدٌ عمرَ، فيأتيه كتاب عمر التالي:

لا يكربنك ما يأتيك عنهم، ولا ما يأتونك به، واستعن بالله وتوكل عليه، وابعث إليه رجالاً من أهل المناظرة والرأي والجلد يدعونه؛ فإن الله جاعل دعاءهم توهينًا لهم.

وينفذ سعد إرشادات عمر.

ويتساءل كسرى: ماذا تريدون؟ ويجيبونه: إنهم يعرضون عليه خصالاً ثلاثًا، وعليه أن يختار واحدة: الإسلام، أو الجزية، أو الحرب.

وتدور المفاوضات، ويتعدد المفاوضون، ويصر (يزدجرد) ملك الفرس على اختيار الحرب، وقد أظهر المسلمون براعة وقدرة عظيمتين في هذه المفاوضات.

وينتخب سعد الخطباء والشعراء يحرضون المسلمين على القتال، ويرغبونهم في الجهاد.

وينشب القتال، ويحمى وطيسه، ويشتد أوار المعركة الحامية، ويُظهِر المسلمون بسالةً منقطعة النظير، ولكن الفيلة التي مع الفرس قد كرب المسلمين أمرُها، ولم تكن من مألوفاتهم.

ويرسل سعد إلى عاصم بن عمرو التميمي ويقول له: يا معشر بني تميم، ألستم أصحاب الإبل والخيل، أما عندكم لهذه الفيلة من حيلة؟

قالوا: بلى والله، وكان عاصم وقومه على ما ظن فيهم سعد، ففرت الفيلة لا تلوي على شيء.

ويأتي مدد المسلمين من الشام؛ استجابة لأمر أمير المؤمنين، وفي طليعته القعقاع بن عمرو التميمي الذي قال عنه أبو بكر: لا يهزم جيش فيه مثل هذا!