• الصفحة الرئيسيةخريطة الموقعRSS
  • الصفحة الرئيسية
  • سجل الزوار
  • وثيقة الموقع
  • اتصل بنا
English Alukah شبكة الألوكة شبكة إسلامية وفكرية وثقافية شاملة تحت إشراف الدكتور سعد بن عبد الله الحميد
 
الدكتور سعد بن عبد الله الحميد  إشراف  الدكتور خالد بن عبد الرحمن الجريسي
  • الصفحة الرئيسية
  • موقع آفاق الشريعة
  • موقع ثقافة ومعرفة
  • موقع مجتمع وإصلاح
  • موقع حضارة الكلمة
  • موقع الاستشارات
  • موقع المسلمون في العالم
  • موقع المواقع الشخصية
  • موقع مكتبة الألوكة
  • موقع المكتبة الناطقة
  • موقع الإصدارات والمسابقات
  • موقع المترجمات
 كل الأقسام | أسرة   تربية   روافد   من ثمرات المواقع  
اضغط على زر آخر الإضافات لغلق أو فتح النافذة اضغط على زر آخر الإضافات لغلق أو فتح النافذة
  •  
    المحطة العاشرة: مقومات الإيجابية
    أسامة سيد محمد زكي
  •  
    أنماط التعليم الإلكتروني من حيث التدرج في ...
    أبو مالك هيثم بن عبدالمنعم الغريب
  •  
    وصية امرأة لابنتها في زفافها
    الشيخ محمد جميل زينو
  •  
    المحطة التاسعة: العادات
    أسامة سيد محمد زكي
  •  
    الشباب بين الطموح والواقع: كيف يواجه الجيل الجديد ...
    محمود مصطفى الحاج
  •  
    هبة فيها النجاة!
    أ. رضا الجنيدي
  •  
    بركة الزوج الصالح على الزوجة في رفع درجتها في ...
    فهد عبدالله محمد السعيدي
  •  
    تربية الأطفال في ضوء توجيهات سورة الحجرات
    محمد عباس محمد عرابي
  •  
    السلاسل الحقيقية لا ترى!
    أمين محمد عبدالرحمن
  •  
    تطوير العلاقات الإنسانية في الإسلام
    يوسف بن طه السعيد
  •  
    المحطة الثامنة: القرارات
    أسامة سيد محمد زكي
  •  
    التربية بالقدوة: النبي صلى الله عليه السلام
    محمد أبو عطية
  •  
    مهن في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم
    نجاح عبدالقادر سرور
  •  
    تزكية النفس: مفهومها ووسائلها في ضوء الكتاب ...
    عاقب أمين آهنغر (أبو يحيى)
  •  
    الإنذار المبكر من التقاعد المبكر
    هشام محمد سعيد قربان
  •  
    دور الذكاء الاصطناعي في تعزيز كفاءة العملية ...
    أبو مالك هيثم بن عبدالمنعم الغريب
شبكة الألوكة / المواقع الشخصية / مواقع المشايخ والعلماء / الشيخ عبدالله بن حمود الفريح / بحوث ودراسات
علامة باركود

تيسير الوصول إلى شرح ثلاثة الأصول (1)

الشيخ د. عبدالله بن حمود الفريح

مقالات متعلقة

تاريخ الإضافة: 14/11/2009 ميلادي - 26/11/1430 هجري

الزيارات: 36624

 حفظ بصيغة PDFنسخة ملائمة للطباعة أرسل إلى صديق تعليقات الزوارأضف تعليقكمتابعة التعليقات
النص الكامل  تكبير الخط الحجم الأصلي تصغير الخط
شارك وانشر
الحمد لله الذي يجزل العطايا، ويتفضَّل على عبده بأنواع النِّعم، فبفضله نتنعم، وبنِعَمه نتقلَّب، فما تروح نعمةٌ إلا وتغدو أخرى، فله الحمد أولاً وآخرًا، وظاهرًا وباطنًا على الوجه الذي يُرضيه عنا، ولو تأملنا النِّعم من حولنا لا نكاد نجد نعمةً هي أجلُّ وأعظم من نعمة التوحيد التي بها النجاة في الدنيا ويوم المعاد؛ ألم تقرأ قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((مَن لَقِيَ اللهَ لاَ يُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا، دَخَلَ الجنَّةَ))[1]؟

والصلاة والسلام على إمامِ وسيد الموحِّدين، الذي نافح ودافع ونشر رسالة التوحيد، حتى ذاعتْ في أصقاع الأرض، محمد بن عبدالله، عليه صلاة الله وسلامه إلى يوم الدين.

وبعد:
فأضع بين يديك - أخي المبارك - صفحاتٍ سطرت فيها فوائدَ في بيان وتوضيح هذه الرسالة الموجزة؛ رسالة "ثلاثة الأصول"، التي حوتْ عقائدَ هي أساس الدين، لمؤلِّفها الإمام المجدِّد محمد بن عبدالوهاب - رحمة الله عليه - وهي رسالة موجزة في ألفاظها؛ لكنها ثمينة في مضمونها؛ لما احتوتْه من موضوعات ينبغي لكل مسلم تفهُّمُها والعملُ بها، وحرَصتُ أن يكون الشرح متوسطًا، لا قصيرًا فيُخل، ولا طويلاً فيُمل، ولله الفضل والمنَّة، وإني أعوذ بالله من نفسي أن أتكل عليها بشيء؛ لضعفها وعجزها، ولقلة حيلتي وبضاعتي، فأنَّى لي أن أنسب لها فضلاً وعلمًا، فله الحمد والشكر، وأسأله النفع والاستزادة لي ولك أخي القارئ، إنه جواد كريم، وبالإجابة قدير جدير.

ترجمة مختصرة للإمام محمد بن عبدالوهاب
Ÿ اسمه: هو الإمام محمد بن عبدالوهاب بن سليمان بن علي التميمي الحنبلي النجدي.
Ÿ مولده: ولد الشيخ - رحمه الله - سنة 1115 للهجرة النبوية في بلدة العيينة من بلاد نجد.
Ÿ نشأته: نشأ الشيخ في بيت علمٍ وشرف ودين؛ فقد كان أبوه عبدالوهاب قاضي العيينة ومفتيها، وجده سليمان كان مفتي الديار النجدية.
نشأ الشيخ في هذه البيئة العلمية وتأثَّر بها، فقرأ القرآن وحفِظه وأتقنه قبل بلوغ عشر السنوات، ثم اشتغل بطلب العلم، قال عنه أخوه سليمان بن عبدالوهاب: كان أبوه يتعجب من فهمه، ويعترف بالاستفادة منه مع صغر سنه.
Ÿ رحلاته في طلب العلم: حين بلغ الشيخ سنَّ الرشد، قدَّمه أبوه لإمامة الصلاة، ثم طلب من والده الحجَّ فأذِنَ له، ثم قصد المدينة، ثم رجع بلدة العيينة.
Ÿ سافر إلى الحجاز في طلب العلم، وأقام بها مدة يتردَّد بين مكة والمدينة، ثم رحل إلى البصرة في العراق لطلب العلم، وأقام بها مدة يأخذ عن العلماء، ويدعو إلى التوحيد، وضرورةِ الأخذ بالكتاب والسنة.
Ÿ ثم ذهب إلى الإحساء وأخذ عن علمائها، ثم توجَّه إلى حريملاء سنة (1140) للهجرة النبوية، وبعد ذلك ارتحل إلى العيينة عام (1153) للهجرة النبوية، ثم استقرَّ بالدرعية عام (1158) للهجرة النبوية. 
Ÿ مؤلفاته: ألف الشيخ - رحمه الله - مؤلفات كثيرة، أغلبها في التوحيد، ومنها:
1- "كتاب التوحيد". 2- "كشف الشبهات". 3- "الأصول الثلاثة". 4- "مفيد المستفيد بكفر تارك التوحيد".
5- "نواقض الإسلام". 6- "مسائل الجاهلية". 7- "مختصر زاد المعاد".
Ÿ وفاته: توفي الشيخ - رحمه الله - في عام (1206) للهجرة النبوية، بعد عمر يقارب (91) سنة، عَمَرَه بالدعوة إلى التوحيد والجهاد، والعلم والتعليم - فرحمه الله رحمة واسعة.

