اكتشاف موقع مرحلة التقاعد في خريطة الحياة

اكتشاف موقع مرحلة التقاعد في خريطة الحياة

تُعتبَر نظرية العالم النفسي المشهور إيريك إيريكسون (Eric Ericson Developmental Stage Theory) حول مراحل النمو الإنساني، من أوائل وأهم الدراسات الكلاسيكية في هذا المجال، ولقد قسَّم إيريكسون حياة الإنسان إلى ثماني مراحل تبدأ بالولادة وتنتهي بالموت، وركَّز في هذا التصنيف على أهمية استيفاء كل مرحلة لاحتياجاتها كأساس لازم للحياة السوية، وبهذا يتحقق النمو السوي المتمثل في الانتقال الناجح إلى مرحلة أعلى من سابقتها.

لو حاولنا أن نحدد موقع حياة التقاعُد في سياق مراحل نظرية إيريكسون لوجدنا الآتي (فضلاً انظر الجدول: رقم 1):

1- تحوي نظرية إيريكسون ثماني مراحل للنمو الإنساني.

2- يُخصِّص إيريكسون في نظريته ثلاث مراحل للرشد مذكورة في الجدول المعروض أدناه.

3- هذا يَعني انحصار الفئة العمرية فوق سن الأربعين في مرحلتين فقط من المراحل الثمانية: المراحل (7 - 8).

4- لو نظرنا في المرحلتين 7 - 8 في سياق الازدياد الملحوظ في الأعمار إلى الثمانينات فما فوق، فلعلَّ هذا يشير لخلل أو قصور في النظرية، فكيف اختزلت نظرية إيريكسون حياة الإنسان فوق الأربعين (تساوي نصف حياته) في مرحلتين فقط من ثمان؟

5- لذا لا تعرض هذه النظرية - مع أهميتها - كل مراحل الإنسان.

6- تلا هذا النظرية كم هائل من البحوث في مجال علم نفس الشيخوخة والتفكير والقدرات الإبداعية في مراحل حياة الإنسان.

7- هنالك حاجة ملحَّة لتعديل النظرية.

الجدول رقم (1): مراحل تطور الرشد وفق نظرية إيريك إيريكسون، ترجمها للعربية هشام محمد سعيد قربان، 2019©

شاء الله - عز وجل - أن يلاحظ قصور نظرية إيريكسون أحد تلاميذه في جامعة هارفارد الأمريكية: الدكتور النفسي جين كوهين، وهو عالم مبرز كأستاذه، وله نتاج علمي حديث ومتميز، ولقد رأس كثيرًا من الجمعيات العالمية في مجال دراسة الشيخوخة مثل الجمعية الوطنية لأبحاث الشيخوخة (NIA: National Institute for Aging)، كما أفادت أبحاثه كثيرًا من الرصيد البحثي الذي أنتج بعد هذه النظرية، وحاول تَعديل النظرية وعرضها عرضًا متوازنًا ومفصَّلاً، فأثمرت جهود الدكتور كوهين تقسيمًا جديدًا لما أسماه: مرحلة النصف الثاني للحياة، والتي تمتد من أوائل الأربعينات إلى نهاية الحياة، وقسَّم كوهين هذه المرحلة إلى أربع مراحل فرعية (فضلاً انظر الجدول رقم 2).

يَعتمد التقسيم الجديد لمراحل نمو الإنسان على أبحاث متقدِّمة في علم نفس الشيخوخة وعلوم التفكير وتطوُّر القدرات الذهنية في مراحل الحياة، ويظهر موقعًا ومنظورًا مختلفًا لمرحلة التقاعد، وكما عرضت أبحاث الدكتور كوهين منظورًا أكثر تفصيلاً وأشد تفاؤلاً لتقييم القدرات الذهنية للإنسان في شيخوخته، فالبرغم من إثبات الأبحاث تدني سرعة التفكير مع الشيخوخة فلقد بيَّنت الأبحاث أن العقل لا يشيخ كما يشيخ البدن، فالمخ لا يتوقَّف عن إنتاج خلايا مخية جديدة، وكما يبني روابط شبكات عصبية جديدة، وكما تُظهر الأبحاث نضجًا مستمرًّا في الشيخوخة للدوائر العاطفية في المخ، وكما يقترح كوهين رياضات ذهنية عديدة للمحافظة على القوى الذهنية في الشيخوخة وتطويرها.

إن أبحاث الدكتور كوهين وغيره بشائر خير تُبطل تلك النظرة القديمة والمتشائمة حول القدرات الذهنية والفكرية في سن التقاعد والشيخوخة، ولها الآلاف من الشواهد والتجارب الحية، وفي هذا - كما لا يَخفى - أمل وتشجيع للمتقاعدين، وحث لهم لمواصلة العطاء، ولسان أبحاث هذه الدراسات يُخاطب متقاعدي العالم قائلاً: إن الله أودع فيكم قدرات ذهنية عظيمة لا تنتهي أو تضمر في سني التقاعد، بل هي نعم متجدِّدة متنامية، ولقد صح ما كنتم تقولون للعالم منذ زمن بأن لديكم قدرات وطاقات، وبمقدوركم مواصلة العطاء، فحافظوا عليها وأعملوها ومرِّنوها وروِّضوها، والعالم أجمع ينتظر مزيد عطائكم في النصف الأحلى والأجمل من حياتكم، حفظكم الله، ونفع بكم وبعلمكم وخبراتكم، والله أعلى وأعلم.

الجدول رقم (2): مراحل تطور النصف الثاني للحياة وفق نظرية جين كوهين، ترجمها للعربية هشام محمد سعيد قربان