متن ثلاثة الأصول:

هي رسالة موجزة جامعة في موضوع توحيد الربوبية والألوهية، والولاء والبراء، وغيرها من مسائل التوحيد، ذات أسلوب سهل مقرون بالدليل، واسمها المعروف "ثلاثة الأصول"، ومن الناس من يسميها "الأصول الثلاثة"؛ ولكن الأصح والأشهر الأول، ويقال: إن للشيخ رسالةً أخرى اسمها "الأصول الثلاثة" غير التي بين أيدينا، وهي رسالة صغيرة أقل من هذه علمًا؛ ليعلمها الصغار والصبيان، وأما الرسالة التي سنشرع فيها، فاسمها "ثلاثة الأصول وأدلتها".

فصل في: [الأربع المسائل التي يجب تعلمها][2]
قال المؤلف - رحمه الله -:
"بسم الله الرحمن الرحيم
اعلم - رحمك الله - أنه يجب علينا تعلُّمُ أربع مسائل:
الأولى: العلم، وهو معرفة الله، ومعرفة نبيِّه، ومعرفة دين الإسلام بالأدلة، الثانية: العمل به، الثالثة: الدعوة إليه، الرابعة: الصبر على الأذى فيه؛ والدليل قوله - تعالى -: {وَالْعَصْرِ * إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ * وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} [العصر: 1 - 3]، قال الشافعي - رحمه الله تعالى -: "لو ما أنزل الله حجة على خلقه إلا هذه السورة، لكفتْهم"، وقال البخاري - رحمه الله تعالى -: باب العلم قبل القول والعمل، والدليل قوله - تعالى -: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ} [محمد: 19]، فبدأ بالعلم قبل القول والعمل".

الشرح

الكلام على قول المؤلف من عدة وجوه:
الابتداء بالبسملة:
ابتداء المؤلف - رحمه الله - هذه الرسالة الموجزة بألفاظها، العظيمة بمعانيها، بالبسملة كسائر رسائل أهل العلم ومؤلفاتهم؛ وذلك لعدة أمور:
1- اقتداءً بكتاب الله - جل وعلا.
2- اقتداء بكتاب نبي الله سليمان - عليه السلام - قال الله - تعالى -: {إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} [النمل: 30].
3- اتِّباعًا لسُنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقد ثبت في "صحيح البخاري" من حديث أبي سفيان - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كتب كتابًا إلى هرقل، ابتدأه بـ (بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ)، فالبداءة بها سُنة متَّبَعة، ومعناها: 
(بسم): أي: أفعل أو أبدأ هذا الشيء، وهنا أبدأ بتوضيح الأصول الثلاثة وما يتبعها من مسائل، مستعينًا ومتبركًا بكل اسم لله - تعالى.
(الله): اسم من أسماء الله - تعالى - الخاصة به، ومعناه: المألوه حبًّا وتعظيمًا.
(الرحمن): اسم من أسماء الله - تعالى - الخاصة به، ومعناه: ذو الرحمة الواسعة.
(الرحيم): اسم من أسماء الله - تعالى - ومعناه: الموصل رحمته إلى من يشاء من خلقه، وهو ليس خاصًّا بالله - تعالى - فقد قال - تعالى - عن رسوله: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ} [التوبة: 128]، فالرحمن الرحيم؛ أي: ذو الرحمة الواسعة، الموصل رحمته لمن يشاء من عباده، واقتصر المؤلف على البسملة؛ لأنها أبلغ في الثناء والذِّكر.

Ÿ قال ابن القيم - رحمه الله -: "الرحمن دالٌّ على الصفة القائمة به - سبحانه - والرحيم دالٌّ على تعلُّقِها بالمرحوم، فكان الأول للوصف، والثاني للفعل، فالأول دال على أن الرحمن صفتُه، والثاني دال على أنه يرحم خلقَه برحمته، وإذا أردتَ فهم هذا فتأمَّل قوله: {وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا} [الأحزاب: 43]، {إِنَّهُ بِهِمْ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ} [التوبة: 117]، ولم يجئ قط: رحمن بهم، فعلم أن (رحمن) هو الموصوف بالرحمة، و(رحيم) هو الراحم برحمته"[3].

قول المؤلف: "اعلم رحمك الله":
(اعلم): فعل أمر من العلم، وهي كلمة يؤتى بها عند ذِكر شيء مهم ينبغي أن يُصغى إليه، وما ذَكَره المؤلف في هذه الرسالة من أصول الدين والمسائل التي تتعلق بذلك جديرٌ بأن يُهتم به، ويُصغَى إليه.

(رحمك الله): هذا دعاء من المؤلف لطالب العلم وقارئ هذه الرسالة بالرحمة، وهذا من التلطف من المعلِّم بالمتعلم، وهكذا ينبغي لمن يدعو إلى الله - تعالى - ويخاطب غيرَه ليعلِّمه ويرشده إلى ما يقرِّبه إلى ربه - جل وعلا - أن يبدأ بعبارة تدلُّ على التلطف، ولنا في رسول الله أسوة، فحينما أراد أن يرشد ابنَ عمر لقيام الليل، قال له: ((نِعْمَ العبد عبدالله، لو كان يصلي من الليل))[4]، فوقعتْ هذه الكلمةُ في قلب ابن عمر، حتى قال ابنه سالم: فكان عبدالله بعد ذلك لا ينام من الليل إلا قليلاً، فالدخول للمدعو بكلمةٍ تناسبه مما ينبغي للداعي أن ينتبه له؛ لأن هذا أدعى لقَبوله، ودعاء المؤلف لمن يعلِّمه بالرحمة من التلطف، و(رحمك الله)؛ أي: غفر الله لك ذنوبَك، هذا إذا أُفردتِ الرحمة، وإذا قُرنتْ بالمغفرة كقول: (رحمك الله وغفر لك)، فالمغفرة لما مضى، والرحمة لما يستقبل بالتوفيق والسداد والسلامة من الذنوب.

المسائل الأربع التي يجب تعلمها:
قول المؤلف - رحمه الله تعالى -: (اعلم - رحمك الله - أنه يجب علينا تعلُّم أربع مسائل)، الوجوب على قسمين:
1- وجوب عيني: وهو ما يجب على كلِّ فرد من أفراد الأمة.
2- وجوب كفائي: وهو ما يجب على عموم الأمة، فإذا فعله بعض من يكفي، سقط عن الباقين.


وما ذكره المؤلف من المسائل الأربع، منها ما يدخل تحت الواجب العيني، كالمسألة الأولى، وهي العلم، ومنها ما يدخل تحت الواجب الكفائي، كالمسألة الثانية، وهي الدعوة إليه على حسب أحوالها.

المسألة الأولى: العلم:
والمقصود بالعلم في قول المؤلف هو العلم الشرعي، والعلم الشرعي منه ما هو واجب وجوبًا عينيًّا، كتعلم أحكام الصلاة، وواجباتها، وأركانها مثلاً، ومنه ما هو واجب كفائي، كتعلم مسائل الفرائض والمواريث، وقد يكون هذا الكفائي كفائيًّا في حال شخص، ويتعيَّن في حق آخر؛ فمثلاً تعلُّم أحكام البيع ومسائله التفصيلية فرضُ كفاية، لكنها للتاجر فرض عين، والعلم الذي يقصده المؤلف هو من الواجب العيني؛ لأنه قال: "المسألة الأولى: العلم، وهو معرفة الله، ومعرفة نبيه، ومعرفة دين الإسلام بالأدلة".

وهذه هي الأصول الثلاثة التي سيأتي بيانها وتفصيلها - بإذن الله تعالى - وهي أصول الإسلام التي لا يمكن أن يقوم إلا عليها؛ فالحياة الطيبة في الدنيا لا تقوم إلا بها، وعنها يُسأل في قبره، وبها نجاتُه في الآخرة.

وقوله: "بالأدلة"، إشارة إلى أن مسائل العقائد إنما تُعرف بالدليل لا بالتقليد؛ فالتقليد لا ينفع في العقائد، وما ضلَّ مَنْ ضل في عقيدته إلا بسبب تقليده الأعمى العاري عن الدليل، أو بسبب تقديمه الاعتقادَ على الاستدلال، فيعتقد شيئًا، ثم يبحث عن دليل ليستدلَّ به على اعتقاده، فيجعل الكتاب والسنة تابعينِ، لا متبوعين، وهذا خطأ بيِّن، والصواب أن يستدل ثم يعتقد؛ ليكون اعتقاده مبنيًّا على ما جاء في الوحيَيْنِ: الكتابِ والسنة، وأما كلام أهل العلم، فهو موضِّح لما في الكتاب والسنة، وليس دليلاً بذاته، والقاعدة العقدية المهمة في هذا الباب أن يقال: "استدل ثم اعتقد، ولا تعتقد ثم تستدل فتزلَّ"، كما نقلها غير واحد من أهل العلم، ولله در ابن القيم حيث قال في "الكافية الشافية":

العِلْمُ  قَالَ   اللَّهُ   قَالَ   رَسُولُهُ        قَالَ الصَّحَابَةُ هُمْ  أُولُو  العِرْفَانِ
مَا العِلْمُ نَصْبَكَ لِلخِلاَفِ سَفَاهَةً        بَيْنَ  الرَّسُولِ  وَبَيْنَ  رَأْيِ   فُلاَنِ
المسألة الثانية: العمل:
والعمل هو ثمرة العلم، وهو غايته الأولى، فلا يُطلَب العلمُ إلا للعمل؛ بل إن من يعمل يزداد علمًا؛ ولذا فالسلف - رحمهم الله - يقولون: "من عمل بما يعلم، ورَّثه الله عِلم ما لم يعلم".

ولأهمية العمل؛ كان حقًّا على كل إنسان أن يُسأل عن علمه: ماذا عمل فيه؟ فعن أبي برزة - رضي الله عنه - قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((لا تزول قدما عبدٍ يوم القيامة حتى يُسأل عن أربع))، ومنها: ((وعن علمه: ماذا عمل فيه؟))[5].

وللإمام الآجري كتاب اسمه "أخلاق العلماء"، فيه فصل بعنوان: "ذكر سؤال الله لأهل العلم عن علمهم ماذا عملوا فيه؟"، ذكر تحته آثارًا كثيرة موقوفة في هذا الشأن، ثم قال: "من تدبَّر هذا، أشفق من علمه أن يكون عليه لا له، فإذا أشفق مَقَتَ نفسه، وبان بأخلاقه الشريفة التي تقدم ذكرنا لها، والله الموفق لنا ولكم إلى الرشاد من القول والعمل"[6].

وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: "مَن انحرف من العلماء من أمَّة محمد - صلى الله عليه وسلم - ولم يعمل بعِلمه، ففيه شبهٌ من اليهود، ومن انحرف من العبَّاد وعبد اللهَ على جهل، ففيه شبهٌ من النصارى".

فينبغي على العبد أن يكون مشفقًا على نفسه، فيعمل بما عَلِمَه، لا سيما ما أوجبه الله عليه، فكلُّ من علِم شيئًا بأي وسيلة كانت: خطبة، أو محاضرة، أو كلمة، أو نصيحة، ونحو ذلك مما هو مسموع أو مقروء، كان ذلك العلم حجةً عليه؛ ولذا فإن القرآن حجة على بعض الناس، وهم الذين لا يعملون بما فيه؛ ففي "صحيح مسلم" من حديث أبي موسى الأشعري مرفوعًا: ((والقرآن حجة لك أو عليك))، نسأل الله السلامة والعافية.

وللخطيب البغدادي رسالة نافعة في هذا الباب اسمها "اقتضاء العلم العمل"، يحسن الرجوع إليها، ذكر فيها آثارًا وأقوالاً كثيرة في هذا الباب، مما ذكر:
قول عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -: "لا يغرركم من قرأ القرآن، إنما هو كلام نتكلم به؛ ولكن انظروا من يعمل به".

وقول علي بن أبي طالب - رضي الله عنه -: "يا حملة العلم، اعملوا؛ فإنما العالم مَن عمل".

وقال الفضيل بن عياض: "إنما نزل القرآن ليُعمل به، فاتَّخذ الناس قراءتَه عملاً، قال: قيل: كيف العمل به؟ قال: أي: ليحلُّوا حلاله، ويحرِّموا حرامه، ويأتمروا بأوامره، وينتهوا عن نواهيه، ويقفوا عند عجائبه".

وقال يحيى بن معين:
وَإِذَا افْتَقَرْتَ إِلَى الذَّخَائِرِ لَمْ تَجِدْ        ذُخْرًا  يَكُونُ  كَصَالِحِ   الأَعْمَالِ
وقال الخطيب فيها: "إني موصيك يا طالب العلم بإخلاص النية في طلبه، وإجهاد النفس على العمل بموجبه؛ فإن العلم شجرة، والعمل ثمرة، وليس يُعَدُّ عالمًا، من لم يكن بعلمه عاملاً".

وللصحابة والسلف - رحمهم الله - نماذجُ مشرقةٌ في هذا الباب، من أرادها فليراجعها في مظانها.

المسألة الثالثة: الدعوة إليه:
وفي هذه المسألة انتقل المؤلف إلى مرتبة أعلى، وذلك بأن يتعلَّم العبد، ويعمل، ويدْعوَ غيرَه لذلك، وهذه المرتبة هي وظيفة الرسل - عليهم السلام - بأن يدعو إلى توحيد الله وطاعته؛ قال - تعالى -: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي} [يوسف: 108].

وللدعوة إلى الله شأن عظيم، وثواب جزيل؛ فقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((لأنْ يهدي الله بك رجلاً واحدًا خيرٌ لك من حمر النعم))[7].
والأدلة على فضل الدعوة كثيرة، وينبغي للداعي أن يتصف بعدة صفات، أهمها:
1- الإخلاص:

بأن يكون الحامل على الدعوة ابتغاء وجه الله ورضاه، والإشفاق على المدعو والإحسان إليه، لا إظهارًا لجهل المدعو، ولا تمييزًا لحال الداعي وإظهار ما عنده من العِلم، والترفُّع على الخلق، ولا لأي غرض من أغراض الدنيا.

 

2- الدعوة إلى الله على بصيرة وعلم فيما يدعو إليه:

قال - تعالى -: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي}.
وكثيرًا ما يقع الخطأ في هذه الأمر، والعلم سلاح للدعوة لا تصلح بدونه، فلا بد للداعي أن يكون عالمًا بما يدعو.

وقال المؤلف في "مسائل التوحيد" عن الآية السابقة: "أما قوله: {إِلَى اللَّهِ}، فتنبيه على الإخلاص؛ لأن كثيرًا من الناس وإن دعا في الظاهر إلى الله، فهو في الحقيقة يدعو إلى نفسه".

 

3- الصبر:

وهذا ما سيأتي بيانه في المسألة الرابعة؛ ولأن الداعية سيواجه أصنافًا من المدعوين يختلفون في تقبُّلهم وردود أفعالهم.

 

4- أن يكون على بصيرة بحال المدعو:

لأن المدعوين تختلف أحوالُهم، فيخاطبهم بما يناسب حالهم، وحينما بعث النبي - صلى الله عليه وسلم - معاذًا إلى اليمن، قال له: ((إنك تأتي قومًا أهل كتاب))[8]، فبيَّن النبي - صلى الله عليه وسلم - لمعاذ - رضي الله عنه - حالَهم، وأنهم أهل كتاب عندهم علم؛ ليكون على بيِّنة، فيستعد لهم.

 

5- أن يبدأ الداعي بالأهم فالأهم:

على حسب حال المدعوين، والبيئة التي يعيشون فيها؛ فمسائل العقيدة وأصول الدين تأتي في المقام الأول، وحينما بعث النبي معاذًا إلى اليمن، قال له: ((فليكن أولَ ما تدعوهم إليه شهادةُ أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله)).

 

6- أن تكون الدعوة بالرفق والحكمة والموعظة الحسنة:

وهذا هو منهج الأنبياء - عليهم السلام - في دعوتهم؛ قال - تعالى - عن نبيِّه - صلى الله عليه وسلم -: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} [آل عمران: 159].

وقال لموسى وهارون - عليهما السلام - حينما بعثهما إلى فرعون: {فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} [طه: 44].

قال ابن كثير: "إن هذه الآية فيها عبرة عظيمة، وهو أن فرعون في غاية العتو والاستكبار، وموسى - عليه السلام - صفوة الله من خلقِه إذ ذاك، ومع هذا، أمر ألاَّ يخاطب فرعون إلا بالملاطفة واللين".

وقال - تعالى - مبينًا هذا المنهج: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [النحل: 125]، وفي السُّنة أخبار كثيرة تدل على هذا المنهج مِن فعلِه - صلى الله عليه وسلم - وقولِه.

المسألة الرابعة: الصبر على الأذى فيه:
فبعد العلم والعمل والدعوة إليه، تأتي مرتبة الصبر على الأذى في طريق الدعوة إلى دين الله - تعالى - فالداعي يحتاج إلى هذه المرتبة؛ لاختلاف حال المدعوين وتقبُّلهم لما يقول، وربما ناله منهم أذى وهمزٌ ولمز، وافتراء واستهزاء، وفي سنة النبي - صلى الله عليه وسلم - حينما دعاهم للتوحيد، ما يدلُّ على ذلك؛ وذلك لأن الداعيَ يدعو الناس إلى ما يخالف أهواءهم وشهواتِهم، فمن الطبيعي أن أكثر الناس سيخالف هذا المنهج، وربما حاربه؛ فيحتاج الداعي للصبر حينئذٍ.

والصبر على ما يلاقيه الداعي في دعوته هو منهج الأنبياء - عليهم السلام – أيضًا؛ قال الله - تعالى - تسليةً لنبيِّه - صلى الله عليه وسلم - وتبيانًا له أن هذا ما لاقاه الأنبياء قبله: {وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا} [الأنعام: 34]، وأمره بالاقتداء بهم، فقال: {فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلَا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ} [الأحقاف: 35].

وقال لقمان الحكيم في وصيته لابنه، مبيِّنًا له أن الدعوة بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر تحتاج إلى صبر: {يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} [لقمان: 17]، نقل ابن القيم في "مدارج السالكين" عن الإمام أحمد: "أن الصبر في القرآن في نحو تسعين موضعًا".

على ماذا يصبر الداعي في دعوته؟
يصبر على عدة أمور، منها:
1- الصبر على إعراض الخلق عن دعوته:
وهذا هو دأب الأنبياء؛ قال نوح - عليه السلام - مناجيًا ربَّه: {قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلًا وَنَهَارًا * فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِلَّا فِرَارًا * وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَارًا} [نوح: 5 - 7].

 

2- الصبر على أذى المدعوين بأقوالهم وأفعالهم:
ولنا في رسولنا - صلى الله عليه وسلم - أعظمُ أسوةٍ، فقد قالوا عنه: ساحر وكذاب ومجنون وشاعر، وضربوه وطردوه، فواجه منهم أصنافَ الأذى المعنوي والحسي، وهو يصبر على أذاهم، ولما طرده أهلُ الطائف، خرج وهو مهموم، وحينما ناداه ملك الجبال بقرن الثعالب وأخبره أن الله يبعثه إليه، وقال له ملك الجبال: ((إن شئتَ أن أطبق عليهم الأخشبين))، وهما جبلان محيطان بأهل الطائف، قال النبي - صلى الله عليه وسلم - بلسان الصابر المشفق عليهم: ((بل أرجو أن يُخرِج الله من أصلابهم من يعبد الله وحده لا يشرك به شيئًا))[9].
وفي "صحيح البخاري": قال ابن مسعود: كأني أنظر إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يحكي نبيًّا من الأنبياء - عليهم السلام - ضربه قومُه حتى أدمَوْه، وهو يمسح الدم عن وجهه ويقول: ((اللهم اغفر لقومي؛ فإنهم لا يعلمون)).
والأدلة في هذا الباب كثيرة، تدل على صبرهم على ما يلاقونه من أذى.

 

3- الصبر على طول طريق الدعوة، وعدم استبطاء النصر والتأييد من الله - تعالى -:
قال - تعالى -: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ} [البقرة: 214]، وقال - تعالى -: {حَتَّى إِذَا اسْتَيْئَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ وَلَا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ} [يوسف: 110].

فعلى الداعية أن يصبر أيضًا على طول الطريق، ويستشعر أنه على طريق الحق، وأن النصر قد يتأخر لحكمة أرادها الله - تعالى.

استدل المؤلف على المسائل الأربع بسورة العصر:

استدل المصنف بسورة العصر، فقال: والدليل قوله - تعالى -: بسم الله الرحمن الرحيم {وَالْعَصْرِ * إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ* وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} [العصر: 1 - 3].

{وَالْعَصْرِ}: أقسم الله - تعالى - بالزمان الذي يقع فيه الأحداث من الخير والشر، ومن ذلك أعمال الناس وتصرفاتهم.
{إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ}: وهذا هو جواب القسم، أن الإنسان في هلاك وخسارة، إلا من اتَّصف بأربع صفات، وهي المسائل الأربع التي ذكرها المؤلف.
فقوله - تعالى -: {إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} يدل على المسألة الأولى والثانية: العلم والعمل.
وقوله - تعالى -: {وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ} يدل على المسألة الثالثة، وهي الدعوة.
وقوله - تعالى -:{وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} يدل على المسألة الرابعة، وهي الصبر.

وتأمل تأكيد هذه الخسارة في هذه السورة، إلا من اتصف بالصفات الأربع السابقة، فجاء تأكيد هذه الخسارة بثلاثة مؤكدات: القسم، و(إن)، واللام في {لَفِي خُسْرٍ}، وهذا يبيِّن لك أن الاتصاف بهذه الصفات الأربع في غاية الأهمية في أصول الدين وما يتعلق به.

Ÿ قول الشافعي: "لو ما أنزل الله حجةً على خلقه إلا هذه السورة، لكفتْهم".

الشافعي: هو أبو عبدالله محمد بن إدريس بن العباس، هاشمي قرشي، ولد في غزة سنة 150هـ، وتوفي في مصر سنة 204هـ، ومراده من قوله: "لو ما أنزل الله حجة على خلقه إلا هذه السورة، لكفتهم"؛ أي: إنها سورة عظيمٌ شأنُها لمن تأملها، ولو فكر فيها الناسُ لكفتْهم؛ لاشتمالها على الخير بمراتبه: العلم، والعمل، والدعوة إليه، والصبر على الأذى فيه، وهي الأسباب التي من اتَّصف بها، نال السعادة، واستمسك بطريق النجاة.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "هو كما قال - يعني الشافعي في العبارة السابقة - فإن الله - جل وعلا - أخبر أن جميع الناس خاسرون، إلا ما كان في نفسه مؤمنًا صالحًا، ومع غيره موصيًا بالحق وموصيًا بالصبر"[10].

قول البخاري:
قال المؤلف - رحمه الله -: "وقال البخاري - رحمه الله -: باب العلم قبل القول والعمل، والدليل قوله - تعالى -: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ} [محمد: 19]، فبدأ بالعلم قبل القول والعمل".

البخاري: هو أبو عبدالله محمد بن إسماعيل بن إبراهيم البخاري، من بخارى، ولد سنة 194هـ، وتوفي سنة 256، نشأ يتيمًا في حجر والدته، وهو صاحب "الصحيح" الذي يُعد أصح الكتب بعد كتاب الله - تعالى.

ذكر المؤلف - تأييدًا لما يدعو إليه، وهو البدء بالعلم قبل العمل - قولَ البخاري واستدلاله بقوله - تعالى -: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ}.
ووجه الدلالة في الآية: أنه بدأ بالعلم في قوله - تعالى -: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ}، ثم العمل في قوله - تعالى -: {وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ}.

وأيضًا يقال: إنه لا يمكن أن يكون العمل صحيحًا ومقبولاً، حتى يكون موافقًا لما جاء في الشرع، ولا يكون وفقًا لما جاء الشرع إلا بالعلم؛ فلا بد أن يسبق العلمُ العملَ.

مثال ذلك: شخص يريد أن يصلي صلاته على أكمل وجه كما هي صفة صلاة النبي - صلى الله عليه وسلم - لا يمكن ذلك إلا بالتعلُّم؛ فالعلم قبل العمل.

 


فصل في: [الثلاث المسائل التي يجب تعلمها]

قال المؤلف - رحمه الله -:
"اعلم - رحمك الله - أنه يجب على كل مسلم ومسلمة تعلُّمُ ثلاث هذه المسائل والعمل بهن:
الأولى: أن الله خلَقَنا ورزقنا، ولم يتركنا هملاً؛ بل أرسل إلينا رسولاً، فمَن أطاعه دخل الجنة، ومن عصاه دخل النار؛ والدليل قوله - تعالى -: {إِنَّا أَرْسَلْنَا إِلَيْكُمْ رَسُولًا شَاهِدًا عَلَيْكُمْ كَمَا أَرْسَلْنَا إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولًا * فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ فَأَخَذْنَاهُ أَخْذًا وَبِيلًا} [المزمل: 15، 16].
الثانية: أن الله لا يرضى أن يُشرَك معه أحدٌ في عبادته، لا ملَكٌ مقرَّب، ولا نبي مرسل؛ والدليل قوله - تعالى -: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا} [الجن: 18].
الثالثة: أن من أطاع الرسول ووحَّد الله، لا يجوز له موالاة من حادَّ اللهَ ورسوله، ولو كان أقربَ قريب؛ والدليل قوله - تعالى -: {لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [المجادلة: 22]".

 

 

الشرح

الكلام على قول المؤلف من عدة وجوه:
قوله: "واعلم - رحمك الله - أنه يجب على كل مسلم ومسلمة تعلُّم ثلاث هذه المسائل والعمل بهن". 
قدَّم المؤلف لهذه المسائل الثلاث بما قدَّم للمسائل الأربع السابقة، وتقدَّم الكلام على هذه المقدمة، وبيان ذلك، وأهمية العلم والعمل، والمؤلف - رحمه الله - ذكر هذه المسائل الثلاث وحدها؛ لأهميتها، وهي مسائل تتعلق بالتوحيد؛ بل هي أصل من أصول التوحيد:
فالمسألة الأولى: في توحيد الربوبية، والمسألة الثانية: في توحيد الألوهية، والمسألة الثالثة: في الولاء والبراء.

 

وإليك بيانَها وتوضيحها:
المسألة الأولى:
قال المؤلف - رحمه الله -: "الأولى: أن الله خلقنا ورزقنا، ولم يتركنا هملاً؛ بل أرسل إلينا رسولاً، فمن أطاعه دخل الجنة، ومن عصاه دخل النار؛ والدليل قوله - تعالى -: {إِنَّا أَرْسَلْنَا إِلَيْكُمْ رَسُولًا شَاهِدًا عَلَيْكُمْ كَمَا أَرْسَلْنَا إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولًا * فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ فَأَخَذْنَاهُ أَخْذًا وَبِيلًا} [المزمل: 15، 16].

هذه المسألة - وهي تتعلق بتوحيد الربوبية - تضمنت عدة أمور:
Ÿ (أن الله خلقنا):
والدليل على أن الله خلَقَنا النقلُ والعقل، وإذا قيل: النقل، فالمقصود به الكتابُ والسنة، فمن النقل: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56]، {وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ}  [الأعراف: 11]، {هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ} [فاطر: 3]، وهذه الآية تدلُّ على اختصاص الخلق بالله - تعالى - والآيات في هذا الباب كثيرة.

وأما دلالة العقل، فيؤخذ من قوله - تعالى -: {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ} [الطور: 35].

ووجه الدلالة: أنه عقلاً لا يمكن أن يخلق الإنسانُ نفسَه؛ لأنه قبل وجوده عدم، ولا يمكن أن يأتي صدفة لهذا الكون؛ بل لكل حادث مُحْدِث، ولكل موجود خالق، والله - جل وعلا - خالق كل شيء، وهذا ما حصل مع جبير بن مطعم - رضي الله عنه - حينما قرأ هذه الآية ووعاها بقلبه وعقله، فقد كان مشركًا وسمع النبي - صلى الله عليه وسلم -يقرأ: {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ * أَمْ خَلَقُوا السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ بَلْ لَا يُوقِنُونَ * أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَبِّكَ أَمْ هُمُ الْمُصَيْطِرُونَ} [الطور: 35 - 37]، قال جبير: "كاد قلبي أن يطير، وذلك أول ما وقر الإيمان في قلبي"[11].

Ÿ
(ورزقَنَا):
وأيضًا دلَّ على أن الله رزقنا النقلُ والعقل:
فمن النقل: من الكتاب قوله - تعالى -: {إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ} [الذاريات: 58]، وقوله - تعالى -: {إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ}  [آل عمران: 37]، إلى غير ذلك من الآيات.

ومن السنة: حديث ابن مسعود المتفق عليه في قول النبي - صلى الله عليه وسلم - في الجنين: ((إن الله يبعث إليه مَلَكًا، فيؤمر بأربع كلمات: بكتْبِ رزقه، وأجله، وعمله، وشقي أم سعيد)).

وأما العقل، فإن الإنسان لا يمكن أن يبقى في هذه الحياة إلا بطعام وشراب، والطعام والشراب خلقهما الله - تعالى - فهو خالق كل شيء - سبحانه.
- (ولم يتركنا هملاً):

دل على ذلك النقل والعقل:
فمن النقل: قوله - تعالى -: {أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى} [القيامة: 36]، وقوله - تعالى -: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ} [المؤمنون: 115].

وأما العقل، فإن الله - تعالى - خلقنا ورزقنا، وأرسل إلينا الرسل، وأنزل علينا الكتب، وأمَرَنا بطاعته، ونهانا عن معصيته، فلو لم يكن هناك حسابٌ ولا عقاب ولا ثواب، لكان هذا من العبث الذي يُنزَّه الله - تعالى - عنه، ولكن شرع الله هذه الأمور لمعادٍ يجازي كل إنسان بما كسب، إن خيرًا فخير، وإن شرًّا فشر، وفي هذا دلالة على أنه - سبحانه - لم يتركنا هملاً.

(بل أرسل إلينا رسولاً، فمن أطاعه دخل الجنة، ومن عصاه دخل النار):
وهذا تقرير لما سبق بأنه - جل وعلا - لم يتركنا هملاً؛ بل أرسل إلينا رسولاً، وهو محمد - صلى الله عليه وسلم - (فمن أطاعه دخل الجنة)، وهذا مقتضى الحكمة، ولهذا أدلة كثيرة، منها:
Ÿ قوله - تعالى -: {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [آل عمران: 132].
Ÿوقوله - تعالى -: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا} [النساء: 69]، وحديث أبي هريرة عند البخاري قال رسول الله: ((كل أمتي يدخلون الجنة، إلا من أبى))، قالوا: يا رسول الله، ومن يأبى؟! قال: ((من أطاعني دخل الجنة، ومن عصاني فقد أبى)).

(ومن عصاه دخل النار)، وهذا مقتضى الحكمة أيضًا، وله أدلة كثيرة، منها: 
Ÿ قوله - تعالى -: {وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ} [النساء: 14].
Ÿ وقوله - تعالى -: {وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا} [الأحزاب: 36]، وأيضًا حديث أبي هريرة المتقدم، وفيه: ((ومن عصاني فقد أبى)).
ثم استدل المؤلف على إرسال الرسول محمد - صلى الله عليه وسلم - والنتيجة فيمن أطاعه وعصاه، بقوله - تعالى -: {إِنَّا أَرْسَلْنَا إِلَيْكُمْ رَسُولًا شَاهِدًا عَلَيْكُمْ كَمَا أَرْسَلْنَا إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولًا * فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ فَأَخَذْنَاهُ أَخْذًا وَبِيلًا} [المزمل: 15، 16].

وفي هذه الآية عِظة وعِبرة بأن الله - تعالى - أرسل إلينا رسولاً، كما أرسل إلى فرعون رسولاً، لكن فرعون لم يطع الرسول؛ بل عصاه، فكان أمره إلى وبال؛ أي: أخذه الله أخذًا شديدًا، وفي آية أخرى قال الله - تعالى - عنه وعن قومه: {النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ} [غافر: 46]، وهكذا من عصى الرسول - صلى الله عليه وسلم - فسنةُ الله واحدة لا تتغيَّر ولا تتبدَّل.

هذا ما يتعلق بالمسألة الأولى، والتي هي في توحيد الربوبية في جملتها، وآخرها الحث على اتِّباع الرسول - صلى الله عليه وسلم - والبُعد عن معصيته.

المسألة الثانية:
قال المؤلف - رحمه الله -: "الثانية: أن الله لا يرضى أن يشرك معه أحد في عبادته؛ لا مَلَك مقرب، ولا نبي مرسل؛ والدليل قوله - تعالى -: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا} [الجن: 18]".
وهذه المسألة تتعلق بتوحيد الألوهية، ولها تعلُّق بالمسألة الأولى؛ فالمؤلف ختم المسألة الأولى ببيان وجوب طاعة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والتحذير من معصيته، وأعظم معصية يُعصى الله بها هي الشرك به؛ قال - تعالى -: {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان: 13]، ورسالة الأنبياء وأعظم شيء دَعَوْا إليه، هو التوحيد.


وهذه المسألة تضمنت عدة أمور:
Ÿ أن الله - تعالى - لا يرضى أن يُشرَك معه أحدٌ في عبادته، ولو كان عظيمَ الشأن.

والشرك: هو تسوية غير الله بالله فيما هو من خصائص الله - تعالى.

والله - عز وجل - يوجب على عباده إفرادَه بالعبادة، فلا يرضى أن يشرك معه أحد، ولو كان ملكًا مقرَّبًا، أو نبيًّا مرسلاً، مع ما لهم من القرب والشأن العظيم عند الله - تعالى - إلا أن الله - جل وعلا - لا يرضى أن يكونوا شركاء له في العبادة، فكيف بغيرهم من الخلق ممن هو دونهم؟! لا شك أن ذلك أولى؛ وذلك لأن العبادة لا تصلح لغير الله - تعالى - من صَرَفها لغيره فقد وضعها في غير موضعها، وهذا هو الظلم؛ وضع الشيء في غير موضعه؛ ولذا قال الله - تعالى -: {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان: 13]، والأدلة على نبذ الشرك كثيرة.

Ÿ
استدل المؤلف بقوله - تعالى -: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا} [الجن: 18].
ووجه الدلالة: أن المساجد بيوت الله - تعالى - فكيف تدخل بيت الله - تعالى - وتدْعو معه غيره؟! وقوله - تعالى -: {فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا}، (أحدًا) نكرة في سياق النهي تفيد العموم، فيكون المعنى: فلا تدعوا مع الله أحدًا كائنًا من كان، لا ملكًا مقرَّبًا، ولا نبيًّا مرسلاً، ومن كان دون ذلك، فمن باب أولى.

فائدة: الشرك نوعان:
1- شرك أكبر: لا يغفره الله - تعالى - إلا بالتوبة، فإن مات ولم يَتُبْ، فهو خالد مخلَّد في النار؛ كمن يدعو غير الله؛ قال - تعالى -: {إِنَّ اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء: 48].
2- شرك أصغر: وصاحبه إن لقي الله على ذلك، فهو تحت مشيئة الله؛ إن شاء عفا عنه وأدخله الجنة، وإن شاء عذَّبه؛ لكن مآله إلى الجنة؛ كمن يحلف بغير الله على غير وجه التعظيم؛ لأنه إن حلف بغير الله معظِّمًا لمن حلف به، دخل في الشرك الأكبر، ومثل الرياء؛ فهو شرك أصغر.

المسألة الثالثة:
قال المؤلف - رحمه الله -: "إن من أطاع الرسول ووحد الله، لا يجوز له موالاة من حاد الله ورسوله، ولو كان أقرب قريب؛ والدليل قوله - تعالى -: {لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [المجادلة: 22]".

والكلام عن الولاء والبراء وما ذكره المؤلف، يتضمن عدة أمور:
تعريف الولاء والبراء:
الولاء لغة: قال ابن فارس: الواو واللام والياء: أصل صحيح، يدل على القرب، من ذلك الولي: القريب، والباب كله راجع إلى القرب[12].
وقال ابن منظور: "والموالاة: ضد المعاداة، والولِيُّ: ضد العدو... والوَلْيُ: القرب والدنو".
والولاء شرعًا: هو النصرة والمحبة والاحترام ظاهرًا وباطنًا.
Ÿ والبراء لغة: قال ابن فارس: "التباعد من الشيء ومزايلته، من ذلك البرء، وهو السلامة من السقم، يقال: برئت وبرأت"[13].
Ÿ والبراءة شرعًا: البعد والخلاص والعداوة، بعد الإعذار والإنذار.
قال شيخ الإسلام في أصل الولاية والعداوة: "والولاية ضد العداوة، وأصل الولاية: المحبة والقرب، وأصل العداوة: البغض والبعد"[14].

والولاء يكون للمؤمنين، والبراء يكون من المشركين:
قال حفيد المؤلف الشيخ سليمان بن عبدالله بن محمد بن عبدالوهاب في شرح قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((ووالى في الله)): "هذا بيانٌ للازم المحبة في الله، وهو الموالاة؛ إشارة إلى أنه لا يكفي في ذلك مجردُ الحب؛ بل لا بد مع ذلك من الموالاة، التي هي لازم الحب، وهي النصرة والإكرام والاحترام، والكون مع المحبوبين باطنًا وظاهرًا".

وقال في شرح قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((وعادى في الله)): "هذا بيانٌ للازم البغض في الله، وهو المعاداة فيه؛ أي: إظهار العداوة بالفعل، كالجهاد لأعداء الله، والبراءة منهم، والبعد عنهم باطنًا وظاهرًا؛ إشارة إلى أنه لا يكفي مجرد بغض القلب؛ بل لا بد مع ذلك من الإتيان بلازمه"[15].

جاءت نصوص كثيرة مستفيضة تدل على تحريم موالاة الكفار، منها:
1- ما استدل به المؤلف: قوله - تعالى -: {لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ} [المجادلة: 22].

2- قوله - تعالى -: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ} [المائدة: 51].
قال شيخ المفسرين ابن جرير الطبري في تفسير هذه الآية: "والصواب من القول في ذلك عندنا أن يقال: إن الله - تعالى ذكره - نهى المؤمنين جميعًا أن يتخذوا اليهود والنصارى أنصارًا وحلفاء على أهل الإيمان بالله ورسوله، وأخبر أن من اتَّخذهم نصيرًا وحليفًا ووليًّا من دون الله ورسوله والمؤمنين، فإنه منهم في التحزب على الله ورسوله والمؤمنين، وأن الله ورسوله منهم بريئان".
وقال ابن القيم: "إن الله حكم - ولا أحسن من حكمه - أنه من تولى اليهود والنصارى، فهو منهم؛ قال - تعالى -: {وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُ} [المائدة: 51]"[16].

3- قوله - تعالى -: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَتُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا مُبِينًا} [النساء: 144].
قال الشيخ حمد العتيق: "فأما معاداة الكفار والمشركين، فاعلم أن الله - سبحانه وتعالى - قد أوجب ذلك، وأكَّد إيجابه، وحرَّم موالاتهم وشدَّد فيها، حتى إنه ليس في كتاب الله - تعالى - حكمٌ فيه من الأدلة أكثر ولا أبْين من هذا الحكم، بعد وجوب التوحيد، وتحريم ضده"[17]، وكذا السنة دلت على ذلك.

هل كل موالاة للكفار كفرٌ وردَّة؟
هذا سؤال مهم للغاية، ولبيان ذلك؛ نقول ما يلي:
أولاً: أهل العلم لا يختلفون في أن هذا الباب باب عظيم، الداخل فيه قد أضرَّ بعقيدته وثوابته، وقد يهدمها بحسب ما والى فيه، فبالجملة هو بابٌ مَن تهاون فيه فقد تهاون في أصل عظيم من أصول الدين؛ فعن ابن عباس قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأبي ذر - رضي الله عنه -: ((أيُّ عرى الإيمان أوثق؟))، قال: الله ورسوله أعلم، قال: ((الموالاة في الله، والمعاداة في الله، والحب في الله، والبغض في الله))[18].
ويقول الشيخ عبداللطيف بن عبدالرحمن آل الشيخ: "والمرء قد يكره الشرك، ويحب التوحيد، لكن يأتيه الخلل من جهة عدم البراءة من أهل الشرك، وترْك موالاة أهل التوحيد ونصرتهم، فيكون متَّبعًا لهواه، داخلاً من الشرك في شعب تهدم دينَه وما بناه، تاركًا من التوحيد أصولاً وشعبًا لا يستقيم معها إيمانُه الذي ارتضاه، فلا يحب ولا يبغض لله، ولا يعادي ولا يوالي لجلال من أنشأه وسوَّاه، وكلُّ هذا يؤخذ من شهادة أن لا إله إلا الله"[19].

ثانيًا: موالاة الكفار بحسبها؛ فهي على مراتبَ، منها ما هو كفر وردَّة، ومنها ما هو دون ذلك.

ثالثًا: بناءً على أن موالاة الكفار تختلف باختلاف الحال؛ فهي على مراتب؛ قسَّم بعض أهل العلم الموالاة إلى قسمين: (موالاة كبرى، وموالاة صغرى)، أو (تولي، وموالاة) أو (موالاة عامة مطلقة، وموالاة خاصة)، أو (الموالاة المطلقة، ومطلق الموالاة)، وكلها مصطلحات تجمع بين قسمين، فمنهم من يُعبِّر بهذا اللفظ، ومنهم بهذا، ومقصودهم في ذلك - رحمهم الله - هو التفريق بين الموالاة التي يكون صاحبها كافرًا مرتدًّا حلالَ الدم والمال، وبين ما دون ذلك مما لا يُخرِج من الملة، وبعض أهل العلم لم يقسم هذا التقسيم، وجعلها مراتب، منها ما هو مخرِج من الملة، ومنها ما هو كبيرة من الكبائر لا يكفر فاعلها إلا إذا استحلَّها؛ أي: اعتقد جوازها، وقالوا: إن التولي والموالاة لفظان لمعنى واحد، وهو قول جمهور المفسرين.
قال الشيخ عبداللطيف بن عبدالرحمن بن حسن بن محمد بن عبدالوهاب: "مسمى الموالاة يقع على شُعب متفاوتة، منها ما يوجب الردة وذَهاب الإسلام بالكلية، ومنها ما هو دون ذلك من الكبائر والمحرمات"[20].

رابعًا: أمثلة على الموالاة الكبرى وعلى الموالاة الصغرى:
الموالاة الصغرى تسميتها صغرى ليس لأنها من الصغائر؛ ولكن للتفريق بينها وبين الكبرى، وإلا فإن الموالاة الصغرى شأنُها عظيم - كما تقدَّم - فهو باب لا يُستهان به.

ومن أمثلتها: تصديرُ الكفار في المجالس، وزيارتُهم زيارةَ مؤانسة لا دعوة، وتهنئتُهم بأفراحهم الدنيوية، وإفساحُ الطريق لهم، وتوليتُهم على المسلمين، وجعلُهم رؤساء، ورفعُهم على المسلمين ونحوها.

والموالاة الكبرى: وهي الموالاة المخرجة من الملة، فهي كفر وردَّة، ولها صور، منها: مودتهم لأجْل دينهم وسلوكهم، والرضا بأعمالهم، وتمني انتصارهم على المسلمين، وعدم تكفيرهم أو التوقُّف في كفرهم والشك فيه، وتصحيح مذهبهم، والتشبُّه المطلَق بهم، ومظاهرة المشركين ومعاونتهم على المسلمين، وتُسمَّى النصرة.

ما تقدم هو بيان ما يتعلق بالولاء والبراء بإيجاز، والمسألة تحتاج إلى بسط، لعله يكون في غير هذا الموضع.

الشيخ/ عبدالله بن حمود الفريح

ــــــــــــــــــــ
[1] أخرجاه.
[2] العناوين الموجودة بين القوسين المعقوفين [ ] من وضع الشارح، وليست من وضع الماتن.
[3] انظر: "بدائع الفوائد"، 1/24.
[4] الحديث متفق عليه من حديث عمر بن الخطاب.
[5] رواه الترمذي وقال: حديث صحيح، وصححه الألباني؛ انظر: "الصحيحة"، رقم 946.
[6] انظر: "أخلاق العلماء"، ص (87).
[7] متفق عليه من حديث سهل بن سعد.
[8] متفق عليه من حديث ابن عباس.
[9] الحديث متفق عليه عن عائشة.
[10] انظر: "مجموع الفتاوى"، 28/152، ونقلت هذه العبارة عن الشافعي بلفظ آخر قريب من الأول أنه قال: "لو تدبر الناس هذه السورة، لوسعتهم".
[11] رواه البخاري.
[12] انظر: "مقاييس اللغة"، لابن فارس (6/ 141)، وانظر بنحوه: "لسان العرب"، لابن منظور، تحت مادة (ولي).
[13] انظر: "مقاييس اللغة" 1/ 136.
[14] انظر: "الفرقان"، ص 53.
[15] انظر: "تيسير العزيز الحميد"، ص 480.
[16] انظر: "أحكام أهل الذمة"، 1/67.
[17] انظر: "مجموعة التوحيد"، ص 636.
[18] رواه أحمد وابن أبي شيبة، وقال الألباني في "السلسلة الصحيحة" (1728،998): "فالحديث بمجموع طرقه يرتقي إلى درجة الحسن على الأقل - والله أعلم".
[19] انظر: "الدرر السنية"، 8/396.
[20] انظر: "الدرر السنية"، 7/159.





 حفظ بصيغة PDFنسخة ملائمة للطباعة أرسل إلى صديق تعليقات الزوارأضف تعليقكمتابعة التعليقات
شارك وانشر

مقالات ذات صلة

  • تيسير الوصول إلى شرح ثلاثة الأصول (2)
  • تيسير الوصول إلى شرح ثلاثة الأصول (3)
  • شرح الأصول الثلاثة

مختارات من الشبكة

  • تيسير الوصول إلى شرح ثلاثة الأصول(كتاب - موقع الشيخ عبدالله بن حمود الفريح)
  • مخطوطة تيسير الوصول إلى جامع الأصول من حديث الرسول (النسخة 7)(مخطوط - مكتبة الألوكة)
  • مخطوطة تيسير الوصول إلى جامع الأصول من حديث الرسول (ج2) (النسخة 6)(مخطوط - مكتبة الألوكة)
  • مخطوطة تيسير الوصول إلى جامع الأصول من حديث الرسول (النسخة 5)(مخطوط - مكتبة الألوكة)
  • مخطوطة تيسير الوصول إلى جامع الأصول من حديث الرسول (النسخة 4)(مخطوط - مكتبة الألوكة)
  • مخطوطة تيسير الوصول إلى جامع الأصول من حديث الرسول (النسخة 3)(مخطوط - مكتبة الألوكة)
  • مخطوطة تيسير الوصول إلى جامع الأصول من حديث الرسول(مخطوط - مكتبة الألوكة)
  • مخطوطة تيسير الوصول إلى جامع الأصول من حديث الرسول (ج 1)(مخطوط - مكتبة الألوكة)
  • الدين يسر (خطبة)(مقالة - موقع د. محمود بن أحمد الدوسري)
  • المحصول الجامع لشروح ثلاثة الأصول: تحقيق وشرح لرسالة ثلاثة الأصول وأدلتها (PDF)(كتاب - مكتبة الألوكة)

 


تعليقات الزوار
2- السلام عليكم ورحمة الله
أم عبدالله - السعودية 15-11-2009 05:19 AM
السلام عليكم ورحمة الله

جزاكم الله خيراً شيخنا الفاضل ،وأسأل الله تعالى أن ينضر وجهكم ويرفع قدركم في الدنيا والأخرة .
1- السلام عليكم ورحمة
تلميذة الشيخ - السعودية 14-11-2009 04:46 PM
بارك الله في شيخنا ونفع الله بما كتب ولاحرمه الله الأجر
1 

أضف تعليقك:
الاسم  
البريد الإلكتروني (لن يتم عرضه للزوار)
الدولة
عنوان التعليق
نص التعليق

رجاء، اكتب كلمة : تعليق في المربع التالي

مرحباً بالضيف
الألوكة تقترب منك أكثر!
سجل الآن في شبكة الألوكة للتمتع بخدمات مميزة.
*

*

نسيت كلمة المرور؟
 
تعرّف أكثر على مزايا العضوية وتذكر أن جميع خدماتنا المميزة مجانية! سجل الآن.
شارك معنا
في نشر مشاركتك
في نشر الألوكة
سجل بريدك
  • بنر
  • بنر
كُتَّاب الألوكة
  • الدورة الخامسة من برنامج "القيادة الشبابية" لتأهيل مستقبل الغد في البوسنة
  • "نور العلم" تجمع شباب تتارستان في مسابقة للمعرفة الإسلامية
  • أكثر من 60 مسجدا يشاركون في حملة خيرية وإنسانية في مقاطعة يوركشاير
  • مؤتمرا طبيا إسلاميا بارزا يرسخ رسالة الإيمان والعطاء في أستراليا
  • تكريم أوائل المسابقة الثانية عشرة للتربية الإسلامية في البوسنة والهرسك
  • ماليزيا تطلق المسابقة الوطنية للقرآن بمشاركة 109 متسابقين في كانجار
  • تكريم 500 مسلم أكملوا دراسة علوم القرآن عن بعد في قازان
  • مدينة موستار تحتفي بإعادة افتتاح رمز إسلامي عريق بمنطقة برانكوفاتش

  • بنر
  • بنر

تابعونا على
 
حقوق النشر محفوظة © 1446هـ / 2025م لموقع الألوكة
آخر تحديث للشبكة بتاريخ : 11/11/1446هـ - الساعة: 0:55
أضف محرك بحث الألوكة إلى متصفح الويب